بعد ثلاث سنوات من الانقطاع بسبب أزمة "كورونا" التي أخلّت بنظامها الدوري السنوي انعقدت القمة العربية الواحدة والثلاثون في العاصمة الجزائرية (الجزائر) وهي رابع القمم العربية المنعقدة بالجزائر بعد قمم 1973 و1988 و2005م، قمة حملت جملة من الدلالات الرمزية والعملية على عدة المستويات، بداية من تاريخ انعقادها في الأول من نوفمبر المصادف لذكرى اندلاع الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، فضلاً عن شعار القمة "لم الشمل" حيث كان المُراد منه إعادة اللحمة للعمل الجماعي العربي الذي ازداد فُرقة على فُرقتهِ منذ اندلاع موجة التحولات السياسية التي مسّت العديد من أقطاره في إطار ما أُصطلح على تسميته إعلاميًا بـ "ثورات الربيع العربي"، وصولاً إلى طبيعة الملفات المطروحة في القمة التي كانت مزيجًا بين ما هو متعلق بقضايا مستجدة على الساحة الإقليمية والدولية وفي مقدمتها "الأزمة الأوكرانية" وما تحمله من تداعيات على المنطقة العربية ما أضفى أبعادًا جديدة تجاوزت في كثير من حيثياتها الأبعاد السياسية التقليدية للقضايا العربية المحورية، وقضايا قديمة كان لابد من إحيائها من جديد وعلى رأسها عودة "القضية الفلسطينية" ومعها "المصالحة الفلسطينية" وكذلك "التضامن العربي" وتجاوز الخلافات العربية البينية في إطار توافقي بما يحفظ المصالح المشتركة لتكون من أهم محاور النقاش، وما صاحبها من ملفات تُلخص في مجملها واقع الانقسام العربي البيني المزمن والأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية الحادة التي تعرضت وما زالت تتعرض لها عديد الأقطار العربية، حيث ناقش المشاركون من القادة والزعماء العرب وثيقة "إعلان الجزائر" التي توافق عليها وزراء الخارجية العرب في اجتماعاتهم التحضيرية، وقد تصدرت القضية الفلسطينية أهم بنود "إعلان الجزائر" إلى جانب عدة أزمات عربية أخرى من ليبيا إلى اليمن إلى العراق إلى السودان إلى لبنان إلى الصومال وأكثرها عمقًا "سوريا"، فضلاً عن أزمة سد النهضة وما تحمله من تداعيات خطيرة على الأمن المائي لكل من مصر والسودان.
في ضوء هذه المعطيات انعقدت قمة الجزائر وسط سياقات داخلية وإقليمية مرتبطة بواقع النظام الإقليمي العربي المتأزم وما يرتبط به من أجندات، وسياقات دولية مرتبطة بتداعيات الصراع الدولي القائم الذي ورغم انحساره في أوكرانيا إلا أن تداعياته ستطال مستقبل النظام الدولي برمته والمنطقة العربية جزء من ذلك، فضلاً عما ينجر على المنطقة العربية من أزمات جرّاء هذا الصراع والمتمحورة أساسًا حول ثلاثة ملفات رئيسية وهي: أمن الطاقة ــــ الأمن الغذائي ـــــ الأمن المائي ــــ واستقلالية القرار السياسي المرتبط بحالة الحياد تجاه هذا الصراع، بالإضافة إلى قضية التغيرات المناخية، وهي سياقات تستوجب على العمل الجماعي العربي وتحت مظلته الشاملة "الجامعة العربية" ضرورة الارتقاء إلى تكتل إقليمي مؤثر على المستويين الإقليمي والدولي، وتجاوز الصورة النمطية الساعية للمحافظة على النقد التقليدي الواصف للجامعة العربية بأنها مجرد هيكل بيروقراطي دوره الوظيفي لا يتعدى الشكليات، ولم يرق إلى مقام الفاعل الحقيقي والرئيسي لا في بيئته الإقليمية ولا الدولية، وهي صورة كانت ولا زالت الكثير من الأطراف تسعى لاستمرارها وتسويقها كمسلّمة من الصعب بل من المستحيل تجاوزها، ومرّد ذلك هو التأثير شبه المنعدم لمخرجات قمم الجامعة العربية سواء على المستوى الداخلي وما يعيشه النظام الإقليمي العربي من تفتت أو على المستوى الإقليمي وفوضوية وغياب الإجماع العربي في التعامل مع التهديدات الإقليمية أو على المستوى الدولي وعجز الجامعة العربية لتكون تكتلاً إقليميًا يُخولها لتقوم مقام الفاعل الرئيسي في النظام الدولي.
