array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 177

التفاعل العربي والخليجي مع البيئة الدولية الجديدة وفق 3 سيناريوهات

الأحد، 28 آب/أغسطس 2022

إن تسارع الأحداث الدولية والإقليمية والانعكاسات الأمنية والاستراتيجية الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية أعادت طرح الكثير من القضايا المتعلقة بمستقبل الأمن الدولي و محدودية الميكانيزمات التعاونية الدولية والإقليمية، حيث شكلت اتفاقيات هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي (1975م) أحد المحاور والركائز التعاونية بين الغرب والشرق في فترة الوفاق الدولي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، وتحولت هذه الاتفاقيات إلى منظمة للأمن والتعاون الأوروبي ( 1995م) بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، والتي كانت بمثابة الصرح المؤسساتي للحوار الأوروبي- الأطلسي والأوراسي، من فانكوفر بغرب كندا إلى فلاديفستوك جنوب شرق روسيا، وتهدف بالأساس إلى تجسيد أهداف الوثيقة النهائية لاتفاقيات هلسنكي لا سيما في المجال الأمني والسياسي من حيث الوقاية من النزاعات واحترام السيادة الإقليمية للدول، التحكم في الأسلحة التقليدية، إجراءات بناء الثقة والأمن وغيرها من المبادئ المتفق عليها. ولعل الحدث الجوهري الأكثر تغييرًا في هذا المجال أن تسارع فنلندا إلى المطالبة بالانضمام للحلف الأطلسي إلى جانب السويد، حيث تحولت رمزية "هلسنكي" عاصمة فنلندا ذات التاريخ الدبلوماسي المحايد ومقر التوقيع على الوثيقة النهائية للأمن والتعاون الأوروبي إلى دولة تهرول إلى الانضمام للحلف الأطلسي استعدادًا لمواجهات مستقبلية مع روسيا، مقدمة شهادة الوفاة لكل البنود الأمنية والسياسية المتفق عليها في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي بهلسنكي، والأخطر من ذلك أن يعيد الفنلنديون إحياء الذاكرة السلبية لقرن من الحكم الروسي وحرب الشتاء مع روسيا في سنتي 1939-1940م، مع توجه الرأي العام الفنلندي للتخلي عن السياسة الحيادية بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، حيث أيد 53 بالمائة من الفنلنديين الانضمام للحلف الأطلسي، مقابل 20 بالمائة فقط قبل الحرب، لترتفع النسبة إلى 76 بالمائة في بداية شهر مايو 2022م،  حسب استطلاعات الرأي أجرتها محطة "يلي" الفنلندية.   

وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة، نحاول استشراف المستقبل والبحث عن السيناريوهات المستقبلية للمنظومة الأمنية البديلة لاتفاقيات هلسنكي ضمن صراع الإرادات بين القوى الكبرى حول إعادة ترتيب النظام الدولي القادم، أحد سماته الأساسية " مأزق الأمن المتبادل" ووقوع القوى الثلاث المتصارعة، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين وروسيا في فخ توسيديد، مع التسليم بأن أرض المعركة الرئيسية هي أوروبا التي يشبه وضعها أرضية الحشيش، فإذا تصارعت الفيلة أو تراقصت فإن الحشيش هو الذي يكون الضحية. وفي الوقت ذاته، نتساءل عن الصيغ الملائمة والبدائل الممكنة للعالم العربي-الخليجي من أجل التكيف الإيجابي مع مختلف السيناريوهات المطروحة.

