جاء انعقاد الدورة الثانية والثلاثين للقمة العربية، في مدينة جدّة بالمملكة العربية السعودية في 19 يونيو 2023م، ليتوج الجهود التي بذلتها المملكة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، والتي أكدت حضورها كقوة قائدة في الإقليم، وكبلد يشكل جسرًا استراتيجيًا بين المنطقة والعالم. لقد سبق القمة عقد سلسلة من القمم الخليجية العربية الدولية في جدة والرياض، منها القمة الخليجية العربية الأمريكية في جدة تحت شعار (الأمن والتنمية) في يوليو 2022م، والقمة الخليجية العربية الصينية في الرياض في ديسمبر من العام نفسه، تحت شعار "التعاون والتنمية"، وهما القمتان اللتان سبقتهما القمة الخليجية العربية الأمريكية ـ بالرياض في مايو 2017م. وتعتزم المملكة استضافة القمة العربية الإفريقية المقررة هذا العام أيضًا. ولن يكون مفاجئًا إن دعت السعودية إلى قمم خليجية عربية دولية مع قوى عالمية أخرى كالهند واليابان، وأن تستضيف اجتماعات خليجية وعربية مع مجموعات وكتل دولية سياسية واقتصادية هامة. ويصعب حصر الأنشطة والملتقيات السياسية والاقتصادية الدولية التي استضافتها الرياض خلال عامي 2022 و2023م، (حتى الآن).
وقد انعكس الأداء الدولي للمملكة في مبادراتها النشطة في الحرب الروسية الأوكرانية، ومواقفها الحازمة داخل أوبك بلس، واتجاهها للانضمام للبريكس، وأدوار الوساطة التي قامت بها في الأزمة الروسية الأوكرانية، وجهودها الإغاثية العالمية، وجمعها بين الفرقاء، وآخرها استضافتها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في قمة حضرها بشار الأسد، وتوجهاتها المتوازنة بين الأقطاب الدوليين: الولايات المتحدة والغرب، والشرق السياسي(روسيا) والشرق الجغرافي (الصين). ولقد جعل كل ذلك المملكة واجهة وعنوانًا أساسيًا للعالم العربي والشرق الأوسط.
أولاً: حصاد التغيير .. كيف فعلت المملكة ذلك؟
إذا كانت السياسات والتوجهات السعودية قد أسهمت في تكريس مكانة المملكة في الإقليم، فقد عززت مكانتها على الصعيد الدولي، وهو أمر ساعد على بناء توافق حول السياسات السعودية، مكنها من التأثير في المواقف العربية حتى اجتمع العرب على قرارات تعثر إصدارها على مدى السنوات الماضية، من ذلك القرار بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، بعد تجميد عضويتها منذ عام 2011م، ورغم أن موضوع عودة سوريا طرح منذ سنوات على أجندة القمم السابقة على قمة الرياض. وهو ما أكد أن تسوية النظام السوري لأزمته في النظام العربي تمر بالأساس عبر الرياض، التي ابتكرت فلسفة ونهجًا عربيًا جديدًا في التعامل مع القضايا والأزمات؛ حيث كانت عودة الأنظمة والدول للجامعة العربية -إذا تجمدت عضويتها فيها- تتم عبر مواقف وبيانات عاطفية، بينما كانت عودة سوريا وفق منهج اصطلح على تسميته "الخطوة مقابل خطوة"، ما يعني أن العودة ستكون متدرجة، تتضمن خطوات مقابل خطوات، حتى يصل النظام السوري إلى الوضعية المستهدفة عربيًا والمؤهلة لاستعادة دوره وعودة كامل العلاقات معه، وذلك تقليد سياسي جديد يطور أساليب الجامعة في التعامل مع دولها.
