array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 187

تنقية الأجواء لمسيرة تستجيب للتوقعات وتستشرف الغايات

الخميس، 22 حزيران/يونيو 2023

بيئة جديدة: تُعتبر القمة العربية منصة حيث يناقش القادة الاهتمامات المشتركة، ويتبادلون وجهات النظر، ويبحثون عن حلول للنزاعات والأزمات الإقليمية، في بيئة جديدة من العلاقات الدولية. وتماشيًا مع الأجواء التصالحية السائدة بين الدول العربية، ورغبة القيادة السعودية في إصلاح الخلافات وتنقية الأجواء، ظفرت قمة "جدة" بتصورات عملية لتجاوز أخطاء العمل المشترك، وبرؤية جديدة لتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة وخارجها. لذلك، فإن الهدف من هذا المقال هو توضيح الدور، الذي تلعبه القمة في العمل الجماعي؛ ضمن بنية نظرية أكثر عمومية، تسعى لاستخدام قمة "جدة" كحالة أمل يحفز على استحضار كل مُمسِكات الوحدة العربية. ويقدم المقال فرضيتين نظريتين واسعتين؛ الأولى هو أنه لا يمكن فهم دور القمم العربية في العمل الجماعي دون مراعاة البيئة السياسية، التي تنعقد فيها. وتنص الفرضية الثانية على أن الفاعلية الكبيرة في استخدام الدبلوماسية من المرجح أن تتبع قدرًا كبيرًا من النشاط الإيجابي بدلاً من أن تتأخر في تحصيل منافعه. لذلك، جاءت قمة "جدة" مكللة بنجاحٍ أوجدته التهيئة العاقلة لتأسيس مرحلة جديدة من العلاقات العربية ـ العربية. ولذلك، صار لزامًا بعد المصادقة على وثائق القمة أن تُفَعَّل آليات المتابعة التابعة لجامعة الدول العربية لضمان حُسْن تنفيذها. وبصفتها صاحبة الرئاسة الدورية للجامعة العربية، يمكن للمملكة العربية السعودية أن تلعب دورًا مهمًا في هذه العملية؛ من خلال الضغط على كل من بيروقراطية الجامعة والدول الأعضاء للوفاء بالوعود المقطوعة في قمة "جدة"، حتى تبلغ بها ما تطلعت إليه الشعوب.

إن نقاشًا عقلانيًا مهمًا ينبغي أن يبدأ بين أولئك، الذين ينبغي عليهم أن يدرسوا المغذى السياسي لما خرجت به القمة، والتناظر حول الدور، الذي يتعلق بهم، وقدرتهم على الحشد من أجل العمل الجماعي. إنهم يُدرِكون أنه من الصعب إنكار حدوث تطورات مهمة في هذا الصدد في السنوات الأخيرة من قِبَل أطرافٍ وقياداتٍ عربية مختلفة، ضاعفت من قيمتها تحولات واجتهادات ومبادرات السياسة السعودية في أعوام صعودها الأخيرة. فقد أصبح الملايين من الأشخاص في الوطن العربي، وحول العالم، متصلين من خلال صفحات الإعلام وشاشاته، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، مما حقق المعرفة بها، ويمكن أن يُسَهِّل التعبئة من أجل العمل الجماعي. ومع ذلك، يبقى الدور القيادي، الذي يعي أن تأثير هذه التغييرات السياسية متعدىٍ على ما عداها من جوانب اقتصادية واجتماعية مُعِينَة على نجاح التقدم المنشود. فالنقاش العقلاني المُشار إليه قد أصبح واقعًا وثقته جلسات قمة "جدة"، وعَلَّت سقفه مقرراتها المُعتمدة بإجماع القادة العرب، إذ رأينا كيف أن الجدل الحاد، الذي كان يرتبط بكل ذِكرٍ لسوريا؛ خلال السنوات القليلة الماضية، قد تحول إلى حالة تراضٍ جماعي على أهمية حضورها القومي في بيت العرب، وكيف تفاعل القادة بشكل خاص في سياق الأحداث الدرامية، التي يشهدها السودان، والإجماع العربي على تأييد جيشه حامي سيادته، والتنادي بحشد المواقف العالمية الإيجابية لصالحه، ومنها مفاوضات التهدئة الإنسانية، التي تستضيفها المملكة العربية السعودية بدعٍ أمريكي.

