لا شك أن العالم يجتاز في الفترة الراهنة تحولات عميقة في بنية النظام العالمي وإعادة صياغة الكثير من الرؤى والمفاهيم والقوى الحاكمة للعلاقات الدولية. ومع التسليم بأنه لم تسفر هذه التحولات عن قيام نظام جديد واضح المعالم والمسارات، فما يحدث على الساحة الدولية بتغيراته وتأثيراته يستحق النظر والتعمق بغية استشراف اتجاهات إعادة بناء النظام الدولي. وتشير مجمل تلك الاتجاهات إلى حقيقة أساسية مفادها، أن العالم يتحرك تحركًا حثيثًا نحو مزيد من التكتلات الاقتصادية الكبرى سواء من خلال قيام تجمعات اقتصادية جديدة أو تفعيل هياكل قائمة بالفعل، وإعادة وتحويل الأهداف المنوطة بالمؤسسة الاقتصادية لتتوافق ومقتضيات التغيرات الجارية على الساحة الدولية منذ انهيار الكتلة الشرقية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وما تلا ذلك من تطورات درامية لإعادة ترتيب هيكل القوة الاقتصادية في العالم.
ومن أبرز ملامح تلك التطورات الدولية التكتلات الاقتصادية الكبرى، وتوقيع اتفاق التحرر الجزئي والتدريجي للتجارة الدولية بين الدول الأعضاء في الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات والمعروفة اختصارًا باسم (الجات) وذلك في ختام جولة أورجواي التي بدأت عام 1986م، واختتمت في أبريل 1994م. الأمر الذي يعني أن اقتصاديات الدول سوف تتحرك في إطار أسواق دولية مفتوحة نسبيًا، وبالتالي فإن نمو أو تطور أي اقتصاد سيرتبط إلى حد كبير بقدرة قطاعاته المختلفة على إنتاج السلع والخدمات بشكل تنافسي مع الاقتصاديات الأخرى، حتى يمكن لهذه القطاعات الاستمرار في المنافسة في الأسواق المحلية والدولية.
ولما كانت قدرات الدول النامية على المنافسة ضعيفة، سعت الكثير من هذه البلدان إلى التعاون الإقليمي لتعزيز قدرتها الاقتصادية في مواجهة تلك التحديات. وفي هذا الإطار تمثل تجربة «رابطة جنوب شرق آسيا» والمعروفة بالآسيان نموذجًا متميزًا في هذا الصدد على النحو الذي دفع إلى اعتبارها نموذجًا قابلاً للاحتذاء من جانب الدول النامية في سعيها لتعظيم مكاسبها في ظل الواقع الدولي. ومن هنا تأتي أهمية هذه الورقة البحثية التي تسعى إلى التعرف على عوامل نجاح تجربة «الآسيان» والتعرف على مدى إمكانات الاستفادة من هذه التجربة في إطار مجلس التعاون.
وفي ضوء ما سبق، يمكن تناول تجربة «الآسيان» في ضوء مفاهيم وصور التعاون الإقليمي بشقيه السياسي والاقتصادي، رغبة في تفهم طبيعة هذا التنظيم الإقليمي وموقعه بالنسبة لصور وأشكل التعاون. ويعنى المحور الثالث بالتعرف على إمكانات الاستفادة من تجربة الآسيان في الواقع الخليجي العربي.
تجدر الإشارة إلى أنه سبق وجود الآسيان تشكلت تنظيمات أخرى بعد زيارة تونكو عبد الرحمن رئيس الوزراء الماليزي إلى الفلبين في يناير 1959م، وطرح فكرة معاهدة الصداقة والاقتصاد لجنوب شرق آسيا، إلا أن هذا المشروع لم يكتب له النجاح لعدة أسباب، إذ لم تكن الفكرة تتسم بالنضج الكافي، وكانت تتضمن إنشاء منظمة ضيقة الحدود والأهداف-اقتصارها على الاقتصاد والتجارة والتعليم، إضافة إلى الخلافات بين العديد من دول جنوب شرق آسيا آنذاك حول المشروع، إلا أن هذه الفكرة كان لها تأثير إيجابي فيما بعد من أنها ألهمت الدول لتأسيس رابطة جنوب شرق آسيا ASA في 31 مايو 1961م. وكانت تضم ثلاث دول هي: ماليزيا، والفلبين، وتايلاند. وكان الغرض من تأسيسها هو خلق السلام والاستقرار الإقليمي وتنمية التعاون في مجال العلوم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك توفير التدريب والبحث لصالح دول الإقليم. إلا أن هذه المنظمة لم يكتب لها النجاح بسبب الصراعات والتناقضات بين الدول الأعضاء في الرابطة وخاصة بين ماليزيا والفلبين.
