أضحت القارة الإفريقية محل الاهتمام الأوروبي في فترة الحرب الروسية-الأوكرانية من خلال الكم الهائل من الزيارات اللامتناهية للوفود الأوروبية الرسمية، بحثا عن النفط والغاز، كخيار بديل لقراراتها الاستراتيجية التي اتخذتها في حربها الاقتصادية والمالية ضد روسيا، والاستعداد لوضع حد نهائي للتبعية الطاقوية الروسية. إن لعبة لي الأذرع بين روسيا وأوروبا والرهان على عاملي الزمن والصبر الإستراتيجي للخروج بأقل التكاليف من هذه اللعبة، وتجنبًا للسخط الاجتماعي الداخلي المتزايد داخل أوروبا بسبب الزيادات القياسية في أسعار الطاقة وارتفاع نسبة التضخم، أدى إلى وضع مجموعة من الاستراتيجيات الأوروبية بما فيها التخلي عن الصرامة في إنجاز الأهداف البيئية المسطرة في آفاق 2030م، وإعادة البحث عن شراكات وتمويل الطاقات الأحفورية.
فما هي الفرص الحقيقية التي تملكها القارة الإفريقية للاستجابة لهذا الهاجس الأمني الطاقوي الأوروبي؟ وما هي المعوقات التي تقف أمام الدول الإفريقية المنتجة والمصدرة للطاقة؟ وما هي الفوائد التي يمكن أن تجنيها من هذه اللعبة الجيوسياسية القائمة في منطقة أوراسيا وامتدت تأثيراتها إلى كل مناطق العالم؟
أولاً: المكانة الإفريقية في الخريطة الطاقوية العالمية.
من بين أفضل الإحصائيات ذات المصداقية فيما يخص المكانة الطاقوية للقارة الإفريقية في السوق العالمية، تلك التي قدمتها اللجنة الإفريقية للطاقة، وهي الوكالة المتخصصة التابعة للاتحاد الإفريقي، في تقريرها الصادر في سنة 2021م، حيث يقدم التقرير الخريطة الطاقوية للدول الإفريقية من حيث الاحتياطات، الإنتاج والتصدير، أين تكسب إفريقيا مكانة ذات أهمية في الاكتشافات، التصدير والتموين بالغاز الطبيعي للسوق العالمية، بإنتاج بلغ سنة 2019م، حوالي 8.7 مليون طن من إجمالي الإنتاج العالمي الذي يصل إلى 142 مليون طن، ما يمثل ما يزيد عن 6 بالمائة من الإنتاج العالمي. مع الملاحظة أن الصادرات الإفريقية من الغاز الطبيعي تعرف تصاعدًا وتراجعًا حسب المتغيرات الجيوسياسية، والجيو-اقتصادية، فقد وصلت نسبة الصادرات إلى 12 بالمائة سنة 2007م، بعدما انخفضت النسبة بسبب دخول منافسين جدد للسوق العالمية لاسيما من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، أستراليا وقطر. وما يميز الغاز الإفريقي مقارنة ببعض مناطق الإنتاج، أن 40 بالمائة من إنتاجه يتم تصديره للسوق العالمية، وبإحصاء الخمسين سنة الأخيرة يتضح أن نسبة الصادرات تفوق نسبة الاستهلاك المحلي، مقارنة بالقارة الآسيوية التي تصدر 20 بالمائة من إنتاجها مع تزايد نسبة الاستهلاك الداخلي على نسبة الصادرات. وللتبسيط أكثر، فإن الإحصائيات تبين أن ثلث الغاز المنتج في إفريقيا يستخدم لإنتاج الكهرباء مقارنة بنسبة 40 بالمائة في العالم و45 بالمائة في آسيا. وفيما يخص الاستهلاك النهائي ضمن المؤسسات والسكنات فإن إفريقيا تستخدم أقل من ربع الغاز المنتج كطاقة نهائية بينما تصل النسبة إلى ما يقارب النصف في العالم والثلثين في آسيا.
