تشكل علاقة المملكة العربية السعودية بمجموعة بريكس وبنك التنمية الخاص بالمجموعة، واختيارها شريكًا في الحوار في منظمة شنغهاي للتعاون في مارس 2023م، واستضافتها القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى (المعروفة باسم دول ستان الخمس C5) في الرياض في يوليو 2023م، مؤشرات دالة على الإطلالة الآسيوية للمملكة، وعلى سعي السعودية لتعظيم علاقاتها بهذه المجموعات الجديدة، التي تشكل وجهة دولية مختلفة عن التجمعات والتحالفات الغربية التي تسيدت الوضع العالمي خلال العقود الماضية. وبهذا التوجه الآسيوي تكشف المملكة عن قراءتها للواقع الدولي وترجمتها السريعة لتحولات هذا الواقع، بما يعكس النهج البراجماتي الواقعي في السياسة الخارجية.
وتشكل الشراكات السعودية مع المجموعات الآسيوية مجالاً لموازنة العلاقات السعودية والخليجية بالولايات المتحدة والغرب، في ظل تقلبات السياسة الأمريكية؛ التي جعلت التوجه الآسيوي ضرورة؛ ليس فقط لإحداث التوازنات في السياسة الخارجية، وإنما من باب الضرورات للأمن الوطني والقومي لدول كثيرة وبالأخص السعودية، ونافذة من نوافد الاستثمار وتنويع الاقتصاد والمشروعات الاقتصادية مع القارة الآسيوية، في ظل الانتعاش في السوق النفطية على أثر الحرب الروسية ـ الأوكرانية، والتي سبقتها فترة شهدت فيها المملكة ودول الخليج ضغوطًا دفاعية وأمنية شديدة من جانب الولايات المتحدة، وهي فترة تعاملت معها الدبلوماسية السعودية، بنشاط للتعويض السريع في علاقاتها الدولية.
وعلى الرغم من العلاقات الثنائية للمملكة بالدول الأعضاء في المجموعات الآسيوية الثلاث: الصين، والهند، وروسيا، وجنوب إفريقيا، والبرازيل (مجموعة بريكس)، وأوزبكستان، وباكستان، وروسيا، والصين، وطاجيكستان وقيرغيزستان وكازاخستان والهند وإيران(أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون)، وأوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان وقرغيزستان وكازاخستان (التي تمثل دول آسيا الوسطى الخمس)، فإن سعي المملكة للانضمام إلى هذه التجمعات والشراكة معها كمنظمات جماعية، يعني اتجاه السعودية للانخراط في مجموعات دولية، تتضمن شراكات اقتصادية وتوجهات سياسية، وربما مستقبلًا أشكالاً من الترتيبات الأمنية في الإطار الجماعي، وهو توجه له تكاليفه في علاقات المملكة بالغرب. لذلك تدير السعودية هذا التحول في سياستها الخارجية بقدر من التدرج، ولا تزال مساعي المملكة في ذلك في المرحلة الانتقالية.
ولقد انطلق التوجه السعودي الآسيوي من مجموعة أهداف ودوافع، أهمها ما يلي:
أولًا: تحرك مركز الثقل الدولي ناحية آسيا والإندوباسيفيك
على الرغم من أن مركز الثقل الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي العالمي لا يزال يتركز في الغرب، ولا تزال القوى الغربية بيدها صناعة السياسة وبناء الأحلاف واتخاذ القرارات المؤثرة في المستقبل العالمي، إلا أن مكانة القوى الآسيوية ومنطقة الإندوباسيفيك أخذت تتعاظم على خريطة العالم لتعكس ثقل وضعيتها السكانية والاقتصادية، وأخذت الدول الكبرى في هذه المنطقة تمد نفوذها بهدوء وثقة في عالم الصناعة والتكنولوجيا والاقتصاد، وتكسب أرضيات جديدة في دول الجنوب وداخل الدول الغربية ذاتها، مدفوعة بمنطلقات ليست سياسية استعمارية(حتى الآن)، وإنما بمنطلقات ودوافع اقتصادية وتنموية وبخطاب سياسي يستبطن المعاني الإنسانية ويهدف لتحقيق التوازن في النظام الدولي، وهو خطاب يستقطب الاهتمام المتزايد في نصف الكرة الجنوبي. والآن تتوزع القوة الاقتصادية والسياسية في العالم بشكل تنافسي بين جبهتين، يسعى كل منهما إلى تعظيم نفوذه وقدراته ومكانته، الآسيويين (الصين خصوصًا) بهدف تصحيح الأوضاع والغربيين بهدف الاحتفاظ بالمواقع.