من هذا المنطلق تسعى هذه الورقة البحثية لتقديم قراءة لمخرجات القمة العربية الواحدة والثلاثين المنعقدة بالجزائر، انطلاقًا من جملة الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق من قبيل: ما مدى قابلية واقع النظام الإقليمي العربي بما يحتويه من تناقضات في المساعدة على تطبيق مخرجات قمة الجزائر؟ وهل تستجيب الجامعة العربية لدعوات الإصلاح كضرورة من ضروريات مواكبة الواقع الإقليمي والدولي؟ وما هي رهانات تحول الجامعة العربية إلى فاعل رئيسي إقليميًا ودوليًا في ظل ما يكتنف العمل الجماعي العربي من خلافات؟ وهل نجحت القمة في مسعاها لإصلاح ذات البين العربي وهي التي رفعت شعار "لم الشمل"؟ وهل لقرارات القمة أثر على السياسة العربية الموحدة تجاه الأزمات العربية؟ وما مدى قدرة الجامعة العربية على تقوية دورها في حل هذه الأزمات؟
ونظرًا لتعدد أوجه الظاهرة قيد الدراسة وتباين مستويات تحليلها فقد تم تبني الخطة المنهجية الآتي مفادها، والتي تُلخص أهم الملفات التي تناولتها مخرجات قمة الجزائر:
- القضية الفلسطينية
تصدرت "القضية الفلسطينية" جدول أعمال قمة الجزائر، في ظل تراجع أولوية هذه القضية سابقًا بعد تطبيع عديد من الدول العربية لعلاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في إطار ما عُرف بـ "اتفاقيات أبراهام" والتي تزامنت مع نقل إدارة "دونالد ترامب" السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة في خطوة لم تتجرّأ أي إدارة أمريكية سابقة على فِعلها، إلا أن الزخم الذي أعطته قمة الجزائر لهذا الملف مكّنت القضية الفلسطينية للعودة إلى الواجهة من جديد، عودة سبقها توقيع الفصائل الفلسطينية لما عُرف بـ "اتفاق الجزائر" الذي ضم 14 فصيلاً فلسطينيًا والهادف لإنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق المصالحة والوحدة الفلسطينية، والذي حاولت الجزائر من خلاله لم شمل الفرقاء الفلسطينيين تكريسًا لتاريخ وحاضر الدور الجزائري الداعم للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، كما أعادت مخرجات قمة الجزائر إحياء المبادرة العربية التي قدمتها المملكة العربية السعودية في "قمة بيروت" سنة 2002م، والقائمة على "الأرض مقابل السلام" وهو ما يشير ضمنيًا إلى رفض تطبيع بعض الدول العربية لعلاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل دون تحقيق مطالب "المبادرة العربية" المرتكزة أساسًا على ضرورة إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م، وهذا ما رسّخه المحور الأول من إعلان الجزائر والذي أعاد التذكير بـ "مركزية القضية الفلسطينية والدعم المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه في الحرية وتقرير المصير وتجسيد دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة على خطوط 4 حزيران/ يونيو 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفق القرارات الأممية"، وفي السياق نفسه أعاد إعلان الجزائر "التأكيد على تمسك العرب بمبادرة السلام العربية لعام 2002م، بكافة عناصرها وأولوياتها مع الالتزام بالسلام العادل والشامل كخيار استراتيجي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية بما فيها الجولان السوري ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا اللبنانية وحل الصراع العربي / الإسرائيلي على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية".