يتم إنتاج الغاز الطبيعي في ثمانية عشر دولة إفريقية، إلا أنه يتمركز في منطقة شمال إفريقيا بإنتاج يصل إلى 70 بالمائة من إجمالي الإنتاج الإفريقي، و23 بالمائة في منطقة غرب إفريقيا والنسبة المتبقية تتوزع على باقي المناطق الإفريقية. وتمثل كل من الجزائر، نيجيريا ومصر 87 بالمائة من إجمالي إنتاج الغاز الإفريقي، وتستحوذ ثمانية دول إفريقية فقط على نسبة 98 بالمائة من إجمالي الإنتاج الإفريقي. أما فيما يخص الصادرات، فتاريخيًا كانت كل من الجزائر وليبيا هي التي تحتكر التصدير منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين، وبفعل التطور اللوجيستيكي والتكنولوجي الطاقوي لا سيما بفضل نقل الغاز الطبيعي المسال، أضحت سبعة دول إفريقية مصدرة للغاز الطبيعي، في سنة 2017م، استحوذت الجزائر على 60 بالمائة من كل الصادرات الإفريقية مقابل 30 بالمائة لنيجيريا. وقد استفادت كل من الجزائر وليبيا من تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر أنابيب الغاز مستفيدة من قربها الجغرافي لدول جنوب أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، لكن بفضل ناقلات الغاز المسال توسعت قائمة الدول المصدرة حيث استفادت كل من نيجيريا وأنغولا من التصدير. مع الإشارة إلى أن أوروبا تبقى هي المنطقة الحيوية للصادرات الإفريقية بنسبة تفوق 60 بالمائة من الصادرات، وفي سنة 2019م، أكثر من نصف الصادرات يتم توزيعها على نمط الغاز الطبيعي المسال بينما لا تصل منطقة أسيا-الهادي إلا نسبة 23 بالمائة من الغاز المسال وهي أقل بكثير من الصادرات الممونة عن طريق أنابيب الغاز لأوروبا. وما يلاحظ أن بعض الدول الإفريقية المصدرة للغاز الطبيعي المسال استفادت من منشآت تسييل الغاز ونقله عبر الناقلات البحرية لتساهم في تغيير نمط التصدير وتصاعده الملفت للانتباه، في سنة 2001م، مثلت صادرات الغاز الطبيعي المسال 50 بالمائة من إجمالي صادرات الغاز لتتصاعد إلى نسبة الثلثين في سنة 2019م. وبقراءة الخريطة الجيوطاقوية من حيث مكانة الدول الإفريقية المصدرة للغاز الطبيعي المسال، فإنها تكشف لنا أنها لا تمثل نسبة يمكنها أن تؤثر على السوق العالمية سواء من حيث الإنتاج أو سد النقص الذي يمكن أن تحدثه التغييرات الجيوسياسية، بمعنى أدق، لا يمكن للدول الإفريقية أن تعوض المكانة الروسية في أوروبا على المدى القريب، وفضلاً عن ذلك،فإن كلًا من الولايات المتحدة الأمريكية، أستراليا وقطر تمثل 50 بالمائة الصادرات العالمية للغاز المسال، بينما لم تصدر الدول الإفريقية في العشر سنوات الأخيرة أقل من 5 ملاين طن من الغاز المسال سنويًا.
أما فيما يخص تقديرات احتياط الغاز في إفريقيا فإنه يتراوح ما بين 7.4 إلى 8.8 بالمائة من الإجمالي العالمي، بحجم قدرته بريتيش بتروليوم ب 14.7 ترليون متر مكعب، وتتمركز هذه الاحتياطات الغازية في شمال إفريقيا بما يقارب 50 بالمائة وإذا جمعنا نيجيريا والجزائر فإنهما يمتلكان 55 بالمائة من إجمالي الاحتياطي الإفريقي، حيث تستحوذ نيجيريا على 30 بالمائة والجزائر على 25 بالمائة، بينما تمتلك خمسة دول إفريقية 90 بالمائة من كل الاحتياطي الإفريقي وهي على التوالي، نيجيريا، الجزائر، الموزمبيق، ليبيا ومصر.
