array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 186

8 مقترحات لخارطة طريق اقتصادية والتأخير يتسبب في ظهور المنتفعين وتجار السياسة

الإثنين، 29 أيار 2023

لم تكن ليبيا استثناءً عن أحداث التغيير الثوري التي شهدتها المنطقة العربية، فقد كانت على موعد احتجاجات شعبية حينما بدأت في السابع عشر من شباط/ فبراير 2011م، للمطالبة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. والانعتاق من ربقة نظام جثم على أنفاس حرية الناس أكثر من أربعة عقود متتالية بكل رزاياها ومنغصاتها، ولدّت احتقاناً شعبوياً ناقماً من سياسة وممارسات نظام القذافي المتهكم والمنتهك لإرادة الناس وحرياتهم، ناهيك عن عبث عائلة القذافي بالجزء الأكبر من ثروة البلاد من دون حسيب من مؤسسة تذكر، أو أدنى عقوبة تنزل بالمقربين.

 

     وبدلاً من أن يتفهم ويستجيب نظام القذافي لمطالب المتظاهرين واجه تلك الاحتجاجات السلمية بالعنف والاستخدام المفرط للقوة، سرعان ما أدت إلى صراعات مسلحة بين النظام والمعارضة، من ثم أسهمت الصراعات التي طال أمدها في تردي الأوضاع الأمنية وأخذت تزداد سوءاً بسبب بروز جماعات وتنظيمات مسلحة أرادت أن تفرض هيمنتها وسيطرتها على الأوضاع مستغلة حالة وهن الدولة أو غيابها عن المشهد. كل ذلك نتج عنه عواقب وخيمة مسّت هيكل الاقتصاد الليبي وبنيته الأساسية.

 

    وتأتي الأزمات السابقة في سياق أزمة بنيوية تتعلق بالفاعلين السياسيين في ليبيا، تمثلت في غياب أو ضعف القدرة على بناء التوافق الوطني في شأن أولويات المرحلة الانتقالية وأساليب إدارتها، وهو ما يرتبط بالأزمة الأعمق التي تعانيها النخب السياسية بمختلف أطيافها وانتماءاتها.

 

    كما لا يمكن إغفال أثر العامل الاقتصادي في معادلة الصراع، فالنفط وعائداته تظل مادة مهمة في حدّة التجاذبات بين الأطراف المتصارعة، خاصة في الشرق الليبي، حيث تتركز غالبية الموارد النفطية في البلاد، التي تمثل الورقة الرئيسية كرهان يتسابق عليها أطراف الصراع، لأنه في حال السيطرة الكاملة لأحد طرفي الصراع عليها، قد يجر البلاد نحو الانقسام الفعلي، أو قد يمثل ورقة ضغط للدخول في تسوية سياسية. وعلاوة على الأسباب الاقتصادية فإن الأزمة الليبية تعود في جزء كبير منها إلى عوامل سياسية واعتبارات خارجية.

 

تقدم لنا الحالة الليبية نموذجاً متميزاً لأزمة تسندها عدة اعتبارات لا سيّما الاقتصادية منها، وتساهم في إطالة عمرها. لا شك أن هذه الخلفية لما آلت إليه الأوضاع السياسية والأمنية في ليبيا، يمثل الأرضية التي تنطلق منها هذه الورقة لدراسة الاقتصاد الليبي من حيث إمكاناته ومقوماته وأوضاعه ومستقبله بما يطرحه من تساؤلات عدة، حول واقع الاقتصاد الليبي بعد التحولات السياسية التي شهدتها البلاد عام 2011م؟ وما إذا كان الاقتصاد الليبي يملك مقومات نهوضه في مواجهة الكوابح التي تحول دون ذلك؟

 

    وفي خضم الإجابة عن هذه التساؤلات، يمكن استعراض عدة محاور على النحو الآتي:

 

أولاً: واقع الاقتصاد الليبي في الوقت الراهن .. مؤشرات وأرقام

 

