منذ عقد مؤتمر ويستفاليا، الذي أنهى الحروب الدينية في أوروبا ١٦٤٨م، الدولة القومية الحديثة هي العنصر الأساس للمجتمعات الداخلية، وكذا للنظام الدولي. مع ظهور الدولة القومية الحديثة، منذ ذلك التاريخ، اختلفت مصادر الشرعية المحلية والحكومات والأنظمة السياسية، مع بروز الدولة كعنصر أساس، وربما الوحيد على مسرح السياسية الدولية، المتمتع بالسيادة والمسؤول عن الأمن والمتفرد بشرعية احتكار القوة واستخدامها، داخلياً وخارجياً.
الهوية القومية: من أهم ملامح الدولة القومية تمثيلها للهوية القومية لشعبها. لم يعد مفهوم الأمة، بمعناه الواسع، الذي تذوب فيه هوية الشعوب القومية، في بوتقة دينية جامعة، هو ما يفصل شعوب العالم عن بعضها ويسبب الصراعات فيما بينها، وفقاً لخطوط دينية حاسمة ومتزمتة أيدلوجياً، في معظم الحالات. بل إن الدين وإن كان هو أحد عناصر الدولة القومية الشعبوية، إلا أنه ليس بذلك الحسم والتزمت، الذي كان على أساسه ترسم الحدود الفاصلة بين الأمم والامبراطوريات.
الدين هو جزء من ثقافة المجتمع وهويته القومية، وليس هو الهوية القومية الوحيدة، التي تفصل الشعوب بعضها ببعض. الدولة القومية الحديثة، فيما يخص عنصر الشعب فيها، يعكس تعددية دينية وعرقية وثقافية وقبلية ولغوية وتاريخية، تنصهر جميعاً في هوية قومية واحدة وجامعة في ظل دولة قومية حديثة واحدة، تتمتع بالسيادة وتحتكر القوة داخل مجتمعها يحكمها نظام سياسي واحد يعكس إرادة شعبها الحرة، في داخل إقليم تفصله مع الدول الأخرى حدود سياسية فاصلة، عندها تبدأ سيادة الدولة، وعندها تبتدئ سيادة الدول الأخرى الجارة لها.
بنشوء الدولة القومية نشأت الدول الحديثة، بدل الإمبراطوريات القديمة. في أوروبا، ظهرت دول حديثة تعكس الهوية القومية لشعوبها والإقليم الجغرافي الذي تحتله. مثل: فرنسا وبريطانيا وألمانيا والمجر والنمسا… الخ. تأصلت هذه الخلفية للدولة الحديثة، بعد معاهدة صلح ويستفاليا عقب هزيمة نابليون في معركة واترلو، التي أنهت حق الفتح.. وأبطلت أية دعاوى توسعية للدول خارج حدودها الإقليمية. فتطور ما عُرِفَ بمبدأ الندية بين الدول، فيما يخص قضايا السيادة والتعامل المتبادل بين الدول.. ونشوء السفارات الدائمة.. ومبدأ المساواة بين العروش.. وتطور بروتوكولات التعامل الدبلوماسي بين الدول.. واحترام التمثيل الدبلوماسي الندي والمتبادل.. ووضع آليات حل الخلافات بين الدول.. والحد من اللجوء للحروب لحل الخلافات بين الدول.. وتطوير نظام غير مرئي، لكنه إلى حدٍ ما، فعال لتوازن القوى، يعتمد على متغيرات كمية مادية واقعية فعالة، وليس بالضرورة على قيم أخلاقية تعتمد على حسن النوايا وافتراض المحبة المتساوية للدول تجاهر لسلام.
هذا النظام الدولي الجديد، الذي يعتمد على الهوية القومية للدول الحديثة، بعيداً عن أية خلفيات تاريخية غير سياسية تقوم أساساً على أسس دينية في معظمها، تحكمها آلية منفلتة للصراع، دون رؤية عملية لإمكانات تحقق السلام وبناء نظام دولي مستقر يضم دول قومية، تحكمها مؤسسات سياسية منتخبةٌ رموزها تعكس الهوية القومية، للدولة نفسها. ترسخ هذا النظام الدولي، بصورة أساسية، بعد حربين كونيتين عظميين، نشبتا في القرن العشرين، بفاصل عقدين من الزمان بينهما.
