array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 172

السعودية تملك قدرات تمكنها من تفادي أي آثار ضارة محتملة على المصالح الوطنية

الثلاثاء، 29 آذار/مارس 2022

تحميل    ملف الدراسة

مر العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية بحقبة دامت حوالي أربعة عقود جرت فيها التفاعلات الدولية في إطار نموذج "القطبية الثنائية" الذي أمسكت فيه بزمام القيادة قوتان عظمتان هما الولايات المتحدة والاتحاد السوڤيتي وفق قواعد محددة بفعل حالة التوازن/الصراع بينهما، وهكذا كانت الحرب المباشرة بينهما مستحيلة بفعل توازن الردع النووي، وشاعت الحروب بالوكالة بديلاً عنها، غير أنه منذ وصل ميخائيل جورباتشوف إلى قمة السلطة في الاتحاد السوڤيتي في منتصف ثمانينات القرن الماضي بدأت حقبة من التغيير الجذري في النظام العالمي لم تتوقف حتى الآن، فتحول الانفراج بين القطبين الذي بدأت ملامحه الأولى تتضح في بداية السبعينات إلى وفاق كامل بعد أن دشن جورباتشوف مبدأً "عالم واحد أو لا عالم" الذي أحدث تغييراً جذرياً في طبيعة العلاقات الدولية، فقد حولها من علاقات صراعية بين معسكرين متناقضين إلى علاقات يُفترض أن تكون تعاونية لمواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه البشرية كافة دون تمييز بين رأسماليين وشيوعيين، غير أن سياسته الإصلاحية (البيريسترويكا) انتهت بتفكك الاتحاد السوڤيتي وبزوغ نموذج أُحادي لقيادة العالم انفردت فيه الولايات المتحدة بقيادة العالم، وأسرع البعض بطرح الفكرة الساذجة المتعجلة عن "نهاية التاريخ" بمعنى أن هذه التطورات كتبت الانتصار النهائي للرأسمالية عكس نبوءة كارل ماركس عن نهايتها، غير أن السنوات التالية أكدت أن التغير سنة الكون، وقد حدث التغير في النموذج الأحادي لقيادة العالم بفعل عوامل ثلاثة أولها التآكل التدريجي للقوة الأمريكية نتيجة الغزو العسكري لكل من أفغانستان والعراق، وبينما انسحبت القوات الأمريكية من العراق بعد حوالي عقد من الغزو فقدت فيه بالأرقام الرسمية الأمريكية ما يزيد عن ٣آلاف قتيل و٣٠ألف جريح فإن استنزافها استمر في أفغانستان٢٠عاماً انتهت بانسحاب بطعم الهزيمة بعد الاتفاق في فبراير٢٠٢٠م، مع طالبان التي غزت أفغانستان أصلاً للقضاء عليها على هذا الانسحاب بشرط عدم انطلاق أعمال تضر بأمن الولايات المتحدة وحلفائها من الأراضي الأفغانية، أما العامل الثاني فتمثل في إعادة إحياء القوة الروسية وحضورها الدولي منذ وصل الرئيس بوتين إلى قمة السلطة في٢٠٠٠سواء كان هذا الحضور في الفضاء السوڤيتي السابق أو خارجه كما بدت ذروته في التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا٢٠١٥م، وغير المباشر لاحقاً في ليبيا، وأخيراً فإن العامل الثالث والأهم هو الصعود الصيني الدؤوب نحو قمة النظام الدولي والذي من شأنه أن يحدث تغييراً هيكلياً في هذه القمة لابد أن تكون له آثاره علينا خاصة وأننا محاطون بقوى إقليمية رئيسية لكل منها مشروعها الذي نشعر بتداعياته على النظام الإقليمي العربي، وتهتم هذه المقالة بتأثير كل هذه المتغيرات على المملكة العربية السعودية والسبل المثلى لمواجهة هذا التأثير.

 

أولاً-المتغيرات العالمية

 

    منذ ولاية الرئيس باراك أوباما (٢٠٠٩-٢٠١٦م) كانت الرؤية الأمريكية الرسمية تركز على الصين باعتبارها الخطر الرئيسي الذي يهدد انفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي، وبدا هذا واضحاً فيما سُمي بــ"عقيدة أوباما" التي كان أهم ما يعنينا فيها هو تحويل بوصلة الاهتمامات الأمريكية نحو الصين بما يعنيه من تراجع أهمية الشرق الأوسط في السياسة الأمريكية لدرجة أنها بدت غير مهتمة بالهواجس المشروعة للدول العربية عامة ودول مجلس التعاون الخليجي خاصة من تداعيات المشروع الإيراني على أمنها، خاصة وأن النخبة الإيرانية الحاكمة لم تُخْف أبداً خططها لمد نفوذها إلى أوسع نطاق ممكن في الفضاء العربي، ولم تعتبر النخب العربية عامة والخليجية خاصة أن اتفاق٥+١النووي مع إيران الذي أُبرم في٢٠١٥م، كافٍ لتهدئة هواجسها الأمنية المتولدة عن السياسات الإيرانية خاصة وأن أوباما دعا العرب في إطار رؤيته الجديدة للتعايش مع إيران دون أدنى إشارة للمخاطر المترتبة على مشروعها وتجلياتها في عدد من البلدان العربية والخليجية، واستمر التركيز على الصين باعتبارها المنافس الأول للقيادة الأمريكية للنظام العالمي في ظل ولاية الرئيس دونالد ترامب (٢٠١٧-٢٠٢٠م)، وأضافت جائحة كوڤيد١٩والاتهامات المتبادلة بين واشنطن وبكين بخصوص المسؤولية عن الجائحة مزيداً من التوتر إلى العلاقات الثنائية، ومن ناحية أخرى استمر تدني مستوى الانخراط في قضايا الشرق الأوسط وإن كان ترامب قد أبدى وعياً أكثر بخطورة المشروع الإيراني وبالذات في بعده النووي ومن ثم انسحب في السنة الثانية من ولايته (٢٠١٨م) من الاتفاق النووي مع إيران وشدد العقوبات عليها دون أن يؤدي هذا لتغيير سلوكها حتى فاز بايدن في الانتخابات.

