array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 186

التحول الديمقراطي لا يتحقق بانتخابات ودستور ما لم ترافقه إصلاحات شاملة

الإثنين، 29 أيار 2023

تعيش تونس منذ سنة ٢٠١١م، تاريخ اندلاع ثورتها على وقع أزمة سياسية مستفحلة رمت بظلالها على المناخ الاجتماعي والاقتصادي والتنموي وولدت أزمات حقيقية وأخرى مفتعلة في عديد المؤسسات والإدارات، وانتهت بالتردي في وضع سياسي لم تشهد له البلاد مثيلاً منذ استقلالها جعلت الطبقة السياسية والمجتمع المدني والمنظمات والهيئات في حيرة من الأمر، ويتساءل الجميع هنا وهناك في منابر مختلفة حول إمكانيات الخروج من هذا الوضع بأخف الأضرار قبل فوات الأوان؛ ويتفق جميع الخبراء تقريبًا على تشخيص الأزمة المركبة على أنها أزمة سياسية بالأساس، لكن يختلف الكثيرون حول الحلول المقترحة ويمثل ذلك بحد ذاته معضلة يمكن أن تعصف بالسلم الأهلي .

لقد فشل الانتقال الديمقراطي بعجز النخب السياسية عن إدارة المرحلة باقتدار فنشأت أزمة معقدة ومركبة بمرور الزمن حلت مع أول حكومة بعد الثورة التونسية التائهة. ثم جاءت انتخابات ٢٠١٩م، لتنهي آخرإجماع بين التقدميين والإسلاميين في البلاد، وفشل خيار الحوار الوطني الذي تم في ٢٠١٤م، والذي توج بجائزة نوبل للسلام من قبل المجتمع الدولي، في إرساء الاستقرار السياسي وترجمة خيارات اجتماعية واقتصادية كحلول لتحسين مستوى عيش المواطنين الذي ظل يتدهور باستمرار. شهدت البلاد في اثني عشر سنة منذ الثورة تداول أربعة رؤساء دولة وثلاث عشر حكومة على السلطة وانهيار المقدرة الشرائية للمواطن كما شهد الدينار التونسي هبوطًا إلى أدنى مستوياته في الثلاث سنوات الأخيرة مقابل الدولار الأمريكي، وتوقفت عجلة الإنتاج في جو من الإضرابات العشوائية عن العمل في كل القطاعات وانتشار الفوضى والفساد والمحسوبية في هياكل الدولة.

في ٢٥ يوليو٢٠٢١م، وسط أزمة سياسية واقتصادية وصحية غير مسبوقة، قام الرئيس الحالي قيس سعيد بخطوة شجاعة هلل لها الكثيرون منذ ساعاتها الأولى، إذ أوقف العمل بالدستور وجمد البرلمان وحل الحكومة بإعلان حالة الاستثناء بسبب "خطر داهم" بالاعتماد على الفصل ٨٠ من الدستور. ونشر المرسوم رقم١١٧-في ٢٢ سبتمبر٢٠٢١م، المتعلق بالإجراءات الاستثنائية وحدد مواعيد استشارة وطنية عبر الإنترنت لاقتراح رؤى ومقاربات لإدارة الشأن العام، واستفتاء دستوري لاتخاذ قرار بشأن دستور جديد، وانتخابات تشريعية في ١٧ ديسمبر٢٠٢٢م، تم اصدار دستور جديد في ٢٥يوليو٢٠٢٢م، وتنظيم انتخابات برلمانية في نفس السنة، وانعقد البرلمان الجديد وشرع في العمل في ١٣ مارس ٢٠٢٣م، بعد إغلاقه لمدة عشرين شهرًا، كل ذلك مع تزايد جماعات الرفض لتلك الخطوة الإصلاحية التي يعتبرها البعض انقلابًا على الشرعية.سنحاول في هذه الورقة رصد الوضع السياسي في تونس وتفاعلاته وتقلباته منذ اندلاع الثورة التونسية في ٢٠١١م، وتحليل أسباب الأزمة السياسية المركبة التي أنتجت أزمة اقتصادية واجتماعية معقدة ولا سيما أوجه القصور في الانتقال الديمقراطي بعد الثورة وإغفال مشروع الإصلاح الاقتصادي، ثم كيف يمكن احتواء الخلافات وإبعاد شبح الانقسامات داخل أجهزة الحكم؟ لتتواصل مسيرة الإصلاح لتحقيق أهداف الثورة التي ضحى من أجلها التونسيون.