ترسيخ شرعية الدولة القومية الحديثة
بنهاية النصف الأول من العقد الرابع من القرن العشرين، ترسخت شرعية الدولة القومية الحديثة، لتضم دولاً خارج أوروبا، لتغطي معظم قارات العالم. فلم يُعد النظام الدولي، أوروبياً، كما كان نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الذي كانت تسيطر عليه امبراطورية كونية رئيسية، كما كان الأمر خلال فترة العهد البريطاني الكوني ( Pax Britannica )، الذي أمتد لمائة عام منذ هزيمة نابليون في معركة واترلو ١٨١٥م، وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى ١٩١٤م.
بوضع الحرب العالمية الأولى أوزارها عقدت معاهدة فرساي (١٩١٩م)، التي شهد توقيعها ظهور دول قومية حديثة، خارج نطاق العالم القديم في أوروبا. كما ظهرت الولايات المتحدة خارج إطار منظومة النظام العالمي التقليدي، بل وظهرت كقوة عظمى تنافس القوى العظمى التقليدية في أوروبا، الذي أخذ نجمها في الأفول، منذ ذلك الوقت، وإلى الآن.
كانت الهوية القومية والسيادة الإقليمية، للدولة القومية الحديثة، حول العالم، هي العنصر الرئيس في النظام الدولي، وهي مصدر الشرعية الوحيد للحكومات الوطنية في الدولة القومية الحديثة. وبسبب هذين العنصرين الأساسيين للدولة القومية الحديثة (السيادة والحدود الإقليمية الآمنة) قام النظام الدولي بعد الحربين العظميين، الذي ألغى كل شكل من أشكال الحقوق الدولية للدول والإمبراطوريات القديمة في تشكيل خريطة النظام الدولي، وكذا تشكيل مظاهر السيادة الإقليمية للدولة الحديثة. كما أنتهى، إلى حد كبير، حق الفتح في القانون الدولي، الذي كان يعطي للدول التقليدية حق ضم وإلحاق مناطق إقليمية خارج حدود إقليمها التاريخية.
كما تطور لاحقاً، بظهور نظام الأمم المتحدة بعد الحرب الكونية الثانية، تأكيد حق الشعوب، غير القابل للتصرف في اختيار النظام السياسي الخاص بها، بعيداً أي تدخل خارجي، ينافس الدولة القومية الحديثة في مجتمعاتها من ممارسة كل أشكال السيادة القومية على قرارها الداخلي والخارجي وفرض سيادتها، بالقوة على إقليمها وحكم شعبها بقانونها السيادي الخاص بها، دون أية وصاية من أية جهة أجنبية أخرى. بترسيخ حق الشعوب في تقرير مصيرها هذا، توارت ظاهرة الاستعمار وأي شكل من أشكال التدخل في شؤون الدولة القومية الحديثة، في المجتمعات الناشئة في قارات العالم المختلفة، تحت أي مسمىً كان، مثل الانتداب والوصاية الدولية، مهما كان مصدر هذه البدائل للاستعمار التقليدي، حتى ولو كانت مؤسسات النظام الدولي نفسه، كما هو الحال في نظام الوصاية الدولية للأمم المتحدة، الذي أوجد من أجل تهيئة الشعوب المستَعْمَرة، لمرحلة الاستقلال الكامل من ربقة الاستعمار التقليدي.
ومما يؤكد هذه الخلفية القومية للدولة الحديثة، بتعبير شعوبها عن حقها الطبيعي في حكم نفسها باختيار نظام الحكم الذي يعكس إرادتها الحرة، نضال هذه الشعوب لتحقيق استقلالها، والانضمام إلى مجتمع الدول المتمدين الحديث، إن معظم هذه الشعوب دفعت ثمنًا باهظاً من دماء مواطنيها للتخلص من الاستعمار ونيل استقلالها بإعلان قيام دولتها القومية الحديثة، ودفع دول العالم للاعتراف بها وفرض احترامهم لسيادتها وخيارات شعبها الحرة.
