array(1) { [0]=> object(stdClass)#12963 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 187

أنهت "قمة جدة" سياسة حرق المراحل وأن التنمية طريق التغيير لا "البلاغ رقم واحد"

الخميس، 22 حزيران/يونيو 2023

"أنت لا تخوض النهر نفسه مرتين، فأنت تتغير والنهر يتغير" العبارة الشهيرة لفيلسوف الإغريق هيراقليطس، ربما تساعد في فهم "إعلان جدة" الصادر عن القمة العربية في دورتها العادية الثانية والثلاثين. فقد أكد الإعلان "على أهمية تعزيز العمل العربي المشترك والمصير الواحد وضرورة توحيد الكلمة...." وهي عبارات كثيرًا ما ترددت في بيانات القمم العربية السابقة وباتت محصلاتها معروفة، ولكن مياهًا كثيرة جرت منذ تلك القمم، وعالمنا العربي يخوض النهر نفسه ولكنه كما مياه النهر تتغير، وهذا التغير ليس خيارًا ولا ترفًا لأن الشعوب التي تعيش في أقفاص الماضي تتحول إلى "عرب بائدة" كما يعلمنا التاريخ، وحضارتنا العربية والإسلامية ما زالت ملهمة لما يزيد عن مليار نسمة من سكان عالمنا اليوم.

ومع أن "إعلان جدة" لم يحمل عنوانًا مختصرًا من نوع قمة "لم الشمل" كما في قمة الجزائر العام الماضي، فأنه ربما أقرب إلى أن يكون "قمة الاستقرار بانتظار التغيير"، والأمن كما ورد في الإعلان، هو مفتاح الاستقرار، أما التغيير فأنه التنمية المستدامة، وقد وردت في الإعلان ما يزيد عن 15 مرة فهي المفتاح "لأن يكون مواطنو دولنا هدف التنمية".

ربما يرى البعض أن هناك تناقض ما بين "الاستقرار والتغيير"، وهنا لابد من التوضيح أن الاستقرار، لا يعني الركود ولا الجمود بل حالة من التوازن الأمني والاجتماعي والاقتصادي تتيح للنخبة أو القيادة ما يكفي من الوقت لابتكار حلول ناجعة لمواجهة التحديات وما أكثرها. وهو ما يقود إلى التغيير، ولعل الاستقرار النسبي الذي عاشته منطقة الخليج خلال السنوات الماضية هو النموذج الذي رفد ينابيع الابتكار والابداع لدى أهل الخليج العربي والمقيمين فيه.

انعقدت قمة جدة في مناخ تفاقمت فيه الخلافات والصراعات والحروب الداخلية في العديد من الدول العربية. وتصاعدت فيه الانقسامات التي من أبرزها الانقسام السياسي والعسكري في ليبيا، والشغور الرئاسي والأزمة الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة في لبنان، والاقتتال العسكري الذي انفجر في السودان، واستمرار الخلاف بين الجزائر والمغرب، والوضع الكارثي في اليمن والبؤر الملتهبة في سوريا. يضاف إلى ذلك السياسات العدوانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية والتي تصاعدت بشكل نوعي خلال الشهور الماضية.

لذلك فأن الدعوة لتضافر الجهود من أجل تقريب وجهات النظر وحل العديد من العوائق من خلال منصة للتشاور لرأب الصدع في الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية وتنقية الأجواء الناتجة من الخلافات البينية والصراعات الداخلية، أصبحت ضرورة ملحة لمستقبل العالم العربي الذي تحيط به الويلات من كل جانب.

وقد تولت المملكة العربية السعودية دفة القيادة في هذا الاتجاه لكونها تتولى رئاسة جامعة الدول العربية للعام القادم. وسبقت القمة العديد من الاجتماعات التحضيرية التي كانت تهدف إلى متابعة الكثير من التطورات الإقليمية والدولية من خلال اللقاءات التشاورية مع ممثلي الوزارات والحكومات المختلفة وتحددت العديد من القضايا التي أدرجت ضمن أولويات القمة وفي طليعتها دعم التنمية بكافة أبعادها.