ثم جاء مشروع مالفيليندو والذي جمع ماليزيا، والفلبين، وإندونيسيا وذلك في يوليو عام 1963م، وقام هذا المشروع على عدة مبادي، وهي:
- لا يحق لأي عضو أن يؤدي دور القائد.
- كل الأعضاء هم شركاء متساون.
- لا يوجد أي انتقاص من سيادة أي عضو ضمن هذا المشروع.
- الانتساب أو الانضمام يكون بحرية وإرادة العضو المنضم.
- العمل على تعميق الفهم المتبادل والمشترك، مع احتفاظ كل دولة بخصوصيتها.
تلك المبادئ تم تبنيها من أعضاء الآسيان فيما بعد، وذلك بعد فشل كلا من رابطة ASA ومشروع مالفيندينو. وجاءت رابطة دول جنوب شرق آسيا لتتأسس في عام 1967م، كنوع من أنواع الأحلاف السياسية، وذلك لمواجهة الشيوعية في جنوب شرق آسيا بدعم ورغبة أمريكية. ولا سيما في فيتنام وكمبوديا ولاوس وبورما. لذلك ركزت الرابطة في البداية على التنسيق السياسي. وجاء تأسيس رابطة الآسيان بمبادرة من خمس دول هي: ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورة، تايلاند، والفلبين. وانضمت إليهم سلطنة بروناي فيما بعد عام 1984م. ثم أنشئت منطقة التجارة الحرة بين الدول الأعضاء لإزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية، ودخلت حيز التنفيذ عام 1994م، أعقبها انضمام فيتنام إلى الرابطة، ولاوس وماينمار عام 1997م، وكمبوديا عام 1999م.
وتعتبر ماليزيا من أهم المتحمسين لهذا التكتل الذي بدأ يركز على التعاون الاقتصادي الإقليمي فيما بين الدول الأعضاء، في مجال توحيد سياسـات التـصنيع وتحرير التجارة البينية على أساس قوائم سلعية وتنفيذ سياسات وطنية لإحـلال الـواردات وحماية الصناعات الناشئة، خاصة بعد الأضرار الشديدة، التي لحقت بها نظرًا للحماية من طرف الدول المتقدمة كأمريكا وأوروبا تجاه صادرات تلك الدول.
كما أن الدول الخمس المؤسسة لهذه الرابطة لم تلجأ إلى اتباع المنهج التقليـدي للتكامـل وفضلت عليه منهجًا تعاونيًا، فلم تحدد تاريخًا محددًا لبلوغ مرحلة معينة من مراحل التكامـل الاقتصادي، وركزت على بعض مجالات التعاون الاقتصادي والتعاون الوظيفي، وخصصت لها لجانًا قطاعية وحكمت ذلك عدة عوامل:
- اتباع النمط التقليدي للتنمية القائم على الإحلال محل الواردات، اعتمادًا علـى وفـرة الموارد الطبيعية، وبالعمل على تطوير مواردها البشرية.
- التعاون بين الاقتصاديات القطرية واختلاف مستويات نموها.
- اتباع كل من ماليزيا وسنغافورة سياسات تصنيع متفتحة على الخارج عـن طريـق اتفاقيات الاستثمار وغير ذلك.
- نجاح السياسة الادخارية والاستثمارية وعدم الحاجة إلى موارد خارجية.
وفي 29 نوفمبر سنة 2004م، وقعت الصين اتفاقًا تاريخيًا مع زعماء دول جنوب شـرق آسيا الأعضاء في رابطة الآسيان، يقضي بإقامة أكبر منطقة تجارة حرة في العالم.
أهداف وأهمية رابطة الآسيان:
تحددت أهداف رابطة الآسيان وفقًا لإعلان بانكوك عام 1976م، وذلك على النحو التالي:
- تسريع النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والتنمية الثقافية في جنوب شرق آسـيا بعمل مشترك يقوم على روح التعاون والتكافؤ، والمشاركة من أجل تعزيز قواعـد مجتمـع مزدهر يسوده السلام.
