منطقة الشرق الأوسط لم تعرف الاستقرار منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وكلما لاح فيها وميض السلام وحاولت قوى الاعتدال تحويله إلى ضوء ساطع، اكتشفت أنها تلهث خلف سراب يحسبه الظمآن ماء، وكلما اقتربت فرصة للسلام انقضت عليها قوى الشر ودمرتها وحولتها إلى خراب تنعق فيه طيور الظلام، وكأن هناك من يتربص بالمنطقة ويعمل جاهدًا على انكفائها على جروح لا تلتئم وتعطيل مسيرة التنمية والبناء وتحويل اهتمام الشعوب وانشغالها عن بناء المستقبل، لتنغمس في معارك عسكرية وحروب إعلامية متتالية.
والحقيقة تؤكد أن العرب طلاب سلام وأنهم سعوا كثيرًا لتحقيقه ولم يتركوا فرصة واحدة إلا استثمروها في الدعوة إلى السلام وتقديم غصن الزيتون ، فهم الذين نادوا بالسلام فور أن وضعت حرب أكتوبر عام 1973م، أوزارها عندما قبل الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات فض الاشتباك وأعلن أن حرب أكتوبر ستكون آخر الحروب بين مصر وإسرائيل، ثم توالت مبادرات السلام العربية، فبعد أن أعلن الرئيس السادات قبول مبادرة كامب ديفيد وقبلت الأردن اتفاقية وادي عربة، طرح العرب مبادرات سلام جماعية بدأت مع مبادرة فاس عامي 1981، 1982م، ثم جاءت اتفاقية أوسلو ومدريد، وبعد ذلك جاءت المبادرة العربية التي تقدمت بها المملكة العربية السعودية وتبنتها، ووافقت عليها القمة العربية في بيروت عام 2002م، والتي نصت صراحة على قبول العرب السلام مع إسرائيل مقابل حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية وانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة في 5 يونيو 1967م، أي مبدأ الأرض مقابل السلام، لكن في كل مرة يتقدم فيها العرب خطوة نحو السلام ؛ تتراجع إسرائيل عشرات الخطوات إلى الخلف، وبهذا التراجع تسببت في توتر المنطقة وأعطت الفرصة لنمو التنظيمات المتطرفة، وسمحت لدول إقليمية باختراق هذه التنظيمات وتقديم العون والمساعدة لها، بل جعلت لهذه الدول موطئ قدم في تشكيل وتسليح هذه التنظيمات، مما يدعم وجهة النظر التي ترى أن إسرائيل زرعت هذه التنظيمات التي تحاربها الآن في العلن، وبالفعل استطاعت حركة حماس إضعاف قبضة السلطة الفلسطينية وانتزعت منها قطاع غزة، وكذلك سيطر حزب الله على جنوب لبنان وأصبح رأس حربة إيرانية ما أضعف قبضة الحكومة اللبنانية على أراضيها وجعل ميليشيات حزب الله دولة داخل الدولة اللبنانية، وهذا ما فعلته إسرائيل أيضا في دعم المنظمات المتطرفة في دول عربية أخرى، والدولة العبرية بارعة في تمويل هذه التنظيمات لتستخدمها أوراقًا لإضعاف الدول العربية المجاورة، لكن لا تنجح دائمًا في الاحتفاظ بهذه الأوراق وسرعان ما ينقلب السحر على الساحر وتدخل في مواجهات مع هذه التنظيمات التي دعمت وجودها في الأساس، وهذه المواجهات تتحول إلى حروب مستعرة ومدمرة كتلك التي تدور رحاها الآن في قطاع غزة، هذه الحرب التي جعلت علاقات إسرائيل الناشئة مع بعض الدول العربية تتعرض للفتور ، وتضع هذه العلاقات في مهب الريح، وتجعل دولًا أخرى تتردد كثيرًا في التطبيع والقبول بعلاقات طبيعية مع إسرائيل، تحت تأثير الجرائم التي ترتكبها إسرائيل وانعكاس ذلك على الرفض الشعبي العربي العارم للجرائم الإسرائيلية البشعة، وتخلق حاجزًا من الكراهية بينها وبين الشعوب العربية والإسلامية وتقوض الجهود الحثيثة التي تبذلها من أجل التقارب بين دول العالمين العربي والإسلامي، والمؤسف أنه في ظل ما تفعله إسرائيل في غزة وكامل الأراضي الفلسطينية نجد الغرب بأكمله يساندها ويدعمها في حرب غير متكافئة لقتل وتشريد الفلسطينيين، بل أمريكا تتخذ من قتل المدنيين الفلسطينيين ورقة انتخابية وهذا ما يفعله الرئيس بايدن .
الجرائم الإسرائيلية ضد مستقبلها في المنطقة ، فهي لا تستطيع العيش بسلام وسط بحور الدماء التي تريقها، وإذكاء العنف والكراهية، والغرب لن يستطيع فرض إسرائيل على شعوب المنطقة، خاصة أن العالم يشهد تحولات كبرى سوف يتمخض عنها ظهور قوى عظمى جديدة تنافس على قيادة العالم، والدول العربية في طريقها لأن تكون من بين هذه القوى الصاعدة وسوف تنحاز إلى مصالحها، خاصة أنها بدأت في تنويع شراكاتها وصداقاتها والبحث عن مصالحها ولن يكون الغرب وجهتها الوحيدة في العالم وهذا ما يعني أن تشكيل عالم المستقبل سيكون في صالح العرب، وليس في صالح إسرائيل، وعلى العرب تعظيم قوتهم الذاتية واستثمار مزاياهم النسبية بما فيها شراكاتهم وصداقاتهم الخارجية ليكونوا قوة مهابة على أرضهم تستطيع تحقيق السلام العادل والشامل والمستدام الذي هو في صالح جميع الأطراف.