لم تكن للمملكة أن تقود حقبة الدبلوماسية العربية حاليًا، لولا أنها بدأت التغيير بنفسها، قبل أن تفرضه على الآخرين، دفعها إلى ذلك خوضها معترك السياسات العربية خلال أصعب فترة من التقلب والتحولات العاصفة عربيًا ودوليًا، فضلًا عما خبرته على مدى العقود. فقد انخرطت خلال العقد الماضي بشكل نشط في الشؤون العربية، وتحملت مسؤولية أصعب عقد في تاريخ العرب الحديث، ودخلت في مواجهات أكسبتها خبرات استثنائية. لقد سعت على مدى السنوات الماضية للتصدي للأزمات وموجات عدم الاستقرار التي عانتها دول عربية مختلفة على أثر الثورات والهجمات الإرهابية وأشكال الخروج على الدولة من جانب بعض التيارات العنيفة. وفي توجهها لعمل ذلك اصطدمت المملكة بكل التحديات؛ فوقفت إلى جانب دول تعرضت لمخاطر الانهيار والتفكك، وقادت المواجهة الإقليمية للإرهاب ضد تنظيمات داعش والقاعدة وأطياف الإسلامويين العنيفين، وتبنت خط حظر جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمات العنف بالإقليم، وأنشأت التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، ضم أكثر من 40 دولة إسلامية. وبينما وقفت وقفة استثنائية إلى جانب مصر، فقد تبنت مناهج تعامل أخرى ضد أنظمة حكم عادت شعوبها قبل أن تعادي المملكة، وفي اليمن تدخلت في مواجهة فصيل انقلب على الدولة.
حدث كل ذلك بينما كانت عوامل التغيير تجري على قدم وساق داخل المملكة، من تعزيز دعائم وأسس الحكم، إلى تغيير اجتماعي واقتصادي وثقافي وفني ومناطقي واسع، إلى مشروعات تنمية وتحديث وتطوير تكنولوجي، مثل مشروع نيوم ومشروعات البحر الأحمر، والسعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر .. إلى كل هذه المشروعات التي غيرت معالم الدولة السعودية، لتخرج المملكة منذ 2020م، في ثوب جديد. فعلت المملكة كل ذلك بهمة وحيوية مثيرة للإعجاب.
ثانياً: الدبلوماسية السعودية و "البرجماتية الجديدة"
من بين كل ما شهدته سياسات المملكة ودبلوماسيتها من تغيير، تقف تحركات الرياض السريعة لتفكيك الملفات المعقدة وإنهائها، مسألة لافتة فعليًا؛ فالتغييرات التي حدثت على مدى الأعوام الماضية تحتاج لبحث متأني، لأنها لم تجر في قضية واحدة، وإنما تكررت التغييرات السريعة والمنضبطة الإيقاع في أكثر من أزمة وقضية، على نحو يؤكد أنها جاءت كنهج دبلوماسي واختيار وقرار سياسي، وليس كصدفة أو خضوعًا للضغوط، فتكرار خطوات العمل ونموذج الممارسة في أكثر من أزمة وملف، يشير إلى أن هذه التغييرات انطلقت من مخطط ورؤية مستقلة من صنع المملكة، التي أقدمت عليها بعد تفكير استراتيجي عميق.
وبالاقتصار على عدد محدود من التغييرات في سياسات المملكة في السياق العربي، قبل قمة الرياض، دون التطرق إلى التحولات التي شهدتها دبلوماسية المملكة على الصعيد الدولي، يتضح ما يلي:
كانت الخطوة الدبلوماسية الأهم التي أقدمت عليها المملكة هي إبرام المصالحة في اتفاق قمة العلا خلال الدورة 41 لقمة مجلس التعاون الخليجي في يناير 2021م؛ فعلى الرغم من الخلاف الذي استمر أربع سنوات ووصل إلى مستويات ظن البعض أن العلاقات لا يمكن بعدها أن تعود إلى طبيعتها، امتلكت المملكة شجاعة الإقدام على المصالحة والانطلاق في عمل عربي بناء، ملقية كل شيء خلف ظهرها، بهدف أساسي وهو عودة الصف الخليجي، وإنهاء أزمة لم تكن تبعاتها إيجابية على أي من دول الخليج، ولم تحقق أي مصلحة عربية. وفي الحقيقة، فلم يكن ذلك ليحدث لولا ما وجدته المملكة من الطرف الآخر (قطر)، التي أسهمت هي الأخرى في إغلاق أزمة أضاعت سنوات من عمر مجلس التعاون. وخرج الجميع بدرس مهم أنه لا إشكالية في الخلافات وأن أي خلافات يمكن استيعابها بين أبناء الديرة.