أولاً:  الاحتواء الأمريكي- الغربي لروسيا والصين وما تبقى من اتفاقية هلسنكي؟

تختزل لنا القراءة الجيوسياسية لسياسة الاحتواء المزدوج التي تنتهجها واشنطن تجاه بكين وموسكو بأنها لا تخرج عن هدف استراتيجي أساسي، وهو أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية متربعة على السيادة العالمية من خلال إبعاد ومناهضة أية قوى منافسة لها على الريادة المتعددة الأبعاد، العسكرية، التكنولوجية، الاقتصادية، المالية والإعلامية. وأحد أدوات القوة التقليدية التي تنتهجها واشنطن لتقويض قدرات الخصوم، السعي للسيطرة الدائمة والمستمرة على ما يسميه علماء الجيوبوليتك "بالمحور الجغرافي للتاريخ"، حيث تشكل كل من أوراسيا ومنطقة الهادي-الهندي المجالات الحيوية التي تتفاعل فيها كل من الصين وروسيا. وعليه، فإن استمرارية القوة والهيمنة الأمريكية على السيادة العالمية تبقى مرتبطة بالقوة البحرية وفق المقولة الكلاسيكية لهالفورد ماكيندر "من يمتلك البحار والمحيطات يمتلك السيادة العالمية"، وامتلاك القوة البحرية يكون عن طريق الانتشار العالمي للقواعد العسكرية وقدرة الأساطيل البحرية العسكرية على مراقبة الممرات والمضايق الحيوية في العالم، حيث تم تقدير عدد القواعد العسكرية التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية إلى غاية يوليو 2021م، بحوالي 750  قاعدة عسكرية في 80 دولة في العالم، الحصة الأكبر من القواعد العسكرية تنتشر في أوراسيا، لاحتواء الصين وروسيا، منها 120 قاعدة عسكرية نشطة في اليابان بقوات أمريكية يصل تعدادها 53700 ، و119 قاعدة عسكرية في ألمانيا بتعداد عسكري أمريكي 33900 و73 قاعدة عسكرية في كوريا الجنوبية بتعداد عسكري أمريكي 26400 . أما فيما يخص الأسطول البحري الأمريكي فإن الشعار الذي تحمله حاملات الطائرات الأمريكية " مائة ألف طن من الدبلوماسية" فهو تعبير عن القوة البحرية الرادعة لكل الخصوم والأعداء المنافسين لها على السيادة العالمية، وبمقارنة بسيطة حسب الموقع العسكري المتخصص "غلوبال فاير باور" وبناء على معطيات سنة 2022م، فإن القوة البحرية الأمريكية، تضم أسطول بحري يتشكل من 484 قطعة بحرية منها 11 حاملة طائرات و92 مدمرة و68 غواصة و8 كاسحات ألغام، بينما لا تمتلك الصين إلا حاملتين اثنتين للطائرات، ويتشكل الأسطول الصيني من 777 قطعة بحرية و79 غواصة، و41 مدمرة و49 فرقاطة و36 كاسحة ألغام. أما روسيا فتملك حاملة طائرات واحدة فقط مقارنة بـ 11 حاملة طائرات أمريكية. والفرق الجوهري بين القوى الثلاثة يكمن في ميزان قوة الردع الاستراتيجي، حيث تمتلك واشنطن 3750 رأسًا نوويًا، بميزانية للدفاع وصلت سنة 2022م، ما يقارب 740 مليار دولار، بينما تمتلك الصين 350 رأسًا نوويًا بميزانية تقديرية للدفاع تصل إلى 230 مليار دولار حسب بيانات "غلوبال فاير باور". وبالنسبة لروسيا، فإن الرئيس فلاديمير بوتين كان أكثر واقعية في مقارنة قدراته العسكرية مع القدرات الأمريكية-الأطلسية حيث صرح في مؤتمر صحفي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ( 8 فبراير 2022م) بموسكو قبل إعلان ما سماه "العملية العسكرية الخاصة" بأوكرانيا بقوله:" في حالة ما إذا انضمت أوكرانيا للحلف الأطلسي وحاولت استرجاع ومراقبة القرم بالوسائل العسكرية، فإنه سيتم تفعيل المادة الخامسة الذي يلزم الأوروبيين أوتوماتيكيا في الدخول في نزاع مسلح مع روسيا..طبعًا، القدرات العسكرية للحلف الأطلسي مقارنة بروسيا لا يمكن مقارنتها، إلا أنه يجب أن نعي بأن روسيا تمثل إحدى القوى النووية الأساسية، ولديها بعض الأسلحة الاستراتيجية النوعية المعاصرة التي تتفوق على الكثير من الدول، وعليه، لا يمكن أن نتصور أي رابح في هذه المعركة". وباختصار، فإن بوتين يلوح بقدرة روسيا على الردع النووي والعودة إلى مرحلة الرعب النووي والقدرة على الضربة الثانية، وقد حددت العقيدة العسكرية الروسية لسنة 2020م، أربعة حالات يمكن اللجوء فيها لاستخدام السلاح النووي طبقًا للبند 19 من الوثيقة الاستراتيجية، وتتمثل في: أولاً، الحصول على معلومات ذات مصداقية تتعلق بالهجوم بالصواريخ الباليستية على الأراضي الروسية أو أحد حلفائها، ثانيًا، قيام العدو بأعمال ضد مواقع الدولة أو المنشآت العسكرية ذات الأهمية الحساسة لروسيا وإبعادها عن التشغيل يؤدي إلى الرد بالقوات النووية، ثالثًا، استخدام العدو للأسلحة النووية أو أي نوع من أسلحة الدمار الشامل ضد الأراضي الروسية أو أحد حلفائها، ورابعًا، وقوع عدوان ضد روسيا باستخدام الأسلحة التقليدية، وفي حالة التهديد الوجودي للدولة يتم اللجوء للخيار النووي.

