وصف تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس" في طبعته لسنة 2023م، البيئة العالمية وتحدياتها المستقبلية بعالم متعدد الأزمات polycrises ، وهو المصطلح الذي استخدمه المؤرخ آدم توز، الأستاذ بالجامعة الأمريكية بكولومبيا، ومن خصائص عالم متعدد الأزمات أن تكون فيه الصدمات متباينة إلا أنها تتفاعل فيما بينها بحيث يكون الكل أكثر غموضًا من مجموع الأجزاء. كما أن الأزمات تكون متتالية وتتبع بعضها البعض مما يجعلها تغذي ذاتها وتعزز الواحدة الأخرى، وهو ما يجعل قدرة الدول ضئيلة جدًا لإدارتها. وفي الوقت ذاته، فإن رؤية الخبراء فيما يخص التوقعات المستقبلية على المدى المتوسط (2023-2025م) والمدى البعيد (2023-2033م)، طغى عليها الطابع التشاؤمي، كانت نسبة 80 % من الخبراء المستجوبين من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي لديهم رؤية سلبية للمستقبل القريب، بحيث توقعوا أن تكون أزمات مستمرة تؤدي إلى نتائج كارثية، وأن الاقتصاد العالمي سيشهد تقلبات مستمرة مع صدمات متعددة تبرز مسارات متباينة. بينما تراجعت نسبة التوقعات السلبية والكارثية بالنسبة للخبراء المستجوبين في آفاق العشرة سنوات القادمة (2023-2033م) حيث تقاسم الرؤية السلبية للعالم متعدد الأزمات نسبة 54% مقارنة بــ 80 % في السنتين الأوليتين.
وفي ظل هذه المشاهد التشاؤمية لمستقبل البيئة العالمية كما رسمها تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، نحاول أن نحلل المخاطر التي تضمنها التقرير بكل أبعادها وتأثيراتها على القارة الإفريقية مع إظهار القدرات التي تمتلكها الدول الإفريقية في شمال وجنوب الصحراء لمواجهة وإدارة هذه المخاطر؟ وما هي الآليات القارية والجهوية والدولية التي يمكن أن تساهم في التقليل من هذه الصدمات الكارثية التي تواجهها إفريقيا في المديين المباشر والقريب؟
أولاً: عالم متعدد الأزمات... وهذه هي مخاطره في آفاق 2025-2033.
حدد أكثر من 1200 خبير من الأوساط الأكاديمية، ورجال الأعمال، والحكومات، والمجتمع المدني تطور مشاهد المخاطر العالمية التي سيواجهها العالم في آفاق 2025 وآفاق 2033م، ونشير من الوهلة الأولى أن هذه المخاطر المحددة ليست بالقدر المحتوم على المجتمعات بقدر ما هي احتمالات إذا حدثت فستؤثر سلبًا على المتغيرات الثقيلة التي تنعكس نتائجها على نسبة الناتج الإجمالي العالمي، أو عدد السكان، أو الموارد الطبيعية والمنجمية. وستبقى تأثيرات ما بعد كوفيد 19 وما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية تلقي بتأثيراتها العالمية وعلى كل المستويات، وتتلخص هذه المخاطر في التضخم وتكلفة المعيشة، الأزمات والحروب التجارية وتدفقات رأس المال الخارجي، الاضطرابات الاجتماعية الواسعة، المخاطر الجيوسياسية وشبح الحرب النووية.