   وتكاد ولاية بايدن أن تكون تكراراً لممارسات الرئيس الأسبق أوباما في الشؤون الخارجية مع خلاف في التفاصيل، فبقي التنافس مع الصين محوراً للاستراتيجية الأمريكية، انعكس في تكوين تحالفات جديدة كما في اتفاق "أوكوس" في سبتمبر٢٠٢١م،  الذي أضاف شرخاً جديداً في العلاقات داخل التحالف الغربي بين أوروبا والولايات المتحدة وداخل أوروبا بين الاتحاد الأوربي خاصة بين فرنسا وبريطانيا، ومن ناحية ثانية كان بايدن قد تعهد في حملته الانتخابية بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران فبدأت مفاوضات جديدة شديدة الصعوبة شاركت فيها الولايات المتحدة على نحو غير مباشر، وعلى الرغم من عدم نجاح هذه المفاوضات في إبرام اتفاق جديد حتى كتابة هذه السطور (مارس٢٠٢٢م) فإن ثمة مؤشرات تفيد بأنها دخلت مرحلتها النهائية لدرجة أنه كان هناك حرص ظاهر من أطراف المفاوضات على الإشارة إلى أنها لا يجب أن تتأثر بالأزمة الحالية التي اتخذت من أوكرانيا مسرحاً لها رغم أن تداعياتها تطول العالم بأسره،. وهو ما يدفعنا إلى إمعان النظر في تطوراتها ودلالتها بالنسبة للنظام العالمي.

   وتعود الأزمة الأوكرانية إلى تداعيات الزلزال السوڤيتي الذي وقع في نهاية١٩٩١م، التي لم تتوقف عند انفراط عقد الاتحاد السوڤيتي إلى١٥دولة وإنما تكرر نموذج سلوك المنتصرين تجاه المهزومين في الحروب، وإن كان تفكك الاتحاد السوڤيتي لم يأت بعد حرب ساخنة كالحربين العالميتين الأولى، وإنما بعد حرب باردة انتهت بانتصار المعسكر الرأسمالي على نظيره الشيوعي، وكما أُذِلت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى على سبيل المثال وأدى ذلك لظهور تيار قومي متطرف فيها لاحقاً عوملت روسيا بالطريقة نفسها بعد تفكك الاتحاد السوڤيتي خاصة وقد تدهورت قوتها في ظل رئاسة يلتسين، وفي ظل الأفكار المتسرعة الساذجة عن "نهاية التاريخ" أعادت أمريكا إلى الحياة استراتيجية تطويق الاتحاد السوڤيتي التي اتبعتها في أعقاب الحرب الثانية لدرء الخطر الشيوعي مع فارق أن الاتحاد السوڤيتي خرج من هذه الحرب قوة صاعدة على رأس معسكر اشتراكي قوامه عدة دول كان "حلف وارسو" هو التعبير التنظيمي عنه فيما خرجت روسيا بعد زلزال انهيار الاتحاد السوڤيتي قوة مرتبكة آخذة في التدهور في ظل رئاسة يلتسين، وهكذا سهل على أمريكا أن تضم كافة الأعضاء السابقين في "حلف وارسو"، بل ضمت جمهوريات البلطيق الثلاث (لاتڤيا-ليتوانيا-استونيا) التي كانت جمهوريات سوڤيتية أصلاً، ومنذ وصول الرئيس بوتين إلى السلطة في٢٠٠٠م، أخذ على عاتقه تصحيح الأوضاع فأعاد أولاً الاعتبار للقوة العسكرية الروسية، وتحديثها ، بحيث تستعيد نديتها للقوة الأمريكية، وبدأ عملية وقف لتدهور الاقتصاد الروسي وتقويته، وأعاد حضور القوة الروسية في الفضاء الخارجي سواء الفضاء السوڤيتي السابق كما حدث بتوثيق العلاقات مع عدد من الجمهوريات السوڤيتية السابقة أو التدخل في شؤون بعضها الآخر لنصرة الحركات الانفصالية الموالية له كما حدث في جورجيا٢٠٠٨م، في حالتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وفي أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم وتأييد الحركات الانفصالية في دونباس٢٠١٤م، أو في الساحة العالمية كما ظهر بوضوح في التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا٢٠١٥م، وغير المباشر في ليبيا بعد إسقاط نظام القذافي، ومن ناحية أخرى حاول بوتين منذ وصوله للحكم تنظيم علاقة روسيا وحلف الأطلنطي بما يحقق الأمن للجميع ويهدئ الهواجس الأمنية الروسية دون جدوى إلى أن تصاعد الحديث عن ضم أوكرانيا للحلف فتصرف باعتبار ذلك خطاً أحمر نظراً لمتاخمة أوكرانيا لحدوده ناهيك بأنها تاريخياً كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية القيصرية، ولم تظهر كدولة مستقلة إلا في إطار الاتحاد السوڤيتي١٩٢٢م، غير أن أحداً لم يستجب لمخاوفه فألقى خطابه الشهير في٢١فبراير الماضي الذي قدم فيه شرحاً مطولاً لأسباب الأزمة وأنهاه بإعلان اعترافه بجمهوريتي دونيتسك ولوجانسك الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، ووقع مع رئيسيهما معاهدة دفاع مشترك فور إنهاء خطابه، وفي٢٤فبراير بدأ عمليته العسكرية في أوكرانيا.