١-جذور أزمة الفاعلية السياسية

تعود جذور الأزمة المستفحلة التي شهدتها البلاد التونسية منذ الانتخابات الرئاسية والتشريعية في خريف ٢٠١٩م، من جهة إلى حدود النظام الديمقراطي الذي نشأ في أعقاب ثورة ٢٠١١م، ومن ناحية أخرى إلى فشل القيادة السياسية في ترجمة الديمقراطية إلى تقدم ورفاه اجتماعي ومعالجة المشاكل الاقتصادية المتراكمة،

  وتعود أسباب الأزمة أساسًا إلى عيوب هيكلية، إذ فشلت الجمهورية الثانية في تحقيق الإصلاحات اللازمة لتغيير عيش التونسيين إلى الأحسن، استجابةً لمطالب الثورة التي أدت إلى سقوط نظام بن علي.

اتسمت الفترة الانتقالية التي بدأت في أعقاب سقوط النظام السابق بمحاولات إصلاح النظام السياسي، ومحاولة ترجمة المطالب الشعبية التي تمت صياغتها خلال الثورة، فتم إجراء أول انتخابات تشريعية حرة في تاريخ تونس المعاصرة في ٢٣ أكتوبر ٢٠١١م، وقد أدى ذلك إلى انتصار حزب النهضة الإسلامي، الذي فاز بـ٨٩ مقعدًا من أصل ٢١٧ في المجلس الوطني التأسيسي، وحل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، في المرتبة الثانية بـ ٢٩ مقعدًا ، وحصل حزب التكتل على ٢٠ مقعدًا، إلا أن النمط الانتخابي المعتمد، والذي حال دون الحصول على الأغلبية المطلقة لأي حزب بهدف تعزيز التعددية السياسية في البرلمان، لم يسمح لحزب حركة النهضة بالحصول على عدد ١٠٩ مقاعد الذي يمكن من تشكيل حكومة والحكم بأريحية كاملة، تبعًا لذلك تم التوصل إلى اتفاق حكومي يعرف باسم "الترويكا" بين محافظي النهضة وعلماني المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل.أسندت بموجب هذا العقد السياسي، الرئاسة إلى المؤتمر من أجل الجمهورية، والحكومة إلى حركة النهضة، والبرلمان إلى حزب التكتل. فنشأ حكم بثلاثة رؤوس وتوزيع خير متكافئ للسلطات.

ويهدف هذا العقد المبرم بين الأطراف الثلاثة إلى إعادة تشكيل النظام السياسي في فترة ما بعد الثورة، بما يتجاوز التصادم بين الإسلاميين والعلمانيين، لكنه منع من بلورة سياسة واضحة للبلاد وشتت السلطة. تبعا لهذا الوضع نشطت الاستقطابات، وبرزت الخلافات حول السياسة التي يجب اتباعها فيما يتعلق بالسلفيين الراديكاليين، وحول محاربة التفاوتات الاجتماعية والعدالة الانتقالية، على الرغم من أن النهضة كان لديها أغلبية صلبة وقاعدة مؤثرة في المجتمع. في المقابل، تم التعبير عن المعارضة السياسية لحكومة الترويكا من خلال الجبهة الشعبية، المكونة من أقصى اليسار والقوميين.

في حزيران / يونيو ٢٠١٢م، أنشأ الباجي قائد السبسي، الذي شغل عدة مرات منصب الوزير في عهد الحبيب بورقيبة، ورئيس الوزراء خلال المرحلة الانتقالية الأولى (آذار/ مارس -كانون الأول / ديسمبر ٢٠١١م)، تشكيل لبرالي وسطي تمثل في حزب نداء تونس من أجل الحد من هيمنة النهضة أيديولوجيًا والمضي نحو توجه إصلاحي.