وكان الملف الثاني، الذي عكس حكمة الدبلوماسية السعودية وقدرتها على كسر القيود، هو ملف الحرب في اليمن؛ فمنذ البداية لم تكن المملكة ترغب بحرب تطول لسنوات، وكان الموقف السعودي مع العودة إلى الشرعية، وفق مخرجات الحوار الوطني اليمني وقرارات الشرعية الدولية والمبادرة الخليجية، وكان هدف المملكة دفع الطرف الذي استولى على السلطة إلى العودة عن مساره، وإعادة اليمن إلى مسار الدولة الطبيعية. وخلال سنوات الأزمة تجاوبت المملكة مع مبادرات الوساطة والهدنات المتكررة ودعت مرارًا لوقف الحرب، بينما أخذ الطرف الآخر قراره بالمضي فيها، فقط لأنه اعتبر أن ما يلحقه من خسائر بالمملكة يمثل مكاسب بالنسبة له. مع ذلك لم تتحجر المملكة عند قرار استمرار الحرب والصراع، وإنما تجاوبت مع الجهود الدبلوماسية إلى أن بلغ الطرف الآخر مرحلة النضوج. خاضت المملكة الحرب في ظل تراجع أسعار النفط وتراجع القدرة على الإنفاق، وأقدمت على التسوية الدبلوماسية في ظل ذروة الطفرة النفطية! أقدمت على الحرب في ظل دعوات القوى الغربية ومنها الولايات المتحدة لوقفها، وتبنت التسوية في ظل تراجع الأصوات المطالبة بوقف القتال! وكان يمكنها الاستمرار في الحرب وإجهاد الخصوم، لكنها أقدمت على التسوية باختيارها وتقديرها الأشمل للمصالح السعودية واليمنية والعربية.
وتمثل الملف الثالث، الذي عكس حيوية السياسة السعودية، في الملف السوري والموقف من النظام. وربما كان هذا الملف من أكثر الملفات العاكسة لطبيعة التوجه الدبلوماسي السعودي الجديد، والذي يؤكد أنه قرار من صناعة وطنية؛ فإذا كانت الأزمة مع قطر أو الحرب في اليمن، هي أزمة وحرب شاركت فيهما المملكة، وتفاعلت معهما يوميًا، بمنطلقات الأرباح والخسائر، فإن الملف السوري، لم يرتب خسائر على المملكة، تدفعها إلى تبني عودة سوريا إلى الجامعة العربية. وكان يمكن للمملكة التعايش سنوات طويلة مع حقيقة غياب سوريا، دون ضغط سياسي كبير، خاصة أن القرار احتاج جهدًا دبلوماسيًا سعوديًا في الساحة العربية، وكان موقفًا ضد الرغبة الأمريكية، واتُخذ في ظل رفض أو اعتراض أو تحفظ دول عربية، قد يهم المملكة رضاها أكثر، من باب الجوار المباشر والهوية، فجاء تبني الرياض القرار بعودة سوريا ليشير إلى القدرات التأثيرية للسعودية على الصعيد العربي، وليؤكد أن ما أقدمت عليه السعودية من تغيير في نهجها الدبلوماسي هو مسار ونهج عام مدفوع برؤية وطنية جديدة، وأن المملكة التي تتغير في الداخل تسعى لتغيير عالمها العربي أيضًا، وهي لأجل ذلك تؤسس لنهج التصالح في الوسط العربي والإقليمي، وتبدأ بنفسها.