وكما تقدم، فإن الهدف من هذا المقال هو استجلاء الدول، غير أننا نود اقتراح وإثبات مبدأين نظريين؛ بشكل تقريبي؛ يهدفان إلى دفع هذه المناقشة العقلانية، التي تقدم ذكرها، إلى الأمام. وتماشياً مع منطوق ومنطق العنوان: " قمة الأمل العربي"، يناقش المقال إنه عند دراسة دور القمم العربية في العمل الجماعي، تأتي السياسة أولاً من الناحيتين التحليلية والزمنية. فمن الناحية التحليلية، نعتقد أنه من الخطأ محاولة فهم دور أية دبلوماسية رئاسية في أية عملية سياسية دون التفكير (أولًا) في البيئة السياسية المحيطة بأجندة مناقشاتها. وبنفس القدر من الأهمية، تأتي السياسة (ثانيًا) حسب الترتيب الزمني، حيث من المرجح أن تسبق الزيادة في عدد البنود، أو اللقاءات والتغييرات الواسعة في راهن الفعل السياسي على الأرض، ومحاولة تصحيح اعوجاجها، أو محاصرة سلبيات آثارها، بدلاً من مجرد متابعتها. ويُشكل هذا المبدأ النظري حجة أساسية أيضًا، إذا أخذناه بنية مراجعة السياسات، التي تتناول العلاقة بين المظالم السياسية والاحتجاج. ومع ذلك، باستطاعتنا أن نقول ليس الغرض من هذا المبدأ الخوض في عدد لا يحصى من الأسباب السياسية والاجتماعية للعمل الجماعي؛ بدلاً من ذلك، فإن النقطة المهمة هي ضرورة تركيز النظر على جملة ما تحقق لهدف للعمل الجماعي لإثبات سبب أهمية طبيعة البيئة السياسية، التي هيأتها القيادة السعودية لإنجاح القمة، وما على مؤسسات العمل العربي المشترك إلا ترجمة مقتضيات الأمل وغرس بذورها في تربة الواقع ليجني الجميع قِطَاف ثمارها.

إرادة التغيير:

جاء في تعريف معنى "أمل" في معجم المعاني الجامع إنه رجاء فيما يُسْتَبْعَدُ حصولُه، أو هو ما لا يُدرك، ولكن ميزة هذا الرجاء أنه يستحث الجميع على السعي فيما هو خير، وقد جُبِلَ الإنسان على الكدح لملاقاة كمالات غاياته بإرادة التغيير. ولا شك، فقد جلبت قمة جامعة الدول العربية، التي دعت لها واستضافتها المملكة العربية السعودية في جدة، واختتمت أعمالها يوم الجمعة 19 مايو 2023م، الكثير من الآمال والرجاءات، وغير قليل من الحماس، مقارنة بغيرها من بعض التجمعات العادية غير الملحوظة، والتي نظمتها الجامعة في سنوات عمرها الماضية. وأول الملاحظات، التي اعتمدتها أعين المراقبين، هي الدفع باتجاه وحدة الهدف العربي، وعرضت أهمية تكامل المواقف بوضوح لا لبس فيه، ويمكن أن يكون له تأثير إيجابي على بعض الأزمات المستعصية في المنطقة. وأبرز المؤشرات على ذلك مشاركة جميع الدول العربية، وكان معظمها ممثلًا بملوكها وأمرائها ورؤسائها، من بينهم الرئيس السوري بشار الأسد لأول مرة منذ 2010م، وبمشاركة الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي. وقد تحدثوا جميعًا تقريبًا بصوت واحد، وبنبرة محسوبة وعملية، تنادت بالتضامن والتكامل والوحدة، وأشادت بجهود القيادة السعودية ومساعيها لتنقية الأجواء العربية، بلوغًا لهذه الغايات. وتضمن البيان الختامي للقمة العربية الثانية والثلاثين، أو ما عُرِفَ بـ"إعلان جدة"، أكثر من 32 بندًا، شملت العديد من القضايا الهامة في المنطقة، منها القضية الفلسطينية والأزمة السورية والوضع اللبناني، وتَفَجُّر الصراع في السودان، والتعامل مع إيران، وكذلك قضايا الأمن القومي العربي والأمن الغذائي والملفات الاقتصادية والاجتماعية.

