تزامن اندلاع الحرب في أوكرانيا مع بدء التعافي من تبعات فيروس "كوفيد-19"، وما تبع ذلك من آثار اقتصادية سلبية، ولم يكد الاقتصاد العالمي يجد طريقة إلى التعافي من أزمات التضخم وارتفاع أسعار الطاقة واضطرابات سلاسل الإمداد، فأتت الأزمة الروسيةـ الأوكرانية في عرقلة التعافي الاقتصادي العالمي، وما انعكس في زيادات ضخمة بأسعار مصادر الطاقة والمحاصيل الزراعية، خاصة بعد فرض عقوبات على قطاعات الاقتصاد الروسي، وبنكها المركزي واحتياطاتها النقدية في الخارج.
ولا يزال من السابق لأوانه معرفة كيف ستتكشف تداعيات الصراع، لكن العواقب الاقتصادية الأولية بدأت بالفعل.
مما تتكون هذه الآثار الاقتصادية؟ وما الذي يمكن أن نتوقعه، خلال الأشهر المقبلة، في البلدان المتأثرة -بشكل مباشر أو غير مباشر -بالصراع الروسي الأوكراني؟
أولًا: حجم طرفي الأزمة في الاقتصاد العالمي.... هل يكونا أول من يدفع الفاتورة؟
لكلٍ من روسيا وأوكرانيا وزن في الاقتصاد العالمي وهو ما يشكل أزمة للاقتصاد العالمي:
تمتلك روسيا 1.6% من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي 2022م، وتمتلك أوكرانيا 0.2% من هذا الناتج، كما تستحوذان على 25.4% من إنتاج القمح العالمي و 29% من صادراته عالميًا، بالإضافة إلى 20% من صادرات الذرة والحبوب الخشنة، 80% من صادرات زيت عباد الشمس، كما تساهم روسيا بنسبة 13% من الإنتاج العالمي من الأسمدة، 40% من البلاديوم، 10% من معدن البلاتين، وبالتالي فإن الأزمة وما لحق بها من العقوبات على روسيا، وطول أمد المواجهة، وارتفاع أسعار الطاقة وزيادة التضخم العالمي، وزيادة تكاليف استضافة اللاجئين الذي وصل تعدادهم لأكثر من 4 مليون شخص، وارتفاع الإنفاق العسكري لدول الناتو، وزيادة معدلات الادخار مع عزوف الشركات عن الاستثمار في ظل هذا الجو الضبابي، كل ذلك سيؤدي إلى كوارث حقيقية تضر بالاقتصاد العالمي.
أ- الاقتصاد الروسي أول من يدفع فاتورة الحرب: عند الحديث عن الأزمة بين أوكرانيا وروسيا لابد من التطرق إلى تأثيرها على طرفيها في البداية خاصة للأهمية الاستراتيجية العالمية لكلاهما سواء على مستوى الطاقة، أو الحبوب، أو الأسمدة، فقد توقع البنك الدولي انخفاض حجم الاقتصاد الروسي بنسبة 1.5% عام 2022م، و 2.6% خلال 2023م، كما يتوقع تراجع حجم الواردات الروسية 30% خلال 2022م، و تزايدت موجة خروج الشركات من السوق الروسية، ما يزيد من أوجاع الاقتصاد الذي يعاني بالفعل من تضخم مرتفع وانخفاض في (الروبل) مقابل الدولار حيث وصل سعر صرف الروبل 40% في ظل تصاعد المخاطر، ارتفاع نسبة التضخم في الداخل لنسبة 20%.
العقوبات الغربية منعت عددًا من البنوك الروسية من التعامل بنظام التحويل البنكي (سويفت)، لحرمانها من التحويلات المالية الدولية، وتجميد أصول مملوكة للبنك المركزي الروسي للحد من وصول روسيا إلى مواردها المالية في الخارج، واستهداف 70% من الأسواق المالية الروسية والشركات المملوكة للدولة، واستهداف قطاع الطاقة، ومنع بيع قطع غيار الطائرات لروسيا، ومنع بيع السلع ذات التقنية العالية وهكذا، فإن دول (الناتو)، واليابان وكوريا الجنوبية، التي تمثّل نصف اقتصاد العالم، تستخدم أدوات القوة الاقتصادية ضد دولة تمثل 2٪ من الاقتصاد العالمي.، وجمّدت ألمانيا تصاريح لخط (نورد ستريم2) الروسي لتصدير الغاز إلى أوروبا، وفرضت أستراليا عقوبات على الأثرياء الروس، وأكثر من 300 من البرلمانيين الروس، الذين صوّتوا بالسماح بإرسال الجيش إلى أوكرانيا.