وإذا كانت تحولات السياسة الخارجية السعودية في إطارها العربي تشير إلى منهج المملكة في تعاطيها مع المصالح القومية، وتؤكد سعيها لتغيير هذا الإطار وتخفيف حمولتها وأثقالها فيه، حتى تفرغ لمسؤولياتها وأعبائها نحوه، فإن استجابتها للمصالحة مع تركيا، واتفاقها للمصالحة مع إيران برعاية صينية، أكدت أن الرؤية الدبلوماسية السعودية تمتد أيضًا إلى الصعيد الإقليمي. ومثل سوريا، كان بإمكان المملكة عدم التجاوب مع المبادرة الصينية، والتخلي عن نهج المصالحة مع إيران، لأنه لم تكن هناك ضغوط عليها لأجل ذلك، في ظل تزايد السياسات العدائية لإيران في الإقليم، واستمرار التلويح بالحرب بينها وإسرائيل، وفي ظل عدم التوقيع على الاتفاق النووي(حتى الآن)، لكن المملكة أقدمت على ذلك رغم أن سياستها للمصالحة مع طهران لم تكن محل إجماع حتى من قبل بعض أشقائها من الدول العربية وفي الخليج، وربما استهدفت المملكة من ذلك التعرف على فرص التغيير في فكر وسلوك النظام الإيراني، لإعطاء ذاتها الفرصة كاملة لتكشف الخيارات والبدائل.
لم تقتصر جهود المملكة على إعادة ترتيب سياستها الخارجية في ملفاتها الخاصة، وإنما امتدت لإعادة ترتيب ملفات الإقليم العربي ككل، ذلك ما اتضح في التعامل السعودي مع سوريا (على نحو ما تبين)، وهو ما تأكد من الجهد السعودي في أزمة السودان، الذي أكد ممارسة النهج التصالحي في أزمات عربية، ليست المملكة منخرطة فيها، فقط تدخلت المملكة بالوساطة بوازع قومي، وبهدف التوصل إلى تسوية انطلاقًا من مسؤوليتها العربية. ومن غير المعروف المدى الذي كان يمكن للصراع في السودان أن يصل إليه، من دون الهدنات المتكررة والمتوالية التي رعتها المملكة. ولم يكن لأطراف الصراع السوداني ليتفاعلوا مع وساطة الرياض أو ليجتمعوا في جدة، إلا لإدراكهم بأن السعودية هي المكان الوحيد الراغب في الوساطة والمؤهل لها، والأكثر قدرة على جلب السند الدولي (الأمريكي) إليها.
في كافة هذه المناحي تطورت التغييرات الدبلوماسية السعودية بهدوء، وبعد تقييمات متدرجة لنوايا الأطراف في الصراعات. على سبيل المثال استمرت المملكة في حوار عبر قنوات مختلفة، ومن خلال العراق وسلطنة عمان، وعلى مدى جولات تفاوض متعددة مع إيران، حتى جرى التوقيع على اتفاق المصالحة برعاية صينية. كما أدارت المملكة جولات تفاوض متعددة مع الحوثيين في أوقات سابقة بوساطة كويتية، وفي أوقات تالية بوساطات عمانية، حتى اقتربت مواقف الطرف الآخر من النضج.
هكذا أثبتت المملكة قدرتها على الإمساك بخيوط ملفات المنطقة، وسعت لتغيير المزاج الإقليمي لتندفع دول الإقليم نحو حقبة من التعاون والمصالحات، وكان مثيرًا أن يحدث ذلك بسرعة لافتة، وبغض النظر عن مواقف الآخرين، وهكذا مهدت المملكة لقمة جدة بتطبيق السياسات التي دعت إليها على نفسها أولاً. إنها توجهات وسياسات قد يعتبرها البعض تنازلات، لكنها في الحقيقة أعباء أثقلت كاهل المملكة وأبطأت خطواتها في الإقليم، وبعدما ألقتها تعاملت دبلوماسيتها وسياستها الخارجية برشاقة، وانطلقت لتطفئ حرائق الأزمات الإقليمية بمشروعات وساطة ورؤى للمصالحة. وعلى حد ما قاله الكاتب السعودي المرموق عبد الرحمن الراشد، في صحيفة الشرق الأوسط: فقد "قدمت السعودية نفسها نموذجاً، وارتضت سياسة واقعية في التعامل مع خصومها، مع إيران مثلاً، وكذلك الخصم الحوثي، رغم الدماء التي سالت وتسع سنوات حرب. لقد قبلت بالجلوس مع خصومها، والتفاوض معهم، ووصلت إلى تفاهمات ما كنا نعتقد، قبل زمن قريب، أنها ممكنة".