وأهم مميزات المكانة الطاقوية لإفريقيا أنها تمثل مجال حيوي مستقبلي إذا حسبناها بمتغيري الاحتياط/ الإنتاج، حيث تحتل إفريقيا الصف الثالث يمكنها أن تبقى مؤثرة من حيث الاحتياطي والإنتاج لفترة ستين سنة قادمة، مقارنة بمائة سنة للشرق الأوسط وخمسة وسبعين سنة لروسيا. وإذا أخذنا بالنظرة التفاؤلية للمستقبل، فإن تقرير مؤسسة ريستاد للطاقة Rystad Energy تتوقع أن تتضاعف القدرة الإنتاجية للغاز الطبيعي في إفريقيا على المدى المتوسط في آفاق 2030م، لتصل إلى نسبة 75 بالمائة من الإنتاج الحالي لروسيا، ويبقى ذلك مرهونا بعاملين أساسيين، الأول تدفق الاستثمارات الأوروبية في مشاريع الحقول النفطية والغازية القائمة والمستكشفة مع إعادة النظر في المقاربة البيئية الأوروبية التي كانت كابحة لكل تمويل خارج مشاريع الانتقال الطاقوي، وهو ما تم فعلاً بإعادة تسطير الأهداف البيئية في المرحلة الأولى، برفع نسبة الاعتماد على الطاقات المتجددة بنسبة 45 بالمائة بدلاً من 40 بالمائة، والرفع من سقف الفعالية الطاقوية من نسبة 9 إلى 13 بالمائة في آفاق 2030م. وتبدو الإرادة السياسية الأوروبية أكثر اقتناعًا في استراتيجيتها الطاقوية لما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية بضرورة تنويع الزبائن والتوجه نحو إفريقيا، حيث وضعت مخطط بتخصيص 300 مليار دولار لإيجاد البدائل عن الموارد الطاقوية الأحفورية الروسية لتقلص استيرادها بنسبة تفوق 70 بالمائة مع نهاية 2022م، على أن تضع حدًا نهائيًا للتبعية الروسية في غضون 2027م. وفي يوليو 2022م، صادق البرلمان الأوروبي على إدراج بعض الأنشطة النووية والغاز الطبيعي ضمن قائمة الاتحاد الأوروبي للاستثمارات الخضراء المعتمدة رسميا. كما فرضت الحرب الروسية-الأوكرانية على البنك الأوروبي للاستثمار تكييف مقاربته التمويلية التي وضعها في سنة 2019م، الرامية إلى إلغاء كل التمويلات المخصصة للطاقات الأحفورية مع سنة 2020م، مع إمكانية التمديد للمشاريع الغازية إلى غاية 2021م. وقد ساهمت ألمانيا كثيرًا في اتخاذ هذا القرار الأوروبي باعتبارها صاحبة الأسهم الكبيرة، رغم المعارضة الشديدة من المجر، بولونيا ورومانيا وإيطاليا. والملاحظ في هذا الإطار أن هذا القرار الأوروبي قد تناغم مع خريطة الطريق التي وضعتها الوكالة الدولية للطاقة من أجل تحييد الكاربون في آفاق 2050م، والحد من الاحتباس الحراري، من خلال اتخاذ مجموعة من الخيارات من بينها خيار وقف التنمية المستقبلية لمشاريع النفط والغاز مع الإبقاء فقط على تلك القائمة في سنة 2021م.
أما العامل الثاني، الذي يساهم في تزايد الإنتاج الطاقوي الإفريقي إضافة لتدفق الاستثمارات الأوروبية فيرتبط أساسًا بمدى قدرة الدول الإفريقية الطاقوية على إيجاد التوازن والرشادة بين تزايد الاستهلاك الطاقوي المحلي المفرط والاعتماد على الصادرات لتمويل المشاريع التنموية المحلية.