وفرضت اليابان عقوبات على مؤسسات وشخصيات روسية، وعلّقت صادرات عدة سلع إلى روسيا، منها صادرات أشباه الموصلات، وكذلك فرضت بريطانيا وأمريكا وأستراليا عقوبات على بيلاروسيا لدورها في تسهيل الهجوم الروسي.
فإذا تأملنا النتائج والتبعات والخسائر المتوقّعة على الاقتصاد الروسي، في مرحلتها الأولى، من جرّاء هذه التصرفات والإجراءات العقابية نستطيع أن نقدّر هذه الخسائر على النحو التالي
- خسائر متمثلة في تجميد أمريكا والبنوك المركزية في الاتحاد الأوروبي 250 مليار دولار من أموال الاحتياطيات الروسية.
- أدى تخلي المستثمرين عن الأصول الروسية من الأسهم والسندات وقدرها 170 مليار دولار، إلى انهيار الأسعار.
- الخسائر الناتجة عن لوجستيات الحرب والتي قدرت بحوالي ملياري دولار يوميًا.
- من المتوقع أن تخسر روسيا معظم تجارتها السلعية مع أوروبا وأمريكا– عدا الغاز وجزء من النفط ومشتقاته، ولو مؤقتاً – أي ما يعادل خسارة 200.0 إلى 250.0 مليار دولار في السنة الأولى للحرب.
ب-تكلفة الحرب على أوكرانيا: وفقًا لبيان الحكومة الأوكرانية في مارس 2022م، قدرت أن الحرب أجبرت 30% من الاقتصاد الأوكراني على التوقف، كما قدرت الخسائر المباشرة التي تكبدتها البلاد بنحو 565 مليار دولار على الأقل، بالإضافة إلى وصول التكلفة العسكرية للحرب في أوكرانيا بالنسبة لروسيا تتراوح ما بين 20 و25 مليار دولار يوميًا.
وخلال الشهر الماضي، توقع صندوق النقد أن تشهد روسيا وأوكرانيا هذا العام ركودًا اقتصاديًا حادًا، لافتًا إلى أن الاقتصاد العالمي بأكمله سيشعر بآثار تباطؤ النمو وزيادة سرعة التضخم، وستتدفق هذه الآثار من خلال 3 قنوات رئيسة: أولًا ارتفاع أسعار السلع الأولية كالغذاء والطاقة، وثانيًا انقطاعات في التجارة وسلاسل الإمداد، وثالثًا تراجع ثقة مجتمع الأعمال عالميًا.
ثانيًا: تداعيات الحرب على الأوضاع المالية والاقتصادية العالمية السير نحو نفق مظلم
نعود إلى الاقتصاد العالمي. يواجه صدمة إمداد على جبهات متعددة: فقد تعرضت إمدادات الوقود الأحفوري والقمح والأسمدة النيتروجينية والمعادن الصناعية مثل النيكل والتيتانيوم، والتي تشكل الجزء الأكبر من صادرات روسيا (وأوكرانيا) والنتيجة هي زيادة الأسعار العالمية لجميع هذه السلع.
وفقًا لتقرير لصندوق النقد الدولي إبريل 2022م، أكد خفض توقعات النمو العالمي هذا العام، فقد كان من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنحو 3.6 %. ولكن الأزمة الأوكرانية أدت إلى خفض التوقعات إلى 2.6 %، مع استمرار حالة التضخم، فيتوقع أن تبلغ نسبته 5,7% للدول و8,7 % للاقتصادات الناشئة والنامية.
وهذا سيؤثر على جميع البلدان، بدرجات متفاوتة، حيث أن الاقتصاد العالمي بأكمله سيشعر بآثار تباطؤ النمو وزيادة التضخم، وسوف تتدفق هذه الآثار من خلال ثلاث قنوات رئيسية كما يلي:
- أولاً، ارتفاع أسعار السلع الأولية كالغذاء والطاقة ودفع التضخم نحو مزيد من الارتفاع، مما يؤدي إلى تآكل قيمة الدخول وإضعاف الطلب.