لقد حملت الكثير من التوقعات، التي سبقت انعقاد القمة، بُشريات لم تخذلها النتائج اللاحقة، إذ تحقق إقرار ما هو موجب من هذه التوقعات، بل أكثر مما تهامست به التكهنات. ففي دراسة مستفيضة بعنوان: "قمة الرياض وإحياء النظام العربي". أصدرتها مؤسسة TRENDS للأبحاث والاستشارات، يوم 17 مايو 2023م، أي عشية القمة، وأعدها الأستاذ الدكتور علي الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، تبدت بوادر هذا الأمل، وتنادت فرص النجاح. وللحث على إلزامية هذا النجاح، تناولت الدراسة الاتجاهات في المنطقة العربية، التي تشهد منعطفًا تاريخيًا في العلاقات البينية؛ مستعرضةً المشاورات وجهود التنسيق، التي قادتها السعودية بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وآثار التفاعلات الموجبة على الأزمة في سوريا، والتي أدت في النهاية إلى قرار إعادة دمج سوريا في "بيت العرب" جامعة الدول العربية، في 7 مايو 2023م، بعد ثلاثة عشر عامًا من الغياب. لذلك، كان الدكتور هلال مُحِقًا عندما وصف القمة بأنها فرصة لـ"مصالحة عربية"، أو قمة إحياء مؤسسات النظام العربي، لأنها تأتي بعد تحولات استراتيجية مهمة في المنطقة، عززتها سلسلة من المداولات المكثفة بقيادة مجموعة من الدول العربية لتخفيف حدة التوتر مع الجوار العربي، مما هيأ لهذه القمة أن تنعقد في أجواء ودية، وفي سياق رغبة كبيرة في الانفراج والمصالحة العربية.

لهذا، يبقى الأمل في إمكانية أن تحول السعودية وعود قمة جامعة الدول العربية إلى حقيقة، كما قال الدكتور عبد العزيز العويشق، الأمين العام المساعد لمجلس التعاون الخليجي للشؤون السياسية والتفاوض، في مقال له بـ"Arab News"، بتاريخ 20 مايو 2023م، الذي رصد فيه مُثيرات الاهتمام العالمي بأعمال القمة، التي تمثلت في مخاطبة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لها، شاكرًا فيها السعودية على جهودها السلمية والإنسانية، مناشدًا الدول العربية مساعدة بلاده على عكس احتلالها لأجزاء من بلاده. وذلك في وقت تسلمت فيه قيادة القمة رسالة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب رسائل أخرى، على رأسها ما بعث به الرئيس الصيني شي جين بينغ، وغيرهما من قادة الدول والمنظمات، التي أكدت جميعها ما اكتسبته هذه القمة من خصوصية إقليمية وأهمية عالمية. وما اقترابها من الحرمين الشريفين إلا سبب كافٍ للأمل في إمكانية تنفيذ القرارات، التي تم التوصل إليها في جدة بهمة وأمانة. يُضاف إلى ذلك انتقال الرئاسة الدورية لجامعة الدول العربية، من الجزائر، التي أعادت الثقة إلى ضرورة تمسك الأمة بقضيتها المركزية "فلسطين" إلى المملكة العربية السعودية، والتي اجتهدت في خلق كل الشروط الممهدة للنجاح في تناول القضايا محل الاهتمام المشترك، والتعهد بأنها ستكون مسؤولة عن متابعة تنفيذ تلك القرارات المُجْمَع عليها عربيًا، ووفق ما حددها إعلان "جدة" الصادر في ختام القمة.