مشاكل اعترضت مسيرة الدولة القومية الحديثة
لم تكن مسيرة الدولة القومية الحديثة، سهلة ولا ميسرة، لا في صورة الامبراطوريات الاستعمارية التقليدية، ولا في صورة دول مجتمعات العالم الجديدة في مختلف قارات العالم. في حقيقة مبادى الندية.. والمساواة.. والمعاملة بالمثل.. والالتزام بحق تقرير المصير للشعوب.. والمعاملة المتساوية لكافة أعضاء النظام الدولي المكون أساساً من صيغة الدولة القومية الحديثة، كل تلك المبادئ كانت تكتنفها الرومانسية و"سيناريوهات" الخيال العلمي، أكثر مما هو بالفعل واقع سياسي يتحكم في سلوك الدول صغيرها وكبيرها.
لم يغفل نموذج الدول القومية الحديثة عن حقيقة الاختلافات الجوهرية بين واقع النظام الداخلي لهذه الدول، وواقع عالم السياسة الدولية المتلاطم الأمواج والعواصف، الذي على الدولة القومية أن تمخر سفنها عبابه، بكل حذر وتوجس وشك وعدم ثقة. النظام الدولي، الذي على الدولة القومية الحديثة أن تتعامل معه، يفتقر إلى الانضباط والاستقرار والنية الحسنة، والأهم: إلزامية قانونه وكفاءة مؤسساته، وإعلائه من شأن قيمة السلام.
لم تتوقف آلية الصراع بين الدول لحل خلافاتها مع بعضها البعض، في نظام دولي يخلو تماماً من آلية مؤسساتية فعالة لفرض القانون الدولي. وكان ما يحكم علاقات الدول بعضها ببعض، لا الإعلان عن الرغبة المشتركة في سيادة قيم السلام بينها، بل الرغبة الدفينة لتجاوز قواعد التعامل الدولي المرعية، لتغليب مصلحة الدول البينية بعضها ببعض. كان عنصر القوة القومية هو المحدد الأساس لتعامل الدولة مع غيرها من الدول على المستويين الإقليمي والدولي، في مقابل ذلك الذي يتحكم في سلوك أندادها الدوليين
منذ ظهور الدولة القومية الحديثة منتصف القرن السابع عشر، وحتى النصف الأول من القرن العشرين، عقب الحرب الكونية، كان العالم يحكمه توازن قوى تقليدي هش، مفرط في مرونته، لدرجة تغلب غريزة الصراع بين الدول على تبصر حكمة التعاون في بينها. إي اختلال في ميزان القوى التقليدي هذا الهش والمفرط في مرونته، كان يعني ازدياد احتمالات الاحتكام إلى خيار الحرب، دون تبصر مصير السلام.
بسبب عدم استقرار ميزان القوى التقليدي هذا نشبت حربان عظميان، كادت أن تأتيا على تاريخ طويل من تجربة الدولة القومية الحديثة، التي استمرت في أوروبا لثلاثة قرون والعودة من جديد لعهد الامبراطوريات التوسعية التقليدية، منذ الإمبراطورية اليونانية، مروراً بالإمبراطورية الرومانية، وإلى عهود الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية، من نهاية القرن الخامس عشر إلى منتصف القرن العشرين.
لكن الدولة القومية الحديثة أثبتت مقدرة فائقة على الصمود، وحتى جرى تعميم نموذجها خارج مكان ولادتها الأول في أوروبا، لتشكل النموذج السياسي الأساس والوحيد للمجتمعات الإنسانية الجديدة. يعود الفضل، في هذا إلى انهيار نظام توازن القوى التقليدي، واستبداله بنظام لتوازن الرعب النووي، الذي أقصى عملياً خيار الحرب، خاصةً بين القوى العظمى، لتسوية خلافاتها وصراعها على الهيمنة الكونية.