وفي حين أن التعاون الإقليمي والدولي يعتبر من الركائز المهمة لدفع عجلة النمو والازدهار في المنطقة، فأن السعي لتطوير أسس لمثل هذا التعاون عبر رؤية مشتركة ومشاريع تكاملية موحدة بين الدول العربية ستوفر فرصة جيدة لتعزيز الأمن والسلم والتنمية في المنطقة من خلال التعاون بين الدول ومع المنظمات الإقليمية والدولية من أجل بلورة شراكات مساندة لدعم الجهود الإنسانية والتنموية للتصدي للتحديات الاقتصادية والأزمات الإنسانية المشتركة التي تعاني منها الدول العربية.

وقد أجمعت القيادات السياسية على أهمية أن تكون القمة الثانية والثلاثين قمة تجديد وتغيير، وكما أشار الأمير فيصل بن فرحان آل سعود في كلمته الافتتاحية إلى أن العالم " يمر بتحديات كبيرة تتطلب جبهة موحدة" ويتوجب علينا "أن نبتكر آليات جديدة لمواجهة التحديات التي تواجه بلداننا ونحتاج إلى العمل معا من أجل النهوض بالشعوب العربية".

أما أبرز ما أكدت عليه أجندة "قمة جدة" فيمكن تلخيصه في الآتي:

التنمية المستدامة مكون أساسي

لم يعد خافيًا مدى تردي الأوضاع الاقتصادية في الدول العربية وتفاقم المشاكل المترتبة نتيجة تراجع معدلات النمو الاقتصادي وتفاقم مشكلة الديون وتعاظم معدلات البطالة مما يجعل البحث عن الحلول الكفيلة بتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في المنطقة بندًا أساسيًا من بنود القمة ويمكن أن يحدد من خلاله الرؤى الاستراتيجية التي ترسم أطر  وسبل توجيه الاستثمار وتطوير البنى التحتية وتعزيز فرص العمل وتحفيز الابتكار والريادة مما يوفر الحلول للعديد  من المشاكل المسببة لعدم الاستقرار في المنطقة، وذلك لأن  الصدمات  الاقتصادية المتعددة التي يتعرض لها العالم لها تأثير مضاعف على اقتصاد أغلب الدول العربية مما زاد من ارتفاع معدلات الفقر وفاقم مستويات  عدم المساواة.  وقد أشارت التقارير الصادرة عن الإسكوا أن الصراعات أثرت تأثيرًا مباشرًا وبصورة واسعة النطاق على التنمية في كل من سوريا والسودان والعراق وليبيا واليمن. وذكرت أن نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع زادت بشكل ملحوظ في عام 2021م، لتصل إلى أكثر من 190 مليون شخص. ومن المتوقع ارتفاعها في السنوات الأخيرة نتيجة التطورات التي ألمت بالعالم كله وترتب عليها تسارع في معدلات التضخم، وارتفاع في أسعار المواد الغذائية، والتراجع الكبير في قيمة العملات للعديد من الدول وارتفاع أسعار الفائدة الدولية نتيجة تشديد السياسات النقدية في الاقتصادات المتقدمة، مما زاد من صعوبة مدفوعات خدمة الديون أو إعادة تمويلها. كل ذلك تزامن مع تباطؤ الاستهلاك الخاص وتراجع الاستثمار الأجنبي في هذه البلدان.

كما أن أزمات الغذاء والوقود العالمية الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، فاقمت الضغوط التضخمية الناجمة عن مشاكل سلسلة التوريد العالمية وأضرت بالأمن الغذائي. وقد أشار استطلاع الباروميتر العربي الذي أجري بين أكتوبر 2021 ويوليو 2022م، أن انعدام الأمن الغذائي هو الهاجس الرئيسي لغالبية السكان في العالم العربي، حيث بلغت نسبته 67٪ في ليبيا و63% في لبنان و62٪ في المغرب وقد عبر 68% من سكان مصر و53% من سكان ليبيا عن قلقهم بشأن نفاد الغذاء قبل أن يتمكنوا من الحصول على المزيد. كما أن تصاعد التحديات البيئية في السنوات الأخيرة، بدءًا من ندرة المياه إلى تدهور الأراضي وفقدان التنوع البيولوجي، ترتب عليها تبعات إضافية فاقمت من مشكلة الأمن الغذائي، وشكلت تحديًا كبيرًا على مؤشر التنمية بالمقارنة بمؤشرات التنمية العالمية الأخرى. وهذا ما أكدت عليه الكلمة الافتتاحية لسمو الأمير محمد بن سلمان حين قال إن "التحديات الكبرى التي تعرض لها العالم مؤخرًا تستدعي مزيدًا من تضافر الجهود الدولية لتعافي الاقتصاد العالمي وتحقيق الأمن الغذائي والصحي".