   ظلت ليبيا حتى أواخر خمسينيات القرن الماضي ضمن أكثر بلدان العالم فقراً، بيد أن اكتشاف النفط فيها أدخلها عصراً جديداً اتسم بسيطرة النفط على الاقتصاد الوطني، إذ استحوذ على حوالي 80 بالمئة من الإيرادات الحكومية، وأكثر من 95 بالمئة من إجمالي الصادرات، والمواد الكيمياوية 4.7 بالمئة (الصودا الكاوية، سماد اليوريا، سماد سلفات النشادر، الميثانول، البرويلين، الإيثلين، الأحماض، لدائن صناعية، الحديد ومنتجاته). وبلغ الاحتياطي المؤكد حتى 2010 م، حوالي 47 مليار برميل من النفط، لتحتل ليبيا المرتبة التاسعة عالمياً على هذا الصعيد، فضلاً عن امتلاكها احتياطي من الغاز الطبيعي يقدّر بتريليون وخمسمائة وثلاثين مليار مكعب، لتحظى بالمرتبة 23 عالمياً. فقد شهد إنتاج الغاز الطبيعي في ليبيا تراجعًا خلال عام 2020م، إلى 1.28 مليار قدم مكعبة يومياً، مقارنة مع 1.40 مليار قدم مكعبة يومياً عام 2019م.

 

وبلغ إنتاج ليبيا من النفط حوالي 1.6 مليون برميل يومياً قبل عام 2011م، بينما بلغ الإنتاج 1.2 مليون برميل يومياً في عام 2022م. وارتفع إجمالي إيرادات ليبيا من النفط 105.6 مليار دينار ليبي (22.01مليار دولار، عام 2022م) بحسب ما أعلنه البنك المركزي الليبي. وتعتمد في تصديرها للخام على ستة مرافئ رئيسة وهي: السدرة ومرسى البريقة ورأس لانوف والزويتينة وطبرق في الجزء الشرقي من البلاد، ومرفأ الزاوية في المنطقة الغربية. وتمتد على طول الساحل الليبي بطول يصل إلى قرابة 1900 كيلو متر. هذا وظلت الصادرات الليبية تتصف بالتركيز الجغرافي، إذ تستأثر أوروبا بنحو 80% من النفط الليبي. (إيطاليا 32%، ألمانيا 14%، فرنسا 10%، إسبانيا 9%)، مجموعة الدول الأوروبية الأخرى (بريطانيا، هولندا، البرتغال، اليونان، النمسا، السويد) 14%، الصين 10%، البرازيل 3%، دول آسيوية أخرى 3%.

 

وتدير المؤسسة الوطنية للنفط تصدير النفط من خلال الشركات التابعة لها أو بالشراكة من خلال استكشاف وإنتاج النفط مع شركاء تجاريين آخرين. فالشركات المملوكة للمؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا هي: شركة البريقة لتسويق النفط، شركة رأس لانوف لتصنيع النفط والغاز، شركة سرت لتصنيع النفط والغاز، شركة الخليج العربي للنفط، إضافة إلى الشركات بالمشاركة؛ وهي شركة مليتة للنفط والغاز، الواحة، الزويتينة، أكاكوس للعمليات النفطية. فضلاً عن شركات استكشاف ومقاسمة الإنتاج، سوناطرك، إيني شمال إفريقيا، ريبسول للاستكشاف مرزق.

 

   وينفرد الاقتصاد الليبي بصغر حجم السوق المحلي المرتبط بضآلة حجم السكان وعدم كفاءة عنصر العمل كمياً وفنياً، فضلاً عن تدني مرونة القطاع الإنتاجي (الزراعي والصناعي)، ناهيك عن عدم استقرار وكفاءة السياسات الاقتصادية وخاصة التنموية منها، إلا أن الاقتصاد الليبي شهد خلال السنوات الأخيرة ما قبل 2011م، نمواً مطرداً، حيث بلغ الناتج الإجمالي الوطني عام 2010م، ما يقدر بـ 89.3 مليار دولار، لتحتل المرتبة 74 عالمياً بعدما حقق نمواً قدره 3.3 %، كما حقق فائضاً في موازنته العامة لعام 2010م، بلغ قدره 16 مليار دولار.