بنود التأسيس:

يُدرك العارفون أنه ما من قمة إلا وتسبقها تحضيرات بعضها روتيني، وكثيرها تستدعيه مقتضيات الزمان والمكان، ومتعلقات الشأن، الذي يمثل نسق البنود الناظمة لأعمالها، والحاكمة لقراراتها. وخلال الأيام، التي سبقت القمة، قامت الدبلوماسية السعودية بخطوات واسعة وجريئة كان الغرض منها تهيئة الأجواء لعقد قمة أُرِيد لها أن تختلف في الشكل والمضمون عما سبقها. لذلك، انطلقت سلسلة من الأنشطة الدبلوماسية، التي تمحورت حول عدد كبير من القضايا، وانتظمت معها اجتماعات متتالية للوزراء، وكبار المسؤولين الآخرين، بغرض التوصل إلى تفاهمات وتسويات وتوافقات بشأن تلك القضايا موضع البحث. وأعان على ذلك تحقق جملة من الإنجازات السياسية في الأشهر القليلة الماضية، التي أعقبت الزلزال المميت، الذي ضرب سوريا وتركيا، ولفت العالم لأزمات الشرق الأوسط الأخرى، ولنوع آخر من الدبلوماسية الإنسانية، أو ما عُرِفَ بـ"دبلوماسية الكوارث". وانتبه العالم كذلك إلى أن دبلوماسية من نوع آخر كانت تضع اللمسات الأخيرة لاتفاق أحدث الكشف عنه خَضَّة سياسية أعنف من زلزال سوريا وتركيا، وهو التقارب بين السعودية وإيران، الذي حدث بوساطة صينية، وكان من ارتداداته الآنية المباشرة وقف إطلاق النار في اليمن، وما انعكس إيجابًا على عدد غير قليل من التطورات، التي غيرت المشهد السياسي الإقليمي في العراق وسوريا، وانداحت تأثيراتها إلى ما هو أبعد من هذه البلدان العربية الثلاثة. وتماشياً مع ذلك، وترتيبًا عليه، جرى عقد عدة اجتماعات تحضيرية لضمان نجاح القمة حتى تلبي مخرجاتها تطلعات الشعوب العربية. 

لهذا، لم يكن مستغربًا أن يضم جدول أعمال القمة ما اقترب من 40 بندًا؛ لم تتخلف قضية فلسطين أن تكون على رأسها، إذ ساعد في ذلك تعنت الحكومة الإسرائيلية الليكودية، الذي جعل من السهل الوصول إلى إجماع على معارضة سياساتها العنصرية، وعنفها اليومي المفرط ضد الفلسطينيين العزل، وتدنيسها المستمر للمقدسات الإسلامية، وهدم المنازل واقتلاع العائلات الفلسطينية من مناطقها، ومحاولات محو هوية البلدات والمجتمعات العربية، إضافة إلى الخطاب البغيض المناهض للعرب، وما يرتكبه كبار المسؤولين الإسرائيليين من أعمال منافية للقانون الدولي وحقوق الإنسان. ورغم ما تبذله الحكومة المصرية من أدوار تستحق الثناء على ترتيب وقف إطلاق النار في غزة، إلا أن الأمل ما يزال ضئيلًا في التعامل مع ما تبقى من جوانب عصية في هذا الصراع الدموي، الذي يظل هدف حَلِّهِ محوريًا، وذا أهمية قصوى بالنسبة للدول العربية. فيما حتم توقيت القمة، وتطورات آخر المستجدات في المنطقة أن تكون القضايا العربية الساخنة الأخرى في بؤرة الاهتمام، خاصة أن المنطقة تصارع تحديات اقتصادية متفاقمة، وأزمات سياسية طارئة؛ مثل، التمرد العسكري في السودان، الذي قامت به قوات الدعم السريع، الذي سارعت القيادة السعودية لدعوة أطرافه للتفاوض، ويسرت استضافتهم ورعاية ما اتفقا عليه من هُدَنٍ عديدة، لأغراضٍ إنسانية؛ أحدث بعضها انفراجات مُقَدَّرَة، وأفشل تَعَنُّت التمرد في الوفاء بمطلوبات البعض الآخر، خاصة شرط الخروج من المستشفيات والمرافق العامة، التي اتخذها مقارًا عسكرية، ومنازل المواطنين، والتي استباحوها وطردوا ساكنيها. كما كان على القمة أن تعمل على تكييف التعامل مع العديد من الدول العربية، التي تشهد تحديات مركبة أثناء محاولتها إعادة بناء مؤسساتها، واستعادة ما تعطل منها بعد سنوات من عدم الاستقرار السياسي؛ مثل، اليمن، وليبيا، ولبنان.