- تعزيز التقدم الاجتماعي وتحسين مستوى المعيشة لأعضائها وتشجيع التعاون النـشط والمعونة المتبادلة في البحث والتدريب والمجالات الاقتصادية والاجتماعية.
- التآزر على نحو أكثر فاعلية في استخدام أنشطتها الزراعية والصناعية وتوسيع تجارتها بما في ذلك دراسة شؤون التجارة السلعية الدولية وتحسين النقل والاتصالات.
- تعزيز الدراسات حول إقليم جنوب شرق آسيا.
- إقامة علاقات وثيقة ونافعة مع المؤسسات الدولية والإقليمية ذات الأهداف المماثلة.
- إشاعة السلام والاستقرار السياسي والاقتصادي الإقليميين في مواجهة القوى الكبرى،
- وتجنب الصراع فيما بينهما بمراعاة احترام العدل وسيادة القانون في العلاقـات بـين دول الإقليم.
وتأتي أهمية تكتل الآسيان إقليميًا ودوليًا انطلاقًا من تنامي الدور الآسيوي في العلاقات الاقتصادية الدولية وعلى الأخـص منـذ عقـد التسعينيات من القرن الماضي وانضمام الصين لها، واحتمالات ضم كل من اليابان وكوريـا الجنوبية سيزيد من مصداقيته وقدرته المتزايدة على لعب دور متنامي في العلاقات الاقتصادية الدولية. كما تتجه دول رابطة الأسيان إلى الإسراع في تفعيل إقامة منطقة التجارة الحرة بينـها في ضوء التخوف من التحرك الأمريكي لإقامة منطقة تجارة حرة بين الأمريكيتين، وتوسيع منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا) وبالتالي تضييق الخناق على دول القارة الآسيوية .كما تمثل منطقة التجارة الحرة المزمع إقامتها داخل حدود الرابطة أكبر تجمع اقتـصادي في العالم بأسره من زاوية عدد المستهلكين و هو الأمر الذي يسهم كثيرًا في تحقيـق وفـرات اقتصادية كبرى من خلال تخفيض نفقات النقل والتأمين، مما يسهل حركة انتقـال الـسلع والأشخاص داخل المنطقة ويزيد من القدرة التنافسية داخل رابطة الأسيان وخارجه.
فضلاً عما سبق، فقد كانت هناك أهداف أخرى ذات صلة بتأسيس رابطة الآسيان، وهي أهداف تتعلق بسعي الولايات المتحدة الأمريكية لحصار المد الشيوعي آنذاك واحتوائه، خوفًا من انتشاره على نحو يهدد مصالحها بالمنطقة لاسيما مع خروج فرنسا من الهند وانتصار فيتنام وتوسعها في كمبوديا فضلاً عن تفاقم الصراعات الأخرى بالمنطقة. عندئذ برزت الحاجة إلى آليات أمنية في جنوب شرق آسيا تكون مهمتها حصار المد الشيوعي والحيلولة دون انتشاره وهو الأمر الذي قاد الولايات المتحدة الأمريكية إلى إيجاد هذه الآلية في محاولة منها لتنظيم صفوف الحلفاء في جنوب شرق القارة وتقوية اقتصادهم من طريق ضخ رؤوس الأموال الهائلة لتلك الدول، الأمر الذي يحقق بطريقة أو بأخرى مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تلخصت وقتها بــ:
1-الحد من نفوذ النشاط الاقتصادي الياباني الآخذ بالنمو آنذاك.
2-حصار الشيوعية في محاولة لتطويق فيتنام والاتحاد السوفياتي السابق فيما عرف وقتها بسياسة التطويق.
3-دعم التكامل الإقليمي بين الدول الموالية والصديقة عبر الاستثمارات المشتركة والتعاون الاقتصادي.