وقد حملت معظم كلمات القادة العرب التركيز على القضية الفلسطينية كقضية محورية للعمل العربي المشترك، على غرار خطاب الرئيس المصري الذي أكّد فيه على أن "القضية الفلسطينية تبقى على رأس أولويات العمل الجماعي العربي والمعيار الأساسي لوحدته داعيًا إلى التمسك بتنفيذ المبادرة العربية للسلام وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة"، كما أكّد الرئيس الفلسطيني على أن "إسرائيل ماضية في تدميرها الممنهج لحل الدولتين مستندًا للصمت الدولي ومؤكدًا حرصه على إنجاح جهود الجزائر لتحقيق المصالحة الفلسطينية"، يذكر بأن بعض قادة الفصائل الفلسطينية الموقعة على اتفاق الجزائر وفي مقدمتهم "حركة حماس" قد طالبت في وقت سابق للقمة بضرورة إلحاق "اتفاق الجزائر للّم الشمل الفلسطيني" بمقررات القمة العربية.
وإلى جانب تركيز قمة الجزائر على موضوع "المبادرة العربية للسلام"، أعاد "إعلان الجزائر" التذكير بمواضيع ذات صلة على غرار التشديد على ضرورة حماية القدس المحتلة من عمليات التهويد المستمرة، والمطالبة برفع الحصار عن قطاع غزة، غير أن اللافت أكثر كان التأكيد على ضرورة اتخاذ قرارات عملية لدعم توجه فلسطين للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة ودعم الجهود القانونية الفلسطينية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها في حق الشعب الفلسطيني، كما حرص موقف الجزائر كدولة مضيفة للقمة على ضرورة دعم هذا الملف داخل أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة وتشديد التعاون مع الدول الداعمة له من أجل تمريره.
إلا أنه ورغم هذه المعطيات فإن السؤال الذي يبقى يطرح نفسه ما مدى فعالية العمل العربي المشترك تجاه القضية الفلسطينية وتوحيد مواقف الدول العربية في ظل تطبيع عديد الدول العربية لعلاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل واستباق المتطلبات التي نصت عليها مبادرة السلام العربية من أجل إحلال السلام؟، ما ساهم في توفير المزيد من الفرص أمام إسرائيل لتجاوز هذه المبادرة، وهو وضع كان لابد من التعامل معه بعقلانية وبخاصة من طرف الدول العربية الرافضة للتطبيع على غرار الجزائر والمملكة العربية السعودية والكويت، تجنبًا لأي مشاكل قد تساهم في تفريق الموقف العربي وتأزيمه أكثر مما هو مُأزم، مع الحفاظ على الالتفاف العربي حول مبادرة السلام العربية كأحد أكثر السبل المساهمة في توحيد الصف العربي تجاه القضية الفلسطينية في ظل الوضع العربي الراهن.
المصالحة العربية البينية "لم الشمل"
يعد موضوع المصالحة العربية البينية أحد أكثر المواضيع الحيوية التي حرصت على تحقيقها قمة الجزائر، كيف لا وهي السبب الرئيسي الذي جعل الجزائر تطلب إرجاء القمة الواحدة والثلاثين التي كان من المفترض إقامتها في شهر مارس 2022م، إلى شهر نوفمبر 2022م، وذلك في إطار سعي الجزائر إلى إحداث توافق حول مواضيع ومخرجات هذه القمة وما يتطلبه من جهود لتقريب وجهات النظر المتباينة بين عديد الدول العربية حول أهم القضايا الإقليمية والدولية التي لطالما ساهمت في شق الصف العربي، وفي مقدمة هذه القضايا ما تعلق بالملف السوري وبدرجة أقل الملف الليبي، ما جعل الجزائر تُبدي رغبة كبيرة في إعادة سوريا إلى حضن الجامعة العربية من جديد، رغبة بقيت مرهونة بعاملين رئيسيين الأول منها مرتبط بضرورة حدوث توافق عربي حول هذه العودة، أما الثاني فمرتبط بمدى تجاوب النظام السوري للمواقف العربية المطروحة وبخاصة ما تعلق بمخرجات الحوار السوري / السوري (النظام والمعارضة)، وهي ظروف لم تتوفر رغم الجهود المبذولة لتقريب وجهات النظر حول هذه المسألة، ما أفضى في النهاية إلى تعذر عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وبالتالي تعذر حضورها لقمة الجزائر.