تم تحديد هذه المخاطر وبناء مشاهدها انطلاقًا من رصد مسحي للأزمات الراهنة والموجودة فعليًا ودرجة تأثيراتها على مدى السنتين القادمتين (2023-2025م) أما مجموعة المخاطر التي يتوقع تأثيراتها على المدى الطويل (2023-2033م) فتم انتقاؤها من مجموعة من المخاطر التي هي من المرجح أن تكون أكثر شدة، والطارئة حديثًا والتي يحتمل أن تأخذ منحى متسارعًا في تأثيراتها في المجالات الاقتصادية، البيئية، المجتمعية والجيوسياسية والمخاطر التكنولوجية التي قد تؤدي إلى أزمات مستعصية. ما يلاحظ في تقرير دافوس أن تكلفة المعيشة ستهيمن على مخاطر العالم في السنتين القادمتين وصنفت على أنها الأكثر خطورة، بينما يهيمن فشل الأداء المناخي في العقد القادم على المخاطر الكبرى، حيث تم تصنيف ستة مخاطر من بين العشرة على أنها ذات طبيعة بيئية بسبب فقدان التنوع البيولوجي وانهيار النظام الإيكولوجي. أما المخاطر العشرة على المديين القريب والبعيد فتتراوح بين المواجهة الجيواقتصادية، هشاشة التماسك الاجتماعي، الاستقطاب المجتمعي، إلى جانب تهديدين سيكون تأثيرهما كبيرًا جدًا في العقد القادم، وهما، انتشار الجرائم الإلكترونية وانعدام الأمن السيبراني، من جهة، وانتشار الهجرة غير الشرعية على نطاق واسع من جهة أخرى.
ستشهد البيئة الأمنية الدولية في مفهومها الصلب العودة إلى فترة الحرب البادرة بكل أدواتها الفتاكة، بحيث تتفوق الجغرافيا السياسية على الاقتصاد، ومؤشراتها الكبرى العودة إلى سباق التسلح والارتفاع الجنوني للإنفاق العسكري باستخدام تقنيات جديدة تكون أكثر فتكًا، كما ستطغى الصراعات المتعددة المجالات والحروب اللامتكافئة على المشهد العالمي للمخاطر على المدى الطويل. فيما يخص المخاطر التكنولوجية فتكمن أساسًا في الفجوة الكبيرة التي تقسم الدول والمجتمعات بين تلك المتحكمة في الإنتاج والاستثمار في الحقول الحيوية مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الحكومية، والتكنولوجيا الحيوية، بفضل مراكز البحوث التكنولوجية المتطورة والقدرة على تحمل تكاليف تلك الاختراعات واستخداماتها في الأمن الصحي والأمن الغذائي والأمن البيئي. وفضلاً عن مخاطر التفاوت بين الدول والمجتمعات في التحكم في الثورة التكنولوجية والرقمية، فإن سرعة انتشارها بين الدول والمجتمعات تؤدي إلى مخاطر متعددة الأبعاد، منها الجرائم السيبرانية التي تهدف إلى تعطيل وتدمير البنية التحتية الرقمية التي تدير المنشآت الحيوية، الفلاحية، الصحية، المالية، النقل، الطاقة. ومن الناحية الاجتماعية، فإن من أبرز المخاطر التكنولوجية انتشار أدوات التضليل والمعلومات الخاطئة التي تؤثر على تماسك الأمن المجتمعي مع إضعاف السيادة الرقمية الفردية في حالة الاستخدام الغير شرعي للبيانات والمعلومات الشخصية.
إن توقعات تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس" لسنة 2023م، ينطلق من المؤشرات الكبرى التي عرفتها مرحلة ما بعد كوفيد 19 وتصاعد الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية، وتتمثل في الأزمات المتعددة والمترابطة، أزمة الإمدادات الغذائية العالمية، أزمة ارتفاع التضخم، أزمة إمدادات الطاقة، مما يؤدي إلى الشعور منذ السنة الأولى للتوقعات، سنة 2023م، بعبء تكلفة المعيشة التي تكون آثارها وخيمة على الدول والمجتمعات المنخفضة الدخل والتي لها مديونية خارجية تثقل كاهل تنفيذ السياسات العامة بسبب غياب التمويل الضروري والمناسب. وتداعيات الأزمات المتعددة والمترابطة تؤدي بدورها إلى تصاعد الاضطرابات الاجتماعية المرتبطة بعدم الاستقرار السياسي مما يؤدي إلى تحدي وجودي للأنظمة السياسية حول العالم قد تؤدي إلى بروز قادة أكثر تطرفًا وأقل وسطية لفقدانها أدوات التكيف مع حجم وثقل الأزمات المتعددة والمترابطة. لأنه وبكل بساطة، وحسب توقعات المنتدى الاقتصادي العالمي، فإنه في العشر سنوات القادمة سيكون لدى عدد أقل من الدول القدرة المالية للاستثمار في النمو المستقبلي، التقنيات الخضراء، التعليم، الرعاية وأنظمة الصحة مما يؤثر على تنمية الرأسمال البشري. يشير التقرير إلى نموذج من حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي العالمي في سنة 2022م، بسبب الزيادة في أسعار الوقود وحدها، أدت إلى موجة من الاحتجاجات العالمية مست 92 دولة، نتج عن بعضها ضحايا تكلفة المعيشة. وإلى جانب نقص التمويل والاستثمارات فإن التهديدات البيئية في المستقبل القريب والبعيد سينجم عنها نقص الغذاء، والماء، والمعادن مما تؤدي إلى تصاعد حروب المياه والمجاعات، والصدامات البشرية بسبب الهجرة البيئية. وتوقع تقرير دافوس أن يتسبب الجفاف ونقص المياه في انخفاض المحاصيل الزراعية ونفوق الماشية في جميع أنحاء شرق إفريقيا، شمال إفريقيا وجنوب إفريقيا مما يزيد من انعدام الأمن الغذائي.