تم تفويض المجلس الوطني التأسيسي الذي انعقد في الفترة من أكتوبر ٢٠١١م، إلى يناير ٢٠١٤م ،بإعداد دستور جديد للبلاد، وهو الثاني بعد دستور ١٩٥٩م، الذي تم تبنيه بعد ثلاث سنوات من استقلال البلاد في عام ١٩٥٦م، كانت تلك تجربة، للاجتماعات والمداولات الجماعية، تخللتها النقاشات الحادة حول اعتماد الدستور الجديد بين المحافظين، أنصار النظام البرلماني المستوحى من النموذج التركي، والعلمانيين، الذين دعوا إلى نظام رئاسي يكون فيه رئيس الدولة خاضعًا لسيطرة البرلمان ومع ذلك، فإن التمديد المتكرر لولاية المجلس والذي كان من المفترض أن يكمل صياغة الدستور الجديد عام ٢٠١٢م، تفاقم باغتيال الزعيمين اليساريين شكري بلعيد، في فبراير ٢٠١٣م، و محمد البراهمي، في يوليو من نفس العام، فضلا عن انتشار التهديدات الإرهابية ، وتأثيرها البالغ على الاقتصاد ومناخ الاستثمار واحتداد الأزمة السياسية. تبنى المجلس الوطني التأسيسي ليلة ٢٦ يناير ٢٠١٤م، بأغلبية ٢٠٠ صوتًا مقابل ١٢، بعد مناقشات ساخنة واضطرابات في مستوى الشارع، دستورًا جديدًا يتوافق مع المعايير الديمقراطية الدولية. وهكذا تم وضع نهاية للنظام القديم، وتحديد مبادئ الجمهورية التونسية الثانية.

 جاء دستور ٢٠١٤م، إذًا نتيجة لاتفاق بين الكتلتين، المحافظة والعلمانية، اللتين هيمنتا على المجلس الوطني التأسيسي، من خلال اعتماد النظام البرلماني الأحادي كنموذج مهيمن للنظام السياسي التونسي الجديد. في ظل هذا الهيكل الدستوري الجديد، تم توزيع السلطة بين ثلاثة كيانات متميزة: مجلس نواب الشعب، رئاسة الجمهورية، والحكومة، يُنتخب الرئيس بالاقتراع العام المباشر ، لكن اقتصرت مهامه على مجالات الدفاع والأمن والشؤون الخارجية ؛بينما تتمتع الحكومة بمعظم السلطة، واكد الدستور على الحريات الفردية والحقوق الأساسية بتوليف تام مع المصطلحات القانونية لحقوق الإنسان، على النحو المحدد في النصوص الدولية، أخيرًا ، ولتجنب أي انجراف نحو الحكم المطلق، نص الدستور على إنشاء ست مؤسسات للضبط والتوازنات: المحكمة الدستورية، وهيئة الاتصال السمعي البصري، الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وهيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة، هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وباعتماد دستور ٢٠١٤م، انتهت الفترة الانتقالية وانطلقت التجربة الديمقراطية التونسية.

 ٢ لعبة الديمقراطية

ظلت تجربة التعددية السياسية، التي أدت إلى اعتماد دستور ٢٠١٤م، مستمرة خلال الانتخابات المزدوجة (برلمانية ورئاسية) في نوفمبر / ديسمبر من نفس العام، عندما ظهرت القوتان السياسيتان الرئيسيتان اللتان انبثقتا عن الانتخابات، حزب نداء تونس-(الليبراليون) ٨٦ مقعدًا، وحركة النهضة (الإسلاميون) بـ ٦٩ مقعدًا، وتم ما سمي باتفاق باريس بين رئيسي الحزبين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي بهدف استقرار الحياة السياسية، مع العمل على استكمال الانتقال الديمقراطي. بلغ مجموع المقاعد للحزبين أكثر من ٧٠٪، وكان لزوجي نداء تونس / النهضة أغلبية ثابتة، بهدف وضع الضوابط والتوازنات المؤسسية المنصوص عليها في دستور ٢٠١٤م، مع تطوير نموذج جديد للتنمية،

كان التحول الديمقراطي سيشهد حركية كبيرة من جميع النواحي في هذا الوقت، فمن أجل تعزيز الديمقراطية المحلية، تم تبني نموذجًا ليبراليًا لامركزيًا يمر بأربع مراحل أساسية: أولاً، اعتماد الدستور الجديد في ٢٠١٤م، الذي خصص ١٣ مادة تتعلق بترسيخ اللامركزية؛ ثم تم في عام٢٠١٦م، تمديد البلديات إلى جميع أنحاء البلاد؛ ووضع قانون السلطات المحلية في عام ٢٠١٧ م، وأخيراً اعتماد قانون اللامركزية في عام ٢٠١٧م، تلاه إجراء أول انتخابات محلية في تاريخ البلاد. من ناحية أخرى، وباستثناء إنشاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فإن الهيئات الدستورية ذات الصلاحيات المؤسساتية المضادة التي يُفترض أن تكبح أي انحراف استبدادي، بالكاد رأى بعضها النور وتعطل انشاء المحكمة الدستورية الى اليوم، في حين أن التحول الاقتصادي ظل مغفلا منسيا وظل يتأزم مع مرور السنين.

