array(1) { [0]=> object(stdClass)#13009 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 187

المنطقة تحتاج رؤية جديدة لصياغة مشروعًا عربيًا وطنيًا لبناء المشروع الحضاري النهضوي

الخميس، 22 حزيران/يونيو 2023

تحميل    ملف الدراسة

وكان من أهم العوامل الرئيسية التي أدت إلى وصول بعض الدول العربية إلى هذه الحالة من التدهور تتمثل في أن البيئة الداخلية لهذه الدول كانت مهيأة إلى حد كبير لتفجر الصراعات الداخلية بين المكونات والقوى المختلفة لأسباب متعلقة، سواء بالسيطرة على السلطة أو النفوذ أو الثروة وعدم وضع أسس واقعية لتسوية هذه الصراعات، وفى الوقت نفسه فقد سمحت هذه البيئة بتدخلات خارجية لا تهتم إلا بمصالحها الخاصة وتسقط من أجنداتها مصالح الدول العربية وشعوبها.

فقد كانت بعض الدول العربية تعاني من الجمود والتسلط ومن انتشار الفساد والركود الاقتصاديّ وسوء وتردي الأحوال المَعيشية وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء وغلاء الأسعار وانتشار الجهل والفقر والبطالة، إضافة إلى الاستبداد والتضييق السياسيّ والأمني وعدم نزاهة الانتخابات في معظم البلاد العربية. كما كانت معظم الدول العربية تعاني من الضعف والهشاشة نتيجة غياب التنمية والتنافس والخلافات الداخلية والصراعات العربية-العربية تزامنًا مع الترويج والتدخلات الخارجية من قبل بعض القوى الإقليمية والغربية ومصحوبًا بضعف الجامعة العربية والمنظمات الإقليمية الأخرى وغياب التنسيق والتعاون وعدم وجود المشروع العربي الجامع.

    وفرت هذه الظروف مجتمعة لما شهدته المنطقة العربية من ثورات، والتي شكلت منعرجًا سياسيًا خطيرًا، تجلى في حركات احتجاجية شعبية كبيرة، اندلعت رحاها من تونس أواخر سنة 2010م، ثم انتشرت في باقي أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو ما تم إطلاق "ثورات الربيع العربي" عليه ، واختلفت هذه الثورات الشعبية من بلد لآخر، ولا تزال آثارها السلبية مستمرة إلى غاية يومنا هذا. وحيث نجحت ثورات الربيع العربي في إسقاط أنظمة الحكم في كل من تونس ومصر وليبيا، زعزعة هذه الثورات لبنة طبيعية الحكم وأفرزت هيمنة للقوى الإسلامية على السلطة وذلك بعد نتائج الانتخابات التي أعقبت التغيير السياسي للأنظمة العربية التي سقطت. وكان لهذا كبير الأثر في تنشيط التيارات الإسلامية بمختلف أنواعها مما يعني تنشيط لأيديولوجية الإسلام السياسي في المنطقة العربية مما أدى إلى خلق علاقات جديدة ألقت بظلالها على العلاقات الخارجية لهذه الدول مع باقي دول الإقليم ودول العالم.

وفي حين أن مسار الثورات مركّب ومتعرج ويتراوح بين المد والجزر وأن مآلات التجارب الثورية كانت مختلفة من بلد إلى آخر إلا أن هناك وجود لقواسم مشتركة عدة بين الثورات العربية يمكن إجمالها في صعوبة الوصول إلى حكومات ديمقراطية، ووصول التيارات الإسلامية وصراع بين الدين والدولة العميقة والسلطة وانحياز الجيش للأخيرة و بروز الثورات المضادة، هشاشة نظم الجمهوريات العربية والمحاصصة في بعض الدول مثل العراق ولبنان واليمن، وشيوع الطائفية والقتل على الهوية وظهور التيارات الراديكالية مثل داعش والقوى الوكيلة الأخرى في العراق وسوريا التي استفادت من الفوضى التي أعقبت الثورات العربية، بروز قوة وتماسك وصلابة نظم الملكيات الوراثية العربية خصوصًا في دول مجلس التعاون والمغرب والأردن لاعتبارات شرعية النظم التاريخية ووفرة الموارد المالية والاقتصادية. 

