من الواضح أن العالم مقبل على تطورات سياسية ليست عادية، بل تطورات جديدة على مسرح العلاقات الدولية التي استقرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945م، والتي ازدادت رسوخًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أو هكذا بدت العلاقات الدولية منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، لكن التاريخ يؤكد أن هناك تحولات وصيرورة تفرض نفسها على تركيبة المجتمع الدولي منذ أن ظهرت الامبراطوريات القديمة التي سادت لفترات طويلة أو قصيرة في التاريخ الإنساني، ثم بادت أو تشرنقت لفترات زمنية طالت أو قصرت طبقًا للظروف السياسية والاقتصادية، أو بفعل الحروب والصراعات بين الأمم والدول، لذلك لا غرابة في الحديث عن تغيرات محتملة في تركيبة المجتمع الدولي الحالية طبقًا للمنهج التاريخي والتجارب السابقة التي مرت بها الحضارات الإنسانية في مختلف العصور.
لكن الجدل أو الاختلاف حاليًا يدور حول أسباب وآلية التغييرات المرتقبة في هرمية المجتمع الدولي، فليس المجتمع الدولي المعاصر كما كان في السابق أو حتى كما كان في زمن الحرب العالمية الأولى والثانية ،حيث طرأت متغيرات كثيرة على موازين القوى ومعادلة رسم العلاقات الدولية وأسسها ومنطلقاتها، فتركيبة القوة تغيرت عن السابق، وأصبح السلاح غير التقليدي وفي مقدمته السلاح النووي والبيولوجي والطائرات المسيرة في متناول دول عديدة، بل وميليشيات وعصابات إرهابية ،وليس قاصرًا على القوى العظمى فقط ، كما أن مصادر الثروة تنوعت ما بين ثروات تقليدية وثروات جديدة مرتبطة بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية والطاقة وغير ذلك. وبناء عليه دخلت دول وأطراف من خارج القوى الكبرى حلبة المنافسة في مجالات الاقتصاد و التسليح، ومن ثم الطموح لامتلاك عناصر القوة أو المساهمة في قيادة العالم، أي تعدد الأقطاب.
ودول مجلس التعاون الخليجي من الدول الصاعدة في تركيبة المجتمع الدولي، حيث لديها مقومات المنافسة، أو على الأقل ما يجعلها تقف على الحياد في الصراع الدولي الجديد على النفوذ والمكانة الدولية، فلديها من مصادر الطاقة الأحفورية ما جعلها جزءًا من معادلة صعبة لا يمكن تجاوزها في خريطة العلاقات الدولية، إضافة إلى معدلات النمو المتصاعدة، وما تمتلكه من قوى بشرية ومشروعات إنتاجية وخدمية وموقع استراتيجي هام في ملتقى قارات العالم، إضافة إلى خبراتها السياسية التي جعلت قادتها يتعاملون بحكمة مع القضايا الإقليمية والدولية، كل ذلك وغيره جعل لدول مجلس التعاون الخليجي أهمية كبيرة في رسم خريطة السياسة الدولية بعد زيادة حدة الاستقطاب التي أعقبت الحرب الروسية ــ الأوكرانية والتي كشفت بوضوح عن انقسام العالم إلى معسكرين متنافسين، معسكر تقوده الولايات المتحدة ومن خلفها دول الاتحاد الأوروبي (مجموعة الناتو)، ومعسكر تقوده الصين وروسيا ومن خلفهما الدول غير المؤيدة للغرب، أو الدول الطامحة لدور هام في تشكيلة المجتمع الدولي المرتقبة.