إلا أنه ورغم تعذر حضور سوريا إلا أن القضية السورية كانت من ضمن الملفات المطروحة للنقاش كما كانت من ضمن مخرجات القمة، حيث أشار إعلان الجزائر إلى "ضرورة قيام الدول العربية بدور جماعي قيادي للمساهمة في جهود التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية ومعالجة كل تبعاتها السياسية والأمنية والإنسانية والاقتصادية، بما يضمن وحدة سورية وسيادتها ويحقق طموحات شعبها ويعيد لها أمنها واستقرارها ومكانتها إقليميًا ودوليًا".
- العمل العربي المشترك وتفعيل التعاون العربي / العربي
وقد أخذ هذا الملف نصيبه من الاهتمام وسط رغبة ملحة لضرورة تنسيق العمل العربي المشترك على كل المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية لمجابهة التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وهذا لن يكون إلا عبر رفض التدخلات الخارجية وحل الخلافات العربية البينية ضمن أروقة الجامعة العربية لا خارجها، ما من شأن مثل هكذا قرار وفي حال ما طُبق وفق ما تم الاتفاق عليه أن يساهم كبير المساهمة في تذليل عديد الخلافات العربية البينية والأزمات الناجمة عنها وفي مقدمتها الأزمة السورية واليمنية والليبية، وبخاصة ما إذا تعززت هذه الجهود الرسمية بالجهود الشعبية التي يعتبر "المجتمع المدني" أحد واجهاتها، وذلك لما يكتسيه موضوع التنسيق بين مؤسسات المجتمع المدني من أهمية في زيادة اللُحمة الشعبية العربية وتعزيز أواصر الصداقة العربية خاصة في حال ما غابت أشكال الوصاية والتوجيه الرسمي عن هذا العمل المنشود، تجدر الإشارة إلى أن الجزائر قد قدمت اقتراحًا فيما تعلق بضرورة إدخال المجتمع المدني كأحد العناصر والآليات المؤهلة لتكون فاعلاً وجب الأخذ به في عمل الجامعة العربية.
كما سبق وأن أشار الأمين العام للجامعة العربية "أحمد أبو الغيط" خلال زياراته التحضيرية للجزائر إلى أنه يتوقع أن يشهد العمل العربي المشترك "نقلة نوعية" خلال قمة الجزائر، مؤكدًا تطلعه لتكون قمة الجزائر للمّ الشمل العربي انطلاقًا من الزخم الجديد للعمل العربي المشترك المدفوع ببعض الأزمات التي باتت تحتم على الدول العربية المزيد من التنسيق واعتماد آليات جديدة للتعامل مع تحدياتها.
وقد أخذ موضوع تفعيل التعاون العربي البيني وحتمية رفض التدخل الخارجي في معالجة الواقع العربي المتأزم في كثير من ثناياه، أخذ حيزًا مهمًا ضمن إعلان الجزائر وما أفرزه من مخرجات حيث نوه هذا الإعلان في محوره الثاني المخصص للأوضاع في الوطن العربي إلى ضرورة "العمل على تعزيز العمل العربي المشترك لحماية الأمن القومي العربي بمفهومه الشامل وبكل أبعاده السياسية والاقتصادية والغذائية والطاقوية والمائية والبيئية، والمساهمة في حل وإنهاء الأزمات التي تمر بها بعض الدول العربية"، كما أشار الإعلان إلى "رفض التدخلات الخارجية بجميع أشكالها في الشؤون الداخلية للدول العربية والتمسك بمبدأ الحلول العربية للمشاكل العربية عبر تقوية دور جامعة الدول العربية في الوقاية من الأزمات وحلها بالطرق السلمية والعمل على تعزيز العلاقات العربية / العربية"، وفي هذا الإطار "ثمّن إعلان الجزائر المساعي والجهود التي تبذلها العديد من الدول العربية وعلى رأسها دولة الكويت بهدف تحقيق التضامن العربي والخليجي".