  وبعد مرور 12عامًا على اندلاع "ثورات الربيع العربي"، غدت المنطقة العربية أكثر منطقة في العالم تشهد صراعاتٍ وحروبًا مستمرة على السلطة بين داعمي الثورات والأنظمة والثورات المضادة. كما وتضم المنطقة أكبر عدد من الدول الفاشلة أو تلك المهدّدة بأن تكون فاشلة. وما كان يوصف بأنه نقطة تحول تاريخي وكبير في تاريخ المنطقة، بات ينظر إليه اليوم على أنه أكبر نكسة شهدتها دوله، قلبت حياة الناس فيها رأساً على عقب، حيث جرت هذه الثورات والثورات المضادة خرابًا اقتصاديًا على كل الدول التي شهدتها.

وتكفي نظرة عامة على واقع شعوب الربيع العربي حاليًا بأن تكشف مدى تردي الأحوال الاقتصادية، عما كانت عليه قبل العام 2011م، إذ تكبدت اقتصاديات هذه الدول خسائر هائلة وارتفعت نسب الفقر والبطالة بصورة كبيرة. فالشعوب العربية ازدادت فقرًا، فهي تعاني من الفقر الغذائي والمائي وتدهور مجالات الصحة والتعليم، أكثر من أي وقت مضى. في حين أن الأوضاع الاقتصادية والظروف الاجتماعية للناس، أصبحت أسوأ مما كانت عليه، فيما تزداد مديونيات دولٍ كثيرة ارتفاعاً، بل بات بعضها عاجزاً عن سداد ديونه أو غير قادر على الحصول على ديون جديدة إذا لم تستجب للشروط المذلّة للمُقرضين والمنظمات الدولية. وبدأت الانشقاقات تدب حتى داخل الأسرة الواحدة، بين من يؤيد تلك الثورات وبين من يرفضها، ويعتبرها مسؤولة عن كل ما حاق بالمجتمعات العربية من سوء، خاصة في ظل الحرب الدعائية التي يشنها إعلام طرفي النزاع. حيث يبرز أعداء الربيع العربي تلك الحالة، في خطابهم دومًا، إذ يرون أن الربيع العربي، هو المسؤول عن تمزيق المجتمعات العربية، وإرساء حالة من الشقاق بين أبنائها، وبين من يرون أن الأنظمة الحالية، هي التي تضمن الاستقرار للبلاد، وبين الذين يرون أنه لابد من التغيير، وأن الواقع الذي تعيشه معظم الدول العربية حاليًا، ليس استقرارًا وإنما حالة من فرض الأمر الواقع عبر القمع والدكتاتورية وكبت الحريات، وتكميم الأفواه وتعميق الطبقية في هذه المجتمعات.

في ظل هذا تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، التي كانت تمثل القضية المركزية للأمة، وهرولت بعض الحكومات العربية تجاه التطبيع مع إسرائيل. كما تبخرت كل الشعارات والآمال التي حملتها رياح "الربيع العربي"، بل واستحالت حروباً وصراعات وانقلابات وتقتيلاً وتشريدًا واعتقالات مما سهل الأمر لتدخلات بعض القوى الإقليمية والدولية التي استغلت الفراغات وأحكمت سيطرتها على بعض العواصم العربية. وأخذت التدخلات الخارجية أشكالاً مختلفة تتمثل في مسألة تعيين مبعوثين دوليين لحل الأزمات العربية وهو ما حدث بالنسبة لكل من ليبيا واليمن وفلسطين وسوريا وغيرها، وكأنه نوع من الوصاية ورسالة خارجية للعرب مفادها أن المؤسسة الجامعة للدول العربية غير قادرة على أن تمارس دورها المنوط بها بشأن حل هذه الأزمات. وإذا كان من المفترض أن تكون الجامعة العربية هي المؤسسة المؤهلة لبلورة وفرض الحلول الملائمة للمشكلات العربية من أجل تحجيم التدخل الخارجي إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك، بل إن بعض الدول العربية أصبحت أكثر ميلاً إلى الحلول المفروضة من الخارج.