إضافة للقدرات العسكرية البحرية التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن بناء المنظومة الاستراتيجية الأطلسية وانتشارها في وسط وشرق أوروبا جعلها تتحكم في القدرات الاستراتيجية الأوروبية وتهيمن عليها من خلال الحاجة الأوروبية للمظلة النووية للحلف الأطلسي لمواجهة أعداء واشنطن الصين وروسيا، ولأول مرة تم استدعاء اليابان، كوريا الجنوبية، نيوزيلاندا وأستراليا لاجتماع قمة الحلف الأطلسي بمدريد (يونيو 2022م) التي تمخض عنها الوثيقة الاستراتيجية الجديدة التي تحدد طبيعة التهديدات والتحديات والعمل الجماعي لإدارتها ومواجهتها بالآليات الثلاثة، الردع والدفاع، الوقاية وإدارة الأزمات والأمن التعاوني بتطبيق المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي التي تفعل الاعتماد المتبادل في حالة تهديد أي عضو للحلف. وقد حدد المفهوم الجديد للاستراتيجية الأطلسية روسيا، في البندين الثامن والتاسع من الوثيقة، على أنها تمثل التهديد الأكثر أهمية والمباشرة لأمن الحلفاء وللسلم والاستقرار في المنطقة الأورو-أطلسية من خلال سعيها الدائم لإقامة مناطق نفوذ والسيطرة المباشرة باستخدام أساليب الإكراه والعدوان وضم أراضي الغير، مع اللجوء لاستعمال الوسائل التقليدية، السيبرانية والهجينة ضد أعضاء الحلف الأطلسي وشركائه والتلويح بالتهديد النووي. كما تهدف روسيا حسب الوثيقة الأطلسية إلى زعزعة استقرار البلدان الواقعة في شرق وجنوب الحلف الأطلسي بتعزيز قدراتها العسكرية في الممرات المائية في بحر البلطيق والبحر الأسود والبحر المتوسط، مما يشكل تهديدًا استراتيجيًا لمصالح الحلف الحيوية.

ومقارنة بالوثيقة الاستراتيجية الأطلسية لسنة 2010م، التي تم صياغتها في قمة لشبونة بحضور الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، اعتبرت روسيا كشريك استراتيجي يمكن بناء شراكة طويلة المدى معها، بما يخدم المصالح الأمنية المتبادلة بين الطرفين. فإن وثيقة مدريد الجديدة اعتبرت روسيا طرف غير شريك وغير موثوق فيه، فمن بين السيناريوهات المطروحة في معالم الاستراتيجية الجديدة الاستعداد لنقل الصراع من أوكرانيا إلى دول الحلف ذاتها.

إلى جانب روسيا، اعتبرت الوثيقة الاستراتيجية الأطلسية الجديدة، الصين كدولة متحدية لمصالح وأمن وقيم الحلف الأطلسي بالمفهوم النسقي ( البندين 13 و14)، من حيث سعيها لتقوية تواجدها العالمي باستخدام مختلف الوسائل السياسية، الاقتصادية والعسكرية مع طموحها لترقية قوتها من خلال سلك نهج الضبابية والغموض فيما يخص استراتيجيتها ونواياها، والسعي الحثيث لتقوية قدراتها العسكرية التي تهدف إلى المساس بأمن أعضاء الحلف الأطلسي باستخدام العمليات الهجينة أو العمليات السيبرانية الخبيثة. والتهديد الأكبر يكمن في محاولة هيمنتها وسيطرتها على القطاعات التكنولوجية والصناعية المفتاحية، وقيادة البنيات التحتية ذات الأهمية الحساسة، وهي إشارة لمشروع الحزام والطريق، حيث اعتبرته الوثيقة الاستراتيجية الأطلسية الجديدة كرافعة اقتصادية لخلق التبعية الاستراتيجية وزيادة نفوذها العالمي، الذي يمس كل القطاعات بما فيها ميدان الفضاء، السيبراني والبحري. وما يزيد من التحدي الصيني النسقي للحلف الأطلسي تلك الشراكة الاستراتيجية القائمة بين الصين وروسيا ومحاولاتهما زعزعة استقرار النظام العالمي، وفق منظور "السلام الأمريكي".  

