تشهد الأيام الحالية إرهاصات نظام عالمي جديد يختلف عن النظام الذي تشكل مع نهاية الحرب العالمية الثانية ونتج عنه تشكيل الأمم المتحدة ومجلس الأمن وهيمنة الدول الكبرى على سير عمل المنظمة الدولية عبر الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ،وهي الدول التي لها حق النقض (الفيتو)، وإن كانت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تتسمك ببقاء هذا النظام، فهي تقاتل من أجل مصالحها و استمرار مكاسبها التي جنتها جراء هيمنتها على العالم خلال ما يربو على 75 عامًا ومازالت متربعة على سدته، ولكن منذ بداية الألفية الثالثة جرت الرياح بما لا تشتهي السفن الأمريكية، حيث بزغ نجم العملاق الصيني الذي أخذ يشق طريقه نحو القمة الاقتصادية، ثم تبعها بمحاولات حثيثة للتواجد في مناطق مختلفة من العالم عبر شبكة علاقات استثمارية وتبادل تجاري وتصدير التكنولوجيا المدنية والعسكرية وتوجت ذلك بمبادرة الحزام والطريق ؛ كل ذلك وغيره زاد من المخاوف الأمريكية وشعرت واشنطن بمنافسة حقيقية من جانب بكين.
ثم جاءت الحرب الروسية ــ الأوكرانية التي كانت بمثابة بالون اختبار حقيقي لمحاولات روسيا استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي والحفاظ على إرثه والتي بدأت بمحاولات السيطرة والتمدد في محيطها الجغرافي ،إضافة إلى كونها تريد إقامة حائط صد لمنع تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي بات على حدودها، بل وعلى مقربة من عاصمتها موسكو ، وما تبع ذلك من عقوبات اقتصادية فرضتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على روسيا، مع حالة من الحذر والترقب لما ستقوم به الصين تجاه التحالف مع روسيا، أو محاولة الانقضاض على تايوان وضمها بالقوة تحت شعار صين واحدة .
كل هذه الإرهاصات وما يشهده العالم من صراعات تنبئ بتواري دور المنظمات التي تقود المجتمع الدولي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث لا نكاد نسمع شيئًا عن دور الأمم المتحدة أو مجلس الأمن في نزع فتيل هذه الأزمات المخيفة والتي قد تجر العالم إلى حرب مدمرة ، وكأن العالم تجاوز هذه المنظمات التي لا تتمسك بها إلا دول العالم الثالث التي لم تحقق لها نفعًا منذ أن تشكلت و لم تناصرها في قضاياها كما كان متوقعًا من الشعارات البراقة التي رفعتها الدول الكبرى وبشرت من خلالها بالعالم الحر الذي ينعم بحقوق الإنسان والعدل والمساواة ، تلك الشعارات التي دهستها إسرائيل بأقدام القوة في فلسطين المحتلة، والنظام العنصري في جنوب إفريقيا، بل تحت يافطة هذه الشعارات غزت الولايات المتحدة العراق وأفغانستان، وفي ظلها فقدت سوريا سيادتها على أرضها لصالح ميليشيات مسلحة وتواجد قوى دولية متنافسة، كما تمزقت ليبيا وغابت فيها الدولة المركزية وتتقاذفها الفرق المتصارعة والميليشيات والمرتزقة الأجانب، كما سيطرت ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران على مقدرات الشعب اليمني ومزقت الدولة اليمنية وحولتها إلى قاعدة إيرانية تنطلق منها الصواريخ والمسيرات إلى دول الجوار.
كل هذه المؤشرات تجعل النظام الدولي القائم غير موجود بالفعل على أرض الواقع، بل جيرته الدول الكبرى لصالحها وجعلت منه غطاءً وشرعية لتنفيذ أطماعها في الدول النامية، واتخذت لذلك من المنظمة الدولية منبرًا لها ومن مجلس الأمن مظلة لحمايتها ولمعاقبة الدول الفقيرة وبسط السيطرة عليها، لذلك فإن دول العالم الثالث تبدو مستفيدة من النظام الدولي المرتقب، بل تبدو الفرصة سانحة أمامها للخروج من ضغوط الدول الكبرى في المنظومة الدولية السائدة والخروج من دائرة الاستقطاب المفروضة عليها في كثير من الأحيان.
والدول العربية سوف تكون من الدول المستفيدة من متغيرات النظام الدولي إذا ما أحسنت التعامل مع هذه المتغيرات ودلفت إلى المرحلة الجديدة برؤية واضحة وتماسك وتعاون وتنسيق جيد فيما بينها ، وأن يكون مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية نواة لتنسيق فعال بأدوات أكثر قوة منها: منظمات اقتصادية، ودفاعية، وأمنية حقيقية مع الاستفادة من المزايا النسبية لدول المنطقة وتحويلها إلى أوراق في لعبة العلاقات الدولية على المسرح العالمي الجديد خاصة في ظل احتياج الشرق والغرب لها حيث بدا الدور الخليجي والعربي مطلوبًا ومؤثرًا على مجريات الأحداث العالمية، وكما يقولون الفرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة، وها هي سانحة وبقوة أمام دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية مجتمعة للتعامل مع المعطيات الجديدة ببرجماتية وقراءة دقيقة للمتغيرات ومن ثم وضع أقدامها في الموقع المناسب على حلبة العلاقات الدولية باستقلالية القرار والإرادة لتحقيق المصلحة الوطنية والقومية العليا في عصر التحولات التي قد لا تتكرر في مرحلة قريبة.