لقد ترجمت ذلك بشكل سريع سياسات الدول النامية، الواقعة بين الغرب التقليدي المعروف (الولايات المتحدة وأوروبا) والشرق الجغرافي والطبيعي الجديد (الصين وروسيا والهند بالأساس)؛ حيث تحركت دول القوى الوسطى -ومنها دول الخليج-نحو تنويع تحالفاتها الدولية وتطوير علاقات أوثق مع هذه الدول الأخيرة. وعلى الرغم من أن البعض يشير إلى سعي السعودية لتعزيز العلاقة الجيوسياسية مع خصوم الولايات المتحدة، وتحدي الرياض للسياسات الإقليمية لواشنطن في ظل تقليص الالتزامات الدفاعية والأمنية الأمريكية في الخليج، إلا أن هذا التوجه السعودي هو توجه طبيعي في ظل تحولات مسارح القوى والتوازنات العالمية، وهو توجه أتى أيضًا انعكاسًا لتطورات علاقة المملكة بالصين والهند وروسيا، وبعد سياسات أمريكية أبرزت مؤشرات عدائية أحيانًا نحو حلفائها الخليجيين.
وكما رتبت المملكة شراكتها وتحالفاتها مع الولايات المتحدة كقوة صاعدة في منتصف القرن العشرين، في علاقة استراتيجية صمدت لأكثر من 70 عامًا، ترتب المملكة الآن علاقاتها الاستراتيجية مع القوى الآسيوية، التي يتوقع أن يتسع نفوذها أكثر على المسرح العالمي خلال العقود المقبلة. وتشير النظرة الموجزة على أوضاع مجموعة بريكس إلى ذلك، حيث تضم المجموعة دول الاقتصادات النامية الرئيسية، التي بلغ إجمالي ناتجها المحلي الإسمي في عام 2022م، ما مقداره 24.2 تريليون دولار (25٪ من إجمالي الناتج العالمي)، مع حوالي 41٪ من سكان العالم، بسوق ضخم يمكنه استيعاب صادرات السعودية ودول الخليج، ناهيك عن فرص الاستثمار الواعدة.
ثانيًا: تعزيز الحضور الدولي للمملكة في الشرق الآسيوي والجنوب
أتى التوجه السعودي الآسيوي كترجمة طبيعية لتزايد مكانة المملكة اقتصاديًا وسياسيًا على الصعيد العالمي؛ فوفقاً لبيانات البنك الدولي، بلغ إجمالي الناتج المحلي للمملكة نحو 833.5 مليار دولار في عام 2021م، لتأتي في المرتبة الـ 16 ضمن ترتيب أكبر الاقتصادات العالمية في هذا العام. وتعتبر السعودية لاعباً رئيسياً في أسواق الطاقة العالمية، حيث تمتلك 19% من الاحتياطي العالمي من النفط، و12% من الإنتاج العالمي منه، وأكثر من 20% من مبيعات النفط في السوق العالمية. وبحسب إحصائيات البنك المركزي السعودي، بلغ حجم احتياطي الذهب والنقد الأجنبي 693 مليار دولار نهاية عام 2022م. ولكل ذلك، تعد المملكة لاعبًا مهمًا في أسواق المال والاستثمار العالمية.