- وثانيًا، الاقتصادات المجاورة سوف تصارع الانقطاعات في التجارة وسلاسل الإمداد وتحويلات العاملين في الخارج كما ستشهد طفرة في تدفقات اللاجئين.
- وثالثًا، تراجع ثقة مجتمع الأعمال وعدم اليقين سيفضيان إلى إضعاف أسعار الأصول، وتشديد الأوضاع المالية، وربما الحفز على خروج التدفقات الرأسمالية من الأسواق الصاعدة.
فيما يخص مستوى التأثر بالأزمة فيمكننا تقسيم المناطق المتأثرة جراء الأزمة كما يلي:
- أوروبا وفرض عقوبات على استحياء
تمثل الطاقة القناة الرئيسية لانتقال التداعيات في أوروبا حيث تشكل روسيا مصدرًا أساسيًا لوارداتها، حيث تعتمد على ما يقرب من 40% من طاقتها على روسيا، وهذا ما جعل المستشار الألماني أولاف شولتس يصرح عقب اجتماع مع نظيره الروسي فبراير 2022م، أن استثناء أوروبا إمدادات الطاقة الروسية من العقوبات لأن ذلك سينعكس بشدة على اقتصاد الدول الأوروبية -صحيح أن الاتحاد الأوروبي قال إنه سيبحث عن مصادر بديلة للطاقة الروسية وأنه ينوى الاستغناء عنها في 2027م، إلا إنه لا توجد مؤشرات بوجود بدائل متاحة، وستسفر هذه الآثار عن ارتفاع التضخم وإبطاء التعافي من الجائحة، وسوف تشهد منطقة شرق أوروبا ارتفاعًا في تكاليف التمويل وطفرة في تدفق اللاجئين، حيث استوعبت معظم اللاجئين البالغ عددهم 4 ملايين نسمة، حسب ما أوضحه تقرير الأمم المتحدة 13 إبريل 2022م.
وقد تواجه الحكومات الأوروبية ضغوطًا على المالية العامة من زيادة الإنفاق على تأمين مصادر الطاقة وميزانيات الدفاع، وبينما تُعد الانكشافات الخارجية للأصول الروسية الآخذة في الهبوط محدودة بالمعايير العالمية، فإن الضغوط على الأسواق الصاعدة قد تزداد إذا سعى المستثمرون إلى البحث عن ملاذات أكثر أمانًا واستقرارًا.
ولم يقتصر التأثر على هذه المجالات فقط بل امتد ليشمل مجال الإنفاق العسكري، حيث قررت كثير من دول الاتحاد رفع ميزانية الإنفاق العسكري، وجاءت ألمانيا في الصدارة ورفعت إنفاقها العسكري من 56 مليار دولار سنوياً إلى 100 مليار دولار، وإعلان مستشارها تخلى بلاده عن عقيدة استمرت لعقود قائمة على التحكم في الإنفاق العسكري. كما قررت لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تزويد دولة في منطقة نزاع بالأسلحة. أما بريطانيا، فقد أقرت زيادة في ميزانية الدفاع بأكثر من 16.5 مليار دولار. كما أعلنت فرنسا أنها ستزيد من ميزانية الدفاع لهذه السنة بأكثر من ملياري دولار، في وقت تحقق فيه هدف تخصيص 2% من ناتجها الداخلي الخام للجيش. وزادت هولندا وإيطاليا إنفاقها العسكري، وكذلك فعلت بلدان كانت تطالب بتخفيض الإنفاق على الجيوش مثل السويد والدانمارك، كما بحثت دولة صغيرة على حدود روسيا مثل فنلندا والتي عرفت بحيادها، عن فرص للانضمام لحلف الناتو.
- آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز ستعاني تبعات أشد
هذه البلدان المجاورة ستشعر بتبعات أكبر من الركود في روسيا وتأثير العقوبات، التي ستؤثر في اقتصادات آسيا الوسطى، لا سيما أنها تواجه مشكلات بسبب تحديات جائحة كوفيد-19.
كما تعتبر روسيا أكبر شريك تجاري لآسيا الوسطى، فكازاخستان وقيرغيزستان أعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تقوده روسيا فبينما ارتفعت التجارة الخارجية للاتحاد الاقتصادي الأوراسي في 2021م، بأكثر من 34% وارتفعت التجارة الداخلية بنسبة 67%، وبلغ إجمالي معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 4.4%. وهكذا فإن العقوبات الاقتصادية على روسيا ستؤثر بالسلب في التجارة الخارجية والداخلية للاتحاد.