ونظرا للترتيب المنخفض للبلدان العربية في مؤشر التعليم المعدل حسب الجودة، أشار تقرير الاسكوا إلى أن "مما يثير القلق حقيقة أنه لا يوجد بلد عربي من بين أفضل البلدان أداءً في التعليم". مما يستوجب على "بلدان المنطقة بذل المزيد من الجهد لمعالجة الفجوات التعليمية، ليس فقط من خلال زيادة الالتحاق بالمدارس، ولكن أيضًا من خلال زيادة الاستثمار في المبادرات الرامية إلى تحسين جودة التعليم." ويكتسب التركيز على جودة التعليم أهمية خاصة نظرا للظروف العالمية والإقليمية الراهنة. وذلك لأن التعليم الجيد يعد أمرًا أساسيًا للتنفيذ الكامل لخطة التنمية المستدامة لعام 2030م، خصوصًا أن الهدف 4 من أهداف التنمية المستدامة، يركز على أهمية "ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع". وذلك لأن التأثير الإيجابي للعمالة الماهرة مقاسًا بمستوى التحصيل العلمي على الناتج يساهم في تعزيز الإنتاجية ويزيد الدخل بنسبة تتراوح بين 8% و13%. ويعد الحصول على التكنولوجيا المتقدمة واستخدامها محركًا مهمًا نظرا لتأثيره المباشر على جودة التعليم وحيث أن الثورة الصناعية الرابعة تفرض تحديات وفرصًا كبيرة للبلدان لكونها تؤثر مباشرة على مفردات التنمية كافة، بما فيها التنمية البشرية والاستدامة البيئية والإدارية.  وحيث أن هناك عجز معرفي كبير يعوق قدرة الدول العربية على سد الفجوة الرقمية نتيجة عدم جاهزيتها للتحول التقني مما يجعل أغلبية سكانها عرضة للآثار السلبية لمثل هذا التحول ويفاقم من المشاكل الاقتصادية التي يتعرضون لها. وفي نفس السياق لا تزال البطالة وخصوصًا بطالة الشباب تشكل تحديات ملحة في معظم الدول العربية لا سيما تلك الدول منخفضة الدخل والتي تعاني من عدم الاستقرار السياسي إذ أن فرص العمل ومحاربة البطالة يعد أمرًا حيويًا لرفع معدلات التنمية البشرية، وزيادة الدخل.

ولم يغفل سمو ولي العهد التحديات البيئية "التي يواجهها العالم وعلى رأسها التغير المناخي" ودعا الى ضرورة " التعامل معها بواقعية ومسؤولية وشمولية لتحقيق التنمية المستدامة من خلال تبني نهج متوازن بالانتقال المتدرج والمسؤول نحو مصادر طاقة أكثر ديمومة". لذلك طرح "إعلان جدة" قضية التنمية المستدامة بمحدداتها الرئيسية التي تهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار والعيش الكريم لشعوب المنطقة، وأكد على أهمية "حشد القدرات لخلق مستقبل قائم على الابتكار بما يخدم ويعزز الأمن والاستقرار والرفاهية". ويواجه التحديات والأزمات العالمية التي تعصف بالاقتصاد.