وفي هذا الإطار، يمكن أن نعيد التأكيد على فرضية مأزق الأمن المتبادل القائم بين قطبين جيوستراتيجيين، القطب الأمريكي-الأطلسي في مواجهة القطب الصيني-الروسي، حيث يعمل كل قطب على تعزيز قدراته القتالية وتعبئة موارده الحيوية وبناء تحالفاته من أجل تقويض الطموح الامبراطوري لكل قطب، مما يجعلنا نصنف الحرب الروسية في أوكرانيا والنزاع حول تايوان بالنسبة للصين كأدوات لاحتواء تمدد القطب الصيني-الروسي. وعلى هذا الأساس يمكن قراءة البيان الصيني-الروسي المشترك الصادر في 4 فبراير 2022م، الذي كرس " الشراكة بلا حدود" بين البلدين ويعكس في الوقت ذاته التعاون الاستراتيجي الأمني في إطار منظمة التعاون لشنغهاي، والاقتصادي السياسي في إطار مجموعة "البريكس"، على أنه لأول مرة يوضح بصورة واضحة قلقهما الأمني المشترك من توسع الحلف الأطلسي في اتجاه الشرق لاحتواء روسيا والاستراتيجية الأمريكية في المحيطين الهندي-الهادئ لاحتواء الصين. ويمكن أن نؤشر على مأزق الأمن المتبادل بين القطبين الجيوستراتيجيين انطلاقًا من إدراك كل قطب وسلوكه العدائي تجاه الآخر، فالقطب الصيني-الروسي ينظر للولايات المتحدة الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي على أنها تسعى لفرض الامبراطورية الأمريكية الأحادية بتوسيع نفوذها العالمي في مجالات النفوذ الخاصة لكليهما، وهو ما جعلهما يعارضان التدخل الأمريكي-الأطلسي في النزاعات الإقليمية في كوسوفو وصربيا في سنة 1999م، والتدخل العسكري في العراق في 2003م، وفي كلتا الحالتين اعتبرت كل من الصين وروسيا أن العمليات العسكرية الأمريكية-الأطلسية تعد تدخلاً عسكريًا في الشؤون الداخلية لدول ذات سيادة وبدون العودة لمجلس الأمن من أجل الحصول على الشرعية الدولية. وفي نفس الاتجاه تنظر كل من روسيا والصين للسياسة الأمريكية التي تختفي وراء القوة الناعمة بتصدير القيم الليبرالية على أنها تهديد لطبيعة النظام السياسي القائم في كلا البلدين، على نمط الثورات الملونة التي لقيت دعم المنظمات غير الحكومية الأمريكية في دول وسط وشرق أوروبا كما هو الحال في ثورة الورود بجورجيا في 2003م، والثورة البرتقالية في أوكرانيا في 2004م، وثورة وردة الرمال في كيرغستان في 2005م، وحاولت الوصول إلى الداخل الروسي مع نموذج المعارض الروسي  أليكسي نافالني.

وعليه، فإن التصور الأمني للقطب الصيني-الروسي قائم على مواجهة "أطلسة" المنظومة الأمنية العالمية التي تحاول الإدارات الأمريكية المتعاقبة فرضها على العالم، من خلال التمدد الذي استغلته واشنطن بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، باستخدام شعار سياسة الباب المفتوح للانضمام للحلف الأطلسي الذي انتقل من 12 عضوًا سنة 1949م، إلى 30 عضوًا مع ترشح خمسة أعضاء للدخول وهي، جورجيا، أوكرانيا، البوسنة والهرسك، فنلندا والسويد، مع توقيع الحلف على بروتوكول الانضمام للدولتين الأخيرتين، والالتزام القائم منذ قمة بوخارست في 2008م، بأن كل من جورجيا وأوكرانيا سيصبحان في يوم ما عضوين للحلف، وهو ما تم الإشارة إليه في الوثيقة الاستراتيجية الجديدة للحلف الأطلسي لسنة 2022م.