   ويعتبر مراقبون أن هذا السلوك الروسي كسر هيبة أمريكا التي لم تكن أفاقت من هزيمة أفغانستان بقدر ما كان هذا السلوك يعني أن روسيا تستطيع تغيير الواقع الذي لا ترضى عنه دون قدرة التحالف الغربي على الرد تجنباً لحرب عالمية محتملة، والمُرجح أن تحقق روسيا أهدافها المتمثلة في تحييد أوكرانيا ونزع سلاحها، وإن كانت هذه الأهداف ستتحقق بتكلفة لا يمكن الآن تقديرها بدقة، وأغلب الظن أنها ستتراوح بين تكلفة متوسطة وباهظة، وإن كان ذلك لن يحيد دورها الدولي خاصة بالنظر إلى تحالفها السياسي مع الصين، وقد ركزت دوائر سياسية وإعلامية كثيرة على موقف الصين "المتوازن" كما بدا في عدم تأييدها للعملية العسكرية الروسية وامتناعها عن التصويت على مشروعي القرارين المضادين لروسيا في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومع ذلك فقد أعربت الصين عن تفهمها للهواجس الأمنية الروسية وأكدت صلابة علاقتها بروسيا، والحقيقة أن البيان الصيني-الروسي المشترك الذي صدر في مطلع فبراير الماضي عن قمة الرئيسين الصيني والروسي يشير إلى رؤية مشتركة وشاملة لنظام عالمي جديد يعارض الأحادية القطبية وتقسيم الولايات المتحدة للعالم إلى فسطاطين على أساس الإيمان بالقيم الديمقراطية كما تفهمها واشنطن، ويؤسس هذا البيان لتحالف روسي-صيني على الأقل على الصعيد السياسي لن تتخلى الصين عنه حتى تصل لقمة النظام الدولي، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث، ويبدو على هذا الأساس أن النظام العالمي يعود مجدداً إلى ثنائية قطبية طرفها الأول الولايات المتحدة على رأس تحالف غربي يمكن أن يشهد تململاً أوروبياً إذا أصابت العقوبات المفروضة على روسيا المصالح الأوروبية بأضرار ملحوظة وقطب روسي-صيني سوف يتوقف ميزان القوى داخله على التكلفة التي ستلحق بروسيا من جراء الحرب الأوكرانية.

 

ثانياً-المتغيرات الإقليمية

 

    في مقابل المتغيرات العالمية التي تناولتها النقطة السابقة تشهد الساحة الإقليمية متغيرات لا تقل أهمية في تأثيرها على الدول العربية عن هذه المتغيرات العالمية، وسوف ينصرف التحليل في هذا الجزء إلى تلك المتغيرات النابعة من ثلاث قوى إقليمية مهمة هي إيران وتركيا وإسرائيل، ورغم اختلاف نوعية تهديدات القوى الثلاثة فإنها تشترك في هدف ممارسة أكبر قدر من النفوذ وإن أمكن الهيمنة على البلدان العربية.

   وبالنسبة لإيران فقد حدث تغيير جذري في طبيعة التهديد الذي تمثله للأمن العربي بنجاح ثورة١٩٧٩م. التي أطاحت بالنظام الشاهنشاهي وأقامت محله نظاماً ذا مرجعية دينية شيعية رفع بموجبها شعار "نصرة المستضعفين" أي تصدير الثورة، ورتب على ذلك القيام بأعمال تخريبية الغرض منها زعزعة الاستقرار وبالذات في بلدان الخليج الأمر الذي أفضى إلى توترات متكررة في العلاقات الإيرانية مع هذه البلدان، وقد وصلت هذه التوترات إلى حد الحرب بتفجر الحرب العراقية-الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨م)، كما أخذت إيران تبني وتمد جسوراً لنفوذها في أكبر عدد من البلدان العربية، ونجحت في ذلك في عدد من الحالات كما في سوريا من خلال العلاقة الوثيقة مع نظام الحكم فيها، وقد تعززت هذه العلاقة على نحو أقوى بكثير مع دخول سوريا ضمن ظاهرة الاحتجاجات الشعبية التي عرفتها المنطقة وتعرض النظام السوري لمعارضة مسلحة اضطرته للاستعانة بالنظام الإيراني قبل أن تتفاقم أوضاعه ويُضطر لطلب التدخل الروسي العسكري المباشر في٢٠١٥م، وبالإضافة للدعم الإيراني العسكري للنظام السوري سواء بعناصر إيرانية أو بإدخال ذراعها في لبنان (حزب الله) في القتال وتجنيد ميليشيات شيعية من أفغانستان وباكستان وكذلك الدعم الاقتصادي استغل النظام الإيراني هذه الفرصة لإرساء أسس دائمة للوجود الإيراني في سوريا.

   وإذا كان امتداد النفوذ الإيراني إلى سوريا قد تم عبر العلاقات الرسمية بين نظامي الحكم فقد تم في لبنان من خلال "حزب الله" الذي نشأ كحزب للمقاومة مما برر تكوينه لميليشيات مسلحة، لكنه أصبح حزباً سياسياً يتفرد عن غيره من الأحزاب بامتلاكه قوة عسكرية ضاربة حتى بالنسبة للجيش اللبناني، ومن ثم أصبح له عملاً "حق الاعتراض" على أي خطوة سياسية لا تتسق ومصالحه، وفي العراق توسع النفوذ الإيراني بعد الغزو الأمريكي الذي فكك مؤسسات الدولة العراقية وأعاد ترتيب بنية السلطة لصالح الشيعة وهيأ الظروف المواتية لإيران كي تمارس نفوذاً على العملية السياسية في العراق وأصبح أن لإيران دوراً لا يمكن تجاهله في اختيار رئيس الوزراء العراقي خاصة وأن ثمة تنظيمات عسكرية شيعية موالية لها يمكنها أن تُفسد أي ترتيبات لا ترضى عنها إيران ، أما في اليمن فقد نما النفوذ الإيراني من خلال جماعة الحوثيين لإيران، وقد تحدت هذه الجماعة نظام الرئيس اليمني السابق على عبد الله صالح ودخلت معه في مواجهات عسكرية في العقد الأول من القرن الحالي حتى وقعت الانتفاضة الشعبية في فبراير٢٠١١م، وأفضت إلى الاتفاق على تسوية بموجب "المبادرة الخليجية" التي أدت إلى تسليم صالح السلطة لنائبه الرئيس الحالي لليمن، وعُقد مؤتمر للحوار الوطني مُثل فيه الحوثيون برضاهم بحوالي٦٪من أعضاء المؤتمر الذي خرج بقرارات شملت كل مشكلات الساحة السياسية اليمنية، وتم تأليف لجنة لوضع دستور جديد لليمن، وقبل أن يتم الاستفتاء على الدستور الذي انتهت اللجنة من وضعه قام الحوثيون بانقلابهم في سبتمبر 2014م، بالتحالف مع عدوهم السابق على عبد الله صالح إلى أن اغتالوه في٢٠١٧م، وسيطر الحوثيون على صنعاء ومعظم شمال اليمن وحاولوا السيطرة على ما تبقى لولا "عاصفة الحزم" التي بدأت في مارس 2015 م، ونجحت في وقف تمدد الحوثيين وإن حافظوا على مناطق واسعة شمال اليمن استخدموها منصة للقيام بأعمال عدائية ضد المملكة العربية السعودية تهدد أمنها.