وحتى الآن لا تضع البريكس أعباءً سياسية على أعضائها، ولا تتبنى عقيدة عدائية ولا تسعى لبناء قطب معادي يكرر تجربة الحرب الباردة، كونها تضم الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، ويعزز من خطها السياسي المتزن تحلي السياسة الصينية بالحكمة في إدارة العلاقة مع الغرب، ولا يزال المحرك الرئيسي للمجموعة هو الهدف الاقتصادي بالأساس، أما هدفها السياسي فلم يتخط السعي إلى تحقيق مزيد من التوازن في النظام الدولي، وهو هدف مشروع ولا يفاقم العدائيات. لذلك فمن شأن عضوية السعودية في البريكس الاستفادة بالفرص الاقتصادية التي تتيحها، والتحرك في فضاءات اقتصادية ناشئة وطموحة، دون تحمل أعباء سياسية في علاقتها بالولايات المتحدة وأوروبا. وسوف تستفيد المملكة من الأسواق والفرص الناشئة في دول المجموعة الرئيسية، التي ستصبح ذات أهمية متزايدة لاستراتيجية تنويع الاقتصاد الهادفة إلى تعزيز الصادرات السعودية غير النفطية، فضلًا عن دول "بريكس بلاس"،(+BRICS) بعد توسيع عضوية المجموعة لتتضمن دولًا جديدة، من بين ما يزيد على 20 دولة تقدمت بطلبات رسمية لعضوية المجموعة، ومع توجه المملكة لتنويع اقتصادها، وسعيها لتوطين الصناعات وتلبية الطلب المواكب لموجات الانفتاح الكبيرة في الداخل، فإن اقتصادات دول البريكس سوف تكون أكبر ساحة لتحقيق طموحات المملكة.
ويسعى بنك التنمية الجديد NDB (بنك بريكس)، الذي أسسته دول المجموعة والموجّه نحو الجنوب العالمي كبديل عن مؤسسات بريتون وودز التي يقودها الغرب، إلى تعزيز قدراته المالية بإضافة القدرات المالية السعودية؛ وسوف يعزز إنضمام المملكة إلى بنك بريكس الخيارات التمويلية للبنك، الذي يعد بمثابة رديف لعمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لذلك لم يكن غريبًا أن يذكر بنك التنمية الجديد في بيان رسمي له أنه: "في الشرق الأوسط، نولي أهمية كبيرة للمملكة العربية السعودية ونجري حاليًا حوارًا معهم"، حيث يعول البنك على زيادة استثماراته في دوله الأعضاء، عبر ضخ الاستثمارات السعودية في شرايين اقتصادات دوله.
وفي هذا السياق، عبرت كلمة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في الاجتماع الوزاري لأصدقاء بريكس، الذي عقد في جنوب إفريقيا في 2 يونيو 2023م، عن حرص المملكة على إبراز المشتركات القيمية بينها وبين مجموعة بريكس، وكان لافتًا قول الوزير بأن "المملكة تشترك في القيم الأساسية مع دول البريكس، متمثلة في الإيمان بأن العلاقات بين الدول تقوم على مبادئ احترام السيادة وعدم التدخل والامتثال للقانون الدولي". وهو ما ينسجم مع فكرة البحث عن توازن دولي جديد وإعطاء صوت وأهمية أكبر للجنوب والشرق العالمي مقابل الكتلة الغربية. ويشير هذا الخطاب إلى حقبة جديدة في السياسة السعودية، عززتها ممارسات المملكة خلال الأعوام الماضية وتحركاتها الدبلوماسية النشطة على الصعيد الدولي.
وسوف يترتب على علاقة المملكة بمجموعات البريكس وشنغهاي وآسيا الوسطى انعكاسات مهمة على معاني السلام والاستقرار في دول هذه المجموعات، ليس فقط من زاوية ما تضيفه المملكة من طرح سياسي ودبلوماسي متوازن، وإنما لما تمتلكه من أرصدة قيمية وسياسية وحضور مجتمعي معها، حيث يشتمل بعضها على مجموعات سكانية مسلمة كبيرة يمكنها أن تستفيد من وجود المملكة في هذه المجموعات واستثماره لأجل تعزيز صيغ التعايش والاندماج الوطني في الداخل.
ثالثًا: تكريس التوازن الاستراتيجي في فترة انتقالية بين عالمين
يرتبط التوجه السعودي الآسيوي، بتشخيص وقراءة محددة للواقع الدولي الراهن، وهو الواقع الذي أكدته سياسات الولايات المتحدة مع حلفائها، في ظل الانسحاب الأمريكي السريع من أفغانستان 2021م، وتقليص الالتزام الدفاعي والأمني نحو الخليج، وغموض السياسة الأمريكية نحو إيران منذ 2015م، وفي ظل ما كشفته تناقضات ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية منذ فبراير 2022م، ويشير الخط السعودي في السياسة الخارجية منذ 2020م، إلى أن تنشيط النهج الدبلوماسي الجديد للمملكة لم ينطلق من مؤثر أو دافع وحيد، وإنما تشكل في سياق قناعة تطورت تدريجيًا، انتهى فيها صانع القرار السعودي إلى أن الولايات المتحدة قد تغيرت، وأنه لم يعد بالإمكان الاستناد إلى تحالف وحيد معها، وأن سياساتها لم يعد بالإمكان تبريرها حتى في ضوء التناقضات القائمة بين توجهات الحزبين الأمريكيين الكبيرين (الجمهوريين والديمقراطيين). ومن ثم سعى صانع القرار السعودي إلى إنتاج وابتكار السياسات الملائمة لطبيعة الفترة الانتقالية في النظام الدولي، الذي لم تتحدد ملامحه كليا بعد، وكان من أبرز القناعات السعودية الجديدة، ضرورة العمل لأجل تكريس التوازن في علاقات المملكة الدولية واغتنام الفرص التي تعظم المصالح الوطنية على الصعيد الدولي.