وما يزيد من الأزمات المتعددة والمترابطة، تكلفة المعيشة، انعدام الأمن الغذائي، تزايد التهديدات البيئية على المدى القريب، فإن المخاطر التي ستزيد من عمق هذه الأزمات المتعددة عدم قدرة الدول على سداد الديون الخارجية في العقد القادم، يوجد حاليًا أكثر من 54 دولة بحاجة إلى تخفيف عبء الديون، والتي تمثل أقل من 3 بالمائة من الاقتصاد العالمي، وتمثل هذه الدول 18 % من سكان العالم ويوجد بها أكثر من 50 % من الأفراد الذين يعيشون في حالة الفقر المدقع. فالهاجس المستقبلي أن تنتقل العدوى بسبب هروب رأس المال مما يعمق من العجز عن سداد الديون.
شكلت الحرب الجيو-اقتصادية المرتبة الثالثة من حيث شدة المخاطر التي سيشهدها العالم في السنتين القادمتين، وأدواتها العقوبات والحروب التجارية، وتجميد الأصول والاستثمارات بين القوى المتنافسة اقتصاديًا لاسيما بين الولايات المتحدة الأمريكية، الصين وروسيا. وعليه، فإن الاتجاه العام للقوى المتنافسة سعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي بدعم من الدولة، والتوصل لوضع حد للتبعية المطلقة للقوى المتنافسة، مع اتخاذ إجراءات دفاعية لتعزيز الإنتاج المحلي والتقليل من التدخل الأجنبي في الصناعات الحيوية. ويشير التقرير هنا، على سبيل المثال، إلى المخاوف الأوروبية من القانون الأمريكي لخفض التضخم الذي يتضمن إعفاءات ضريبية وإعانات كبيرة للمنتجين المحليين في التقنيات الخضراء. وستستمر الحرب الاقتصادية والمعلوماتية بوصفها أكثر خطورة من الصراعات الساخنة على مدى العقد القادم، بحيث سيكون اللجوء لاستخدام أسلحة الدمار الشامل أقل من حيث الشدة المتوقعة مقارنة بالمواجهة الجيو-اقتصادية والتضليل والمعلومات المضللة، وهو ما نسميه في الأدبيات الاستراتيجية المعاصرة بحروب الجيل الرابع والخامس. وعلى عكس من ديناميات القوة السابقة التي تم تشكيلها بأسلحة الردع، فإن العقد القادم يمكن أن يتحول إلى حروب الدمار ذات الهجمات الدقيقة مع صراعات موسعة. بحيث ستغير التقنيات الجديدة من طبيعة تهديد الأمن القومي والدولي وستتوسع ساحات المعارك المستقبلية وأساليب المواجهة تتوسع أكثر، لتشمل الأرض، البحر، الجو، الفضاء السيبراني والفضاء الخارجي بفضل الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية والفرط الصوتي، وتصبح قدرة الخصوم المتحكمة في التكنولوجيا المتقدمة من تعطيل الأقمار الصناعية، والاتصالات وتحديد المواقع، ويمكن استخدام حرب المعلومات بشكل متزايد والأخطر ما في هذه الحروب هو التحكم أو اختراق أجهزة الدفاع النووي.إن هذه المخاطر التي تم تشخيصها من قبل الخبراء المستجوبين من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي على أنها ستكون مؤثرة في مسار المستقبل المنظور والبعيد، كانت محل انتقاد المنظمات غير الحكومية ذات الطابع الاجتماعي، لاسيما في تحليلها لطبيعة بنية النظام الاقتصادي والمالي العالمي، فعلى سبيل المثال، قدمت منظمة أوكسفام Oxfam، التي تضم 21 منظمة عبر العالم، مجموعة من الانتقادات لتقرير منتدى دافوس، حيث أصدرت تقريرها في اليوم ذاته الذي افتتح فيه المنتدى العالمي الاقتصادي لدافوس في 16 يناير 2023م، تركز فيه على