- إصلاح الجامعة العربية
يعد ملف "إصلاح الجامعة العربية" أحد أكثر الملفات الملحة التي لطالما أُثيرت حولها النقاشات لما تكتسيه من أهمية لحاضر ومستقبل الجامعة العربية ومعه العمل العربي المشترك، على الرغم من غيابه خلال القمم السابقة بسبب اختلافات الرؤى حول سبل معالجته بين عديد الدول العربية، وقد أعلنت الجزائر قُبيل انعقاد القمة العربية الواحدة والثلاثين عبر وزير خارجيتها "رمطان لعمامرة" بأن ملف إصلاح الجامعة العربية سيكون ضمن جدول أعمال القمة الذي وصفته بـ "الكبير والأكثر طموحًا"، مضيفًا بأن الجزائر ستقدم خلال القمة رؤيتها لإصلاح الجامعة العربية مركزًا على إحياء وتفعيل دور "المجتمع المدني" كأحد الآليات المعول عليها لإصلاح الجامعة العربية، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الموضوع أصبح مطلبًا توافقيًا بين العديد من الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية التي ساندت الجزائر في طرحها لموضوع إصلاح الجامعة العربية، وهو ما عبّر عنه نائب وزير الخارجية السعودي "وليد عبد الكريم" بتأكيده على أن "السعودية والجزائر لديهما الكثير من المشتركات".
وإذا كانت بعض التحليلات قد ذهبت إلى أن إدراج موضوع إصلاح الجامعة العربية ضمن أجندات القمة العربية يعد في حد ذاته إنجازًا كونه يمثل وجهًا من أوجه التوافق العربي / العربي بعد أن كان هذا الملف يواجه تحفظًا من بعض الدول العربية في قمم سابقة، فإن البعض الآخر قد أشار إلى أن تحقيق أي تقدم ملموس في آليات الإصلاح ونتائجه بما يعبر عن الحد الأدنى من الإصلاح هو السبيل الوحيد للحكم على جدية هذا الموضوع، في حين أصّر آخرون إلى أنه لابد من تجاوز المطالب التقليدية التي تربط موضوع إصلاح الجامعة العربية بموضوع تدوير منصب أمينها العام على كل الدول العربية بالتناوب نحو إصلاح أشمل يتضمن هياكل وآليات عمل الجامعة العربية خارج الأطر التقليدية التي لازمت الدور الشكلي للجامعة دون بلوغ فعاليتها المطلوبة في النظام الدولي، على غرار زيادة دور الجامعة العربية في معالجة بعض الأزمات العربية وبخاصة الاقتصادية منها والاجتماعية على غرار المساهمة في دفع عجلة التنمية في بعض البلدان العربية وبخاصة الفقيرة منها، وزيادة دور الجامعة في تقديم والتكفل باللاجئين العرب في بعض الدول العربية وعلى رأسهم اللاجئين السوريين في لبنان والأردن ودول أخرى، كما يبرز موضوع آلية التصويت داخل الجامعة وإمكانية استبدال العمل بآلية الإجماع نحو آلية الأغلبية كضرورة حتمية لتجاوز حالة الجمود التي كثيرًا ما اتسمت بها قرارات الجامعة العربية.