ويؤيد سعي المملكة لتكريس التوازن الاستراتيجي عبر التوجه الآسيوي، أن السعودية لم تعد في السنوات الأخيرة تتبنى سياسات المحافظة على الأمر الواقع status quo إعلاءً لهدف الاستقرار على حساب باقي الأهداف، وإنما أصبحت لاعبا نشطا على مسرح الدبلوماسية العالمية، فهي لا تمتنع عن التعامل مع الملفات المعقدة وحسمها، والتحرك في كل الاتجاهات لتحقيق أهدافها بسرعة، وإن تعارضت مع توجهات أقرب حلفائها. وفقًا للرؤية الجديدة، اتجهت المملكة لتحقيق الاستقرار في إطار المبادرات النشطة الساعية لاغتنام الفرص، وليس الاستقرار في إطار سياسات التهدئة والتكيف مع التهديدات. ومن ثم لم تعد المملكة منحازة إلى الإبقاء على تحالف أمني ودفاعي يضر بقراءتها للمصالح، وإنما تسعى لبناء شراكات متعددة تكرس حقبة من الأمن المتوازن، لا تخضع فيها المصلحة الاقتصادية للمصلحة السياسية والاستراتيجية، وإنما تعظم المصلحة الاقتصادية في الوقت الذي تسعى فيه إلى تنويع شراكاتها ومصالحها الاستراتيجية، وتعيد التوازن إلى العلاقة بالولايات المتحدة التي اعتقدت إدارة الرئيس دونالد ترامب (وتبعته إدارة بايدن) بأنها علاقة استفادة من جانب واحد، وادعاء أن المملكة هي المستفيدة الوحيدة من هذه العلاقة!
إن وجود المملكة في هذه المجموعات الدولية المهمة (البريكس وشنغهاي وآسيا الوسطى) له فوائد سياسية مستقبلية، وحاليًا فإنه يكرس التوازن القائم في هذه الحقبة الانتقالية في النظام الدولي؛ فالتطور الطبيعي لأي تكتل أو منظمة دولية، هو أنها تنتقل تدريجيًا من الهدف الاقتصادي الذي لا خلاف عليه كثيرًا، إلى بناء الطرح السياسي والعقيدة السياسية، وهو ما تتجه إليه البريكس على نحو تدريجي، يتطور بقدر تماسك خطها السياسي وتنامي قدراتها كمجموعة ووفق تطور موازين القوى الدولية، وهو أمر ملحوظ في الخطاب السياسي للمجموعة والتحركات الدبلوماسية لأعضائها الآن، حيث تتحرك تدريجيًا نحو طرح سياسي يدعو لتحقيق التوازن والتكافؤ الاستراتيجي والحضاري مع الغرب. ووفق هذا السياق، تأتي المملكة كدولة قائدة في العالم الإسلامي لتضيف قدرًا أكبر من التوازن الدولي للمجموعة، عبر تقديمها وجهة نظر في هذا الفضاء الاقتصادي والسياسي العالمي الجديد، انطلاقًا من خبراتها مع المنظومة الغربية على مدى العقود الماضية، وهو أمر يمكن أن يفيد الغرب والشرق معًا.