حالة اللامساواة بين تزايد احتكار الثروة من جهة، وتزايد الفقر المدقع، من جهة أخرى، واعتبرته كتهديد وجودي للمجتمعات بما يقلص من القدرة على احتواء الفقر المتصاعد. وحسب تقرير أوكسفام فإنه لأول مرة منذ 25 سنة كان تصاعد في أقصى الثراء يقابله تزايد في أقصى الفقر، وذلك باعتمادها على تقديرات برنامج الأمم المتحدة للتنمية، حيث التحق في سنة 2020م، أكثر من 70 مليون شخص إضافي إلى أقصى الفقر، أي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، أي بزيادة 11 % من فئة المصنفين ضمن الفقر المدقع في العالم. والمقاربة الاجتماعية-الاقتصادية التي تقوم عليها منظمة أوكسفام أنها تربط المخاطر العالمية واستمراريتها بمتغير احتكار الثروة، ومؤشراتها في ذلك، أن 1 % الأكثر ثراء في العالم ضاعفت من ثروتها بــ 74 مرة في العشر سنوات الأخيرة، وبعملية حسابية بسيطة، فإنه في العشر سنوات الأخيرة، كل 100 دولار من الثروة المنتجة، فإن 54.4 دولار ذهبت لفائدة 1% من الأكثر ثراء، بينما لم يستفد 50 % الأقل ثروة إلا بــ 70 سنتيم. أما الحلول العملية التي تقترحها منظمة أوكسفام للقضاء على اللامساواة المهددة للوجود المجتمعي في العالم، تقوم أساسًا على فرض الضرائب على الأثرياء ومساهمتهم في تمويل برامج السياسات العامة في الدول الغربية ذاتها، وتقدم نموذجًا لذلك في حالة فرنسا مع أزمة التقاعد، حيث تقدر أن 2 % من ثروة الأثرياء في فرنسا يمكنها أن تمول نظام التقاعد بدون أن تؤخر من سن الإحالة على التقاعد. أما فيما يخص الأثرياء الجدد في عالم الثورة التكنولوجية الرقمية، فإنهم لا يساهمون إلا بالقدر اليسير جدا مقارنة بثرواتهم المكتنزة، على سبيل المثال فإن مساهمة أحد أكبر الأثرياء في العالم مثل إيلون مسك في دفع الضرائب، لا تمثل إلا نسبة 3 % من ثروته، مع العلم أن هذا الأخير، حسب بلومبرغ، أضحى في سنة 2021م، الأكثر ثراء في العالم بثروة تقدر بــ 188 مليار دولار، وفي أكتوبر 2022م، أصبح مالكا لتويتر بعدما دفع 44 مليار دولار. كما أن نظيره جاف بيزوز، الرئيس المدير العام لمؤسسة أمازون، لا يدفع أقل من 1 % من الضرائب. حيث صنف هذا الأخير كذلك في سنة 2021م، حسب مجلة فوربس، ضمن أصحاب الثروة الأولى في العالم بأصول تقدر بما يقارب 210 مليار دولار. وفي حالة فرض الضرائب على الثروة من أمثال إيلون مسك وجاف بيزوز، فإنه يمكن جمع 1700 مليار دولار سنويًا على المستوى العالمي بما يسمح للحكومات من تمويل سياستها الاجتماعية والتقليص من الفقر المدقع. ثانيًا: تأثير هذه المخاطر على دول قارة إفريقيا شمال وجنوب الصحراء إن التطرق إلى حالة اللامساواة في الثروة على المستوى العالمي يطرح مباشرة موقع القارة الإفريقية في إطار النظرة التشاؤمية لمستقبل البيئة العالمية، والمخاطر التي تهدد الوجود المجتمعي-البيئي الإفريقي، نتيجة العوامل الجيو-اقتصادية والجيوسياسية كما رصدها تقرير منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس. إذا أخذنا الخطر الأكبر الذي يهدد المجتمعات العالمية في المستقبل القريب (2023-2025م) والمتمثل في تكلفة المعيشة وتأثيراتها على المجتمعات الإفريقية، فإن الصدمات المباشرة اتضحت مؤشراتها