لذلك، فشل اتفاق نداء تونس / النهضة في تغيير واقع البلاد. وفقًا للممارسات الجيدة للديمقراطية الليبرالية، ومع ذلك، تبين أن نهج التوافق الذي شكل المشهد السياسي التونسي طوال الفترة من ٢٠١٤ إلى ٢٠١٩م، لم يقدم أي إصلاحات حاسمة قادرة على معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. بل على العكس، اتسمت تلك المرحلة باستمرار التوترات والمناورات حيث سعى كل طرف إلى خدمة مصالحه وتعظيم فوائده، بدلاً من العمل على مشروع لتغيير واقع البلاد، أكد تقرير لمجموعة الأزمات الدولية يعود تاريخه إلى آذار / مارس ٢٠٢٠ م، أنه: "في حين أن التحالف الذي تم تشكيله في عام ٢٠١٤م، قد قلل من الاستقطاب بين الإسلاميين والمناهضين لهم، فقد فشل من ناحية أخرى في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والجوانب المؤسسية لعملية الانتقال الديمقراطي ". وانتشر انطباع عام بأن فشل الإجماع في حل المشاكل البنيوية للبلاد قد تسبب في تشويه سمعة الطبقة السياسية في فترة ما بعد الثورة، في حين أن انهيار النظام الحزبي الموروث من النظام القديم لم يؤد إلى ظهور مجموعات تمثل مصالح غالبية السكان. أدى ضعف تمثيل الأحزاب، الذي يضخمه تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، الى المساهمة تدريجياً في خلق الظروف الملائمة لأزمة سياسية اندلعت خلال الانتخابات المحلية لعام ٢٠١٨م، ثم بلغت ذروتها خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية المزدوجة خريف 2019م.

٣-فشل إدارة الأزمة

 تحولت الازمة السياسية التونسية إلى اقتصادية واجتماعية وقيادية وولدت أزمة ثقة في الأحزاب وفي الإدارة وفي مؤسسات الدولة. على المستوى السياسي، تأكد فشل المؤسسة السياسية ما بعد الثورة في معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والتي تفاقمت بسبب الطابع المصلحي -التجاري للإجماع السياسي، الذي أدى إلى تآكل الطبقة السياسية التقليدية في أعقاب انتخابات ٢٠١٩م، وإعادة تشكيل الطيف السياسي التونسي على نطاق غير مسبوق، كما يتضح من انهيار التشكيلات السياسية الرئيسية التي رافقت إقامة النظام الديمقراطي في البلاد. من ناحية أخرى، شهدت حركة النهضة، التي فقدت الكثير من هالتها السياسية، تبخر مخزونها الانتخابي تدريجياً، حيث انتقلت من ٨٦ مقعداً في ٢٠١١م، إلى ٥٢ في ٢٠١٩م، من ناحية أخرى، تفكك حزب نداء تونس الحزب الرائد في البلاد واختفى من المشهد السياسي، إذ لم يحصل إلا على مقعدين فقط، بينما ورثه الحزبان الرئيسيان المنبثقتان عنه، قلب تونس لنبيل القروي (٣٨ مقعدًا)، وتحيا تونس لرئيس الحكومة السابق، يوسف الشاهد (١١ مقعدًا). دفع هذا المشهد حزب نبيل القروي إلى تشكيل تحالف انتهازي مع حركة النهضة، وقاد التشكيلان حملة انتخابية ضارية. في المقابل، سمح الاقتراع المزدوج لعام ٢٠١٩م، بظهور ثلاث قوى سياسية جديدة؛ أولاً انتخب قيس سعيد(مستقل) رئيسًا جديدًا للجمهورية بنسبة ٧٢٪ من الأصوات، على أساس برنامج سياسي يتأرجح بين المحافظة المجتمعية وثورة مؤسسية للسلطة، بمعنى لامركزية السلطة عبر مجالس محلية، ثم الحزب الدستوري الحر، وريث لنظام بن علي القديم والموجود في أقصى يمين الطيف السياسي، الذي يرفض تمامًا النظام الديمقراطي الناتج عن ثورة ٢٠١١م، وأخيراً ائتلاف الكرامة المحافظ القريب من عقيدة النهضة الإيديولوجية.