   ويُضاف لكل ما سبق المشروع النووي الإيراني الذي سبب قلقاً إقليمياً في منطقة الخليج وعالمياً بالنظر إلى التزام أمريكا بأمن إسرائيل، ومن وجهة النظر العربية فإن امتلاك إيران لخيار نووي يؤسس لها وضعاً مهيمناً في المنطقة، ناهيك بالمخاطر التقليدية المتعلقة بالمفاعلات النووية ، وقد اهتمت القوى الكبرى بتقييد المشروع النووي الإيراني ونجمت جهودها عن التوصل لاتفاق ٥+١في 2015 م، لهذا الغرض، غير أن دول الخليج لم تكن راضية عنه سواء لطابعه المؤقت أو لأنه لم يتضمن ضمانات كافية لأمنها ولم يفرض قيوداً على المشروع السياسي الإيراني وأذرعه العسكرية، وعموماً انسحبت أمريكا من الاتفاق في ثاني سنوات ولاية ترامب وإن بدأت مساعٍ لإعادة إحيائه في عهد الرئيس الحالي بايدن الذي عُقد الاتفاق الأول عندما كان نائباً للرئيس أوباما، ورغم تعقد مفاوضات إحياء الاتفاق فإن ثمة مؤشرات تُنْبئ بقرب توقيعه على الرغم من التوتر الحالي بسبب الأزمة الأوكرانية.

   أما تركيا فلها هواجسها الأمنية المشروعة لمسألتي الأكراد وأمن الطاقة، غير أن الآليات التي اتبعتها في الوفاء بما تراه متطلبات لتحقيق أمنها سببت لها مشكلات كثيرة لم تقتصر على الدول العربية وإنما امتدت لدول أوروبية كاليونان وقبرص ومن ثم الاتحاد الأوروبي، وبالنسبة للمسألة الكردية من المعروف أن تركيا تضم أكبر جماعة كردية في المنطقة حيث يبلغ عدد سكان تركيا من الأكراد ما يزيد عن١٨مليون نسمة يشكلون حوالي ربع سكانها وما يزيد عن نصف عدد الأكراد في العالم، وتنظر تركيا بحساسية لأي تغير في وضع الأكراد بالدول المجاورة ومنها العراق وسوريا خاصة في ظل معارضة كردية داخل تركيا تبنى فصيل منها أسلوب الكفاح المسلح وهو حزب العمال، ولذلك تقوم تركيا بعمليات مسلحة ضد الحزب داخل الإقليم العراقي، وقد. كانت هذه العمليات تتم بالتنسيق مع السلطات العراقية إبان عهد الرئيس صدام حسين لكن هذا الوضع لم يستمر مما سبب في أحيان كثيرة خلافات بين القيادتين التركية والعراقية بسبب عدم موافقة الأخيرة على ما تقوم به تركيا من عمليات عسكرية في الأراضي العراقية، كذلك أبدت تركيا حساسية فائقة لمطالبة أكراد سوريا بالحكم الذاتي وتحتل حالياً جزءاً من الأرض السورية، أما أمن الطاقة فمن المعروف أن حظوظ تركيا من اكتشافات الطاقة هامشية للغاية، وقد أفضت الممارسات التركية للتنقيب عن الموارد الطبيعية في مياه شرق المتوسط إلى مشكلات مع قبرص واليونان إلا أن انعكاس هذه الممارسات امتدت إلى المنطقة العربية بتوقيع تركيا مذكرتين مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا في عام 2019م، إحداهما لترسيم الحدود البحرية والثانية ذات محتوى أمني ترتب عليه تدخل عسكري تركي غير مباشر لعب دوراً مهماً في تطور الصراع في ليبيا لصالح جماعات ما يُسَمى بالإسلام السياسي الأمر الذي سبب مشكلات مع الدول العربية المتضررة من الأنشطة المزعزعة للاستقرار لهذه الجماعات وأهمها مصر بالنسبة للحالة الليبية، حيث تأثر الأمن المصري سلباً بهذه الأنشطة غير مرة واضطر القوات الجوية المصرية للقيام بعمليات داخل الإقليم الليبي.

   ويفضي بنا ما سبق إلى بعد مهم من أبعاد المشروع التركي في المنطقة وهو المتعلق برعايتها لجماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة "الإخوان المسلمين"، وازداد حضور هذه الجماعات في أعقاب الانتفاضات الشعبية  العربية التي تفجرت في مطلع العقد الثاني من هذا القرن، ووجدت تركيا في دعمها لهذه الجماعات مصدراً إضافياً لدعم مشروعها السياسي في المنطقة الذي تبلور في ظل حكم حزب "العدالة والتنمية" بزعامة اردوغان منذ عام٢٠٠٢م، وترتب على هذا توتر في العلاقات التركية مع دول عربية عانت من جماعة "الإخوان المسلمين" وبالذات مصر التي انفردوا فيها بالحكم سنة كشفت للشعب المصري حقيقة أفكارهم وممارساتهم فتمت الإطاحة بحكمهم بانتفاضة شعبية غير مسبوقة ، ولجأ جانب كبير من قياداتهم إلى تركيا التي قدمت لهم الدعم والمساندة وبالذات في المجالين الإعلامي والدبلوماسي مما تسبب في توتر شديد في العلاقات التركية-المصرية زاد منه أن الدولتين وقفتا على طرفي نقيض في الصراع الدائر على الأرض الليبية، وغني عن الذكر أن النموذج الصراعي للتفاعلات التركية-العربية ظهر بوضوح في العلاقة مع سوريا والعراق وشرق ليبيا، وتركيا نتيجة لسياساتها السابقة التي أورثتها عداءات مع دول عربية وأوروبية والخلاف مع أمريكا بسبب تزودها بأنظمة دفاع جوي روسية قد وصلت إلى الضغوط عليها ما أفضى إلى ملامح تغيير في السياسة التركية تجاه محيطها الإقليمي باتجاه التهدئة والتصالح، وترتب على ذلك بداية تطورات جديدة في العلاقات التركية-العربية مازالت ملامحها قيد الاكتمال.