وفي الحقيقة، يمكن توصيف هذا الخط في السياسة الخارجية والنهج الدبلوماسي السعودي، بأنه نهج "البرجماتية الجديدة"، ومن الناحية التاريخية ارتكنت سياسات المملكة إلى نهج براجماتي متعقل، ينزع إلى القرارات المحسوبة والمدروسة، التي تسعى للتسويات وتقديم الحلول والبدائل، انطلاقًا من سياسة اتسمت بقدر عال من الرزانة وإيثار السكون، لكن الجديد في الفكر السعودي الآن هو الاتجاه إلى تسييد نهج المصالحات والحلول السلمية، من منطلق واقعي، مؤمن بقوة الذات، التي تدفع إلى البحث عن جوانب التوافق لا الصراع، وتنطلق من خبرات كثيرة في شؤون الإقليم ومن قراءة مستوعبة ومحيطة باتجاهات المستقبل.
ثالثاً: إعلان جدة .. عنوان لمرحلة عربية جديدة
على الرغم من أن البيانات الختامية للقمم العربية يفترض أن يجري صياغتها بعبارات دقيقة وبنود واضحة، إلا أن "إعلان جدة" يقف في مكانة مميزة بين كل البيانات الختامية والإعلانات الصادرة عن القمم العربية، من حيث دقة عباراته ووضوح مضمونه وأهدافه؛ فلقد تضمن عبارات وبنودًا بعضها ورد في بيانات القمم السابقة، لكنه أوردها بشكل محكم، فضلًا عن ذلك طرح أفكارًا ومفاهيم صاغها في بنود جاءت جديدة كليًا على التفكير العربي، على نحو يضع المنطقة في مكانتها اللائقة بين مناطق العالم؛ فأكد على تعزيز العمل العربي المشترك المبني على الأسس والقيم والمصالح، والمصير الواحد (وذلك في عودة حميدة إلى لغة سابقة استخدمت في أدبيات الفكر العربي خلال مرحلة شبابه وطموحه)، وتحدث عن صون الأمن والاستقرار "وحماية سيادة دولنا وتماسك مؤسساتها". وتحدث عن الارتقاء بالعمل العربي والاستفادة من المقومات البشرية والطبيعية التي تحظى بها منطقتنا، وصيانة الأمن القومي، وتحدث عن تكريس الشراكات وترسيخ التفاهمات بين "دولنا" على أساس المصالح المشتركة، والتعاون لتحقيق مستهدفات التنمية المستدامة، وتنفيذ الرؤى التنموية الطموحة "لدولنا" من خلال "نهضة شاملة" في جميع المجالات لمواكبة التطورات العالمية. وهكذا لا تخفى لغة الإعلان اللغة الجادة والجديدة، التي تؤكد أن وراءها منطلقات حازمة في التعاطي مع الحالة العربية، وأهداف مستوعبة لدروس وخبرات السنين.
كما تضمنت بنود "الإعلان" التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية والحل العادل لها، القائم على مبادرة السلام العربية والقرارات الدولية ومبادئ القانون الدولي وإقامة الدولة الفلسطينية بحدود عام 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية. وفي شأن دول الأزمات الأساسية كالسودان وسوريا واليمن، حرص الإعلان على التأكيد على مبادئ أغلبها ينصب على الحفاظ على الدولة ووحدة أراضيها، ففي السودان شدد على تغليب لغة الحوار والمحافظة على مؤسسات الدولة ومنع انهيارها، والحيلولة دون أي تدخل خارجي. وفي سوريا أكد على وحدة الأراضي السورية. وفي اليمن أكد على دعم ما يضمن أمن واستقرار الدولة ودعم الجهود الساعية إلى حل سياسي شامل.