ومن المسلم به هنا، أن النظام الدولي الحالي سيبقى رهينة هذه القطبية الثنائية المحكمة في المدى المنظور على المستوى الاستراتيجي-العسكري، لأن كلا القطبين ينظران لطبيعة اللعبة الاستراتيجية على أنها ذات حصيلة صفرية، فكل تمدد أطلسي أمريكي لتطويق روسيا في المياه الدافئة يعد تهديدًا وجوديًا لروسيا، وبالمقابل فإن النفوذ الأمريكي المتعاظم في منطقة الهادي-الهندي هي لعبة انتحارية بالنسبة للصين، وقد لاحظنا كيف تفاعل العالم مع الرد الصيني الحازم ما قبل زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان وما بعدها، حيث وصفت وزارة الخارجية الصينية "أمريكا بأنها باتت أكبر تهديد للسلام العالمي وأن نهاية تلك الزيارة لن تكون جيدة للأمريكيين"، وهذا ما بدى واضحًا في الأحوال الجوية السيئة بين البلدين أخذت منحنى التصعيد العسكري الجدي في تايوان طرحت معه سيناريوهات محاكاة النموذج الأوكراني مع روسيا، مع الفرق في الفكر الاستراتيجي الصيني مقارنة بروسيا، حيث تترقب بكين سنة 2049م، كمدى زمني لإلحاق تايوان بالصين بقراءة جميع الخيارات الاستراتيجية على الطريقة الكونفوشيوسية.

ثانيًا:  تأثير الاحتواء الغربي المزدوج على البيئة الدولية

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية الأطلسية والنزاع الأمريكي- الصيني عن عدم فاعلية دور الأمم المتحدة باعتبارها المنظمة الراعية للسلم والأمن الدوليين، وهذا راجع إلى عاملين أساسيين، الأول، أن اللاعبين الاستراتيجيين الكبار يتحكمون في اللعبة الأمنية داخل مجلس الأمن باستخدام حق الفيتو، وبالتالي يعطلون كل الإجراءات والقرارات الكابحة لفتيل النزاعات والحروب بما يخدم مصالح القوى المتحكمة في مركزية القرار الأمني، مع التهميش الواضح لدور الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تصدر لوائح غير إلزامية. أما العامل الثاني الذي يؤدي إلى تغييب دور الأمم المتحدة أنها لا تزال حبيسة مكاسب القوى المنتصرة لما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تعكس التمثيل الواقعي للتطورات الجيوستراتيجية مع بروز قوى إقليمية ودولية لا تزال مغيبة عن اتخاذ القرار داخل مجلس الأمن، وهي المطالب التي لا تزال ترفعها بعض القوى والقارات لإصلاح مجلس الأمن من حيث التمثيل الواقعي ووضع حد لاستخدام حق الفيتو في المسائل الاستراتيجية والأمنية التي تمس الأمن والسلم الدوليين. وهذا الغياب للأمم المتحدة يعيدنا إلى الطرح الفلسفي لمدى فعالية تطبيق مبادئ وقواعد القانون الدولي في غياب السلطة فوق القومية تمتلك شرعية التمثيل. أدى هذا الغياب إلى استمرارية مأزق الأمن المتبادل، الذي من نتائجه الطبيعية الخوف المستمر من إمبراطورية تريد الحفاظ على ريادتها وقوى متنافسة تبحث عن مكانتها وأفضل الخيارات لوضع حد لهذا القلق والخوف الدائمين الدخول في حروب بالوكالة لكسر إرادة كل طرف "فخ توسيديد". ومن مظاهر مأزق الأمن المتبادل وانعكاساته على العالم، تزايد الإنفاق العسكري والسباق نحو التسلح وهي الانعكاسات التي فرضت حتى على الدول الحيادية التقليدية مثل فنلندا، السويد وسويسرا، أو تلك التي فرضت عليها القيود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مثل ألمانيا واليابان. ولا يمكن فهم وقراءة هذه الانعكاسات بمعزل عن الرغبة الملحة التي حاول أن يفرضها دونالد ترامب على حلفائه الأوربيين لدفعهم لمزيد من الإنفاق العسكري الذي يصب حتما لصالح المركب العسكري الأمريكي، وباعتراف اللجنة الأوروبية فإن أوروبا كانت الأقل تسلحًا في العشرين سنة الأخيرة مقارنة بكل القارات، والتكتل الوحيد الذي قلص من استثماراته في التسلح مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الهند والصين. وحتى عندما التزمت الدول الأوروبية في معاهدة لشبونة التي دخلت حيز التنفيذ في سنة 2009م، بتخصيص 2 بالمائة من إنتاجها الداخلي الخام لميزانية الدفاع، فإن العجز الناتج عن عدم الالتزام بالحصة المتفق عليها ارتفع إلى 1300 مليار يورو. وبالتالي، فإن الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية أجبرت الدول الأوروبية على تفريغ مخزونها من التسلح لدعم أوكرانيا والرفع من ميزانياتها الدفاعية، ويعد النموذج الألماني أفضل تعبير عن هذه الانعكاسات الجوهرية للصراع الأمريكي-الأطلسي-الصيني، حيث عدل البرلمان الألماني بعض الأحكام الدستورية التي تسمح برفع من ميزانية الدفاع وعصرنة قدرات الجيش الألماني، وتم تخصيص 107 مليارات يورو لمواجهة التهديد الروسي، لتنتقل برلين من حليف استراتيجي طاقوي لموسكو إلى عدو واقعي فرضتها عليها مستلزمات مأزق الأمن المتبادل.