وفي المقابل، تسود حالة من عدم الاستقرار في أكثر من دولة، وتهيمن أنظمة استبدادية وقمعية على مقاليد الحكم في أكثر من عاصمة، ويعمّ عدم اليقين عند الكثير من شعوب المنطقة التي يعاني شبابها من البطالة وانسداد الآفاق الاقتصادية أمامها. وسبب هذا انخفاض سقف طموحات هذه الشعوب من إزالة الأنظمة القمعية، إلى أمور أكثر أهمية بالنسبة لها، تتلخص في تخلص بلادهم من شبح الحروب الأهلية، التي أتت على الأخضر واليابس، وخلّفت أعدادًا ضخمة من القتلى والجرحى والثكالى واليتامى والمشردين، أو الخروج من مقبرة الفقر المدقع الذي جعلهم في صراع يومي مرير من أجل القوت.  وأصبحت أمنية أعداد ليست هينة من شعوب ثورات الربيع، أن تعود بهم الأيام إلى ما قبل ثورات الربيع، باعتبارها حقبة من الجحيم أهون بكثير من الجحيم الراهن، والبعض منهم يترحم على الحكام الذين قاموا بالثورة عليهم، ونتائج المقارنات بين ما قبل وما بعد الثورة غالبًا ما تكون لصالح ما سبق.

وتغيّر وجه المنطقة على نحو جذري، بعدما فرضت الثورات، والتي إن اتخذ كل منها مساراً مغايراً وتحوّل بعضها إلى العنف والصراع المسلح والحرب بالوكالة، تحوّلات مستمرة بمفاعيلها حتى اليوم. وتشير معطيات الأوضاع الراهنة إلى أنه لا يوجد أي أفق على أن الأزمات العربية التي تنهش في الجسد العربي بكل شراسة ستصل إلى نهاية في المدى المنظور، بل إن هذه الأزمات أصبحت مرشحة للتصاعد في ظل الضعف الذي يعانيه الوضع العربي بصفة عامة والتي يسرت المزيد من التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن العربي التي ساهمت بشكل كبير في إطالة الأزمة.

وفى ظل الاجتهادات المبذولة لتسوية بعض المشكلات العربية في سوريا واليمن وليبيا ولبنان وهي كلها تسويات جزئية وبعيدة عن أن تصل إلى مرحلة التسوية الشاملة، انفجرت أزمة جديدة وعنيفة في السودان وتعدت حدودها من مرحلة اختلافات الرؤى السياسية إلى مرحلة الصراع العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وهو ما قد يؤدى إلى انزلاق السودان إلى مستنقع يمكن ألا تخرج منه إلا بعد سنوات طويلة.

إن أسس تسوية أي مشكلة عربية يجب أن تنبع من داخل الدولة نفسها وليس من خارجها، ولكن يمكن القول إن الدور الخليجي/العربي أو الخارجي إذا كان مطلوباً أو مفروضاً فيجب أن يكون دورًا مساعدًا وداعماً لمبدأ احترام سيادة واستقرار الدولة ووحدة أراضيها ودعم اقتصادها، وأن يبتعد عن التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدولة واستغلال ثرواتها وإيجاد قواعد عسكرية له واستقطاب بعض القوى لمصلحته على حساب القوى الأخرى.