لقد كانت أهم النقاط المضيئة، التي سبقت القمة، كما ورد أعلاه، هي عودة علاقات المملكة العربية السعودية الدبلوماسية مع إيران، ووضعها حدًا للحرب المستمرة منذ سنوات في اليمن، وقادت الضغط من أجل عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. وكان الاقتران الغريب بين زعيمين يمثلان صراعات القوى العظمى في الإقليم والعالم، في نفس قاعة القمة، حيث خاطب الرئيس السوري بشار الأسد بمنطق يقترب من روسيا ويعادي الغرب، وتحدث الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي بلسان الغرب ضد روسيا. وكان المزيج الفريد من حُسن التدبير نتيجة لجهد استثنائي من الدبلوماسية غير التقليدية بقيادة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يسعى إلى التقارب الإقليمي بنفس النشاط، والذي جلبه إلى محاولات تهدئة المواجهات الحادة على مستوى العالم، بنموذجيها السوري والأوكراني. فقد رحب ولي العهد السعودي بكل من الأسد وزيلينسكي في مدينة جدة، معربًا عن دعمه لعودة سوريا لحضنها العربي بلا شروط، كما عبر عن دعمه أيضًا "لكل ما يساعد في الحد من الأزمة بين روسيا وأوكرانيا"، مضيفًا أن المملكة، التي توسطت في تبادل الأسرى العام الماضي "مستعدة لبذل جهود الوساطة". لذلك، كانت نتائج قمة "جدة" بالفعل علامة فارقة في العمل العربي المشترك، واستهدفت إبراز تطلعات المواطنين العرب، الذين كانت لهم توقعات عالية، أمكن للقمة أن تخاطبها، بانتظار تطويرها لآليات مستدامة لمواجهة القضايا العربية المستجدة. 

الاستنتاجات:

طرحت قمة "جدة"؛ في تقيمنا، تقديرات جديدة للعمل العربي يمكن من خلالها للقيادات السياسية العربية أن تساهم في لعب دور أكبر في تقرير مستقبل المنطقة مجتمعة، والإعانة على فهم أفضل لدور المؤسسات الحاضنة للفعل السياسي في العمل الجماعي. وتلزمنا الدقة بالقول إن أول هذه التقديرات يجب أن تقنع النتائج المترتبة عليها الرأي العام العربي بالأهمية الحاسمة للنظر في السياق السياسي لما تمخضت عنه هذه القمة قبل القفز إلى تضخيم بعض الظواهر العارضة، التي تَصْرِف النظر عن تماسك الإجماع حول أخص ما هدف إلى استيفائه القادة من بنود اللقاء، مع التوصية ألا ينساق المراقبون إلى محاولة تحليل ما تقاذفته الظنون عبر قراءة متعجلة لبعض الإشارات، أو ما بدا على بعض الوجوه من تعبيرات أمام أضواء كاميرات الإعلام. فالجدية تستدعي؛ حيثما أمكن، وجوب التحلي بمصداقية الباحثين عن الحقيقة، ومحاولة دمج المتغيرات السياسية بشكل كامل في تحليلاتهم، التي تستوضح كمالات ما أنجزته هذه القمة ذات الخصوصية العالية. ونحن نُدْرِك أنه ما كان لها أن تُثير اهتمامًا لولا حرص القيادة السعودية، هذه المرة، أن يتوجه نتاج كسبها نحو مستقبل عربي أفضل مما كان، وما هو كائن. فشرعت في التهيئة له بجهود دبلوماسية لإنهاء حقبة الخلافات والصراعات الداخلية، والبينية، والإقليمية، وعمدت إلى ترتيب أولويات المخاطر والتحديات، التي تحافظ على ثوابت الأمن القومي العربي، وما يتطلبه من وضعٍ لاستراتيجيات تأمين المنطقة العربية وإبعادها عن شبح الاستقطاب، وكل ما يتأتى من تأثيرات خارجية تجلبها الصراعات الدولية، والاختراقات الإقليمية، التي توفر الذرائع للتدخلات السالبة، وما تجره من هشاشة تفتح الطريق أمام الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة.