ورغم حجم وطبيعة الرهانات المرتبطة بمخرجات قمة الجزائر، إلا أن الثابت أن الواقع العربي الحالي وما يتسم به النظام الإقليمي العربي من تصدعات حتمًا سيقف عائقًا أمام أي نهج إصلاحي راديكالي يمس آليات عمل الجامعة العربية وهياكلها شكلاً ومضمونًا، ليبقى المطلوب في ظل الوضع الراهن هو البناء على ما هو متوافق عليه للدفع نحو استحداث آليات لتفعيل مخرجات قمة الجزائر على النحو الذي تتجاوز به الإشكاليات العملية التي واجهت تطبيق هذه المخرجات وما تكتنفه من قرارات على أرض الواقع، وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن إعلان الجزائر الذي كان في مقام البيان الختامي للقمة العربية لم يُشر بشكل مباشر إلى طبيعة الإصلاحات المُراد إدخالها على الجامعة العربية ولا الآليات المنوط إقرارها لتحقيق ذلك، إنما اكتفى في محوره الثالث بالإشارة إلى ضرورة "تثمين المقترحات البناءة التي تقدم بها سيادة رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية السيد عبد المجيد تبون والرامية إلى تفعيل دور جامعة الدول العربية في الوقاية من النزاعات وحلها وتكريس البعد الشعبي، والتأكيد على ضرورة إطلاق حركية تفاعلية بين المؤسسات العربية الرسمية وغير الرسمية المرتبطة بالالتزام بالمضي قدمًا في مسار تعزيز وعصرنة العمل العربي المشترك والرقي به إلى مستوى تطلعات الشعوب".
- الشراكة الاقتصادية والاجتماعية "تحديات الأمن الغذائي والمائي والطاقوي"
يعد ملف التوجهات الاقتصادية المستقبلية ضمن الشراكة العربية / العربية في المجال الاقتصادي والاجتماعي أحد أكثر الرهانات التي رفعت من سقف التوقعات والآمال المنعقدة على قمة الجزائر، فقد ساهمت الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة والمرتبطة أساسًا بسياقات الحرب الأوكرانية وما يرتبط بها من متغيرات على رأسها "أمن الطاقة" و"الأمن الغذائي" في فرض هذا الموضوع على أجندات أعمال القمة العربية الواحدة والثلاثين، ومعه عاد الحديث مجددًا عن ضرورة أن تُفضي مخرجات قمة الجزائر إلى استراتيجية واضحة المعالم تؤسس إلى فضاء اقتصادي يساهم في كسب رهان الأمن الغذائي والطاقوي، وهو مرتبط في أحد أهم أبعاده بنجاعة العمل العربي المشترك ومدى قدرته على تجاوز خلافاته وأزماته البينية، وفي حال ما إذا توفرت الإرادة العربية المشتركة لتحقيق هذا السيناريو فإن ذلك سيكون حتمًا خطوة متقدمة نحو إمكانية بناء فضاء اقتصادي عربي مشترك سيكون سبيلا لتجاوز كثير من المشاكل الاقتصادية التي تتخبط فيها معظم الاقتصاديات العربية والتي زادت من حدتها الظروف الدولية الراهنة.
وفي هذا الشأن أشار "إعلان الجزائر" في محوره الثالث المتعلق بتعزيز وعصرنة العمل العربي المشترك إلى ضرورة "الالتزام بمضاعفة الجهود لتجسيد مشروع التكامل الاقتصادي العربي وفق رؤية شاملة تكفل الاستغلال الأمثل لمقومات الاقتصادات العربية وللفرص الثمينة التي تتيحها، بهدف التفعيل الكامل لمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى تمهيدًا لإقامة الاتحاد الجمركي العربي"، وفي نفس السياق تم "التأكيد على أهمية تضافر الجهود من أجل تعزيز القدرات العربية الجماعية في مجال الاستجابة للتحديات المطروحة على الأمن الغذائي والصحي والطاقوي ومواجهة التغيرات المناخية مع التنويه بضرورة تطوير آليات التعاون لمأسسة العمل العربي في هذه المجالات".
