صدر كتاب (علاقات روسيا مع دول مجلس التعاون وإيران) في عام 2021م، من تحرير نيقولا كوجانوف عن دار بالغريف ماكميلان وجاء في 300 صفحة توزعت على اثني عشر فصلاً تناولت العلاقات بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي، والعلاقات الروسية الإيرانية، والسياسة الروسية تجاه اليمن وسوريا وانعكاساتها على العلاقات مع الخليج، وكذلك الأبعاد الاقتصادية في العلاقات الروسية الخليجية. الكتاب يقدم نظرة شاملة وتقييم للعوامل المؤثرة على سياسة روسيا تجاه منطقة الخليج وأولوياتها وتطور علاقاتها مع دوله بأبعادها المختلفة.
يصف الكتاب علاقات روسيا بدول المنطقة بالمعقدة والمتشعبة من حيث القضايا والمؤثرات الداخلية والإقليمية والدولية ويؤكد الحاجة لفهم عميق لديناميكية هذه العلاقات وتشابكاتها. لقد شهدت العلاقات تطوراً محدوداً خلال التسعينيات بسبب انشغال الحكومة الروسية بترتيب الأوضاع الداخلية الصعبة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي ونشوب حرب الشيشان التي تسببت في توتر العلاقات نتيجة تعاطف الخليج مع الأقلية الشيشانية المسلمة.
استقرار الأوضاع في روسيا بعد عام 2000م، مكّن موسكو من بدء مسيرة تطوير لعلاقتها بدول الخليج في إطار سعيها لاستعادة مكانتها في المنطقة وفي العالم. وقد شهدت العلاقات في السنوات الأخيرة تطوراً إيجابياً جعل البعض يتساءل عن إمكانية بناء شراكة حقيقة بين روسيا ودول الخليج تتناغم مع التطورات التي تشهدها الساحة الدولية وفي مقدمتها تراجع الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط إجمالاً وتحول بوصلة واشنطن نحو شرق آسيا.
وحسب الكتاب فإن مسيرة العلاقات بين روسيا ودول الخليج وإيران محكومة بمتغيرات متعددة ومتضاربة أحياناً وهو ما يحد من فرص بناء شراكة استراتيجية. فمن جهة تنطلق موسكو في علاقتها بدول الخليج من منظور براغماتي خالص يقوم على الاستفادة بأكبر قدر ممكن من الإمكانات الاقتصادية الكبيرة لدول الخليج في شكل استثمارات أو مبيعات عسكرية أو مشاريع مشتركة. من جهة أخرى تنطلق روسيا نحو منطقة الشرق الأوسط والخليج من زاوية موقعها في النظام الدولي ومواجهة الولايات المتحدة وضرورة الاعتراف بها شريكاً في ترتيب الأجندة الإقليمية والدولية.
محاولة مواءمة السياسة الروسية بين هاذين المتغيرين: اقتصادي-براغماتي، استراتيجي-أيدلوجي (بالمفهوم الواسع للأيدلوجية) ليس أمراً سهلاً، وذلك لأن دول المنطقة هي الأخرى لها حسابتها الخاصة بها ولها أولوياتها التي قد لا تلتقي مع أولويات روسيا وإن ظهرت بعض الفرص كما نرى اليوم التي تجعل البعض يبالغ في تقدير مستوى الانسجام في العلاقات بين موسكو ودول المجلس.
من جانب آخر وفي إطار النزعة البراغماتية تحرص موسكو على المحافظة على علاقاتها مع كافة دول المنطقة من منطلق أن سياسة الانفتاح على الجميع تمنحها فرصة لعب دور الوسيط في الخلافات بين هذه الدول (على سبيل المثال بين إيران ودول المجلس)، إلا أن هذه السياسة -حسب الكتاب-تترك أثراً سلبياً على مستوى الثقة التي تحظى بها موسكو بل قد تضطرها لاتخاذ مواقف متضاربة. فعلى سبيل المثال أدانت روسيا الهجمات الإرهابية ضد منشآت النفط في المملكة (بهدف إرضاء المملكة ودول المجلس)، ولكنها من جانب آخر رفضت اتهام طهران بالتورط فيها (حفاظاً على علاقاتها مع إيران). هذا الحرص على التوازن في العلاقات مع جميع دول المنطقة يحد من قدرة موسكو من القيام بتحرك جاد لضبط سلوك إيران وإقناعها بالامتناع عن توظيف الميليشيات التي تهدد استقرار المنطقة رغم أن استعادة الاستقرار يعد من أولويات السياسة الخارجية الروسية.
من العوامل الأخرى التي تسهم في إشكالية فهم السياسة الروسية تجاه الخليج -حسب الكتاب- دور الأطراف الداخلية وخاصة شركات النفط فهي ليست مجرد أدوات للدبلوماسية الروسية بل لها تأثيرها على توجهات السياسة الروسية من خلال ما يطرحه مسؤولو هذه الشركات من رؤى مغلفة بالمصلحة القومية لروسيا، إلا أنها لا تخلو من مصالح خاصة ولذلك يخصص الكتاب عدة صفحات عن هذه الشركات في الفصل السابع ونذكر هنا تحديداً رئيس شركة روس نفط Igor Sechin الذي عرف بالتشدد في المفاوضات مع أوبك بشأن مسائل الإنتاج فيما يبدو أنه مصالح الشركة .