السلبية مباشرة ما بعد كوفيد 19 وفي مرحلة الحرب الأوكرانية، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية في الكثير من الدول الإفريقية بسبب التضخم، ففي سنة 2022م،ارتفعت المواد الغذائية في إثيوبيا بنسبة 44 % ، وفي الصومال 15 بالمائة وفي كينيا 12 % مقارنة بالمتوسط العالمي للتضخم الذي وصل إلى 9 %، وهو ما جعل البنك العالمي يعلن في تقريره السنوي بأن هدف القضاء على الفقر المدقع في آفاق 2030م، لن يمكن تحقيقه في ظل استمرار الظروف الاقتصادية الحالية. وتطرح تكلفة المعيشة بالنسبة للكثير من الدول الإفريقية ضعف قدرتها على إيجاد التمويل الضروري لمعالجة هذه الصدمات الاجتماعية العنيفة، وحسب تقرير البنك الإفريقي للتنمية الخاص بتوقعات الآفاق الاقتصادية الإفريقية لسنة 2023م، فإن 23 دولة إفريقية تعرف ثقل المديونية أو هي قريبة من خطر العجز عن الدفع بما يجعلها بحاجة إلى الكثير من الوقت لاسترجاع ديونها. وعليه، فإن البنك الإفريقي للتنمية يوصي بخفض العجز في الموازنات الهيكلية وتراكم الدين العام، عن طريق التنسيق الفعال في تسيير الميزانيات وتحفيز التجارة الإفريقية البينية لمواجهة الصعوبة في إيجاد التمويل الخارجي، خصوصًا وأن الكثير من البلدان الإفريقية لاسيما المصدرة للمواد الأولية فقدت سنة 2022م، قيمة كبيرة من عملتها مقابل الدولار بسبب تشديد السياسة النقدية الأمريكية، حيث تراوحت معدلات الإهلاك النقدي ما بين 21% في مالاوي إلى 69 % في جنوب السودان.
ثالثًا: ما هي قدرة دول القارة على مواجهة المخاطر والتكيف معها؟
بعيدًا عن النظرة التشاؤمية لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي والمخاطر المتوقعة، فإن تقرير البنك العالمي حول آفاق الاقتصاد العالمي الذي صدر في يناير2023م، يقدم صورة تفاؤلية لاقتصاديات البلدان الإفريقية جنوب الصحراء الفرنكوفونية، حيث حققت دولها مؤشرات إيجابية فيما يخص النمو الاقتصادي للسنة التاسعة على التوالي، مع بقائها في المنطقة الأقل تأثرًا بصعود التضخم العالمي، والأقل مساسًا بتراكم الديون في إفريقيا، وهي المؤشرات ذاتها المتوقع استمرارها في المستقبل القريب. فهذه المجموعة الإفريقية المتشكلة من 22 دولة حققت نموًا شاملًا نسبته 4.4 %، كما تحكمت في التضخم الذي يعد الأكثر ضعفًا مقارنة بمستويات التضخم العالمي في حدود 7.2 % بينما وصل إلى 24 % في بلدان جنوب الصحراء الغير الفرنكوفونية. وحسب المعطيات المقدمة من قبل صندوق النقد الدولي فإن المنطقة الإفريقية ذاتها بقيت متحكمة في الديون العمومية التي استقرت عند أقل من 50 % من الناتج المحلي الخام بفارق 11 نقطة عن باقي دول إفريقيا جنوب الصحراء. ويتوقع أن تستمر الدول الإفريقية الأربعة الأولى، جنوب الصحراء الفرنكوفونية، في تحقيق النمو الاقتصادي وهي على التوالي، الجمهورية الديمقراطية للكونغو بنسبة 6.1 %، الكوت ديفوار 5.7 %، السنغال بنسبة 4.8 % والكاميرون بنسبة 3.8 %. ومقارنة بالدول الإفريقية الأربعة الأولى، جنوب الصحراء غير الفرنكوفونية، التي ستحقق نموًا اقتصاديًا متواضعًا وهي على التوالي كينيا بنسبة 5.5 %، إثيوبيا 3.5 %، نيجيريا بنسبة 3.1 % وجنوب إفريقيا بنسبة 1.9 %.