لكن مع ذلك يظل عاملا السيادة والأمن يشكلان ضغطًا على نظام الدولة القومية الحديثة لدفعها في اتجاه خيار الصراع، بما يعنيه من تكلفة عالية وافتقاره اليقيني لمردوده ونتائجه. تظل ارتفاعات احتمالات اللجوء لخيار الحرب على تبصر حكمة التعاون والانتصار لقيمة السلام، دائماً خياراً مطروحاً، لدى صانعي القرار، هو أقرب من تبصر عوائد التكامل ومردود سياسة التعاون الإقليمي والدولي.
محاولات الاقتراب من خيار التعاون الدولي
كان إنشاء منظمة الأمم المتحدة ومن قبلها عصبة الأمم، محاولة من قبل الدولة القومية الحديثة، لإيجاد معادلة عملية تتعامل مع أهم مشاكل مسيرة تجربة الدولة القومية الحديثة، نقصد بهما هنا: معضلتي السيادة والأمن. فشلت كل صيغ التعاون الدولي والتكامل الإقليمي، لحد الآن من التغلب على مشكلتي السيادة والأمن اللتين تعتبران من أهم خصائص الدولة القومية الحديثة. لدرجة أن كل صيغ مؤسسات التعاون الدولي والتكامل الإقليمي لم تتمكنا من تجاوز هاتين العقبتين وأقرت بهما في نصوص مواثيق إقاماتها، كأهم خصائص الدولة القومية الحديثة، التي لا يمكن تجاوزها، بل والتأكيد إلزاميتهما واحترام قدسيتها. على سبيل المثال: لا يمكن تجاوز سيادة الدول الأعضاء في أي تكتل إقليمي أو تنظيم دولي، فيما يصدر عن هذه المؤسسات الدولية من قرارات. كما أنه، بالرغم أن الغرض الأساسي من قيم النظم الدولية ومؤسسات التكامل الإقليمي، تفادي أي شكل من أشكال اللجوء إلى القوة لتسوية الخلافات بين الأعضاء، إلا أنه أبقى على حق الدول الأعضاء اللجوء إلى القوة في حالة الدفاع النفس، كمبدأ راسخ من مبادئ القانون الدولي.
مع ذلك فإن تشكيل التنظيمات الدولية المؤسساتي وكيانات التكامل الإقليمي ساعدت الدولة القومية الحديثة، في وجهين أساسيين. الأول التأكيد على سيادة الدول الأعضاء وحقها المقدس في الدفاع عن مصالحها وأمنها. والثاني، وهو مهم جدًا: مساعدة الدول الأعضاء على تجاوز مشاكل التنمية ومظاهر عدم الاستقرار الداخلي، عن طريق تبادل الخبرات فيما بينها وتسهيل عملية خدمة مصالحه المشتركة، بما يتجاوز إمكانات كلٍ منها الذاتية مهما بلغ غناها وكثرة مواردها وجزالة إمكاناتها البشرية ومصادر القوة الصلبة والناعمة، التي لديها.
إلا أن كل ذلك مرتبط بمبدأي السيادة والأمن اللذين يحددان، في الأساس السياسة الخارجية للدول، وكذا احتمالات التعاون والتكامل فيما بينها.
كما أنه ليس كل الدول، ولا كل نخبها السياسية، بقادرة على تبصر فلسفة وخصوصية نموذج الدول القومية في مجتمعاتها. هناك دول، يمكن اعتبارها متقدمة في مجالات كثيرة، لا لشيء إلا لأنها استوعبت فلسفة وخلفية الدولة القومية الحديثة. كل دولة، أو بالأحرى كل مجموعة من الدول، لها قاموسها الخاص لتعريف عناصر الدولة، نفسها. وهذا ما يفسر الاختلاف في مستويات التنمية فيما بينها، وكذا مدى غيرتها على سيادتها وحرصها على أمنها وتثمينها لاستقلالها الوطني.