ولمن لم تسعفه الدِربَة على إجالة النظر الكلي عند التحليل، فإنه يمكن القول إن التقديرات المشار إليها تتعلق بالمساهمة، التي ترتبط بشكل أكبر بالأفكار الجديدة، والتي يوفرها المنظور الوطني لقمة أراد لها مُنظِمُوها ومُسْتَضِيفُوها قومية بامتياز، ليس هذا فحسب، بل إقليمية وعالمية في أفق تصوراتها الأشمل. وقد لا يستغرب القارئ عندما تجول ناظريه بتقييمات قد تبدو أقل تفاؤلًا مما حاولنا تثبيته في متن هذا المقال، وذلك لأن الرؤية للعمل العربي المشترك لحق بها الكثير من التشويش نتيجة للإخفاقات السابقة، وما لازم بعض القمم من تقاصر عن بلوغ الغايات، أو الاقتراب من تطلعات الجماهير العربية فيما تصبو إليه. لذلك، فإن التحليلات الموجبة، التي تبحث في هذه المسألة باستخدام مداخل النظر الفردية لحاجيات الكل، أو الجماعية لرغبات الفرد المهمة. ومن هنا، فإن الرؤية عبر الوطنية، التي تحلت بها خطابات ومداخلات القادة العرب؛ هذه المرة، وفرت منظورًا مختلفًا تمامًا حول ما طُرِحَ على جدول القمة من مسائل شديدة الحساسية، وبالغة الخطر. وتتضح هذه النقطة؛ لمن أراد وثوقًا بعرضنا هذا، من خلال حقيقة أننا وجدنا ارتباطًا إيجابيًا ثابتًا بين مدى الاتساق في هذه الخطابات والمداخلات والقرارات المُتخذة كخاتمةَ إعلانٍ بِنجاحِ القمة، الذي ما كان له أن يتحقق لولا ما سبقه من تهيئة وتنقية للأجواء العربية.

 إن هذا الاستنتاج السابق يدفعنا للقول إن الهدف عميق المدى لتحليلنا هذا يجب أن يكون حافزًا لدمج المنظورات المختلفة، التي توصل إليها الحادبون على صحة العمل العربي المشترك، ووضعها في وحدة موضوعية أكثر تماسكًا، مما يشكله رأي الواحد؛ مهما أسعفته حجج الإقناع. وتتمثل المساهمة الجماعية المرجوة في إقناع المراقبين والمحللين المرموقين، وربما المعلقين المشهورين، بالتحرك نحو ما يمكن أن نسميه النهج السياقي لجماع القضايا العامة المتعدية للخصوصية الوطنية، التي حفلت بمثلها مقررات القمة الأخيرة. وما يقدمه هذا المقال هنا ما هو إلا مساهمة تحاول ربط المبدأ الخاص بهذه القمة بنظرية أكثر عمومية في الفعل السياسي الجماعي، الذي يستشرف مستقبلًا؛ إن لم نقل إنه مختلف تمامًا عن السابق، فهو جديد وحميد. رغم أننا لا نقصد بالجدة الخروج عن مألوف أداء القمم العربية المختلفة، لكن المقصود بالقطع هو الإشارة إلى أن الأطر النظرية، التي يمكن أن تكون مُسْتَوعِبَة لحجم التحول في الأداء، وطبيعة التوافق حول آليات إقراره وإنفاذه، والتي قد لا يمكن العثور عليها بشكل متساوٍ، أو حتى أكثر فاعلية مما سبقها من محاولات. ولكن، وبدلاً من كل ذلك، يمكن لنا ولغيرنا أن نجتهد؛ فرادى، أو جماعات، لبناء نظرية تؤطر لهذا التوجه الجديد، التي تستصحب التفكير في كل من أوجه التشابه والاختلاف في الدور، الذي لعبته وتلعبه القمم العربية المختلفة في الترتيبات السياسية الجماعية، وما سبق من تحضيرات، وما تمخض عنها من مشاريع شخصت في مضمار الواقع.

مقالات لنفس الكاتب