ورغم صعوبة المراهنة والتكهن بمصير هذه القرارات المنادية باستحداث شراكة اقتصادية عربية / عربية لتكون دافعًا لمسيرة التنمية الاقتصادية في كثير من الأقطار العربية، وذلك بالنظر إلى أن الكثيرين يرون فيه بمثابة المشروع غير الواقعي قياسًا للوضع المتأزم الذي يعيشه النظام الإقليمي العربي، إلا أن طرح الموضوع للمناقشة في قمة الجزائر والخروج بالحد الأدنى من الإجماع والتوافق حول سبل بناء شراكة اقتصادية عربية يكون الكل فيها مستفيد، وسط ظروف دولية أصبحت بما تحمله من سلبيات وتحديات تعد دافعًا نحو التوجه لبناء مثل هذا المشروع، هي خطوات يمكن البناء عليها مستقبلاً للدفع بمسيرة هذا المشروع للأمام، لتبقى في الأخير الإرادة السياسية المرتبطة بالعمل العربي المشترك هي الأمر الفاصل في تحديد مستقبل هذا المشروع وما يحتويه من قضايا اقتصادية واجتماعية لا تقل أهمية عن القضايا السياسية والأمنية التي لا طالما اعتبرت أولوية للعمل العربي المشترك في كل القمم السابقة لقمة الجزائر، وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للجامعة العربية قد راهن على وضع العديد من القضايا على رأس جدول أعماله ومنها: الاستراتيجية العربية المشتركة للأمن الغذائي والمائي، دعم الدول العربية التي تمر بأزمات سياسية وأمنية واقتصادية، منطقة التجارة العربية الحرة، إقامة اتحاد جمركي عربي، الرؤية العربية للاقتصاد الرقمي والاقتصاد الموازي غير الرسمي، التعافي الاقتصادي من أزمة كورونا.
خاتمة:
رغم سمة "الاستثنائية" التي تميزت بها القمة العربية الواحدة والثلاثين بالجزائر في العديد من تفاصيلها مقارنة بسابقاتها من قمم، سواء فيما تعلق بما حمله جدول أعمالها من أجندات والتي كونت مزيجًا بين ملفات تقليدية لطالما اقترنت بمعظم القمم السابقة على غرار قضايا العمل العربي المشترك والقضية الفلسطينية والمصالحات العربية وتجاوز الخلافات البينية والتضامن العربي وغيرها، وهي قضايا جرى إعادة إحيائها من جديد في سلم أولويات قمة الجزائر، أو ما تعلق بالأبعاد الجديدة التي فرضتها التطورات الإقليمية والدولية المقترنة بملفات إقليمية عديدة على غرار ملف "سد النهضة" أو التدخلات الأجنبية في ليبيا وسوريا والعراق، فضلاً عن الأبعاد الدولية لمعركة الاصطفاف التي فرضها الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا وما يحمله من تداعيات خطيرة على عديد الدول العربية حول عديد الملفات كملف أمن الطاقة والأمن الغذائي بل وعلى توجهات السياسة الخارجية للدول العربية.
ورغم أن واقع النظام الإقليمي العربي بما يحتويه من خلافات وتصدعات لطالما كان وما زال عائقا أمام تطور العمل العربي المشترك وارتقاء التعاون العربي /العربي تحت غطاء الجامعة العربية ليكون عاملاً فاعلاً على المستويين الإقليمي والدولي، إلا أن الرهانات المعلقة على إمكانية مساعدة الظروف الإقليمية والدولية الحالية على الدفع نحو تطور الواقع العربي المتأزم يبقى أمرًا ممكنًا في حال ما توفرت الإرادة السياسية العربية المشتركة لتجاوز هذه الصعوبات، وذلك بالاستناد إلى استراتيجية هادفة نحو بناء خطط إصلاحية شاملة للعمل العربي المشترك قائمة على استحداث آليات جديدة داخل الجامعة العربية تتجاوز موضوع تدوير منصب الأمانة العامة.