   أما إسرائيل فهي صاحبة أقدم مشروع في المنطقة والذي وصل في أعلى مراحله إلى ضم الأراضي الفلسطينية كافة بالإضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية بعد عدوان١٩٦٧م، وهي الآن تركز على تصفية القضية الفلسطينية بتكثيف الاستيطان في الضفة الغربية وبالذات القدس الشرقية في ظل حكومة يمينية متطرفة مستغلة انشغال عديد من الدول العربية بأوضاعها الداخلية، كما بذلت بدعم أمريكي جهوداً فائقة لمد جسور التعاون مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية، وحققت في هذا الصدد نجاحاً جزئياً ترتبت عليه خلافات عربية-عربية جديدة كما ظهر في الحالة الجزائرية-المغربية، وبالنظر إلى الجمود الراهن لعملية التسوية السياسية للقضية الفلسطينية وهو وضع لا يوجد ما يشير إلى أنه في طريقه للزوال فإن احتمالات تفجر انتفاضات شعبية فلسطينية واسعة تبقى قائمة.

 

ثالثاً-الفرص والقيود وسبل المواجهة

 

    يمكن القول من التحليل السابق للتطورات على الصعيد العالمي أن هذه التطورات وصولاً لحلقتها الأخيرة المتمثلة في الحرب الأوكرانية قد أكدت نهاية نموذج الأحادية القطبية الذي ميز قمة النظام الدولي في أعقاب تفكك الاتحاد السوڤيتي في١٩٩١م، ويُلاحظ استخدام كلمة "أكدت" وليس "أنشأت"، ذلك أن مؤشرات تآكل نموذج الأحادية القطبية بدأت من خبرة الغزو الأمريكي للعراق في2003 م، الذي مثل في حينه ذروة الأحادية القطبية كونه قد تم رغم المعارضة الدولية شبه الشاملة فضلاً أنه تم بالمخالفة لقرارات مجلس الأمن الذي لم يعط أمريكا الحق في المبادرة بعمل عسكري ضد العراق بناء على تقديراتها الذاتية لمدى التزامه بقرارات المجلس ذات الصلة، وفيما بعد كشفت المحصلة النهائية للغزو عن حدود القوة الأمريكية، ولاحقاً وبعد حوالي عقدين من الغزو الأمريكي لأفغانستان أكدت هزيمة المشروع الأمريكي فيها ما سبق لخبرة الغزو الأمريكي للعراق أن قدمت ملامح أولية له، ورأينا بعد ذلك كيف أن إعادة الاعتبار للقوة الروسية وحضورها الدولي قد سارت في نفس اتجاه زعزعة نموذج الأحادية القطبية ناهيك بالصعود الدؤوب للصين نحو قمة النظام العالمي والذي لا يوجد ما يحول دون إتمامه سوى حدوث متغيرات داخلية تعرقل وصول الصين لهذه القمة -كما في الثورة الثقافية في ستينات القرن الماضي مثلاً- لا توجد أي مؤشرات على إمكان حدوثها حتى الآن، ويعني هذا أن السيناريو المرجح لنموذج القيادة في النظام الدولي يمكن أن يمثل عودة لنموذج الثنائية القطبية مع خلاف في التفاصيل، حيث تمثل أمريكا رأس التحالف الغربي القطب الأول في هذا النموذج مع احتمال حدوث شروخ ما في هذا التحالف بدرجة أو بأخرى تقلل من تماسكه إذا لم يستمر الموقف المشترك القوي تجاه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولن يكون هذا جديداً على التحالف الغربي فسوابقه موجودة منذ الخبرة الديجولية في ستينات القرن الماضي التي كانت مؤشراً على تباين تكرر ظهوره بين النهجين الأمريكي والأوروبي في السياسة الدولية، وعززت سياسات ترامب من هذا التباين إلى أن أعاده بايدن إلى مستواه الطبيعي، غير أن الحرب الأوكرانية أدت إلى مزيد من توثيق عرى التحالف الغربي مع احتمال حدوث تململ أوروبي ولو جزئياً في المستقبل إذا ارتدت العقوبات على روسيا بالضرر على دول أوروبية، كذلك قد يكون للصعود المتوقع للقوة العسكرية الألمانية كنتيجة للحرب الأوكرانية دوره في هذا الصدد، أما القطب الثاني فسوف يمثله تحالف صيني-روسي تفرضه ضرورات التنافس مع القطب الغربي حتى وإن كان هناك خلاف بين النهجين الروسي والصيني في السياسة الدولية، خاصة وأن المشتركات بينهما تفوق الخلاف، علماً بأن ميزان القوى داخل هذا التحالف سوف يتوقف إلى حد بعيد على نتائج الحرب الأوكرانية بحيث تكون روسيا نداً للصين في هذا التحالف إذا خرجت منتصرة من هذه الحرب بتكلفة معقولة، أما إذا كانت التكلفة باهظة فسوف تكون اليد العليا للصين في هذا التحالف.