رابعًا: توسيع فرص تحقيق الرؤية الوطنية للمملكة 2030
يفوق الأهداف والدوافع الثلاثة السابقة، أن التوجه السعودي لتعزيز العلاقات مع مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي ودول آسيا الوسطى، يأتي كترجمة لأهداف رؤية المملكة 2030، والتي مثلت مركز التوجه الاستراتيجي للسعودية منذ إعلانها في إبريل 2016م، ويجري توظيف الجهد الاستراتيجي السعودي لأجل تحقيقها. فقد انطلقت الرؤية من قناعة محورية بأن السعودية في موقع مركزي في العالم، وأن أهدافها تأتي في سياق وجودها العالمي، فأكدت الرؤية بنظرة كلية على أنه "ستكون قوتنا الاستثمارية المفتاح والمحرّك لتنويع اقتصادنا وتحقيق استدامته. فيما سيمكّننا موقعنا الاستراتيجي من أن نكون محورًا لربط القارات الثلاث". وفي موقع آخر تورد الرؤية "سنستغل موقعنا الجغرافي المتفرد في زيادة تدفق التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا وإفريقيا وتعظيم مكاسبنا الاقتصادية من ذلك، كما سنقوم بإبرام شراكات تجارية جديدة من أجل تعزيز قوتنا الاقتصادية، وسندعم الشركات السعودية لتصدير منتجاتها إلى العالم. وسنجعل من موقعنا اللوجستي المميز والقريب من مصادر الطاقة محفزًا لانطلاقة جديدة نحو الصناعة والتصدير وإعادة التصدير إلى جميع دول العالم". ويشير ذلك إلى أن تحرك السعودية نحو هذه المجموعات الدولية أتى في سياق الرؤية الوطنية التي وضعتها المملكة قبل أكثر من 7 سنين، لتنويع الاقتصاد واستدامته، وتعظيم القدرات الاستثمارية وتعزيز الشراكات الدولية، وجميعها مصطلحات ابتكرتها الرؤية، وأكدت عليها في متنها أكثر من مرة.
وفي الحقيقة، فلم يكن اتجاه المملكة لتعزيز شراكاتها الآسيوية، سوى تحصيل حاصل لواقع قائم في العلاقات الاقتصادية الدولية للمملكة منذ إقرار رؤية 2030، والتي أسفرت عن زيادة القيمة الإجمالية للتجارة السعودية مع دول البريكس من 81 مليار دولار في 2017 و128 مليار دولار في 2021 إلى أكثر من 160 مليار دولار عام 2022م،ووفق توجهات الرؤية أصبحت دول مثل الصين والهند شركاء التجارة الرئيسيين للمملكة والخليج، واحتلت الصين مركز الشريك التجاري الأول للمملكة لآخر 5 سنوات، وكانت الوجهة الأولى لصادرات السعودية ووارداتها الخارجية منذ 2018م، مع بلوغ حجم التبادل التجاري بين المملكة والصين خلال السنوات الخمس الماضية بين (2017-2021) حوالي 320 مليار دولار. وعلى جانب آخر، حلت الهند عام 2019م، كثاني أكبر شريك تجاري للسعودية بعد الصين منذ 2019م، وباكتسابها عضوية البريكس، ستتاح الفرصة للمملكة لتنويع علاقاتها الاقتصادية وتعزيز استثماراتها الدولية (وهو هدف أساسي للرؤية)، بما يتجاوز شركائها التقليديين في الغرب. وأخذا في الاعتبار أن رؤية 2030م، هي رؤية شاملة وكلية، يمكن تصور انعكاس توسيع علاقات المملكة مع هذه المجموعات الآسيوية في الجوانب الأخرى للرؤية، الخاصة بتوطين الصناعات والتصنيع العسكري والسياحة وتقوية الشخصية المجتمعية المنفتحة على العالم وإثراء الهوية الوطنية.