ولقد أدت الحكمة السياسية والخبرة في مجال العلاقات الدولية وظهور حقائق جديدة ممزوجة ببرجماتية الدول الكبرى، إلى عمق السياسة الخليجية والتروي في اتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا الإقليمية والدولية وعدم الانسياق وراء هذا أو ذاك، وجعلت من المصلحة الوطنية العليا البوصلة التي تحدد اتجاهات السياسة الخليجية الخارجية، وليس الشعارات أو الضغوط التي تمارسها بعض الدول التي لم تعد مجدية إضافة إلى كونها غير مقبولة لدى شعوب نضجت وقيادات حكيمة ذات تجارب ،و قيادات شابة طموحة متسلحة برؤية ثاقبة وتحمل إرثًا سياسيًا وتاريخًا عريقًا في إدارة العمل السياسي الذي يقترب من 100 عام في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال.
لذلك اختارت المملكة ومعها دول مجلس التعاون الخليجي الانحياز لمصلحة شعوبها وبما يلبي احتياجاتها في الحاضر و المستقبل ويساعد على تنفيذ برامج التنمية المستدامة والشاملة والطموحة لتركيبة المجتمع الشابة، وبما يحمي الأمن الوطني لكل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي ويحقق الأمن الإقليمي لمنطقة الخليج في مواجهة المخاطر والتهديدات، ووفقًا للأولويات في مواجهة هذه المخاطر.
وبناء على ما سبق فإن للمملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي مواقف واضحة وثابتة من الصراع الدولي الدائر حاليًا وما ترتب عليه من سياسة أمريكية لاحتواء الصين وروسيا وتمثلت هذه المواقف في الانحياز لمبادئ القانون الدولي في فض النزاعات وعدم الموافقة على احتلال الدول بالقوة العسكرية، أو اقتطاع أجزاء منها تحت أي شعار، وفي الوقت نفسه المطالبة بالتعقل في فرض العقوبات الدولية على أحد أطراف النزاع وعدم الانصياع إلى القرارات التي تستهدف الشعوب، كما أن المملكة ودول الخليج تعتبر دائمًا أن النفط والغاز سلعًا اقتصادية وفي خدمة التنمية وليست ورقة سياسية يتم استخدامها للضغط على الشعوب أو الدول، كما أن دولنا تتعامل في قضايا التبادل التجاري من منظور اقتصادي فقط لا من منظور سياسي ،حيث لها علاقات تجارية مع الصين وروسيا وفي الوقت نفسه مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وفق المصالح الاقتصادية التي تخدم الشعوب، وليس وفقًا لمواقف سياسية متغيرة مبنية على أسباب مؤقتة تحركها الأيدولوجيات أو الصراعات على النفوذ والهيمنة الدولية.
وعليه فإن المملكة ودول مجلس التعاون تبني استراتيجياتها على مصالح شعوبها في الداخل، وعلى استقرار منطقة الخليج وتثبيت توازن القوى وإخلاء منطقة الخليج والشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل وعدم امتلاك إيران أو غيرها من دول المنطقة للسلاح النووي، مع عدم الدخول في أحلاف عسكرية ضد دول معينة أو الدخول في حروب خارجية، بل الدفاع فقط عن أمن واستقرار منطقة الخليج، وعلى الدول الكبرى أن تعي هذه الحقائق وأن تدرك ضرورة عدم الزج بدول مجلس التعاون الخليجي في أتون تحالفات أو محاور خارجية، وعليها كذلك أن تتفهم أن تأمين مصادر الطاقة وحيادها في منطقة الخليج العربي ضرورة، وأن سياسة الاحتواء يجب ألا تكون على حساب صادرات الطاقة الخليجية، أو على حساب التنمية والاستقرار في المنطقة.
في الغرب تضاربت الآراء حول تفسير الموقف الخليجي المتوازن والعقلاني في الأزمة الأوكرانية، وجميع هذه التفسيرات أهملت العنصر الأساسي الذي تحكم في صياغة الموقف الخليجي، وهو عنصر حماية المصالح الوطنية الذي يتعزز دوره في الحسابات الاستراتيجية الخليجية ليعلن بداية أسلوب جديد في صياغة القرار الاستراتيجي لهذه المنطقة.