وفي السياق العربي العام، شدد على وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية العربية، وأكد على أن التنمية المستدامة والأمن والاستقرار والعيش بسلام حقوق أصيلة للمواطن العربي، مضيفًا ضرورة "حشد الطاقات والقدرات لصناعة مستقبل قائم على الإبداع والابتكار ومواكبة التطورات المختلفة، بما يخدم ويعزز الأمن والاستقرار والرفاه لمواطني دولنا"، وتحدث عن "نهضة صناعية وزراعية عربية شاملة تتكامل في تشييدها قدرات دولنا"، وأكد رفض هيمنة ثقافات على ثقافات أخرى واستخدامها ذرائع للتدخل في شؤون دولنا العربية. وكان مثيرًا أن يتناول الإعلان ما يمكن تسميته بـ "مسؤولية السعودية" عن عالمها العربي، حين تحدث عن حرص المملكة "واهتمامها بكل ما من شأنه توفير الظروف الملائمة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في المنطقة، وخصوصًا فيما يتعلق بالتنمية المستدامة".
وفي الحقيقة، لا يمكن أخذ إعلان جدة، أو التعامل معه بالمحمل الذي اعتاد المفكرون والخبراء العرب والصحافة، التعامل به مع البيانات الختامية للقمم العربية، أو البيانات الثنائية والجماعية الصادرة عن اجتماعات القادة العرب؛ فهو ليس ككل البيانات السابقة للجامعة العربية، إنه إعلان استثنائي شكلًا ومضمونًا، والأرجح أنه سيجري الاستشهاد به لاحقًا، كعنوان لحقبة ومرحلة عربية جديدة؛ فالبنود التي تضمنها الإعلان جديدة على الآذان والمسامع، بشكل يجعل منه أكثر بيان عربي يتضمن طرحًا قوميًا على أساس علمي ودولتي، فهو ليس بيانًا فكريًا خاليًا من المضمون. حيث صدر في لحظة من لحظات الصدق في التعامل مع الواقع العربي، ولامس طموح المواطنين العرب. وأبرق الإعلان بكل هذه المضامين والرسائل والشحنة القومية، في كلمات قلائل (نحو 1600 كلمة). ويبدو أن ذلك كان قرارًا عمديًا من قمة جدة، أكدته أيضًا الكلمات -المحددة زمنيًا-للقادة العرب (5 دقائق لكل كلمة).
هكذا جاء البيان الختامي لقمة جدة، ليرسم مسارًا جديدًا؛ فبعد ترميم أوضاع النظام العربي بالخطوات السياسية التي أقدمت عليها المملكة، وضعت القمة الأسس لبناء النظام العربي الجديد، عبر الإجراءات والمقررات والأعمال التحضيرية، التي انهمك فيها جهاز العمل الدبلوماسي السعودي ووزارة الخارجية، فلم تكتف المملكة بخطواتها الدبلوماسية ومبادراتها السياسية على مدى العامين الماضيين، وإنما انخرطت في التحضير الجيد لها بالأفكار والمقررات، وبذلت جهودًا ضخمة قبل القمة وأثناءها للم شمل الدول العربية وتثبيت الأمن والسلم، ووضعت الخطوات التمهيدية للتأسيس لدور عربي مشارك بفاعلية في النظام الدولي. وفي الحقيقة، لا يمكن بعد الآن الحديث عن عراقيل يقيمها العرب في وجه السلام، بعد ما قدمته الدولة العربية القائدة من خطوات.
يبقى أن يساعد أطراف الأزمات العربية أنفسهم بالتجاوب مع مقترحات التسويات والمصالحات التي تطرحها المملكة، وأن يقتدوا بالنموذج السعودي الذي يشير إلى دولة قررت وهي في قمة قدراتها وقيادتها للحدث الإقليمي، أن تنفض عن كاهلها الأحمال والأعباء التي وضعت أمامها، وأقدمت على التسويات والمصالحات وهي القائدة في الإقليم، وذلك يفرض على باقي الدول العربية الاقتداء بالمملكة وتبني نهجًا مماثلًا، ليصبح العرب جميعهم -وليس المملكة فقط-جسرًا بين المنطقة والعالم.