أدت إعادة التشكيل السياسي إلى ظهور برلمان مجزأ إيديولوجيًا وغير قابل للحكم سياسيا، طغت عليه الفوضى وتعطيل القوانين والاضطرابات والعنف اللفظي والمادي بين النواب وأصبح مثيرًا لسخرية وتهكم المواطنين وغضبهم خاصة وأن مشاهد الفوضى والعنف كانت تنقل مباشرة عبر قناة تلفزيونية وطنية. أدى عدم الاستقرار السياسي وفوضى البرلمان إلى انتاج مشهدً مزر لا يليق بالديمقراطية التي أرادها التونسيون وضحوا من أجلها، مع تفاقم أزمة القيادة السياسية التي تحولت تدريجياً إلى صراع حقيقي على السلطة يستهدف رأس الدولة.

 أنهى الرئيس قيس سعيد المهزلة في ٢٥ يوليو ٢٠٢١م، بإعلان إجراءات استثنائية تم بموجبها المسك بكل السلطات وإقالة رئيس الحكومة وتجميد أعمال البرلمان ثم حله في خطوات انتقدتها المعارضة التي اعتبرتها "انقلابا" وأبدت مخاوفها على مستقبل مكتسبات الثورة فيما اعتبرها الرئيس ضرورة لبناء"الجمهورية الجديدة" فعين حكومة جديدة وشرع في إصلاح القضاء وتفعيل المحاسبة بتحريك عدة ملفات متروكة أو مسكوت عنها.

على المستوى الاقتصادي والاجتماعي تبين إن فشل مشروع التحول الاقتصادي هو نتيجة لفشل الطبقة السياسية ما بعد الثورة في معالجة أوجه القصور الاقتصادية الهيكلية التي تميز نموذج التنمية التونسي. لقد ركزت الشعارات والمطالب الرئيسية التي برزت أثناء الثورة على الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية وكان الشعار الأساسي المرفوع حينها يتمثل في "شغل، حرية، كرامة وطنية".7 وكان ذلك يفترض الانصراف للعمل وتحريك عجلة الإنتاج وتطوير استراتيجية اقتصادية فعالة، قادرة على معالجة نقاط الضعف الهيكلية لنموذج التنمية الذي نفد زخمه، والمتمثلة أساسًا في استفحال البطالة وزيادة التفاوتات بين الجهات، واستمرار الاقتصاد الريعي. وتفشي ظاهرة التجارة الموازية والفساد والتهرب الضريبي ومع ذلك، اتضح أن السلطات السياسية في فترة ما بعد الثورة فضلت بشكل خاص التركيز على التحول الديمقراطي على حساب التحول الاقتصادي، الأمر الذي ترك القضية الاجتماعية معلقة، مما أدى إلى زيادة عدم ثقة المواطنين في مؤسسات التمثيل الديمقراطي للجمهورية الثانية، ودفع بالرئيس إلى الإقدام على اتخاذ خطوته التصحيحية للمسار السياسي.

٤-كيف يمكن تجاوز الخلافات؟

مكّنت الخطوة الرئاسية في ٢٥ تموز / يوليو ٢٠٢١م، التي تحوّلت تونس بمقتضاها من ديمقراطية في أزمة إلى نظام استثنائي، رئيس الجمهورية من بدئ تعهده بإعادة بناء الجمهورية الثالثة والانفصال عن الجمهورية الثانية. اذ تميزت هذه الفترة بظاهرة تقنين السياسة والاقتصاد والانطلاق في اصلاح مؤسسة القضاء والشروع في محاسبة من أجرم في حق الشعب، لكنها فتحت الباب على احتدام الخلافات والمناكفات بشكل غير مسبوق،

وتبين أن المواطنين التونسيين يعطون الأولوية لفعالية الحوكمة على الشكل الذي يمكن أن يتخذه نظام الحكم. كما يظهر أيضًا تفضيلًهم الواضحً لـ "زعيم قوي" اليوم الدولة تتعافى و