ثالثًا: المشاهد المستقبلية...العالم إلى أين؟

إن تفاعل العالم العربي والخليجي مع هذه البيئة الدولية تكون وفق ثلاث سيناريوهات محتملة، السيناريو الأول يعكس مشهد يالطا جديدة، أطرافه الجديدة واشنطن، موسكو وبكين بدلا من الاتحاد السوفياتي وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية حيث اجتمع القادة الثلاثة، روزفلت، ستالين وتشرشل لتقسيم مناطق النفوذ في أوروبا (1945م)، بتقسيم ألمانيا والعاصمة برلين وضم دول البلطيق للاتحاد السوفياتي بناء على طلب ستالين والتوسع أكثر في الأراضي البولندية غربًا. ووفق هذا المشهد يقترح بعض الواقعيين التقليديين والجدد، أن يتم إعادة تقسيم أوكرانيا وفق الهوية الروسية مع إبقاء شبه جزيرة القرم تحت النفوذ الروسي مع وضعية أوكرانيا كدولة محايدة وعازلة عن التمدد الأطلسي. ويبدو هذا المشهد أكثر واقعية وأقل احتمالاً، مرهون بقبول واشنطن بالوساطة الصينية حفاظًا على مصالحهما الاستراتيجية والقناعة بمكاسب وفوائد الاعتماد المتبادل بدلا من مأزق الأمن المتبادل. ويمكن للعالم العربي أن يستفيد من هذه الحالة ظرفيًا، انطلاقًا من الحفاظ على الأمر الواقع في الصراع بين القوى الكبرى وتقليص الانعكاسات الأمنية الشاملة على كثير من دوله فيما يخص أزمة الغذاء والطاقة. أما المشهد الثاني، فهو السيناريو المفضل لبناء السلم والأمن الدوليين، ويرتكز على الإصلاحات الجذرية لمنظمة الأمم المتحدة لاسيما في مسألتي مجلس الأمن وتوسيع صلاحيات الجمعية العامة باعتبارها البرلمان العالمي، ويقع على عاتق الدول العربية-الخليجية أن تطرح بقوة قضية الإصلاحات بمقاربة توافقية وتكاملية في مجلس التعاون الخليجي، الجامعة العربية، الاتحاد الإفريقي ومنظمة العالم الإسلامي، لأنه من الضروري طرح المقاربة الحضارية من حيث التمثيل مقارنة بالحضارات العالمية المهيمنة على حق الفيتو (المسيحية البروتستانتية والأرثوذوكسية- الحضارة الكونفوشيوسية) في غياب التمثيل الإسلامي. أما المشهد الثالث، فيتمثل في سيناريو هلسنكي ثانية، بحيث يتدارك الأوروبيون حجم مأزق الألم الذي سيخلفه استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية على القارة الأوروبية والدول المحيطة بها، ويكون ذلك بتفعيل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي وإعادة إحياء بروتوكول مينسك لسنة  2014م، الذي توصلت من خلاله للإجراءات التالية، الضمان الفوري لوقف الحرب وعدم اللجوء لاستخدام القوة، التوافق على الحكم الذاتي الخاص لمنطقتي دوناتسك ولوغانسك، ضمان مراقبة الحدود بين روسيا وأوكرانيا مع إنشاء منطقة للأمن في المحافظات الحدودية بين البلدين، وتكون مرفقة بمجموعة إجراءات بناء الثقة، إطلاق سراح الأسرى والمسجونين، سحب المقاتلين غير الشرعيين والمرتزقة. وبالنظر لحجم الحرب القائمة بين روسيا-أوكرانيا والحلف الأطلسي فإن هذا السيناريو يبقى قليل الاحتمال خصوصًا وأن المبادئ والتوافقات الأمنية المتفق عليها في العاصمة الفنلندية هلسنكي تم دفنها مع التوقيع على برتوكول انضمام فنلندا للحلف الأطلسي.

مقالات لنفس الكاتب