   وسوف يسمح هذا التحول في نموذج قيادة النظام العالمي بمزيد من حرية الحركة للقوى المتوسطة والصغيرة في هذا النظام، فمن البديهي أن نموذج الأحادية القطبية ينطوي على الحد الأدنى من حرية الحركة لهذه القوى كما تُظهر خبرة الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق بينما قدم نموذج الثنائية القطبية منذ خمسينات القرن الماضي وحتى بدايات الانفراج بين القطبين في سبعيناته فرصاً للقوى المتوسطة والصغيرة لتفادي ضغوط أحد القطبين بالاستعانة بالآخر كما فعلت مصر وعديد من الدول في كسر احتكار القوى الغربية لتزويد تلك القوى بالأسلحة ودعم مشروعات التنمية فيها بالاستعانة بالاتحاد السوڤيتي عندما حاولت القوى الغربية فرض شروط لمبيعات السلاح ومساعدات التنمية، ويبدو هذا الأمر بالغ الأهمية في سياق العملية التاريخية الجارية الآن للتنافس على قمة النظام العالمي، فمنذ ما قبل الأزمة العالمية الحالية حول أوكرانيا كانت المؤشرات قد بدأت تظهر على أن احتدام المنافسة بين أمريكا والصين قد مهد لعودة الحياة لشعار "من ليس معنا فهو علينا"، وظهر ذلك على سبيل المثال في تتبع واشنطن لخطوات التعاون بين بعض الدول والصين واعتراضها على هذه الخطوات عندما تتعلق مثلاً بالتعاون التكنولوجي أو العسكري وممارستها لضغوط على هذه الدول كي تعدل عن هذه الخطوات، ويتكرر الأمر الآن في سياق المواجهة الأمريكية الغربية مع روسيا، حيث تحركت أمريكا دبلوماسياً ضد روسيا وفرضت عليها عقوبات شاملة مع عدم إبداء أي تسامح تجاه الدول التي لا تشاركها هذا الموقف وصولاً إلى الصين، فما العمل بالنسبة لدولة كالسعودية لها دورها ومسؤولياتها على كافة الأصعدة العربية والإسلامية والدولية في هذا المناخ الدولي الذي يتميز بالاستقطاب عموماً وفي الظروف الراهنة خصوصاً؟ يمكن للإجابة عن هذا السؤال طرح الأفكار التالية:

   ١- ينبغي أن يكون واضحاً أن البوصلة الوحيدة التي يجب أن تُقاس عليها المواقف هي المصلحة الوطنية وليست بأي حال الانحياز لهذا الطرف أو ذاك خاصة وأن الطرف الذي يضغط من أجل التماهي مع مواقفه لا يضع مصالحنا في اعتباره دائماً، ويسمح لنفسه بالتدخل لإبداء الرأي في ممارساتنا وتقييمها بل ويحاول أحياناً محاسبتنا على هذه الممارسات إن لم يلوح بفرض عقوبات، ومن ثم فإن الرهان عليه وحده ليس صائباً وإنما يجب الحفاظ على شبكة متوازنة من العلاقات مع الجميع، خاصة وأن الأطراف الأخرى في معادلة الاستقطاب الدولي لا تفرض شروطاً ولا تتدخل في الشؤون الداخلية ولا تصدر أحكاماً قيمية على نظم أو ممارسات سياسية بعينها، وليس هذا النهج بالأمر السهل، وعادة فإن القوى العالمية التي لا يروق لها هذا النهج المستقل تلجأ إلى تبني مواقف دبلوماسية معادية أو التهديد بفرض عقوبات أو فرضها بالفعل، غير أنه لحسن الحظ أن دولة كالسعودية تملك من القدرات ما يُمَكنها من تفادي أي آثار ضارة محتملة على المصالح الوطنية نتيجة هذا السلوك، فضلاً عن أن تآكل نموذج الأحادية القطبية يوفر كما سبقت الإشارة هامشاً مريحاً لحرية الحركة، وليس معنى ما سبق السعي إلى صدام مع هذه القوة الكبرى أو تلك وإنما معناه الوحيد ألا صوت يعلو فوق صوت المصلحة الوطنية، وأن سبل حمايتها متاحة بالتأكيد لدولة كالسعودية تملك من القدرات والمكانة العربية والإسلامية والدولية ما يتيح لها توفير هذه الحماية.

   ٢- على الرغم مما سبق -أي تملك السعودية لقدرات وتمتعها بمكانة تتيح لها حماية مصالحها الوطنية- فإن الاستناد إلى قاعدة عربية وإسلامية بل ودولية سوف يعزز التوجه الاستقلالي الذي لا يخضع لأي ضغوط ترمي إلى حرف البوصلة السعودية عن المصالح الوطنية، ويلقي هذا بمسؤولية خاصة على عاتق السياسة السعودية، ذلك أنه لا يخفى أن الأوضاع العربية قد تردت إلى حدٍ بعيد منذ الغزو الأمريكي للعراق والانتفاضات الشعبية العربية في مطلع العقد الثاني من القرن الحالي وما ترتب على كل هذه التطورات من نتائج سلبية رأيناها في تهديد كيانات الدول الوطنية العربية، وتفاقم الإرهاب إلى حد تكوين دولة له في العراق دامت أكثر من ثلاث سنوات، فضلاً عن محاولات استنساخها في ليبيا ولبنان ومصر، وتعاظم الاختراق الخارجي للنظام العربي، ويلقي هذا كما سبقت الإشارة بمسؤولية خاصة على السعودية فيما يتعلق برأب الصدع العربي والمساعدة على حل الصراعات الداخلية العربية انطلاقاً من دورها القيادي في العالمين العربي والإسلامي، وغني عن الذكر أن محاولة بناء قاعدة إقليمية ودولية تستند إليها السعودية في تحركاتها الخارجية يجب أن تمتد إلى القارتين الإفريقية والآسيوية بل وإلى جميع أرجاء العالم الممكنة، ولن تكون السعودية وحدها في هذا المسعى نظراً لأن الضغوط الدولية المضادة للمصالح الوطنية للدول لا تقتصر عليها وحدها، ومن ثم فإن النزعة الاستقلالية ستكون مشتركة بين دول عربية وإسلامية عديدة بل وعديد من دول العالم.

