المنهج التاريخي أحد مناهج البحث العلمي المهمة للاستقراء والاستيضاح ومن ثم البناء لما هو آت، فالتاريخ ليس مجرد قراءة أخبار أو سير قديمة للتسلية و الاستمتاع بأخبار السابقين، بل للاطلاع على تجارب صعود الأمم والدول، أو حتى الأفراد، ورصد كيف كان هذا الصعود وماهية منطلقاته وأدواته وأسسه، وكيف كان الهبوط أو الأفول وما هي أسبابه وتداعياته، لذلك لا يمكن خوض غمار المستقبل إلا باستحضار التاريخ واستلهامه والبناء على تجاربه واستكشاف محطاته للتعامل مع التحديات والطموحات وإدارة الأزمات والصراعات، وتنجح القيادات السياسية في كل الأزمنة عندما تقرأ التاريخ جيدًا وتستوعبه، وأيضا تنجح الأمم عندما تلجأ لاستحضار التاريخ والاستفادة منه والانطلاق نحو المستقبل وليس البقاء فيه والركون إليه وعدم تجاوزه.
ومنطقتنا العربية غنية بالتجارب التاريخية المفيدة حيث شهدت بداية صعود حضارات مهمة وكيف سادت ثم بادت ، منذ التاريخ الجاهلي وحروب القبائل وحتى بزوغ فجر الإسلام ثم انتشاره وعبوره الحدود حيث جاء للناس كافة والأمم عامة، وكيف تشرنقت وتقوقعت حضارات كالفارسية والرومانية والبيزنطية، ثم كيف تطورت الأحداث في العصور المتأخرة وظهر عصر الدويلات ، إلى أن جاءت مرحلة الاستعمار الحديث وتقسيم النفوذ بين القوى المتصارعة على العالم ومنه المنطقة العربية التي كانت من أكثر مناطق العالم تأثرًا بتقسيم النفوذ الدولي حتى نشبت الحرب العالمية الأولى ، ثم الحرب العالمية الثانية وكلاهما حصد من الأرواح ما لم تحصده الحروب القديمة، وكان من تداعيات هذا الصراع الدولي أن عانت المنطقة العربية من التأثير السلبي للاتفاقيات الدولية للتقسيم التي تمت في غيابها كما حدث في اتفاقية سايكس ـ بيكو، ووعد بلفور الذي مازال يلقي بظلاله على المنطقة العربية حتى الآن .
وعلى المستوى الدولي، فما يشهده العالم حاليًا من صراع بين روسيا والغرب بعد نشوب الحرب الروسية ـ الأوكرانية، ما هو إلا تداعيات تاريخية واجترار لسوابق ماضية بما تمثلها من صراعات قديمة بين الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية من جهة، والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف الناتو من جهة أخرى، وهذه الحرب الدائرة حاليًا لن تتوقف تداعياتها حتى وإن توقفت الحرب ذاتها ووضعت أوزارها ، لأن القضية لها جذور تاريخية ممتدة والعداء بين الأطراف المتحاربة أقدم وأعمق من الظاهر ويحمل في طياته صراع نفوذ مرتبط بمصالح اقتصادية و سياسية وعسكرية وأيدولوجيات ظاهرة ومستترة تقود جميعها إلى استمرار الصراع حتى وإن هدأ أحيانًا وأخذ أشكالاً غير الحرب المباشرة والنزاعات المسلحة، حيث تتجنب هذه القوى الصدام المباشر وتلجأ للحروب بالوكالة أو ما يسمى بالحروب الباردة.
والتاريخ يعلمنا أن المنطقة العربية لن تكون بمنأى عن صراعات الدول الكبرى ونزاع النفوذ وتقاسم العالم بين الشرق والغرب اجترارًا لمنطلقات تاريخية وأخرى حديثة ومعاصرة ، وتتمثل الأخيرة في الثروات الطبيعية للمنطقة العربية ،وموقعها الاستراتيجي، وتحكمها في الممرات المائية، ولذلك لن تكون المنطقة العربية بعيدة عن المساومات بين الدول الكبرى وحتى مع الدول الإقليمية الصاعدة ومن بينها إيران وتركيا، وعليه يجب أن تكون الدول العربية يقظة لأي مساومات لحماية أمنها الوطني والإقليمي خاصة أن هناك مؤشرات على مساومات أمريكية / غربية مع إيران بشأن برنامجها النووي وبرامج تسليحها الصاروخي وغيره، والمؤكد أن هذه المساومات في حال حدوثها ستكون أضرارها على حساب الدول العربية، وهذا ما يتكرر مع تركيا وإثيوبيا وغيرها من الدول المحيطة بالمنطقة العربية، وبذلك من الضروري اعتماد الدول العربية على الذات في الدفاع عن قضاياها ومصالحها ووجودها ويكون ذلك من خلال تكامل عربي حقيقي وفاعل وتنسيق سياسي لخوض غمار أي مفاوضات جماعية مع القوى الكبرى أو الإقليمية فيما يخص مستقبل المنطقة، مع توسيع الشراكات الدولية والانفتاح على القوى الكبرى والصاعدة في مختلف أرجاء العالم من أجل مصالح دول المنطقة وحماية شعوبها ومقدراتها وحتى لا تتفاجأ مستقبلًا بترتيبات تمت في غيابها أو دون علمها أو بغير مشاركتها فيما يخص الترتيبات المستقبلية للمنطقة، ومن ثم من الضروري تشكيل قوة عربية صلبة تكون غطاءً للتكامل العربي وللدفاع عن أمن المنطقة وحدودها ومصالها خاصة أن الدول الكبرى غير معنية بالمنطقة وغير حريصة على أمنها واستقرارها ومصالح شعوبها ، وكل ما يهمها مصالحها فقط دون اعتبار لأي مواثيق أو علاقات تاريخية، وهذا ما أكدته مجريات الأحداث التي عصفت بالمنطقة منذ نشوب ما يسمى بثورات الربيع العربي التي وقفت خلفها وساندتها دول كبرى كانت ترفع شعار الصداقة والتحالف مع الدول العربية التي تأثر أكثرها بأحداث هذه الثورات التي خلخلت استقرار المنطقة العربية.