وتقوم دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية في هذه المرحلة بجهود كبيرة في تلطيف الأجواء ولملمة الوضع وتنفيس الاحتقانان وحل وتصفير المشاكل والصراعات التي نمت أبان قيام الثورات العربية. فمن المعروف أن دول الخليج فوجئت كبقية الأطراف الإقليمية والدولية بالتحركات الشعبية التي اجتاحت المنطقة أواخر عام 2010 وعام 2011م، والتي أحدثت تحولات مهمة في البيئة السياسية للمنطقة دفعت الأطراف الإقليمية والدولية لإعادة صياغة توجهاتها السياسية في التعامل مع الأوضاع المستجدة. وحين كان هناك توجس أن تنتقل الثورات العربية إلى منطقة الخليج الغنية بالنفط إلا أن الحراك كان عابرًا حيث استطاعت دول الخليج أن تحتوي وتخمد أي حراك شعبي وأن تنأى بنفسها عن تداعيات وإفرازات ظاهرة مست الكثير من الدول العربية المجاورة من خلال الدعم العسكري (كما حصل في البحرين) وكذلك من خلال إجراء إصلاحات وضخ الأموال لكسب شعوبها. كما سعت دول الخليج في تطورات لاحقة أن توسع مجلس التعاون الخليجي بضم كل من الأردن والمغرب أو أن تعمق تعاونها بالانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد. 

وتباينت مواقف الدول الخليجية تجاه الربيع العربي، ففي حين أيدت قطر جميع تلك الثورات وساندتها سياسيًا وإعلاميًا، اتخذت سلطنة عمان موقفًا شبه محايد إزاء الثورات في الخارج وعملت سريعًا على احتواء التحركات الشعبية التي شهدها الشارع العماني عام 2011م، فيما عارضت بقية دول الخليج الربيع العربي واتخذت إزاءه موقفًا سلبيًا بالمجمل، غير أنها لم تتعامل بنسق واحد، وتباين موقفها تبعا لعلاقاتها مع أنظمة الحكم عند اندلاع الربيع في هذه الدول. وعارضت الدول الأربع الأخرى التحركات الشعبية المطالبة بالتغيير في مصر وتونس واليمن التي تمتعت بعلاقات قوية مع أنظمتها الحاكمة، في حين أنها اتخذت موقفًا مغايرًا في سوريا وليبيا، ودعمت التحركات الشعبية، ومن ثم الثورة المسّلحة التي سعت لإسقاط نظامي الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الليبي معمر القذافي. ودعمت دول الخليج المعارضة للربيع مساعي الأنظمة الحاكمة إبانه لاحتواء التحركات الشعبية، حيث تمكنت من احتواء الحراك الشعبي في اليمن عبر طرح المبادرة الخليجية والتوصل لصيغة سياسية انتقالية توافقية، لكن محاولاتها لم تنجح في مواقع أخرى. وحين سقط النظام التونسي ومن ثم النظام المصري، اتخذت هذه الدول موقفًا سلبيًا تجاه الحكومات المنتخبة التي تولت إدارة المرحلة الانتقالية على أنقاض رموز النظام القديم.

وفي وقت لاحق تدخلت بعض دول الخليج بصورة قوية سياسيًا واقتصاديًا من أجل عودة الأوضاع التي كانت سائدة قبل الربيع العربي في كل من مصر وتونس واليمن، ودعمت الأطراف السياسية المعارضة للثورات الشعبية ولحكم الإسلاميين، وقد نجحت جهودها بالفعل في تغيير الأوضاع في مصر، وحققت نجاحًا أقل في تونس، في حين أسهمت مواقفها هذه في اليمن إلى انزلاقه لحالة خطيرة من عدم الاستقرار بسبب رغبة الحوثيين المتصاعدة والمتسارعة للسيطرة على البلاد، في ظل تراجع دعمها للتحول السياسي لاستشعارها بأن للإسلاميين دورًا أساسيًا فيه قد يوصلهم إلى الحكم بالشراكة مع الآخرين بعد إقرار الدستور وتطبيق مخرجات الحوار الوطني.