 

ووفقاً لتقارير مصرف ليبيا المركزي بلغ احتياطي البلاد من الذهب والعملات الأجنبية في نهاية العام 2010م، ما يناهز الـ 107.3 مليار دولار، لتحتل بذلك المرتبة 14 عالمياً، ولم يقتصر الأمر على إيرادات النفط والغاز فحسب، بل إن ما تورده المؤسسة الليبية للاستثمار التي تدير أصولاً تزيد عن 70 مليار دولار بين أصول ثابتة ومنقولة واستثمارات أخرى في معظم دول العالم، حيث تملك المؤسسة حصصاً في شركات أوروبية كبرى، مثل بنك أوني كريديت الإيطالي ودار بيرسون البريطانية، كما أنشأت المؤسسة الليبية صندوقاً للتحوط في لندن، وقامت بشراء عقارات في بريطانيا. بالإضافة إلى احتفاظ المؤسسة بـ 32 مليار دولار نقداً في عدة بنوك أمريكية، إلى جانب استثماراتها الضخمة المنتشرة في معظم دول إفريقيا تحت غطاء محفظة إفريقيا الاستثمارية. وتجذر الإشارة إلى أن رفع العقوبات الدولية التي فرضتها الأمم المتحدة فيما عرف آنذاك بقضية لوكربي قد أسهم في تعزيز وضع الاقتصاد الليبي وتحديداً منذ سبتمبر عام 2003م.

 

 برغم من ثراء بلدهم، يعاني الكثير من الليبيين الفقر والحرمان النسبي في مجالات التعليم والصحة والمرافق العامة والبنية التحتية؛ فالمجتمع الليبي مجتمع شاب وراغب في العمل، لكن نسب البطالة التي عاشها خلال فترة حكم القذافي تقدر بنحو 30 %، وهي أكبر نسبة بطالة بين بلدان المغرب العربي. وهو ما قد يجد تفسيره في أمرين: الأول؛ الفساد الإداري المترتب على الفساد السياسي الذي انتهجته الدولة الليبية إبان حكم القذافي، الذي بات وأفراد أسرته وأعوانه يتصرّفون بثروات البلاد وكأنها أموالهم الخاصة بلا حسيب ولا رقيب، ومن دون أن تعود بالفائدة على الشعب الليبي. أما الأمر الثاني؛ فلم تُولِ الدولة اهتماماً يذكر بتنويع مصادر الاقتصاد الأخرى، حيث اقتصر الاهتمام على النفط والغاز مع إهمال بقية المقومات الحقيقية للاقتصاد والتي كان من الممكن أن تحقق معدلات نمو أكبر، لا سيّما وأن الدولة الليبية تمتلك العديد من هذه المقومات تأتي في مقدمتها السياحية، بفضل ما تمتلكه من مقومات طبيعية وتاريخية عديدة ومتنوعة، فضلاً عن تنشيط تجارة العبور بفضل الموقع الجغرافي التي تحتله ليبيا بين قارتي إفريقيا وأوروبا.

 

   لهذه الغاية، يستمر الاقتصاد الليبي في طابعه الريعي، إذ أن أهم ما يميز البنية الاقتصادية في ليبيا هو اعتماده على القطاعات الريعية وأساسها القطاعات الاستخراجية، إذ يرتكز على 90 % من عائدات النفط، الأمر الذي جعل الريع هو المصدر الرئيسي لتكوين الثروات. وكان لتلك السمة الريعية أثرها في تشكيل هيكل الاقتصاد الليبي من حيث أداء الناتج المحلي الإجمالي والهيكل القطاعي له. وهيكل الإيرادات الحكومية. وقد أفضى ذلك إلى النمو غير المتوازن للقطاعات الاقتصادية وتغييب العناصر المتعلقة بسياسات العدالة الاجتماعية وتهيئة البيئة المناسبة للاحتجاجات والتظاهرات.

 

   ولعل قيام الثورة الليبية عام 2011م، كان بهدف تصحيح الاختلالات التي شوهت الاقتصاد الليبي وانعكست سلباً على نمط حياة المواطنين ومستواهم، حيث اتضح من متابعة الشأن الليبي  بعد الثورة أن شريحة واسعة من المواطنين  يعانون أوضاع معيشية صعبة رغم الإيرادات النفطية المهمة، بالإضافة إلى عدم تكافؤ الفرص وانعدام التوزيع العادل للثروات، أو عدم توظيفها بشكل يحسّن الأوضاع الاقتصادية ويرفع القدرات الاستهلاكية للمواطنين، ما أدى إلى بروز هذه الأسباب كعائق أمام تطبيق برامج التنمية ومن ثم خلق نظام اقتصادي غير متوازن.