رابعًا: الخيارات الإفريقية للتكيف مع المخاطر العالمية
على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي لدافوس حاول، وامكيلي ميني، الأمين العام لمنطقة التبادل القاري الإفريقي، أن يقنع مدراء الشركات المتعددة الجنسيات بأهمية السوق الإفريقية لجلب الاستثمارات في القطاعات المتعددة، مثل قطاع السيارات، المواد الأولية، الصناعات الغذائية، مع تقديم كل التحفيزات الممكنة لانتقال الرأسمال المالي إلى إفريقيا لضمان سلاسل التموين البديلة. ومقارنة بالحسابات الصينية، فإن الشركات الغربية في معظمها حبيسة النظرة التي ترى في السوق الإفريقية فرصًا للاستثمارات في آفاق 20 إلى 30 سنة القادمة وليس في المدى المتوسط الممتد إلى العشر سنوات القادمة، كما هو الحال في الأسواق الآسيوية أو الشرق أوسطية، بالرغم من أن السوق الإفريقية تمتلك الكثير من المحفزات كما قال وامكيلي ميني:" إذا كنت مدير شركة ولديك رؤية استشرافية، فإنك ستعلم بأن إفريقيا ستكون الخزان لليد العاملة، عامل واحد إفريقي مقابل أربعة في العالم، وتمتلك إفريقيا 60 % من الأراضي الصالحة للزراعة و35 % من الاحتياطي العالمي للمعادن، وعليه فإن الاستثمار في السوق الإفريقية يبدأ من الآن". وبلغة الإغراء التنافسي لمكانة الصين في إفريقيا واللوم على الغرب الذي يتغذى بالتخويف من الهيمنة الصينية على الأسواق الإفريقية، يرد وامكيلي ميني، على ادعاءات الشركات المتعددة الجنسيات الغربية:" إذا كانت الصين قد انطلقت في الاستثمار في إفريقيا قبل 20 إلى 30 سنة فما عليكم إلا اللحاق بها، لأنكم ستهمشون من السوق الإفريقية مستقبلا". إلى جانب البحث عن الاستثمارات الخارجية في السوق الإفريقية، فإن الرهان الكبير مستقبلًا في إفريقيا يبقى مركزًا على الاستثمار في الانتقال الطاقوي، بالنظر لحجم الاحتياطي الضخم من الموارد الطاقوية المتجددة التي تمتلكها القارة، وللآسف، فإنه لا يستفيد إلا 40 % من الكهرباء في إفريقيا، وعليه، فإن الوكالة الدولية للطاقة تؤكد على ضرورة الرفع من إنتاج الطاقة على الأقل بــ 30 % إلى غاية 2030م. ويمكن لإفريقيا أن تستفيد من الانتقال الطاقوي الذي يشهده الاقتصاد العالمي بفضل تنوع المعادن مثل الليثيوم، الكوبالت، المنغنيز، التي تستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، إلى جانب توربينات الرياح والألواح الكهروضوئية، ويكفي أن نعرف أن جمهورية الكونغو الديمقراطية لوحدها تنتج 70 % من إمدادات الكوبالت في العالم التي يجعل منها ومن منطقة إفريقيا مركزًا عالميًا في سلسلة توريد البطاريات العالمية للسيارات الكهربائية.