رغم ما ترتب على التدخل العسكري الروسي في سوريا من تدمير وتسبب في إفشال الثورة السورية، إلا أنه لم يخلُ من الأثر الإيجابي على صورة روسيا فقد ظهرت بمظهر الدولة الصلبة غير المترددة التي تتحرك بجد للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها مقابل صورة الإدارة الأمريكية التي ظهرت خلال ما عرف بالربيع العربي مضطربة لا تعكس إدراكاً للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وبدأت مستعدة للتخلي عن حلفائها. هذه الصورة -حسب الكتاب-استثمرتها روسيا لتعزيز علاقتها مع دول الخليج مستفيدة من سعي هذه الدول إلى تنويع شراكاتها وعدم الركون إلى شراكة تقليدية لم تعد مضمونة.
ولعلنا نلخص أبرز ما خلص إليه الكتاب في النقاط الآتية:
- إن منطقة الشرق الأوسط إجمالاً ليست المسرح الأول للسياسة الخارجية الروسية فموسكو تبقى مركزة على جوارها الإقليمي وعلى علاقتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية وكذلك على الصين.
- إن علاقات روسيا مع دول الخليج تفتقد لقاعدة اقتصادية صلبة تضمن استمراريتها. فالتبادل التجاري ضئيل، والاستثمارات محدودة جداً ولا يقارن حجمها بالوعود المتكررة أو بعدد مذكرات التفاهم التي وقعت وتجارب الشركات الروسية في السوق الخليجي غير مشجعة فسرعان ما تنسحب بعد سنوات قليلة من بدء مشاريعها. كما يخطئ الروس حين يظنون أن تطور العلاقات السياسية سيجلب معه استثمارات ضخمة؛ فالصناديق السيادية الخليجية تستند لحسابات عقلانية قائمة على مبدأ الربح والخسارة. كما يحد من التعاون الاقتصادي العقوبات الغربية على الشركات الروسية. ويذكر الكتاب أن روسيا بحاجة إلى إصلاحات اقتصادية جذرية لتكون جاذبة للاستثمارات الأجنبية ومنها الخليجية، إلا أنه يستبعد قيام الكرملين بهذه الإصلاحات خشية من تداعياتها السياسية.
- إن أثر تنسيق روسيا مع دول المجلس بشأن السياسة النفطية سيبقى محدوداً لسببين (أ) إن العلاقة في هذا المجال تتراوح بين التعاون والتنافس كما ظهر في شهر مارس 2020م، حين دخلت روسيا فيما وصف بحرب الأسعار مع المملكة (ب) قرب نضوب حقول روسيا حيث يورد الكتاب تصريحاً لوزير الطاقة ألكسندر نوفاك يرجح فقدان روسيا 44% من إنتاجها بحلول عام 2035م، الأمر الذي يفقد روسيا مكانتها كمنتج رئيس.
- ليس واضحاً إن كان الموقف الإيجابي الراهن لدول المجلس تجاه روسيا يعبر عن تحول بنيوي أم إنه نتيجة قراءة عابرة للظروف الآنية تتغير بتغيرها.
- إن علاقات روسيا مع دول الخليج تأتي في إطار منافسة استراتيجية شديدة مع الولايات المتحدة ومع الصين ولذلك فمستقبل هذه العلاقات مرهون بمستقبل العلاقات الخليجية مع الولايات المتحدة.
- إن أهم ركيزة للعلاقات الروسية الإيرانية هي الرؤية المشتركة للعالم والموقف المتشابه من الغرب وهاجس حماية السيادة ضد الهيمنة الغربية وهذه الرؤية بدورها ترتكز على التجربة التاريخية لروسيا وإيران وعلى الواقع الجيوسياسي للبلدين وكذلك الخصوصيات الثقافية والحضارية لهما.
- إن اليمن يبقى هامشياً في السياسة الروسية فلا يوجد أي مصالح اقتصادية أو استراتيجية حقيقة وموقف روسيا من الأوضاع في اليمن هو امتداد لسياستها تجاه دول الخليج وحرصها على كسبهم وخاصة المملكة والإمارات، ورغم انفتاح موسكو على جميع الأطراف اليمنية فإن تأثيرها محدود خاصة على الحوثي الذي لا يثق في قدرة موسكو على ضمان مصالحه.
- باستثناء سوريا فإن تأثير روسيا في المنطقة محدود نتيجة ضعف قدراتها أمام ما يسميه الكتاب ب limited tool box
يسد هذا الكتاب فراغاً في المكتبة العربية بشأن العلاقات الروسية مع دول الخليج حيث أن غالبية الدراسات تركز على سياسات وعلاقات روسيا مع منطقة الشرق الأوسط إجمالاً. كما يحسب للكتاب الجمع بين باحثين روس وغربيين وعرب وهو ما يتيح للقارئ فرصة مقارنة بين قراءة مختلفة لهذه العلاقات. لكن يعيب الكتاب غياب القراءة الخليجية وكذلك الإيرانية وكيف ينظر الخبراء الخليجيون والإيرانيون لعلاقات دولهم مع روسيا. ومن الملاحظات الأخرى على الكتاب عدم التطرق لدور المسلمين الروس رغم أنه أشار إليهم كأحد المتغيرات الداخلية التي تؤثر في السياسة الروسية تجاه الخليج.