وقد تسبب ذلك بظهور معظم دول مجلس التعاون الخليجي أمام الرأي العام العربي، بأنها معارضة للربيع العربي، وبأن ما يحدث الآن في دول الربيع العربي من فوضى وعدم استقرار، يعزى في جزء منه إلى هذا الموقف المبني على الهواجس والتخوفات وليس على الدراسات والتقديرات الاستراتيجية الموضوعية والواقعية، والتي حجبت هذه الدول عن الاستفادة من التغيرات الجديدة أو دعمها لصالح الشعوب.  

أدى التباين في سياسات دول الخليج إلى تراجع دورها العربي والإقليمي، حيث لم تعد قادرة على اتباع سياسة إقليمية موحدة في التعامل مع كل من إيران وتركيا، وخاصة في ظل غياب دورها الكلي في التعامل مع الملف النووي الإيراني الذي تولاه حليفها الاستراتيجي الولايات المتحدة.  تسبب انشغال دول أساسية في مجلس التعاون الخليجي، بتعديل أولوياتها فيما يخص التعامل مع التهديدات، حيث قدمت التهديدات المزعومة من الربيع العربي على التهديد الحقيقي المستمر لتنامي النفوذ الإيراني، الأمر الذي شجع إيران على التوسع في هذا النفوذ وتحقيق مكاسب أساسية في ضوء غياب دور دول الخليج، وهو ما زاد من الوزن الإيراني الجيواستراتيجي ورفع مستوى تهديده على دول المجلس، وفرض على دوله أن تتعامل مع بعض ملفات المنطقة في  كٍّل من العراق وسوريا واليمن وغيرها انطلاقًا من هذا التحول، وكذلك فيما يتعلق بأمن مضيق هرمز والوصاية الإيرانية على بعض الوكلاء والجماعات المسلحة في العالم العربي وتصاعد جهود مكافحة ما يعرف "بالإرهاب" واستنزاف الأمن والمال فيه.

وفي تطورات لاحقة انعكس تباين موقف دول الخليج من الربيع العربي على بنية المجلس وعلاقاته الداخلية وتسبب في بروز أزمة بين أعضائه انتهت في 4 يناير 2021م، باتفاق العلا الذي أدى إلى المصالحة الخليجية وعودة الدفء للعلاقات الخليجية-الخليجية وتفعيل العمل الخليجي المشترك لمواجهة التحديات العديدة التي تواجه دول المجلس نظرًا للتغيرات العالمية والإقليمية والتركيز على التنمية المستدامة والتنوع الاقتصادي وتحقيق الرؤى الاقتصادية والتخطيط والعمل لتهيئة دولها لتحديات ما بعد النفط. وحين تغيرت بعض العوامل الجانبية خصوصًا تراجع الهواجس تجاه ثورات الربيع العربي وحركات الإسلام السياسي التي كانت تؤثر في تطور موقف هذه الدول، ظل تنامي حالة الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار وتعدد الصراعات في المنطقة من العوامل التي تهدد أمن دول الخليج ومصالحها، ويؤثر سلبيًا على قدرتها على تحقيق خططها ورؤاها الاقتصادية. ومجمل هذه التطورات والعوامل حفزت القيادات الشابة في دول الخليج إلى تبني جملة سياسات أكثر انفتاحًا على دول الإقليم حيث شهدت المنطقة خطوات جريئة للمصالحة العربية-العربية مثل إعلان هدنة طويلة الأمد في اليمن والشروع في الوصول إلى حل سياسي لأزمته التي استمرت 8 أعوام وعودة سوريا إلى محيطها العربي ودعوتها لاجتماع الجامعة العربية في جدة بعد تعليق عضويتها منذ 2012م، والتعاون مع العراق وتم كذلك استئناف العلاقات مع تركيا وتوقيع الاتفاق التاريخي في 10 مارس، 2023 م، بين المملكة العربية السعودية وإيران برعاية صينية في خطوة قد تنطوي على تغييرات إقليمية كبرى.