 

 وبرغم النجاح في التخلص من القذافي، إلا أن البلاد دخلت في متاهة كبرى سواءً بسبب التدخلات الخارجية التي تهدف إلى تفتيت الدولة، أو بسبب طموحات بعض الأطراف المحلية التي تفتقر إلى النضج السياسي والخبرة والكفاءة، إذ لم تصل إلى التوافق الوطني الذي يحفظ كيان الدولة ويحمي استقلالها.

 

 وهو ما أصاب الاقتصاد الليبي في مقتل، وكان عام 2011م، الأسوأ، حيث شهد انكماشاً تجاوز الــ 60 بالمئة، بسبب توقف معظم النشاطات الاقتصادية وحالة من الركود والتوقف تماهياً مع ما شهدته البلاد من صراع مسلح حتى قيام قوات التحالف الدولي بإسقاط نظام القذافي في أواخر أكتوبر من العام 2011م.

 

ثانياً: أثر الانقسام السياسي الليبي على الاقتصاد الوطني

 

  شكّلت ثورة فبراير 2011م، نقطة تحول جديدة في التاريخ السياسي والاقتصادي في ليبيا، فقد نتجت عن مسارات ما بعد الثورة تغييرات عميقة ما تزال تمهد الطريق بين عدم الاستقرار السياسي ومحاولات إعادة بناء الدولة.

 

 البنية الاقتصادية الليبية متعددة الأطراف ومنقسمة بين شرق البلاد وغربها، هذه السمة الأولى للاقتصاد الليبي. كان للانقسام السياسي وترهل السلطة المركزية وانهيارها ومن ورائها الدولة في ليبيا، جعل من إقليمها الشاسع فضاءً لممارسات اقتصادية غير مشروعة، إذ أنه أصبح ملاذاً آمناً ليس للجماعات المتطرفة والإرهابية فحسب بل والمهربين أيضاً. ما أدى إلى انخفاض حجم الصادرات والواردات، فضلاً عن انخفاض الاستثمار المحلي وتراجع تدفق المستثمرين الأجانب، وهذا بدوره إلى انخفاض حاد في النمو وتفاقم الاختلالات في الاقتصاد الكلي ما تسبب في التضخم، ومن ثم ارتفاع السعر نظراً لاعتماد السوق الليبي على الواردات، وكذلك ارتفاع الدين العام المحلي، واتساع دائرة النشاط الاقتصادي غير الرسمي، وتفشي الفساد بكافة أشكاله.

 

انخفض إنتاج النفط الخام إلى 22 ألف برميل يومياً في يوليو 2011م، وتراجعت قيمة الصادرات من 48.9 مليار دولار إلى 19.2 مليار دولار. كما انخفضت قيمة الواردات من 24.6 مليار دولار إلى 14.2 مليار دولار خلال نفس الفترة. وهو ما أدى إلى تقلص فائض الحساب التجاري من 21% من إجمالي الناتج المحلي عام 2010م، إلى أقل من 4.5 عام 2011م، إلا أنه سرعان ما شهد العام 2012م، تحسناً ملحوظاً في الأوضاع الاقتصادية حيث زاد الناتج المحلي الحقيق بمعدلات جيدة نتيجة لعودة الإنتاج النفطي إلى مستويات قريبة من مستوياته ما قبل الحرب، (ما يقرب مليون برميل يومياً) بيد أن الأمور سرعان ما أخذت منعطفاً خطيراً ومختلفًا تماماً بعد التدهور في إنتاج النفط والغاز المصدر الرئيس لإيرادات البلاد بسبب استيلاء الميليشيات المسلحة على الحقول  والموانئ النفطية وما ترتب عنه من إلحاق أضرار جسيمة بالحقول والمصافي، وهو ما يتطلب إعادة إصلاحات حقيقية حتى يعود الإنتاج إلى سابق عهده.