وقد حظيت مبادرات المملكة المعنية بالتنمية المستدامة بأبعادها الثقافية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية بحيز بارز في إعلان جدة. فمن أجل دعم الممارسات الثقافية الصديقة للبيئة وتوظيفها في دعم الاقتصاد الإبداعي في الدول العربية أكدت مبادرة الثقافة والمستقبل الأخضر على أهمية رفع مستوى التزام القطاع الثقافي في الدول العربية تجاه أهداف التنمية المستدامة، وتطوير السياسات الثقافية المرتبطة بها، بما فيها مبادرة استدامة سلاسل إمداد السلع الغذائية الأساسية للدول العربية، والتي من المتوقع أن توفر فرصًا "استثمارية ذات جدوى اقتصادية ومالية تساهم في تحقيق الأمن الغذائي لدول الوطن العربي". وحيث أن تحفيز البحث العلمي والتطبيقي والابتكار يعتبر بعدًا هامًا في التنمية المستدامة، أولت مبادرة البحث والتميز في صناعة تحلية المياه وحلولها اهتمامًا بارزًا في صناعة إنتاج المياه المحلاة والمساعدة في تقديم الحلول الناجعة للدول المحتاجة للمياه. وذلك من خلال "التركيز على نشر ومشاركة المعرفة والتجارب والمساهمة في تحسين اقتصادات هذه الصناعة لخفض التكلفة ورفع كفاءة العمليات واستدامتها بيئيًا، لتكون صناعة استراتيجية للدول العربية". ونظرًا لأهمية البحث العلمي كقاطرة لدفع التنمية المستدامة في الاتجاه الصحيح فأن مبادرة إنشاء حاوية فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة والتنمية الاقتصادية، من شأنها "احتضان التوجهات والأفكار الجديدة التي تسلط الضوء على أهمية مبادرات التنمية المستدامة في المنطقة العربية لتعزيز الاهتمام المشترك المتعدد الأطراف بالتعاون البحثي وإبرام شراكات استراتيجية"، تساهم في استشراف المستقبل وتقديم الحلول الكفيلة بتلبية الاحتياجات المتنوعة لأفراد المجتمع ، وتعزيز الرفاهية الشخصية والتماسك الاجتماعي وخلق تكافؤ الفرص".

وفي حين أن التنمية المستدامة قضية مفصلية لتحقيق الرفاه الاقتصادي وتوفير سبل العيش الكريم لشعوب المنطقة

 فإن السعي لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول العربية، وزيادة التعاون، وتطوير نماذج اقتصادية ومالية مستدامة أصبحت ضرورية. لذلك أكد إعلان جدة على أهمية "تهيئة الظروف واستثمار الفرص وتعزيز وتكريس الشراكات وترسيخ التفاهمات بين دولنا على أساس المصالح المشتركة، والتعاون لتحقيق مستهدفات التنمية المستدامة وتنفيذ الرؤى التنموية الطموحة" وذلك من أجل "صناعة مستقبل يلبي آمال وتطلعات شعوبنا". إن التنمية المستدامة بأبعادها المختلفة تتطلب حشد الطاقات والقدرات لصناعة مستقبل قائم على الإبداع والابتكار ومواكبة التطورات المختلفة، فمن المهم تبني الرؤى والخطط الكفيلة بتحديد الأولويات واستنباط الفرص الواعدة التي توجه لها الاستثمارات المشتركة التي تلبي الحاجات وتعالج التحديات. ومن المهم لمثل هذه الرؤى أن تكون قادرة "على توطين التنمية وتفعيل الإمكانات المتوفرة، واستثمار التقنية من أجل تحقيق نهضة عربية صناعية وزراعية شاملة تتكامل في تشييدها قدرات دولنا" وتلبي آمال وتطلعات الشعوب العربية وبما يحقق المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة لكافة الدول العربية، وتؤسس "لعهد جديد من التعاون المشترك لتعميق الشراكة الاستراتيجية" حسب قول سمو ولي العهد. 