وبهذه الخطوات استعادت دول مجلس التعاون الخليجي، بقيادة المملكة العربية السعودية، الثقة في ممارسة دورها الإيجابي في تلطيف الأجواء وفي إعادة اللحمة العربية كونها من المناطق القلائل التي لم تتأثر كثيرًا أو تعاني مباشرة من ثورات الربيع العربي وتمثل نموذجًا للاستقرار والتطور والتنمية. وتعمل دول الخليج الآن كقاطرة تسحب معها بقية دول المنطقة نحو المزيد من التعاون والتكامل والاندماج والعمل المشترك متزامنًا مع سياسية حل الخلافات والابتعاد عن الصراعات والتركيز على الإصلاحات والتنمية الشاملة كونها العامل الرئيسي لتحقيق الأمن والاستقرار.

وحين تقوم دول الخليج بممارسة دورها الإيجابي في تنقية الأجواء العربية فهي تدرك حجم المشكلة وتقدر ثقل المسؤولية وتعلم أن تحقيق أهدافها وطموحاتها يتطلب تكاتف الجميع على مستوى قيام كل الدول العربية بدورها وكذلك على مستوى الارتقاء بالتعاون الجماعي من خلال المنظمات الإقليمية كالجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي والتي هي الأخرى بحاجة ماسة للتطور والإصلاح والعمل سويًا في تفعيل العمل العربي المشترك وتحقيق آمال قيادات الدول العربية وشعوبها.

وتمثل التجربة الصعبة والمريرة التي عانتها المنطقة العربية درسًا قاسيًا للجميع للتعلم والاستفادة منه وتجنب الوقوع في فخ أخطاء الماضي وتجاوز الخلافات والمحن من أجل تحقيق الأهداف والمصالح المشتركة. وفي عالم مقبل على تغيرات هيكلية كبرى على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتمتع الدول العربية بموقع استراتيجي مهم ولديها من الموارد والخيرات وأسباب القوة ما يمكنها أن تتبوأ مركزًا محوريًا في الساحة الدولية إن هي استوعبت الدروس وقدرت حجم المسؤولية وفهمت حجم المخاطر واستفادت من تجارب الماضي وواقع الحاضر وتوقعات المستقبل وتعلمت من تجارب مناطق أخرى في العالم مثل أوروبا وآسيا. وتمر دول الخليج بنهضة تنموية هائلة يمكنها أن تنعكس إيجابًا على كل دول المنطقة وسبق أن نوه بذلك ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود حين ذكر أن الشرق الأوسط سوف يكون "أوروبا الجديدة" في العصر الحديث. وحيث تمر المنطقة بلحظة تاريخية مفصلية وفارقة تتطلب الكثير من الجهد لدعم الدور البناء الذي تقوم به دول مجلس التعاون الخليجي في تخفيف الأزمات في دول الربيع العربي من أجل لم الشمل العربي بعد فترة طويلة من الصراعات والشتات وضياع الفرص، يجب العمل الجماعي على عدم تفويت وإضاعة هذه الفرصة الثمينة. وحان الوقت أن تستلهم القيادات والشعوب العربية أهمية هذه اللحظة في سبيل تصحيح المسار نحو بناء دولهم، عبر تحقيق الاستقرار أولاً، ثم الانطلاق نحو تحقيق الإصلاحات سواء سياسية او اقتصادية أو اجتماعية تسمح بمجابهة التحديات المحدقة بالعالم بأسره في المرحلة الراهنة، سواء على خلفية الصراعات الدولية التي عادت إلى الواجهة، في ظل الأزمة الأوكرانية، وتداعيات ديناميكية التغيرات الدولية، وظاهرة التغيرات المناخية وتحولات الطاقة. كل ذلك يتطلب إعادة تقييم كل التجارب العربية طيلة العقود السابقة التي ساهمت في قيام الثورات العربية والبحث عن رؤى جديدة لمواجهة كل الأزمات من خلال التوافق على صياغة مشروع عربي وطني ومستقل لبناء مشروع حضاري ونهضوي يساهم في تخفيف أزمات المنطقة واللحاق بالعالم، بدل أن تبقى المنطقة ساحة للصراعات والأزمات والتدخلات الخارجية.

مقالات لنفس الكاتب