رابطة الآسيان والفاعلية الإقليمية:
رفض الأعضاء الخمسة الأصليون في رابطة الآسيان مع بداية تأسيس الرابطة فكرة إقامة أي تعاون دفاعي، إذ اعتقدوا أن المقترحات الخاصة بإقامة تعاون دفاعي ستحد من مرونة رابطة دول جنوب شرق آسيا في إدارة النزاعات الجماعية والتعاون الاقتصادي. بالإضافة إلى أن إقامة تعاون دفاعي يمكن أن يزيد من الشكوك الصينية أو السوفياتية وربما يشن هجومًا على أي عضو من أعضاء الرابطة. وفي قمة الآسيان الأولى في بالي 1976م، صرح وزير ماليزيا الأسبق حسين أون بأن توجيه الآسيان نحو الأمن سوف يخلق شكوكًا لدى القوى الكبرى ويضعف جهود الرابطة في تحقيق أهدافها الاقتصادية. علاوة على أن أعضاء الآسيان يفتقرون إلى القدرات الدفاعية وامتلاكها لجيوش صغيرة ليس لديها القدرات العسكرية الكافية للدخول في اشتباك عسكري في نزاع معين، وهو ما أعاق قدرة الآسيان على الالتزام بتقديم المساعدة العسكرية المباشرة لأي عضو قد يتعرض لتهديد عسكري.
وعلى الرغم من ذلك فقد نجحت دول المنطقة في إدارة بعض الترتيبات العسكرية الثنائية لمعالجة التهديدات التقليدية مثل حركات التمرد المسلحة. واتسعت تلك الترتيبات الثنائية على المستوى الاستخباراتي والتدريب العسكري المشترك مع الوقت، وهو ما زاد إدراك أعضاء الرابطة لفوائد التعاون العسكري والدفاعي المشترك. وهو ما تم بالفعل عام 2003م، حيث قام أعضاء الرابطة بتغيير سياستهم في التعاون الدفاعي. إذ وافق الأعضاء على تعزيز تعاونهم في المجال الدفاعي والأمني. واقترحت إندونيسيا اقتراح إنشاء مجتمع أمنى، لمواجهة التهديدات غير التقليدية.
علاقات رابطة الآسيان مع الاتحاد الأوروبي:
يشكل الاتحاد الأوروبي النموذج النظري المحتذى لدى دول رابطة الآسيان، ولذا كان من الطبيعي أن يسعى أعضاء الرابطة إلى دعم علاقاتهم بالدول الأوروبية، وأسفر هذا السعي على توقيع اتفاق للتعاون بين الآسيان والدول الأوروبية في مارس 1980م. وكذلك تم تشكيل لجنة مشتركة عقدت اجتماعها الأولى في العاصمة الفلبينية (مانيلا). وأصبح الاجتماع سنويًا بعد ذلك، ووضعت اللجنة برنامجًا للتعاون العملي والتكنولوجي. كما أنشئت بعد ذلك لجان استثمارية مشتركة في جميع عواصم رابطة الآسيان ومع بداية تحرك الجماعة الأوروبية نحو تحقيق الوحدة، عقد وزراء خارجية رابطة الآسيان اجتماعًا في فبراير 1990م، لمناقشة الآثار المحتملة للاتحاد الأوروبي على رابطة الآسيان، لاسيما في ظل المخاوف التي طرحتها الرابطة حول ما يمكن أن يوضع من قيود على صادراتهم إلى دول الاتحاد الأوروبي، كذلك بحث الآثار المترتبة على اتجاه الاتحاد الأوروبي إلى توجيه الجزء الأكبر من الاهتمام والمساعدات إلى دول شرق أوروبا تحولها نحو اقتصاد السوق.
علاقة رابطة الآسيان مع اليابان
يمكن القول بأن ثمة عوامل كثيرة سياسية واقتصادية وجغرافية كانت بمثابة المحددات لعلاقة الآسيان باليابان فالوزن الاقتصادي الضخم لليابان، والجوار الجغرافي والتشابه في الأنظمة الاقتصادية استدعى حدوث تعاون بين الآسيان واليابان وهو الأمر الذي يتفهمه كلا الطرفين. مما أسفر عن تشكيل الجمعية اليابانية الآسيانية لمناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل التجارة، والاستثمارات ونقل التكنولوجيا. كما أنشأت اليابان صندوق تمويل التنمية في الآسيان وأسفرت المفاوضات بين الطرفين عن إعلان اليابان استمرارها في دعم وتشجيع النمو الاقتصادي لدول الآسيان والبحث عن إطار مشترك لمناقشة القضايا السياسية والأمنية في المنطقة.