ثانيًا: الورقة الجيوطاقوية للجزائر ..الفرص والتحديات
في إطار اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والجزائر الموقع سنة 2002م، حددت المادة 61 منه، أهداف التعاون في ميدان الطاقة بين الطرفين، وهو ما سمح فيما بعد بالتوقيع على مذكرة وفاق لإقامة شراكة استراتيجية بين الجزائر والاتحاد الأوروبي في ميدان الطاقة في 07 يوليو 2013م، اعتبرت الجزائر طبقًا للاتفاق أنها شريك استراتيجي وموثوق فيه لتموين الطاقة للاتحاد الأوروبي فيما يخص الغاز الطبيعي والنفط الخام، مع التسليم بأهمية الاعتماد المتبادل بين الطرفين فيما يخص تأمين الإمدادات للسوق الأوروبية، من جهة، وكسب الزبون الأوروبي والاستفادة من الدعم التكنولوجي والاستثمارات الأوروبية بالنسبة للجزائر، من جهة أخرى.
إن الجزائر باعتبارها الشريك الاستراتيجي والموثوق به في مجال الطاقة، جعلها تكون أحد الخيارات الاستراتيجية البديلة عن الغاز الروسي بعد الحرب الجيوسياسية بين روسيا وأوكرانيا، وهذه الصفة أكدها الاتحاد الدولي للغاز انطلاقًا من تقييم مصداقية التموين من قبل شركة سوناطراك لفترة الخمسين سنة الأخيرة، حيث تبقى أوروبا بالنسبة للجزائر أول سوق لتصدير الغاز بنسبة 35 بالمائة لإيطاليا، 31 بالمائة بالنسبة لإسبانيا و8 بالمائة لفرنسا، وبلغ حجم الصادرات الجزائرية من الغاز الطبيعي سنة 2020م، أكثر من 40 مليار متر مكعب بعائدات تعادل 7 مليارات دولار. ويتم ترديد خطاب الشريك الموثوق فيه في كل مرة يزور فيها القادة والسياسيين الأوروبيين الجزائر، لاسيما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، ففي الخامس من سبتمبر 2022م، زار رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، الجزائر وصرح قائلاً بعد لقائه بالرئيس عبد المجيد تبون:" في الظروف الدولية الراهنة، فإن التعاون الطاقوي يعد أساسيًا مع الجزائر التي نعتبرها شريكاً ذات مصداقية ووفية". وقد اختبرت هذه الثقة والمصداقية في تصاعد الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وإسبانيا على خلفية قضية الصحراء الغربية بإبقاء نفس الكمية المطلوبة من الغاز لتموين إسبانيا عبر أنبوب البحر المتوسط بقدرة تموين سنوية تصل إلى ثمانية مليارات متر مكعب سنويًا.
ازداد اهتمام مراكز التفكير المتخصصة في ميدان الطاقة ووسائل الإعلام الأوروبية بالمكانة الطاقوية للجزائر مقارنة بروسيا خصوصًا بعد وقف العمل المؤقت بأنبوب الغاز الروسي السيل الجنوبي، حيث تزود الجزائر أوروبا بنسبة 11 بالمائة من الغاز المستهلك في أوروبا مقابل 47 بالمائة من روسيا، بالرغم من أن الجزائر تعد المصدر الأول للغاز في إفريقيا والسابع عالميا. وحتى عندما زار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الجزائر في نهاية أغسطس2022م، اصطحب معه كاترين ماك غريغور، المديرة العامة شركة إنجي للطاقة، للتفاوض مع الشركة الجزائرية سوناطراك من أجل رفع واردات الغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المسال بنسبة 50 بالمائة.