   ٣- من الأهمية بمكان في هذا السياق أن يكون للعلم دوره في هذه المواجهة، بمعنى أن تحديد المصالح الوطنية التي يتعين الدفاع عنها وعدم تقديم أدنى التنازلات بشأنها يتطلب جهداً بحثياً دؤوباً، وعلى سبيل المثال فإنه عندما تطالب الولايات المتحدة دولة ما بزيادة إنتاجها من النفط لتفعيل العقوبات على روسيا لا يجب أن تكون الإجابة على هذا المطلب إجابة سياسية فقط وإنما يجب أن تكون مستندة إلى دراسة علمية تبين بالحسابات الدقيقة الأضرار التي ستلحق بالمصالح السعودية من جراء الاستجابة لطلب كهذا، بل ربما تمتد الأضرار لتحدث ارتباكات في سوق النفط العالمي برمته، وعليه فإن ثمة حاجة ملحة لتوظيف شبكة المراكز البحثية في المملكة وتكليفها بتحديد كل ما يتعلق بالمصالح الوطنية السعودية وسبل حمايتها وإنشاء أي مراكز جديدة تحتاجها هذه المهمة وتوفير كل سبل الدعم لها.

   أما على الصعيد الإقليمي فإن القيود والتهديدات النابعة منها تبدو شديدة الوضوح بالنسبة للقوى الإقليمية الثلاث التي تناولها التحليل وإن كان هذا لا يمنع من وجود فرص لتحييد هذه التهديدات لابد من استكشافها بمنتهى الحذر وبما لا يمس المصالح الوطنية من قريب أو من بعيد، وقد قامت السياسة السعودية بالفعل بخطوات محسوبة ومتزنة في هذا الصدد انطلاقاً من رؤية واضحة للمصالح الوطنية تستند إلى حقائق القوة السعودية على الأرض، ويمكن هنا التوصية بما يلي:

   ١- بالنسبة لإيران من الواضح من خبرة التعامل مع النظام الإيراني بعد ثورة 1979م، أنه ليس على استعداد للتخلي عن أهدافه الاستراتيجية عامة وفي منطقة الخليج العربية خاصة، لكنه من الواضح من ناحية أخرى أنه يفهم لغة القوة، كما أظهرت خبرة الحرب العراقية-الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨) وكذلك خبرة "عاصفة الحزم" منذ٢٠١٥م، وصحيح أن استعادة الشرعية لم تتحقق في اليمن حتى الآن لكن "عاصفة الحزم" تمكنت دون شك في ظل الظروف الصعبة لمعسكر الشرعية اليمنية من وقف تقدم الحوثيين وحماية اليمن من الخضوع الكامل لهم وتكبيدهم خسائر فادحة، ويمثل هذا الموقف القوي وغيره أساساً لحوار سعودي-إيراني شامل لا شك أن المسألة اليمنية ستكون لها أولوية فيه، وقد كان لمثل هذا الحوار ثماره الإيجابية عندما طبع الاعتدال السياسة الإيرانية كما سبقت الإشارة في عهد الرئيس محمد خاتمي، وصحيح أن الظروف حالياً مختلفة إلى حد بعيد لكن الانطلاق في الحوار من التمسك الكامل بالمصالح الوطنية والاستناد إلى قاعدة القوة السعودية وتحالفاتها العربية كفيل بحماية هذه المصالح

والتوصل إلى صيغ للتعايش بين الطرفين تحقق أمنهما معاً دون أي أطماع للتوسع أو النفوذ أو الهيمنة، وتخلق مناخاً إيجابياً للبناء والتنمية خاصة وأن النظام الإيراني يعلن دوماً أنه على استعداد للحوار، ولابد من وضع هذه الأقوال موضع الاختبار بحوار صريح يُفضي إلى تفاهمات مصحوبة بضمانات أكيدة للطرفين، وليس هذا بالتأكيد بالأمر السهل بدليل أن السياسة السعودية قد استكشفته بالفعل عبر جولات من الحوار لم تُفْض حتى الآن لنتائج نهائية بما يشير إلى جدية المفاوضات وحرص السعودية على وصولها لنتائج عملية جادة تحقق مصالح طرفيها، ومما يزيد الأمل في إمكان نجاح الحوار السعودي-الإيراني ولو على مدى زمني أطول أن إيران تعاني دون شك من تبعات سياستها الخارجية والضغوط الناجمة عنها، أما في حالة حدوث متغيرات جديدة في الساحة الإيرانية تقوض مناخ الحوار فساعتها يكون لكل حادث حديث ويكون للغة القدرات السعودية دورها، ولابد هنا من إشارة خاصة للمشروع النووي الإيراني ومخاطره على الأمن العربي عامة والخليجي خاصة، ولا تعارض السعودية حق أي دولة في التنمية السلمية لقدراتها، لكن المشروع النووي الإيراني في سياق السياسة الخارجية لإيران منذ ثورة  1979م، يجب أن يكون محاطاً بضمانات تامة ومطلقة لأمن الجميع لأن حسن النوايا بفرض توفره لا يقي بالضرورة من المخاطر على ضوء الحوادث المتكررة لمفاعلات نووية، ولذلك فإن أقصى قدر من الجدية في متابعة الملف النووي الإيراني يجب أن يكون أساس التعامل السعودي معه، وأقصى قدر من التشدد يجب أن يسود في أي حوار حوله ناهيك بدفع المشروع النووي السلمي السعودي.