ومن ضمن هذا التوجه نشير إلى مؤتمر وزراء النقل الذي عقد في بغداد في 27 مايو تحت مسمى “طريق التنمية الاستراتيجية"، وشارك فيه ممثلون عن عشر دول بينها دول المجلس، بالإضافة إلى ممثلين عن تركيا وإيران والأردن وسوريا والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، وتمت الإشارة فيه إلى "مشروع طريق التنمية" الذي من المتوقع أن يربط ما بين ميناء الفاو في جنوب العراق وصولًا إلى الحدود التركية في أقصى الشمال ويشكل مسارًا حيويًا لجميع دول المنطقة، وقد تضمن خطوطًا للسكك الحديد تصل إلى 1200 كيلومتر، وطريقًا بريًا سريعًا، مما قد يساهم في انتقال البضائع والركاب إلى أوروبا وتبلغ كلفته حوالي 17 مليار دولار، وهو استثمار يمنح العراق ما يزيد عن 4 مليارات دولار، بينما تستفيد منه قطاعات النقل والصناعة والزراعة والطاقة المتجددة، وما سيتاح من استثمارات في المطارات والقطارات السريعة والطرق البرية. ويفترض أن يتم إنجاز المشروع بحلول 2028م، إن مشاريع من هذا النوع تصل ما بين الشرق والغرب تصلح أن تكون نموذجًا للتكامل العربي والإقليمي والدولي.

التحديات الأمنية

ربطت قمة جدة في بندها السابع ما بين التنمية المستدامة وما بين الأمن والاستقرار. وبعد أن حاولنا رسم بعض مساحات التنمية المستدامة، لابد من طرح السؤال: ما هي التحديات الأمنية التي تواجه دولنا العربية؟ وما هي الآفاق التي تقترحها التنمية " لتعزيز الأمن والاستقرار لمواطني دولنا"؟

قبل الدخول في التفاصيل لابد من التركيز على أن القمة استبعدت نهائيًا أية حلول عسكرية واعتمدت الدبلوماسية والحوار للوصول إلى حلول سياسية للازمات التي تعصف بالشعوب العربية في السودان واليمن وليبيا وسوريا وغيرها. هذه الأزمات وهي أقرب إلى الكوارث، داخلية ذات امتداد خارجي، أو هي خارجية بالمطلق كما هو الحال في قضية فلسطين التي اعتبرتها القمة القضية المركزية للعالم العربي، حيث المواجهة السافرة والمستمرة ما بين الشعب الفلسطيني وبين عدو خارجي يحتل أرضه ويمضي في انتهاك حقوقه. وقد أكدت القمة على "إيجاد أفق حقيقي لتحقيق السلام على أساس استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وخاصة في العودة وتقرير المصير وتجسيد استقلال دولة فلسطين ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية في حدود عام 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية". هنا ربما من المفيد أن نتساءل إذا كان حل الدولتين ما زال قائمًا في ظل حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفًا، دينيًا وقوميًا.  وما إذا كان حل الدولة الواحدة، مع حقوق متساوية للعرب واليهود كما يطرح كثير من المراقبين، ومعهم جماعات وازنة من الفلسطينيين، هو الحل الممكن دبلوماسيًا.

أما الأزمات الداخلية ذات البعد الخارجي، فربما كانت الجمهورية العربية السورية في طليعتها، حيث تحتل جيوش أجنبية أجزاء من أراضيها بينما تسيطر ميليشيات عرقية وطائفية على أجزاء أخرى. وقد رحبت القمة بعودة النظام السوري إلى الجامعة العربية "على أن يساهم ذلك في دعم استقرار سوريا ويحافظ على وحدة أراضيها مع تكثيف الجهود على مساعدتها على تجاوز أزمتها". وقد واجه هذا القرار الشجاع والعملي والواقعي الذي بدأته دولة الإمارات في عام 2018م، عندما أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا معارضة شديدة من الكونجرس الأمريكي عندما استبق القمة بقانون "مكافحة التطبيع مع الأسد" بينما رحبت به طهران وموسكو وهو ما يكشف عن الامتداد الخارجي للأزمة السورية، على أمل أن يكون قرار القمة هو الخطوة الأولى في تحقيق الاستقرار للشعب السوري وإعادة النازحين إلى وطنهم وهو ما يحتاج إلى جهود دبلوماسية متشعبة.

