شهد يوليو الماضي فصًلا جديدًا من فصول العلاقات السعودية / الخليجية ـ الأمريكية بزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمملكة بدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ يحفظه الله ـ وبحضور ومشاركة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، وعقد قمة جدة للأمن والتنمية بمشاركة قادة دول مجلس التعاون الخليجي الست وقادة مصر والأردن والعراق, وأسست هذه الزيارة ومعها القمة مرحلة جديدة من مراحل العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تأسست منذ 80 عامًا عندما التقى المغفور له بإذن الله تعالى الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود مع الرئيس الأمريكي روزفلت على متن الطراد يو اس كويسني في 14 فبراير عام 1945م، ومما لا شك فيه أن هذه العلاقة الممتدة، أو ما يمكن إطلاق عليه "الشراكة ـ السعودية ـ الأمريكية" شهدت الكثير من التعاون المثمر بين الدولتين في كثير من المجالات، وكذلك شأنها شأن العلاقات الدولية شهدت أيضًا خلال مسيرتها تباينًا في وجهات النظر كونها ترتبط بالمصالح المتغيرة في بعض الأحيان وما يتبع ذلك من تباعد المواقف لكن يظل الجوهر ثابت.
ولا يستطيع أي منصف أن ينكر التباين الذي شهدته تلك العلاقة في عهد الإدارة الديموقراطية بالبيت الأبيض وخاصة في عهد بارك أوباما وسلفه جو بايدن، وقد قابلت المملكة هذا التباين بالحكمة للحفاظ على جوهر هذه العلاقات مع استقلال القرار السعودي والاستمرار في تنفيذ السياسة الخارجية التي ترتكز على رؤية 2030 التي أرسى دعائمها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ وتنفيذ ومتابعة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ـ حفظه الله ـ حيث تسعى المملكة إلى توسيع الشراكات مع جميع دول العالم وزيادة حجم التبادل التجاري وهذا ما نتج عنه زيادة مضطردة في صادرات النفط السعودي إلى الصين ودول شرق آسيا، وإن ظل التعاون العسكري والتسليح مع الولايات المتحدة، وفي غضون ذلك كرست المملكة سياسة الحياد تجاه الصراعات الدولية الجديدة والمرتبطة بالتنافس على صياغة نظام عالمي جديد، ذلك التنافس الذي أخذ منحى الصراع العسكري غير المباشر في الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وهذا الحياد الذي تتبناه المملكة يأتي في إطار نهج ثابت في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي والذي يتجلى في رفض الاستقطاب والانضمام للأحلاف أو التكتلات الدولية المتصارعة، وتثبت سياسة مستقلة تراعي المصلحة العليا للوطن وشعبه، ولعل قمة جدة الأخيرة أكدت بوضوح على أسس وثوابت السياسة السعودية وشمولية اهتماماتها وتوجهاتها تجاه القضايا العالمية والإقليمية، وهذا ما أكده البيان الختامي للقمة الذي جاء شاملاً وموضوعيًا ومنحازًا للسلام والاستقرار والتنمية وداعمًا للسلم والأمن الدوليين وفي المنطقة، حيث جاء فيه " أكد القادة رؤيتهم المشتركة لمنطقة يسودها السلام والازدهار، وما يتطلبه ذلك من أهمية اتخاذ جميع التدابير اللازمة في سبيل حفظ أمن المنطقة واستقرارها، وتطوير سبل التعاون والتكامل بين دولها، والتصدي المشترك للتحديات التي تواجهها، والالتزام بقواعد حسن الجوار والاحترام المتبادل واحترام السيادة والسلامة الإقليمية".
وتجلت اهتمامات المملكة والدول المشاركة في القمة بالتنمية وليس الصراعات أو الزج بالمنطقة في أتون الحروب والمواجهات حيث جدد القادة عزمهم على تطوير التعاون والتكامل الإقليمي والمشاريع المشتركة بين دولهم بما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة، والتصدي الجماعي لتحديات المناخ من خلال تسريع الطموحات البيئية، ودعم الابتكار والشراكات، بما فيها استخدام نهج الاقتصاد الدائري للكربون وتطوير مصادر متجددة للطاقة.
واحتضنت القمة القضية الفلسطينية، بل جاءت هذه القضية في صدر اهتمامات الزعماء حيث أكدوا على ضرورة حل الدولتين ووقف كل الإجراءات الأحادية التي تقوض حل الدولتين، واحترام الوضع التاريخي القائم في القدس ومقدساتها، وعلى الدور الرئيسي للوصاية الهاشمية في هذا السياق. كما أكد القادة أهمية دعم الاقتصاد الفلسطيني ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا). وأشاد الرئيس بايدن بالأدوار المهمة في عملية السلام للأردن ومصر، ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ودعمها للشعب الفلسطيني ومؤسساته.
وعلى الصعيد الدولي انحازت المملكة والدول المشاركة في القمة إلى قواعد القانون الدولي بكل وضوح وقوة حيث عبروا عن الاعتدال تجاه الحرب الروسية ـ الأوكرانية وجددوا التأكيد على ضرورة احترام مبادئ القانون الدولي، بما فيها ميثاق الأمم المتحدة، وسلامة الدول وسيادتها على أراضيها، والالتزام بعدم استخدام القوة أو التهديد بها في الخلافات. وحث القادة المجتمع الدولي على مضاعفة الجهود الرامية للتوصل إلى حل سلمي، وإنهاء المعاناة الإنسانية، ودعم اللاجئين والنازحين والمتضررين من الحرب، وتسهيل تصدير الحبوب والمواد الغذائية، ودعم الأمن الغذائي للدول المتضررة.
وأكدت القمة على أهمية تحقيق أمن الطاقة، واستقرار أسواقها مع العمل على تعزيز الاستثمار في التقنيات والمشاريع التي تهدف إلى خفض الانبعاثات وإزالة الكربون بما يتوافق مع الالتزامات الوطنية. كما نوه القادة بجهود (أوبك +) الهادفة إلى استقرار أسواق النفط بما يخدم مصالح المستهلكين والمنتجين ويدعم النمو الاقتصادي، وبقرار (أوبك +) زيادة الإنتاج لشهري يوليو وأغسطس، وأشادوا بالدور القيادي للمملكة العربية السعودية في تحقيق التوافق بين أعضاء (أوبك +).كما جدد القادة دعمهم لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، ولهدف منع انتشار الأسلحة النووية في المنطقة. كما جدد القادة دعوتهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية للتعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومع دول المنطقة، لإبقاء منطقة الخليج العربي خالية من أسلحة الدمار الشامل، وللحفاظ على الأمن والاستقرار إقليمياً ودولياً.
ويظل على الولايات المتحدة أن تتفهم مطالب المملكة ودول المنطقة خاصة المتعلقة بقضايا تثبيت الأمن وإنهاء النزاعات المسلحة، والتسليح، ومواجهة طموحات إيران النووية وتدخلها في شؤون المنطقة، وتحقيق السلام العادل والدائم، وإيجاد الحوار المفتوح مع دول المنطقة حتى تمضي العلاقات في طريقها الصحيح كما كانت ، بما يخدم قضايا التنمية والسلام والاستقرار.