الشعب، الذي هو العنصر الأساس في الدولة القومية الحديثة يؤثر طرديا على بقية العناصر الأخرى، خاصة شكل وطبيعة النظام الحاكم. هل النظام الحاكم هو حقيقةً مرآة عاكسة تماماً لإرادة الشعب الحرة، أم أنه لا يمثل الإرادة العامة. هذا، بدوره يؤثر على استقرار الدولة واحتمالات بقائها الوجودي، نفسه. جميع الدول المتقدمة والناجحة، على الصعيدين الداخلي والدولي، يتمتع نظامها السياسي باستقرار متين، نتيجةً لتعبيره الصريح عن إرادة شعبه. حالات عدم الاستقرار المتفشية في كثيرٍ من دول العالم الثالث، هو نتيجة لهذه الفجوة السحيقة بين نظامها السياسي وإرادة الشعب. شرعية الأنظمة السياسية، لا تعتمد في الأساس على عنصر الدولة الأول والأساس (الشعب)، بل على إرادة النخب الحاكمة الحصرية، بغض النظر عن خلفيتها الاجتماعية أو تحكمها في مصادر القوة الصلبة للدولة.
في الاتحاد الأوروبي اليوم، مفوضية أوروبية وبرلمان أوروبي.. ودستور أوروبي موحد.. ومنظومة أمن اوروبية متناسقة.. وعملة أوروبية واحدة، ومحكمة عدل أوروبية عليا. في بعض هذه المؤسسات الإقليمية تتجاوز سلطات ومسؤوليات واختصاصات المنظمات الإقليمية سلطات ومسؤوليات واختصاصات دول الاتحاد الداخلية. حتى أن الاتحاد الأوروبي اقترب من منافسة أعضائه في ولاء مواطنيه، بحيث يستطيع المواطن أن يلجأ إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي لمقاضاة دولته.
لكن، بالرغم من أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي لبعض سلطات الدولة القومية من أعضائه في أمور كثيرة مما يجعل منه منظمة إقليمية فوق أممية ( Supranationalism Organization ) تتجاوز اختصاصاتها ومسؤولياتها اختصاصات ومسؤوليات الدول الأعضاء في بعض مجالات التكامل الإقليمي، إلا أن عنصر السيادة يظل دوماً ملاذ الدولة القومية الحديثة الذي تركن إليه في الحفاظ على كينونتها القومية، بعيداً أي تدخل خارجي، حتى ولو كان من منظمة إقليمية أثبتت فاعليتها وكفاءتها في رفع وكفاءة وفاعلية الدولة القومية في قضايا الأمن والتنمية.
كان واقع الدولة القومية الحديثة في دول المجتمعات الجديدة في جنوب الكرة الأرضية، ليس بهذا النجاح الذي حدث في المجتمعات المتقدمة، مثل تجربة الاتحاد الأوروبي، ولا حتى اقتربت منه. مازالت دول العالم الثالث متشبثة بمبدأ السيادة الوطنية، لدرجة أن بعضها فشل في الاحتفاظ به والذود عنه. لم تتطور، بعد تلك القناعة العملية من حكمة التبصر في عوائد التكامل الإقليمي مقارنة بالتشبث بمبدأ السيادة الوطنية، حتى ولو كان ذلك على حساب برامج التنمية المحلية بها، بل على حساب أمنها الوطني.
على سبيل المثال: كانت الجامعة العربية سباقة في مجالات التكامل الإقليمي، في الاقتصاد والأمن ومجالات التنمية المختلفة، إلا أنها طوال سبعة عقود من إنشاء الجامعة العربية لم تنجح تلك المؤسسات الإقليمية في تجربة مدى كفاءتها وفاعليتها في اثبات فائدة الاستراتيجية في تنمية وأمن الدول الأعضاء. في ظل ميثاق الجامعة العربية وقعت اتفاقيات اقتصادية وأمنية وتنموية، حتى قبل أن تفكر بها أوروبا، إلا أن أيٍ منها لم يجرب مدى جدارته في إقناع الدول الأعضاء بأهمية واستراتيجية التكامل الإقليمي بين الدول العربية.