بالإضافة إلى هذا، فقد أسهم العمال المهاجرون في روسيا في اقتصادات بلادهم، حيث تمثل التحويلات المالية 30% من الناتج المحلي الإجمالي لطاجيكستان، و28% من الناتج المحلي الإجمالي لقيرغيزستان، و12% من الناتج المحلي لأوزبكستان، ولكن العقوبات وهبوط الروبل، تسبب في خفض قيمة دخل ومدخرات العمال المهاجرين وخفض قيمة العملات الوطنية لكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان.
- الاقتصاد الأمريكي في ظل الأزمة
لن يكون الاقتصاد الأمريكي بمنأى عن تأثر العقوبات الاقتصادية على روسيا، فقد بات الاقتصاد الأمريكي مهددًا بتراجع نسبة النمو التي حققها العام الماضي والتي بلغت 5.7% عقب التعافي من تأثير جائحة كورونا.
وبعد حظر استيراد الطاقة من روسيا رغم أنها لا تستورد سوى 3% من النفط الروسي ولا تستورد أي غاز منها، فإن ذلك لم يمنع ارتفاع أسعار البنزين لأعلى مستوى لها منذ العام 2008م، إن الأسعار ارتفعت بمعدل 11% عقب هذه الحرب، ولا تعد أمريكا مستوردًا رئيسًا لصادرات روسيا وأوكرانيا من القمح والشعير اللتين توفران معا ثلث صادرات العالم من المحصولين، لكن الحرب تُسهم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم ككل.
- الشرق الأوسط وإفريقيا معرضون لمخاطر أكبر
بينما كانت القارة تتعافي تدريجيًا من الجائحة، جاءت الأزمة لتهدد التقدم الذي حققته. وتحديدًا لارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتراجع السياحة في الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية، حيث يأتي هذا الصراع في وقت تشهد فيه معظم بلدان المنطقة تضاؤلا في الحيز المالي المتاح لمواجهة آثار الصدمة. ويُرجح أن يفضي هذا الأمر إلى اشتداد الضغوط، والتعرض لمخاطر الديون، ويثير ارتفاع أسعار القمح إلى مستويات قياسية المخاوف بشكل كبير في منطقة تستورد 85% من إمداداتها من هذه السلعة، ويأتي ثلثها إما من روسيا أو أوكرانيا.
يمكن تلخيص القنوات الرئيسية لتأثير الأزمة في خمس فئات وهي: صدمات أسعار الغذاء (القمح)، زيادات أسعار النفط والغاز، عزوف المستثمرين عن المخاطر، ما قد يؤثِر على تدفقات رؤوس الأموال على الأسواق الصاعدة، أيضًا تحويلات المغتربين، وقطاع السياحة.
وأخيراً، سيُؤثِّر الصراع في أوكرانيا تأثيرًا سلبيًا على اقتصادات في المنطقة (لبنان وسوريا وتونس واليمن)، بالإضافة إلى جنوب أفريقيا والسودان والسنغال ونيجيريا وأنغولا وكينيا، فهذه البلدان تعتمد اعتماداً أساسياً على أوكرانيا وروسيا في الحصول على وارداتها الغذائية، ولاسيما القمح والحبوب، ومن المتوقع أن تؤدي الأزمة إلى تعطُّل سلاسل توريد الحبوب والبذور الزيتية، وزيادة أسعار الأغذية، وارتفاع كبير في تكاليف الإنتاج المحلية في قطاع الزراعة.
ثالثًا: هل تتغير بنية النظام النقدي العالمي؟
ساهم الحصار الذي تعرضت له روسيا، بجانب خشية حلفائها من مصير موسكو، في تسريع التوجُّه نحو إلغاء الدولرة في النظام المالي العالمي، بالشكل الذي يفرض على الدول حتمية البحث عن بدائل أخرى للتحرُّر من تأثير هيمنة الدولار عليها اقتصاديّاً.
عودة فكرة إلغاء الدولرة: لعبت الحرب الروسية ـ الأوكرانية دوراً في احتدام التنافس بين العملات. ويُلاحظ في تراجع هيمنة الدولار الأمريكي –ولو جزئيّاً – لصالح عملات أخرى، وهو ما برز في صعود الروبل رغم من فقدانه 7% في أيام الحرب الأولى، ثم تراجعه بنسبة 40% مقابل الدولار، إلا أن الوضع لم يستمر كثيرًا فبعد شهر ونصف، استعاد الروبل معظم ما خسره، ولو ظاهريّاً؛ ما دفع بعض المسؤولين الروس إلى تأكيد فشل العقوبات.