الخلاصة
يبقى السؤال الأساسي حول: كيف تستطيع السعودية تطوير علاقاتها بالمجموعات الآسيوية دون أن تتضرر علاقاتها بالولايات المتحدة والغرب، وهي العلاقات التي لا تزال كثيفة ومتنوعة ومعقدة (تتجاوز استثمارات الولايات المتحدة في السعودية 800 مليار دولار مقابل 100 مليار دولار فقط للصين)؛ وكيف تدير سياساتها بين مجموعة بريكس ومجموعة العشرين؟ وكيف تستأنف علاقاتها الدفاعية والأمنية بالولايات المتحدة والغرب دون أن تطرح تحديات في علاقاتها الجديدة مع الشرق؟ باختصار كيف تحافظ السعودية على المكاسب التي حققتها في العلاقات الدولية خلال الفترة بين 2020 و2023؟ وكيف تستمر في تنويع علاقاتها الدولية ومبادراتها الدبلوماسية؟
إنها الأسئلة ذاتها المطروحة أيضًا على العقل الأمريكي، والتي أشارت إليها بصراحة نائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي دانا سترول، حين حذرت من التعاون الأمني والعسكري مع كل من الصين وروسيا، وقالت: "إن بعض البلدان والشركاء يرغبون في مراوغة الولايات المتحدة -على حد وصفها-عبر بناء أرضية تعاون أوثق مع الصينيين أو الروس، بخاصة في المجال الأمني والعسكري"، مبينة أن ذلك قد يتحول إلى استراتيجية.
وفي الحقيقة، فإن استمرار السياسة السعودية في خط التوازن في العلاقات بين الغرب والشرق عبر توسيع الشراكات مع الكتل الآسيوية الجديدة، يشكل الضمان الأساسي لتصويب وتمتين علاقاتها بالتحالف الغربي ووفائه بالتزاماته الدفاعية والأمنية، حيث أكدت الفترة الماضية أن بناء العلاقات مع التجمعات المنافسة وممارسة نهج الضغط، والشد والجذب، من موقع القوة، بذكاء وحكمة، على نحو ما تتبعه المملكة في علاقتها بالولايات المتحدة، هو السبيل لتعزيز موقع المملكة وتحقيق مصالحها مع كل الأطراف دون التنازل عن أي منها، لحساب العلاقة مع تحالف أقدم. يساعد المملكة على ذلك أنها أرست مبدأ توسيع الخيارات والبدائل، وأصبح الجانب الأمريكي يدرك ذلك، ولم يعد باستطاعته إعادة اكتساب الثقة السعودية دون مروره باختبارات لإثبات الصدق والقدرة والجاهزية، لأنه حتى لو عاد إلى نمط العلاقة السابقة، بشروطها الجديدة، فمكسب المملكة الأساسي خلال الحقبة الماضية هو تنويع تحالفاتها وارتباطاتها مع مختلف الأقطاب.
وعلى الرغم من التخوفات التي يبديها البعض من عضوية المملكة في بريكس، بما قد يصبغها بنهج المشاكسة في العلاقات الدولية، والقول بأن انضمام السعودية في عضوية المجموعة قد يؤدي إلى تصادم علاقاتها مع الغرب، في ظل اشتداد المنافسة الجيوسياسية بين الغرب والشرق بقيادة البريكس، مع استشراف البعض بتقسيم الدول إلى معسكرات شرقية وغربية في ظل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، فإن تعزيز الشراكات السعودية مع المجموعات الآسيوية الصاعدة يكسبها قوة استراتيجية وجيوسياسية واقتصادية، فضلًا عن قوة ناعمة إضافية عبر تكريس وجودها في عالمي الشرق والجنوب، حيث أكدت حقائق الحياة الدولية في الفترة الأخيرة، أن تعظيم القدرات وكسب الأوراق وتوسيع الخيارات والبدائل والفرص هو أهم عنصر تفاوضي مع الغرب، وأهم ورقة قوة في يد المملكة، تمكنها من إعادة رسم أهدافها وضبط علاقاتها بالولايات المتحدة، في ظل القاعدة الأساس التي يستند إليها التفكير التفاوضي الأمريكي تقليديًا، والتي لا تُمنح الدول بمقتضاها مقابلًا لأشياء حصلت عليها الولايات المتحدة بالفعل، وفي ظل نهج جديد كرسته إدارتا ترامب وبايدن اللتان سعتا إلى تحميل الحلفاء أثمان وتكاليف الأمن، متجاهلتين بأن هذه التكاليف والأثمان جرى إنفاقها لتحقيق الأمن الأمريكي أيضًا، وأنها لم تكن موجهة بالأساس للدفاع عن أمن الحلفاء، وإنما في سياق الاستراتيجية الدولية للولايات المتحدة.
لكل ذلك، فإن اتجاه المملكة إلى الشراكة مع البريكس والتجمعات الآسيوية الجديدة، فضلًا عن أنه يؤسس جسور علاقات المملكة بالشرق، فإنه يمثل بوليصة تأمين في علاقات المملكة بالغرب.