في الواقع، فإن الجزائر استفادت من البيئة الجيوسياسية لتعظيم مكانتها الطاقوية في السوق الأوروبية، وهو ما ترجمته مجموعة الاتفاقيات التي وقعتها مع الشريك الاستراتيجي الإيطالي، عندما وقعت في منتصف يوليو 2022م، على عقد ضخم للغاز في إطار صيغة تقاسم الإنتاج مع الشركة الإيطالية، إيني، والشركة الفرنسية توتال وشركة أوكسيدونتال بتروليوم الأمريكية، بقيمة أربعة مليارات دولار. مدة العقد 25 سنة يتم من خلاله استغلال حقول النفط والغاز في منطقة بركين، في جنوب الجزائر ذات الاحتياطي الضخم. كما التزمت الجزائر برفع سقف الإنتاج من الغاز إلى إيطاليا مع نهاية سنة 2022م، عبر أنبوب الغاز العابر للمتوسط، مما سمح لها بأن تصبح أول ممون للغاز لإيطاليا متجاوزة روسيا بعدما كانت تحتل المرتبة الأولى، ومنذ بداية 2022م، إلى غاية يوليو من نفس السنة زودت الجزائر إيطاليا بما يقارب 14 مليار متر مكعب من الغاز، أي بزيادة نسبتها 113 بالمائة مقارنة بالحجم الذي كان مبرمجا من قبل الحرب الروسية-الأوكرانية. وكانت الجزائر قد التزمت مع الوزير الأول الإيطالي، ماريو دراغي، أثناء زيارته للجزائر في أبريل، باتفاق يهدف إلى زيادة تسعة ملايير متر مكعب من الغاز في الفترة ما بين 2023-2024 م، عبر أنبوب الغاز العابر للمتوسط.
أما على المدى المتوسط، فإن الجزائر في إطار ربح مكانة أكبر في السوق الطاقوية الأوروبية من المتوقع أن تخصص استثمارات بقيمة 39 مليار دولار تمتد إلى سنة 2026م، من أجل إنجاز عدة أنابيب للغاز للرفع من حجم صادراتها للسوق الأوروبية، وقد ذكر وزير الطاقة الجزائري، محمد عرقاب، الأوروبيين في حواره مع مجلة ديرشبيغل الألمانية بتقاعسهم في السابق عن الاستثمارات في قطاع الغاز والنفط بحجة حماية البيئة بقوله:" منذ مدة وأوروبا تدافع عن حماية البيئة بدون أن تميز بين النفط والغاز، مما لم يسمح بإنجاز أية استثمارات في حقول الغاز والنفط في الجزائر". والملاحظ، أن الجزائر قد تضررت كثيرًا قبل الحرب الروسية-الأوكرانية على غرار الدول الطاقوية الإفريقية، حيث كانت أوروبا تستفيد من المنافسة لباقي المنتجين الذين أغرقوا السوق الطاقوية بالغاز المسال بصيغة البيع الفوري، حتى إيطاليا كانت مترددة في إعادة تمديد عقد الغاز طويل المدى بعد انتهاء أجاله في سنة 2019م، وفي اللحظة الأخيرة أبرمت شركة إيني العقد وتمديده إلى غاية 2027م، مع خيار تمديده لسنتين إضافيتين أي لفترة 2029م. واتضح ما بعد الحرب الروسية / الأوكرانية الرهان الرابح لإيطاليا مع إمكانية إعادة إحياء مشروع أنبوب الغاز الجزائري-الإيطالي الثاني المعروف بـ "غالسي" الذي يمد إيطاليا عبر البحر المتوسط بطول 300 كلم، وبقدرة إنتاجية تصل إلى ثمانية مليارات متر مكعب سنويًا، بعدما كانت أوروبا مترددة في رفع حاجياتها من الغاز الجزائري.
استغلت الجزائر البيئة الجيوسياسية، لتسويق مشاريعها الطاقوية المستقبلية التي كانت بحاجة ماسة للتمويل والاستثمارات الأوروبية، "من مصلحتنا أن نوسع نشاطاتنا مع أوروبا ويمكننا أن نرفع حجم معتبر من إنتاج الغاز في ظرف زمني وجيز، لأن حوالي نصف احتياطاتنا من الغاز لم يتم استغلالها بعد"، هكذا خاطب وزير الطاقة الجزائري الأوروبيين أثناء زيارته لألمانيا في عز الأزمة الطاقوية مع روسيا، وهو يجيب على سؤال لإحدى الإعلاميين الألمان، بلغة الواقعية التجارية " إذا أرادت ألمانيا أن تشتري الغاز الجزائري، فما عليكم إلا أن نفتح حقولاً جديدة معًا، كما فعلت شركة إيني الإيطالية". وتراهن الجزائر على المدى المتوسط على الاستثمارات الألمانية في الطاقات المتجددة مثل الهيدروجين الأخضر، والكهروضوئية خصوصًا في منطقة الصحراء حيث تملك الجزائر حوالي 3000 ساعة إشعاع شمسي في العام مع ما توفرها على المساحات الشاسعة لإنتاج الطاقة الكهروضوئية، مصحوبة بالخطوط الكهربائية تحت البحر تمر عبر البحر الأبيض المتوسط.