الهند والصين وحروب العملات: كما أن الوضع فرض ضرورة البحث عن بدائل للمدفوعات الروسية وهو ما دعمته الهند من خلال البحث عن باب خلفي للمدفوعات الروسية حيث تلعب الصين والهند، ودول الشرق الأقصى عامةً، دوراً محوريّاً في حروب العملات العالمية؛ إذ اختارت تلك الدول الانسحاب من نظام العقوبات الأمريكية، فيما جاءت الهند على رأس الدول التي رحَّبت بفكرة توفير باب خلفي للمدفوعات لروسيا، في إطار سعيها إلى الحفاظ على استقلال سياستها الخارجية. وفي هذا السياق، صرَّح المسؤولون الهنود بأن الحكومة والبنك المركزي الهنديين يبحثان جدوى تسوية المعاملات بالروبية والروبل.
تصاعد أهمية العملات المشفرة: حسب أكبر سوق لتبادل العملات الرقمية في العالم، فإن حجم البتكوين المتداول بالروبل الروسي، قفز 330% من 100 بتكوين في اليوم السابق لحرب أوكرانيا إلى 430 بتكوين في يوم الرابع والعشرين من فبراير. ويتوقع الخبراء أن يبلغ إجمالي أصول التشفير المملوكة للمواطنين الروس خلال العام الجاري نحو 200 مليار دولار.
للإجابة عن التساؤل السابق يمكننا القول إنه من الصعب أن يتم اعتماد عملة جديدة غير الدولار على الأقل على المدى القريب، ولكن أي تعامل بعملات محلية بصورة ثابتة ومنظمة مثلما حدث بين الهند وروسيا من شأنه أن يؤدي إلى تجزئة الاقتصاد العالمي، كأن يتم تقسيم المدفوعات بالتساوي بين العملات، بما في ذلك الدولار واليورو واليوان، وقد يؤدي ذلك إلى تقسيم الاقتصاد العالمي في شكل تكتلات متنافسة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تغيرات عميقة في بنية النظام العالمي المالية والاقتصادية.
رابعًا: مصير الجهود العالمية لاحتواء بعض القضايا
من المؤكد أن تؤثر على العديد من القضايا التي تشغل العالم في الوقت الحالي ومن بينها مكافحة الإرهاب، واللجوء، واحتواء التغيرات المناخية، والمساعدات الإغاثية للدول الفقيرة، والتي يمكن تحليل وضعها كما يلي:
- الحرب الأوكرانية تلهي العالم عن جهود مكافحة الإرهاب
دفعت الأزمة الأوكرانية دول الاتحاد الأوروبي لتعزيز سياستها العسكرية، والتركيز على استراتيجيات أكثر حسما في التعامل مع الملفات التي تمثل تحديًا أمنيًا ، وفي مقدمتها مكافحة الإرهاب، حيث تمثل نقطة تحول في التعاطي الأوروبي مع ملف مكافحة الإرهاب وكافة المعطيات المتعلقة به، خاصة السياسات الدفاعية وأطر المواجهة الفكرية والأمنية والتشريعية، وملف اللاجئين.
كما أحدثت تحولات مهمة على مستوى القارة الأوروبية، وأبرزها إحياء مفهوم الأمن الأوروبي، والاتجاه إلى إمكانية اختفاء بعض الظواهر الأوروبية مثل الحياد الفنلندي والسويدي، كما اضطرت ألمانيا إلى زيادة الإنفاق العسكري، حيث قدم شولتز صندوقاً خاصاً بقيمة (100) مليار يورو للاستثمارات في القوات المسلحة “البوندسوير”. وبذلك ألزم ألمانيا بإنفاق أكثر من (2%) من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع – وهو هدف وافقت جميع الدول الأعضاء في الناتو على تحقيقه، لكن ألمانيا لم تلتزم به فعلياً، إذ بلغ اجمالي نفقات ألمانيا على الدفاع في عام 2021م، ما مجموعه (47) مليار يورو، بنسبة (1.5%) من ناتجها المحلي الإجمالي.
- أزمة اللاجئين في قلب الحرب الأوكرانية
أصبحت أزمة اللاجئين الأسرع تفاقماً في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث فر أكثر من 4 مليون شخص من أوكرانيا.