   ٢- يبدو الوضع مختلفاً بعض الشيء بالنسبة لتركيا رغم أن مشروعها الإقليمي ينطوي كما سبقت الإشارة على نزوع للتدخل والنفوذ والهيمنة فيما يتعلق بالنظام الإقليمي العربي، غير أن المبالغة في اتباع سياسة خارجية تركية نشطة على جبهات عديدة دولية وإقليمية وعربية عرضها لردود فعل حادة على كل المستويات كما حدث مثلاً بالنسبة للاعتراضات الأمريكية على صفقة شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الروسية س٤٠٠والاعتراض الأوروبي لدرجة فرض عقوبات على تركيا بسبب أنشطتها غير المشروعة تجاه اليونان وقبرص في التنقيب عن الموارد الطبيعية في مياه شرق المتوسط، وعربياً واجهت تدخلاتها في سوريا والعراق وليبيا اعتراضات عربية لتعارض هذه التدخلات مع اعتبارات الأمن القومي العربي الأمر الذي أوجد توترات عربية حادة في العلاقات العربية مع تركيا وبالذات مع مصر في حالة التدخل التركي في ليبيا وسوريا والعراق فيما يتعلق بالتدخل التركي في شؤونهما، وقد أدى تعاظم الضغوط الأمريكية والأوروبية والعربية على النحو السابق إلى ظهور توجه جديد في السياسة التركية يكشف عن رغبة في العودة إلى سياسة "تصفير المشاكل" التي كان قد بادر بها أحمد داوود أوغلو عندما كان وزيراً للخارجية التركية، فبدأت لهجة تصالحية في الخطاب السياسي التركي مكنت من بدء حوارات عربية-تركية مع دول عربية كالسعودية ومصر والإمارات، ومازالت هذه الحوارات بالنسبة للسعودية ومصر في المراحل الاستكشافية نظراً لحرصهما على الوصول لنتائج شاملة متوازنة وتعقد القضايا التي يشملها الحوار فيما حقق الحوار مع الإمارات اختراقاً ربما لعدم وجود تعقيدات في العلاقات الثنائية بين الطرفين، وبصفة عامة ينطبق هنا المبدأ ذاته الذي تمت الإشارة إليه في البند السابق المتعلق بإيران بمعنى أن البوصلة الوحيدة للحوار يجب أن تكون هي المصالح السعودية، فإن تم التوصل لنتائج مرضية ومتوازنة بالنسبة للطرفين فبها ونعمت وإلا فإن قدرات المملكة ورؤيتها السليمة كفيلة بضمان مصالحها، ويبقى أن توظيف تركيا للجماعات السياسية التي تنسب نفسها للإسلام يمثل حجر عثرة في طريق التفاهم مع تركيا، وقد أبدت مؤخراً تفهماً للمخاوف العربية من الاحتضان التركي لهذه الجماعات فوضعت على سبيل المثال قيوداً على الفضائيات التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين" التي تُبَث من اسطنبول، غير أن الصورة مازالت غامضة بالنسبة لمدى وجود نهج تركي جديد في التعامل مع هذه الجماعات، ومن المؤكد أن هذه المسألة تحتل مكانها المناسب في جدول أعمال الحوارات التركية-العربية.

   ٣- تبقى إسرائيل وهي صاحبة أقدم مشروع إقليمي أثر في النظام الإقليمي العربي بدءاً بإعلان دولتها في١٩٤٨م، على جزء من أرض فلسطين ووصولاً في عدوان يونيو١٩٦٧م، إلى السيطرة على كامل أرض فلسطين واحتلال شبه جزيرة سيناء المصرية والجولان السورية، ومنذ ذلك الوقت تولد اتجاه واقعي لقبول التسوية السياسية للصراع مع إسرائيل، فقبل الرئيس جمال عبد الناصر قرار مجلس الأمن٢٤٢الصادر في نوڤمبر١٩٦٧م، من منظور أنه ينص على الانسحاب من الأراضي التي احتُلت في العدوان، وقبل لاحقاً في ذروة حرب الاستنزاف مبادرة وزير الخارجية الأمريكي ويليام روجرز، وتقدم الرئيس أنور السادات بعد٤شهور من بدء ولايته بمبادرة لإعادة فتح قناة السويس في فبراير١٩٧١م، وإزاء التجاهل التام لكافة هذه الخطوات بسبب التعنت الإسرائيلي تفجرت الحرب في أكتوبر١٩٧٣م، والتي مثلت ذروة للصيغة المثلى للأمن العربي، ومكنت نتائجها من استكمال تحرير سيناء بموجب معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في١٩٧٩م، وإن لم يمكن استكمال تسوية باقي المسارات الفلسطينية والسورية والأردنية لتعقدها، وعلى الرغم من الاعتراض العربي شبه الجماعي على الخطوة المصرية لما اعتُبر أنه تجاهل مصري للمطالب العربية أخذت السعودية بزمام المبادأة وتقدمت في١٩٨١م، المبادرة التي أُطلق عليها لاحقاً مبادرة فاس نسبة لمكان انعقاد القمة التي أقرتها في١٩٨٢م، بعد أن تعذر تحقيق إجماع حولها في قمة١٩٨١م، وقامت فكرة المبادرة على أساس تصحيح النقص في المطالب العربية الذي ورد في اتفاقية كامب ديفيد الثانية التي عقدها السادات في سبتمبر١٩٧٨م، مقابل قبول السلام مع إسرائيل بضمانات من مجلس الأمن، ثم عادت السعودية فتقدمت بمبادرة إلى قمة بيروت العربية2002 م، اعتُمِدت من القمة كأساس للموقف العربي الرسمي من تسوية الصراع، وتضمنت المبادرة قائمة بالمطالب العربية المطلوب أن تستجيب إسرائيل لها مقابل تمتعها بعلاقات طبيعية مع الدول العربية، وهكذا تبلورت السياسة السعودية تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي على هذا الأساس: استعداد للسلام مع إسرائيل مقابل تسليمها بالمطالب العربية، ومازال هذا الموقف يمثل أساساً صالحاً للتعامل مع إسرائيل وموجهاً للسياسة السعودية تجاهها.

   يمر العالم والمنطقة إذن بمتغيرات تنذر بحدوث نقلة نوعية في التفاعلات العالمية والإقليمية، ولابد من إمعان النظر في هذه المتغيرات ودراستها بعناية كي يتم التوصل إلى تصور واضح ودقيق حول تداعياتها علينا وتبني أنسب السبل من ثم لمواجهة هذه التداعيات والتي يجب أن يكون أساسها الحفاظ على المصالح الوطنية للمملكة العربية السعودية استناداً إلى قدراتها الذاتية من ناحية وفي إطار من توطيد التضامن العربي والإسلامي وشبكة متوازنة من العلاقات مع دول العالم كافة من ناحية أخرى.

مقالات لنفس الكاتب