وفضلاً عن بعض التطورات الشكلية التي شهدتها قمة الجزائر سواء ما تعلق بالمنهجية التي سارت عليها التحضيرات لهذه القمة والتي ارتبطت برغبة الجزائر أن تكون قمة للم الشمل، تتجاوز خلالها الدول العربية خلافاتها البينية في سبيل إعادة إحياء مشروع العمل العربي المشترك، أو ما تعلق بتجنب المسائل الخلافية التي لطالما عملت على تجميد التعاون العربي / العربي والتركيز على العوامل التي من شأنها تحفيز هذا التعاون، فإن ما يُحسب لقمة الجزائر أنها نجحت في تجميع العرب تحت سقف واحد حتى لو فشلت محاولات إرجاع سورية إلى حضن الجامعة العربية، كون هذا الرجوع دون تحقيق أدنى مستويات التوافق حوله كان سيمثل عاملاً مهددًا لما تهدف إليه القمة في حد ذاته، وما صاحب ذلك من ظروف متعلقة بمستوى الخلافات العربية البينية والظروف الدولية المتعلقة بتداعيات أزمة كورونا والحرب في أوكرانيا وهو ما يجعل من انعقاد القمة بعد ثلاث سنوات من الانقطاع في حد ذاته يعد إنجازًا وجب عدم التوقف عنده بل البناء عليه للارتقاء بالعمل العربي المشترك من جانبه الشكلي نحو جعل الجامعة العربية فاعلاً في النظام الدولي.
عمومًا لم يخرج البيان الختامي للقمة الواحدة والثلاثون للجامعة العربية بالجزائر عن مألوف البيانات السابقة وبنودها المكرّرة لعقود ماضية، والمرتبطة بمركزية القضية الفلسطينية وتفعيل العمل العربي المشترك وحماية الأمن القومي العربي الذي أصبح مستباحًا إقليميًا ودوليًا، وإن كان إعلان الجزائر قد حمل في طياته المستجد من القضايا والأزمات التي أثقلت كاهل العالم العربي، فإلى جانب تأكيد إعلان الجزائر على توجه فلسطين للحصول على العضوية الأممية الكاملة ومساندة تحركاتها القانونية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها وتحقيق المصالحة الفلسطينية ورفع الحصار عن قطاع غزة، تضمنت بنود الإعلان أيضًا ضرورة حل الأزمة الليبية وفق منظور ليبي/ ليبي وتنظيم انتخابات في أسرع وقت ممكن، وحل الأزمة السورية سياسيًا بما يحفظ وحدة الأراضي السورية، أما عن الأزمة اليمنية فقد أكّد إعلان الجزائر على ضرورة إبرام تسوية سياسية شاملة بعيدًا عن أي شكل من أشكال التدخل الخارجي وتجديد الهدنة الإنسانية فيه، واكّد الإعلان على دعم قطر في استضافة كأس العالم ورفض حملات التشويه التي تتعرض لها والتي تعبّر عن الازدواجية الغربية في التعامل مع مثل هكذا أحداث، وعلى المستوى الدولي أكّد إعلان الجزائر على الموقف العربي المحايد مما يجري في أوكرانيا كما تم تثمين قرار "أوبك +" القاضي بتقليص مستوى الإنتاج لضمان استقرار أسعار الطاقة، وهو ما يعني ضمنيًا مساندة المملكة العربية السعودية في وجه الادعاءات الأمريكية بأن هذا القرار يُعتبر مساندًا لروسيا كونها المستفيد من ارتفاع أسعار الطاقة، فقمة "لم الشمل" ارتبطت بعديد الرهانات كان من بينها مطالبة السلطة الفلسطينية على لسان رئيسها بتشكيل لجنتين وزاريتين عربيتين لفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ودعم الرواية الفلسطينية، وكذا مناشدة لبنان الدول العربية من أجل المساهمة في تجاوز أزماتها السياسية والاقتصادية المتكررة، وقد استجاب "إعلان الجزائر" لهذه التطلعات ولو بشكل متفاوت حسب طبيعة كل قضية ومستوى التوافق العربي البيني حولها، لتكون الجامعة العربية مرة أخرى أمام الرهان الأعظم ألا وهو تفعيل القرارات المتفق عليها ولو في أدنى مستوياته، ما يوفر حتمًا سبل تقدم العمل العربي المشترك خطوة للأمام، وفي انتظار القمة العربية المقبلة في المملكة العربية السعودية ستكون الفترة الفاصلة بين قمة الجزائر وقمة السعودية بمثابة اختبار لمدى جدية العرب في النهوض بالجامعة العربية والعمل العربي المشترك الذي ينطوي على رهانات جمة وتطلعات عديدة.