 لمواصلة المسيرة وضمان حد أدنى من أسباب النجاح لا بد من درئ الخلافات والتجاذبات وذلك باستعادة سياسة الحوار البناء وقبول الرأي المخالف وإرساء توازن جديد للسلطات، ذلك لأن العملية السياسية التي بدأها الرئيس رغم أهميتها شكلت انفصالاً عن ثقافة الحوار التي ترسخت بقوة بعد الثورة وفرضت عدم توازن السلطات لصالح رئيس الجمهورية وأضعفت استقلالية القضاء وسلطة الرقابة على الهيئة التشريعية. فضلاً عن الشمولية والافتقار للشفافية في حالة الاستثناء، تعرض أسلوب الحكم لانتقادات شديدة من قبل معظم الأحزاب السياسية وعدد كبير من منظمات المجتمع المدني وجزء من الشعب التونسي. وبعض الدول والمنظمات الدولية، وتشكلت جبهة ضمت جل الغاضبين والمعارضين لهذا التمشي من الأطياف السياسية المتناقضة سميت "جبهة الخلاص الوطني" التي اتهم بعض منسوبيها بالتخابر مع جهات أجنبية وتلقي تمويلات والتخطيط للانقلاب على السلطة القائمة. بينما يرى طيف كبير من الشعب التونسي أن الأزمة السياسية انتهت والتمشي الذي فرضه رئيس الدولة هو الحل لبناء تونس جديدة والقطع مع الفوضى والتسيب وإنهاك الشعب والدولة.

لذلك يجب العمل على إصلاح إدارة الحكم من أجل التوافق وإعادة تعبئة الرأي العام وترسيخ مبدأ المشاركة المواطنية والحفاظ على الوحدة الوطنية. كما يجب مواءمة الترسانة القانونية التونسية لتتخلص البلاد من قوانين تجاوزها الزمن وكبلت الإدارة والاقتصاد وعطلت التنمية، مع مواصلة إصلاح القضاء وإرساء الحوكمة ومواصلة مكافحة الفساد والمحاسبة وإرساء المحكمة الدستورية، ذلك مع ضرورة إصلاح اللامركزية لأن هذا النظام بطابعه الليبرالي المبتكر قد يهدد الوحدة الوطنية إذا ما تم بشكل متسرع وغير مدروس بدقة. مع ضرورة تسريع التحول الاقتصادي، الذي يقتضي تغيير النموذج الاقتصادي للبلاد بهدف معالجة أوجه القصور الهيكلية لنموذج التنمية السابق، والقضاء على الفوارق بين الساحل والداخل التونسي، ومعالجة معضلة البطالة المستفحلة وكذلك فصل التربح عن السياسة، والتي يمكن أن تأخذ شكل قانون مصالحة اقتصادية ومالية.

 ختامًا، تواجه تونس اليوم العديد من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولكن هناك بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها للخروج من الأزمة أهمها:

  • تشكيل حكومة جديدة بقيادة شخصيات مستقلة وقادرة على إدارة الأوضاع السياسية والاقتصادية.

-اتخاذ إجراءات اقتصادية لتحسين وضع اقتصاد البلاد بتوفير فرص أفضل للعمل والحد من البطالة.

  • تحسين البيئة الاستثمارية وتشجيع الشركات المحلية والأجنبية على الاستثمار في تونس
  • توفير الحرية والعدالة الاجتماعية للجميع مع تحسين الخدمات الصحية والتعليمية
  • تفعيل دور الأحزاب والمجتمع المدني في الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي في تونس والمساهمة في تحسين الأوضاع الحالية.
  • تحسين العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية والإفريقية والأوروبية والآسيوية والاستفادة من تعاونها في دعم عملية التنمية في تونس، لكن لنجاح هذه الخطوات وتحويل تونس إلى دولة مستقرة ومزدهرة، يتطلب ذلك نظام فاعل وقوي وتفاهم وتعاون وتضامن الجميع، رئاسة الجمهورية والحكومة والنقابات والمجتمع المدني والقطاع الخاص.

  لقد تأكد اليوم ان التحول الديمقراطي لا يمكن أن يتحقق بمجرد تنظيم انتخابات حرة وشفافة يصوت من خلالها الشعب على دستور جديد وحكام جدد؛ إذا لم ترافقه إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة تحسن من مستوى عيش المواطن مع ترسيخ مفاهيم المواطنة والتعددية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية، فبذرة الديمقراطية تسقى بالتعقل وتتغذى بمؤسسات دستورية شرعية فاعلة وتترعرع برفاه وتقدم المجتمع

مقالات لنفس الكاتب