منذ خمسينيات القرن الماضي يُثار التساؤل حول مصير اتفاقات تكاملية أوكلت لمنظمات الجامعة العربية المتخصصة، ولم ترى النور. أين هي معاهدة الدفاع العربي المشترك والاتفاقية الاقتصادية العربية والسوق العربية المشتركة والتعرفة الجمركية الموحدة والعملة العربية الموحدة ومحكمة العدل العربية العليا. جميعها مؤسسات تكاملية إقليمية قامت عليها الجامعة، إلا أنها انتهت لتدفن في أقبية الجامعة العربية ويغطيها الغبار في أرفف مكتبات الجامعة العربية.
الدولة القومية الحديثة إلى أين
بعد خمسة قرون من قيام الدولة القومية الحديثة على أسس وطنية، تتشكل بها الهوية الوطنية لشعوبها والحدود السياسية لإقليمها والندية القانونية والسياسية، في آليات التعامل مع بعضها البعض على مسرح السياسة الدولية، الأكثر فوضوية والأقل انضباطاً من مجتمعاتها الداخلية، في غياب سلطة عليا تحكم سلوك أعضاء النظام الدولي، الذي تشكل أساساً من مجموع هذه الدول القومية الحديثة، يبدو أن نموذج الدولة القومية، قد اكتسب مناعة سياسية وقانونية وأمنية، في ترسيخ قواعده وتأكيد شرعيته، على مستويات السياسة الداخلية للدول، وعلى حركة وقيم النظام الدولي، الذي تتفاعل من خلاله، مراوحةً بين إغراءات حركة الصراع وتبصر إمكانات احتمالات التعاون.
ليس في الأفق ما يشير إلى قرب أفول نموذج الدولة القومية الحديثة. وليس هناك، في الأفق ما يشير إلى تحقيق نجاحات حقيقية لخيار التكامل الإقليمي، أبعد مما وصل إليه الأمر في بعض التجارب الناجحة في هذا الإطار، مثل تجربة الاتحاد الأوروبي. قوة جاذبية نموذج الدولة القومية الحديثة تتجاوز إمكانات التوسع في مجالات التكامل الإقليمي. كما أن متغير السيادة الوطنية، أثبت صموداً ملفتاً أمام محاولات المساومة عليه من أجل بناء كيانات إقليمية عملاقة. كما أنه في النهاية، وإن نجح نموذج الاتحاد الأوروبي، في الحؤول دون نشوب حروب كونية في أوروبا، إلا أنه لم ينجح تماماً في خلق الإحساس بالأمن الوطني، حتى مع تطور مؤسسات إقليمية قوية تحكمها تحالفات عسكرية جبارة.
في الدول الأوروبية، رغم تقدم إنجازات التكامل الإقليمي العملاقة ومنعة التحالفات العسكرية الجبارة، هناك دائماً الخوف من حدوث اختراقات أمنية محتملة، لا غنى للدولة عن الاستعداد لها، خارج منظومة الأمن الجماعي الذي توفره المؤسسات الإقليمية العملاقة. مثلاً: الخوف من الإرهاب يقتضي من الدولة القومية الحديثة، أن تكون في حالة طوارئ عالية، تحسباً لاختراقات أمنية، من جهات غير تقليدية. كما أنه في أوروبا، رغم ما توفره منظومات الأمن الجماعية الجبارة في ظل نظام توازن الرعب النووي، إلا أن الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي، في النهاية لا تأمن جدارة هذا النظام للأمن الجماعي، لحماية أمنها الوطني، لذا احتاطت لتطوير نظام أمني غير تقليدي مستقل رادع استراتيجياً، في حالة احتمال عدم نجدة دول حليفة لها عند أي مواجهة نووية محتملة، لتكون جاهزة للدفاع عن نفسها، إذا ما كانت مهددة مباشرة من أي هجوم نووي محتمل على أراضيها. لهذا اختارت دول في حلف شمال الأطلسي أن يكون لها رادعها النووي الخاص بها، لأنه من وجهة نظرها، لا يمكنها الاعتماد على المظلة النووية الأمريكية لحمايتها، لو أن واشنطن وضعت أمام خيار الدفاع عن لندن وباريس أو الدفاع عن واشنطن ونيويورك.