من بين المشاريع الضخمة والواعدة التي تم بعثها، نشير هنا إلى المشروع الضخم لأنبوب الغاز العابر للصحراء الممتد من نيجيريا عبر النيجر والجزائر إلى أوروبا، على مسافة 4 آلاف كلم، أكبر من نصف المسافة تمتد عبر الجزائر التي أنهت الأشغال بها، ويمكن أن يكون جاهزًا خلال ثلاث سنوات بقدرة إنتاجية ما بين 20 إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا. ومن بين الأسباب التي أدت إلى تعطيل هذا المشروع بعد إطلاقه سنة 2009م، تحفظ الأوروبيين على الاستثمار فيه بعدما قدرت تكلفته الأولية بعشرة مليارات دولار. وفي ظل تصاعد الطلب على الغاز في أوروبا والزيادة المتصاعدة في الأسعار، أعادت مراكز الخبرة الأوروبية المتخصصة في الطاقة تقييم المشروع من حيث الجدوى الاقتصادية، والفرص التي يمكن أن تنجز فيه على المدى القريب، بالنظر لعدة اعتبارات منها، اكتساب الجزائر لبنية تحتية جاهزة من خلال شبكات النقل، محطات الغاز المسال، والمنشآت البتروكيماوية، زيادة عن الموقع الجغرافي القريب من أوروبا.
ثالثًا: التحديات المستقبلية للدول الإفريقية المنتجة للطاقة.
إذا كان العامل الجيوسياسي الأوراسي يشكل فرصة للدول الإفريقية المنتجة والمصدرة للطاقة لكسب بعض الفوائد الاستراتيجية، مثل الاستفادة من الأسعار المرتفعة للغاز والنفط، وإعادة إحياء المشاريع الطاقوية الضخمة التي قد تحيي التنمية المحلية والإقليمية، وإيجاد التمويلات لاستغلال وإنتاج الطاقة الأحفورية، فإن الثابت في المتغير الطاقوي، أنه خاضع لعدم اليقينية والتحكم في توقعاته المستقبلية، ففي أقل من سنتين كانت الدول المنتجة والمصدرة للطاقة تعيش انتكاسات كارثية بسبب تداعيات أزمة كوفيد-19، التي أدت إلى تراجع أسعار النفط والغاز إلى أدنى المستويات مما تسببت في عجز كبير في الموازنة السنوية، حيث انتقل سعر النفط من 60 دولار للبرميل في ديسمبر 2019م، إلى 20 دولار للبرميل في أبريل 2020م، فمثلا، نيجيريا التي تعتمد في ميزانياتها على أكثر من 50 بالمائة من عائدات النفط، راهنت على سعر 57 دولار للبرميل الواحد في سنة 2020م، أدى تراجع الأسعار في السوق العالمية إلى فقدان 65 بالمائة من عائداتها النفطية خلال السداسي الأول من السنة المالية. يضاف إلى ذلك أن بعض الدول الإفريقية المنتجة للنفط وجدت نفسها أمام معضلة ارتفاع تكلفة البرميل مقارنة بسعره في السوق العالمية، فمثلا، تكلفة البرميل الواحد من النفط في أنغولا بين الاستغلال والضريبة يصل إلى 24 دولار بينما وصل سعره في السوق 20 دولار. وعليه، فإن المستقبل الطاقوي في إفريقيا يبقى رهينة السيناريوهات القليلة الاحتمال والأكثر تأثيرًا إذا وقعت قد تغير المشهد الجيوطاقوي برمته، ولنتصور مثلا، العودة السريعة لتسوية الحرب الروسية-الأوكرانية وخيارات التقارب الدبلوماسي بين الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا وإيران، فكيف ستكون انعكاساتها على الدول الإفريقية المنتجة والمصدرة للنفط والغاز؟