- جهود احتواء التغير المناخي
قلبت الحرب الروسية الأوكرانية الموازين في أوروبا بشأن معادلة توفير الطاقة وتغير المناخ، وباتت تهدد خطط القارة للتحرك نحو الاقتصاد الأخضر، ومكافحة التغير المناخي ، حيث تسعى أوروبا وأمريكا ومعظم دول العالم للتخلص من الطاقة التي تزيد من التلوث وفي الوقت ذاته تسعى تلك الدول إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050م، لعلاج تغير المناخ وتجنب كوارثه الطبيعية.
- المساعدات الإنسانية وأزمة الغذاء
أوكرانيا وروسيا من أكبر خمس دول مصدرة للحبوب في العالم لذلك فإن الأمن الغذائي العالمي بات على المحك، حيث تبلغ قيمة التجارة الزراعية العالمية مع هذين البلدين حوالي 1.8 تريليون دولار، وقد بدأت الآثار المباشرة للنزاع على الغذاء تظهر في مصر، وتركيا، وبنغلاديش، وإيران، تشتري هذه الدول أكثر من 60% من القمح الروسي والأوكراني.
مشكلة رئيسية أخرى هي الأسمدة حيث توقفت الصادرات من روسيا. كما انخفض الإنتاج في أوروبا بفضل ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، وهو مكون رئيسي في الأسمدة القائمة على النيتروجين مثل اليوريا، وهو ما أكده بيان صادر عن برنامج الأغذية العالمي إبريل 2022 م، إن عدد الأشخاص على حافة المجاعة قفز إلى 44 مليونًا من 27 مليونًا في 2019م.
أهم النتائج
- الصراع في أوكرانيا يمكن أن يقلل مستوى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 1 % بحلول عام 2023م، وهو ما يمثل 1 تريليون دولار من الناتج العالمي.
- تعتبر روسيا وأوكرانيا من الموردين المهمين للسلع الأساسية، بما في ذلك التيتانيوم والبلاديوم والقمح والذرة، ونحن نتصور تفاقم مشاكل سلسلة التوريد لمستخدمي هذه السلع، بما في ذلك السيارات والهواتف الذكية وصانعي الطائرات.
- أوروبا الأكثر تضرراً، بالنظر إلى الروابط التجارية والاعتماد على إمدادات الطاقة والغذاء الروسية؛ وتتأثر الأسواق الناشئة بدرجة أقل.
- يتوقع زيادة الإنفاق العام لدعم التدفق الهائل لطالبي اللجوء من أوكرانيا وتعزيز الإنفاق العسكري، مما سيحد من الآثار السلبية على الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي.
- تم تعويض تكاليف العقوبات المفروضة على روسيا جزئياً من خلال ارتفاع أسعار صادرات الغاز والنفط، لكن التأثير على الاقتصاد سيكون سلبياً حيث من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة 1.5 % هذا العام وأكثر من 2.5 % نهاية عام 2023م.
- من المتوقع أن يرتفع معدل التضخم الروسي إلى أكثر من 20 % هذا العام.
- تزيد الحرب من حدة المعضلة التي تواجه صانعي السياسة النقدية لأنها ستضيف إلى التضخم ولكنها تضعف النمو وتضر بثقة المستهلك والأعمال، التي قوضتها بالفعل زيادات الأسعار المدفوعة بفيروس كوفيد- 19.
ختامًا، مازالت الحرب بين أوكرانيا قائمة ونتائجها لم تحسم بعد، ولكن من المؤكد أن طول أمد الحرب بين الطرفين سيؤدي إلى استمرار تفاقم الأوضاع على عدة مستويات، وذلك لأهمية طرفي الصراع في الاقتصاد العالمي، وزيادة تشابك مختلف القضايا معًا بحيث جميعها يتأثر بالتغيير الذي يطرأ، ويتوقع أن تستمر المواجهة بين الطرفين لفترة أخرى، يمكننا اعتبار أن الحرب الأوكرانية وأزمة كورونا أحد أهم التغيرات التي طرأت على النظام العالمي في الوقت الحالي، والتي يتوقع أن لا تمر مرور الكرام عليه فمن الممكن أن يتبعها تغيرات تخص بنية النظام أو أحد مكوناته، حيث رسخت الأزمتان مبدأ ضرورة الاعتماد على الذات وحماية مصالحها وأمنها القومي.