ووصولًا إلى جمهورية السودان الشقيقة، ربما كان انفجار حرب الجنرالين هو ما دفع قمة جدة إلى "محاولة تجنيب الشعب السوداني ويلات هذه الحرب، فأكدت على "ضرورة التهدئة وتغليب لغة الحوار وتوحيد الصف والمحافظة على مؤسسات الدولة الوطنية ومنع انهيارها والحيلولة دون أي تدخل خارجي في الشأن السوداني يؤجج الصراع ويهدد السلم والأمن الإقليميين". أما على الأرض فقد نجحت الدبلوماسية السعودية والأمريكية في فرض هدنة على المتحاربين، تم تجديدها مرات ، وهو ما أتاح الفرصة للمملكة أن تتابع جهودها الإنسانية في إغاثة الشعب السوداني وتخفيف ويلات الحرب التي غلبت عليها الطموحات الشخصية، واستدعت قمة جدة للتحذير من أي تدخل خارجي وهو ما ظهرت طلائعه عبر تقارير عن نقل أسلحة وحشد مجموعات خارجية لنصرة أحد الطرفين، ولم يكن عبثًا ورود عبارة " تهديد السلم والأمن الإقليميين" في بيان القمة وهو ما يعني غالبًا دول الجوار الإقليمي وصولاً إلى الدول الكبرى التي تخوض حروبًا بالوكالة على امتداد القارة الإفريقية.

ونصل إلى حرب اليمن المشتعلة في البيت الخليجي منذ ثمان سنوات وقد لخصت القمة العربية موقفها بدعم " كل ما يضمن استقرار الجمهورية اليمنية ويحقق تطلعات الشعب اليمني الشقيق ودعم الجهود الأممية والإقليمية الرامية إلى التوصل إلى حل سياسي للازمة اليمنية استنادًا إلى المرجعيات الثلاث المتمثلة في المبادرة الخليجية وآلياتها التنظيمية ومخرجات الحوار الوطني اليمني وقرار مجلس الأمن 2216. وقد جددت القمة "دعمها لمجلس القيادة الرئاسي في اليمن". وكما بات واضحًا فإن حرب اليمن هي حرب الجمهورية الإيرانية بالوكالة تحريضًا ودعمًا بالمال والسلاح والمستشارين لاستهداف دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة السعودية والإمارات. والحل السياسي الذي تبنته القمة يمر في عاصمة الصين التي رعت الاتفاق "التاريخي"  بين طهران والرياض. ورغم الثقة الواسعة بضمانات بكين، إلا أن هذا الحل يعتمد على مدى التزام الجانب الايراني بتعهداته في دعم السلام والاستقرار في المنطقة. ورغم اقدام الجانب العربي على فتح باب المفاوضات عبر وفود سعودية وعمانية، إلا أن الطرف الحاكم في صنعاء ما زال يرفع سقف مطالبه ويمارس سياسة أقرب إلى الابتزاز. وإلى هذه السياسة نضيف ما تمارسه إيران في سوريا حيث كانت زيارة الرئيس الإيراني إشارة واضحة إلى محاولة تثبيت موقع إيران المستجد اقتصاديًا وميليشاويًا في سوريا. ثم جاءت المناورة العسكرية لحزب الله في لبنان ردًا على قرار القمة عندما شددت في بندها السادس على " الرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسة الدولة". وأخيرًا دعوة المرشد الإيراني إلى "توسيع العمق الاستراتيجي للبلاد" وتجنب عقد الآمال على أقوال مسؤولي الدول الأخرى وقراراتهم"، وتحذير قيادات السلك الخارجي من "الثقة غير الضرورية بالأطراف الأخرى". كلها مؤشرات تكشف أن سفينة الدبلوماسية العربية تبحر في محيط متلاطم الأمواج.

الخاتمة

لقد وضعت "قمة جدة" وما تلاها حدا لسياسة حرق المراحل التي دفعت الشعوب العربية ثمنها باهظا وبات الاستقرار والتنمية المستدامة هو طريق التغيير وليس "البلاغ رقم واحد". وكما ذكر سمو ولي العهد في كلمته " متفائلون أن تؤدي القمة إلى وضع إطار شامل لمرحلة نبعث فيها الأمل لشباب وشابات المنطقة بمستقبل مشرق يتمكنون فيه من تحقيق آمالهم".

مقالات لنفس الكاتب