نفس الجدل ينطبق على تجربة التكامل الإقليمي. لا يمكن الجزم بوجود قناعة شاملة بين دول الاتحاد الأوروبي بنجاعة خيار التكامل الإقليمي في إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة بين الدول الأعضاء بصورة متساوية، وفقاً لمعادلة الجميع يكسب منها. الدول، في النهاية ليست جمعيات خيرية، بل هي كيانات سياسية تعمل على تعظيم مصالحها ولو على حساب مصالح غيرها من الدول. أي تجربة للتكامل الإقليمي في حاجة إلى ممول رئيس يتبنى تكلفة إنشاء كيان التكامل الجديد، على أن يستفيد منه في مراحله المتقدمة لتعظيم مصالحه من إنشائه وتعظيم نفوذه السياسي فيه، على حساب أعضائه الآخرين، بل وحتى تغليب قيمه ونموذجه السياسي الداخلي، ليُحاكي من قبل الأعضاء. كل ذلك تعمله الدول التي تحمل مسؤولية نجاح التكتل الإقليمي حتى يشتد عوده لتجني العوائد الجزيلة منه، وتكون في النهاية هي المهيمنة على حركة مؤسساته والقيمة على أخلاقيات قيمه وسلوك أعضائه.
هذا هو الدور الذي تلعبه ألمانيا وأسرت من خلاله قرار الكثير من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي السيادي، من أجل تعظيم مصالحها الإقليمية في القارة الأوروبية، وتحقيق أحلام الهيمنة الكونية، التي تسعى إليها منذ بسمارك، مروراً بهتلر، وانتهاءً بـ أنجيلا ميركل ومن يأتي بعدها. ما فشلت فيه ألمانيا في تجارب التوسع العنيف بالقوة الصلبة، تتطلع لتحقيقه بالقوة الناعمة.
هدف استراتيجي طويل الأمد، فطنت إليه بريطانيا العظمى، عدو ألمانيا اللدود، منذ البداية وتلكأت في الاندماج العميق في تجربة السوق الأوروبية المشتركة، وعارضت الدخول لمنطقة اليورو، وأخيراً انسحبت من التجربة بأسرها، في ما عرف بحدث خروج بريطانيا Brexit) ) من الاتحاد الأوروبي، ٢٠١٧م.
الدولة القومية الحديثة ستظل رمز الهوية القومية لشعوب المجتمعات الحديثة، عصية عن الذوبان في أي كيانات سياسية إقليمية، حتى مع توفر إمكانات التكامل التاريخية واللغوية والثقافية، ومهما بلغت إغراءات مثل هذا الذوبان، لأن الثمن في النهاية سيكون على حساب أعز خصائص الدول القومية الحديثة، عنصري: (السيادة والأمن). الدولة القومية الحديثة، ستكون دوماً غيورةً على سيادتها الوطنية، التي هي رمز استقلالها وحقيقة تعبير شعبها عن حقه في تقرير مصيره غير القابل للتصرف.
لكن، الدولة القومية الحديثة، ستطور مع الوقت لتكون أكثر حكمة وواقعية في تبصر احتمالات التكامل الإقليمي، وأكثر تعقلاً في حساب مخاطر التورط في الصراعات مع جيرانها، أو على مستوى حركة السياسة الدولية.. والابتعاد عن الحروب التي لا ناقة لها فيها ولا جمل.. والميل الأكثر للبحث عن وسائل أكثر سلمية وتوقعاً بنتائجها عن التهور للانجرار تجاه إغراءات حركة الصراع لتسوية خلافاتها الإقليمية والدولية.
في النهاية عائد التكامل مجزٍ وعاقبة الصراع وخيمة. والبوصلة، دائماً، أمام صانعي القرار: عدم المساومة على السيادة.. والذود عن الأمن الوطني، بمستوييه الداخلي والخارجي.