 

زاد الأمر سوءاً استمرار الخلل في الإنتاج النفطي بسبب الاحتجاجات المستمرة من يوليو 2013م، في حقوق وموانئ تصدير النفط التي أدت إلى تراجع النفط إلى 25 ألف برميل يومياً فضلاً عن زيادة النفقات والأعباء وتنوعها ما بين زيادة الرواتب والأجور الممنوحة للعاملين بالدولة سواءً بسبب تحسن مداخيلهم أو بسبب تعيينات جديدة، وما بين الأعباء الناجمة عن تدمير البنية التحتية بسبب الحروب والصراعات المسلحة المستمرة، وما يترتب عنه من إعادة تأهيل للجرحى والمصابين ومن تكاليف لعلاجهم في الخارج، وهو ما يمثل عبئاً إضافياً على الاقتصاد الليبي الذي ما زال يلملم جراحه.

 

   كما تتجلى بعض الآثار الكارثية في انخفاض معدل النمو للقطاعات الأساسية المولدة للناتج الإجمالي المحلي، وبخاصة الصناعات التحويلية مقابل ارتفاع معدل النمو للقطاعات ذات الأهمية الهامشية تنموياً كالعقارات والاتصالات، وهذا ما يعمق حالة الركود الإنتاجي المتفاقمة في الوقت الراهن.

 

   وفي ظل هذا الواقع المأزوم وغياب الحد الأدنى من المشتركات التي تجمع بين أطراف اللعبة السياسية الليبية حول سبل إدارة الشأن العام ورسم خطط سيره، كل ذلك أدى إلى انهيار الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية، كما شهدت البلاد أزمة سيولة نقدية حادة متمثلة في ندرة العملة المحلية في البنوك التجارية يرافقها غلاء في السلع الأساسية وتراجع المخزون الاستراتيجي لهذه المواد.

 

وفي السياق ذاته، لم تكن ليبيا بمعزل عن بقية دول العالم التي تأثرت بشكل فعلي من تداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2022م، إذ تسببت الأزمة في ارتفاع أسعار الحبوب عالمياً مما آثار مخاوف بتداعيات كبيرة على الدول المستوردة للحبوب من بينها ليبيا التي تعتمد بشكل كبير على استيراد القمح والشعير لسد احتياجاتها المحلية.

 

من جانب آخر، إن للأزمة الروسية الأوكرانية تداعيات تلقي بظلالها على الاقتصاد الليبي، وذلك من خلال البحث عن أسواق أخرى بديلة كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا لتوفير سلع الحبوب كالقمح والشعير وإن كانت أقل جودة وأكثر ثمناً، وهو ما سوف يثقل كاهل خزينة الدولة الليبية بملايين الدولارات نظراً لارتفاع تكاليف الشحن والتأمين.

 

وفي الوقت نفسه، تعاني ليبيا من موجة جفاف بسبب قلة الأمطار، الأمر التي أدت إلى تدني المحاصيل الزراعية ناهيك عن عزوف الكثير من المزارعين في مناطق جنوب البلاد عن زراعة القمح والشعير، التي تعد من السلع الأساسية للغذاء في البلاد، نظراً لغياب الدعم الحكومي والحروب المستمرة بين الأطراف الليبية وما نتج عنه من انقطاع للتيار الكهربائي، حيث وصل إنتاج ليبيا من القمح والشعير إلى 100 ألف طن عام 2021م، بينما يصل الاستهلاك المحلي إلى 1.26 مليون طن سنوياً.

 

ثالثاً: رؤية استشرافية مستقبلية للاقتصاد الليبي  

 

   في سبيل ما يواجهه الاقتصاد الليبي من تحديات ومصاعب تعيق نهوضه وتقدمه، من الأهمية بمكان أن تكون هناك استراتيجية شاملة أو خطة متكاملة ذات أبعاد متنوعة تسهم في تقديم رؤية لصانع القرار بشأن كيفية النهوض بالاقتصاد الليبي، مع ضرورة وأهمية أن تنطلق هذه الاستراتيجية من الواقع الليبي بمشكلاته وتحدياته، مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي تقترب ظروفها وإمكاناتها مع الأوضاع الليبية. وفي هذا الإطار، ثمة خطة مقترحة يمكن أن تمثل خارطة طريق للدولة الليبية في المجال الاقتصادي؛ وهي كالتالي:

 

  1. استعادة الأمن والاستقرار في كل أرجاء البلاد، حتى يمكن استكمال استحقاقات عملية الانتقال الديمقراطي وفق جدول زمني محدد يحظى بتوافق مختلف القوى السياسية الفاعلة.
  2. ثمة حاجة ماسة لمراجعة آليات إدارة عائدات النفط الليبية، وكيفية الاستفادة منها، واستغلالها على النحو الذي يضمن إدارة ذات كفاءة للموارد، واستغلالها يتناسب مع حجمها وبشكل أفضل.
  3. تنسيق وضبط السياسات المالية (الإيرادات العامة والإنفاق العام) بحيث يخدم أهداف السياسة الاقتصادية العامة، والحد من التضخم، وتطوير القطاع المصرفي وخدماته.
  4. تبني استراتيجية للإصلاح الاقتصادي تقوم على آلية "الخصخصة"، شريطة أن تطبق بضوابط محكمة تحقق المستهدف منها، والمتمثل في زيادة إيرادات الدولة، ورفع مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين من خلال رفع كفاءة العاملين في هذه المؤسسات.
  5. الإسراع في تنويع القاعدة الاقتصادية في البلاد بعيداً عن الاعتماد الكلي على النفط، وإنما الاعتماد على قطاعات أخرى، مثل الزراعة والصيد البحري، بما تملكه الدولة الليبية في هذه القطاعات وهو ما يستوجب تطويرها وتدريب الكوادر وسن التشريعات ووضع الحوافز.
  6. بناء رأس المال البشري، وذلك من خلال الاهتمام بنظام التعليم وإصلاحه ووضع برامج تدريبية للعاملين والباحثين عن عمل، وتوفير المزيد من فرص العمل وخاصة للشباب.
  7. الإصلاح الإداري من خلال محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية، والالتزام بالشفافية، مع أهمية مشاركة القطاع الخاص في تحقيق الإصلاح المؤسسي الذي يشجع على المنافسة والإدارة الرشيدة، ووضع الأنظمة الرقابية التي تحارب الفساد بجميع أنواعه، وتعزيز دور الأجهزة الرقابية.
  8. من الأهمية بمكان تعزيز التعاون الإقليمي والاندماج التجاري المالي خاصة مع دول الجوار، وذلك في ظل نظام اقتصادي عالمي يتجه نحو التكتل والاندماج.

خاتمة

   لقد تبيّن أن الدور الذي يؤديه البعد الاقتصادي في الأزمة الليبية ليس ضمن بواعث النزاع فحسب، بل إنه يؤدي إلى استعصائها على جهود التسوية أيضاً. ذلك أن سقوط الاقتصاد الليبي في فخ النشاط غير الرسمي من التهريب يدفعه نحو تشبيك النشاطات غير الرسمية لأعمالها مع شبكات الجريمة المنظمة لضمان الحماية، وفي الحصيلة تقاطع نشاطاتها مع الجماعات الإجرامية والإرهابية، مما يتسبب في استمرار العنف على المدى الطويل، فضلاً عن ظهور جماعات المنتفعين من تجار السياسة والحروب من استمرار الأزمة، ومن ثم استعصائها على جهود الحل والتسوية.

على قدر الرؤى ومستوى الطموح تكون التحديات، ومن تفاصيل الإصلاحات تتولد المشاكل التي تكون ضمن أولويات أصحاب الرؤى، الإرادة والطموح وحدها لا تكفي لإصلاحات عميقة في بناء صرح اقتصادي وأمني متين؛ ولا تسعف في تجاوز منطق ثقافة الفساد، وغياب الحوكمة بمفهومها الشامل، كما أن الدور الريادي والمؤثر خارجياً يتطلب بلدًا متماسكًا اقتصادياً، ومنسجمًا بثقافة وطنية سليمة، وتعبئة كل الطاقات نحو الإصلاح، والأهم من كل ذلك، تحصين عمق استراتيجي تنهار عند صلابته كل سيناريوهات التآمر الداخلي والخارجي.

مقالات لنفس الكاتب