علاقة الآسيان مع كوريا الجنوبية
وجد التعاون الاقتصادي بين رابطة الآسيان وكوريا الجنوبية من جهة أخرى عددًا من الأسباب والمبررات أهمها يتعلق بمشاكل مشتركة مثل ارتفاع تكاليف الطاقة خاصة في كوريا وكساد الطلب على الصادرات وتهديد الحماية العالمية. كذلك هناك أسباب سياسية وأمنية منها سعت رابطة الآسيان إلى تقوية علاقتها بكوريا الجنوبية لتجد موطئ قدم لها في قضية شبه الجزيرة الكورية لضمان عدم تفجر الصراع في هذه القضية، وهذه الأسباب دفعت الآسيان إلى قبول كوريا الجنوبية كعضو مراقب في اجتماع وزراء الخارجية في يوليو 1991م.
الآسيان ودول المنطقة العربية
بالرغم مما يمثله نموذج رابطة الآسيان من جاذبية لدى الدول العربية والمنظمات الإقليمية العربية الراغبة في الوحدة والتكامل الاقتصادي مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربي. وبالتالي فإن الحديث عن تعميم أي تجربة تنموية كاملة واستنساخها حديث غير واقعي وغير قابل للتحليل العلمي الدقيق، وذلك لأنه لا يوجد مجتمع يتطابق في جميع شرائحه مع مجتمع آخر، لا توجد ثقافة متماثلة مع ثقافة أخرى. وإنما لتحقيق التنمية، والاستفادة من الموارد والخبرات البشرية في تطوير المجتمعات وتحسين أداء النظم والأفراد.
لكن مجموعة من الحقائق التي تفرض نفسها وهي أن رابطة الآسيان قامت في ظل نظام دولي ثنائي القطبية حيث توزعت مصادر القوة الرئيسية بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي. وقد كانت منظمة شرق آسيا أهم بؤر الصراع الاستقطابي بين تلك الدولتين. لذلك فقد كانت دوافع النمو الصناعي التصديري في جنوب شرق آسيا سياسة عسكرية للحيلولة دون امتداد النفوذ السوفياتي -الصيني ولتفكيك الولاء لها.
ومع انهيار المعسكر الشرقي التي تزعمته روسيا في بداية التسعينات وظهور ما يسمى بالنظام الدولي الجديد أحادي القطبية فقد تلاشت الدوافع السياسية والأمنية، الأمر الذي جعل دول جنوب شرق آسيا تعاني من فراغ أمني وهزات اقتصادية. كذلك يجب الإدراك بأن عملية إنشاء رابطة الآسيان تمت في ظروف اقتصادية دولية مختلفة وفي سياق دوافع الثورة العلمية التكنولوجية التي تلت الحرب العالمية الثانية. حيث سعت الدول الصناعية إلى تقسيم العمل الدولي الرأسمالي على أساس تكنولوجي بحيث يتم نقل صناعات أو مراحل صناعية تحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة عادية أو شبه ماهرة من الدول المتقدمة إلى العالم الثالث الذي تكثر فيه العمالة العادية وتنخفض تكلفتها نسبيًا ويتوفر فيها مناخ سياسي ملائم وقد نجحت عملية النقل الصناعي في دول جنوب شرق آسيا بشكل كبير. ويبدو أن الوضع يختلف في المنطقة العربية من حيث اختلاف النمط الحضاري والمناخ السياسي والاقتصادي المناسب لتنمية اقتصادية متكاملة وتحول هيكلي. ولذلك لم تشجع الدول الغربية شركاتها على القيام بعملية النقل الصناعي إلى الدول العربية.
نموذج معهد رابطة أمم جنوب شرق آسيا للسلام والمصالحة ودوره في منع الأزمات
يذكر أن معهد رابطة أمم جنوب شرق آسيا للسلام والمصالحة هو مؤسسة تابعة لرابطة أمم جنوب شرق آسيا لإجراء نشاطات بحثية حول السلام وإدارة النزاعات وتسوية النزاعات. وكما هو مبين في اختصاصاته، التي اعتمدها وزراء خارجية رابطة أمم جنوب شرق آسيا في عام 2012م، فإن المعهد مسؤول عن الاضطلاع بعدد من الأنشطة، بما في ذلك البحوث وبناء القدرات وتطوير مجموعة من الخبرات والربط الشبكي ونشر المعلومات.
وفيما يتعلق بالبحوث، يجمع المعهد تجارب رابطة أمم جنوب شرق آسيا وأفضل الممارسات بشأن السلام وإدارة الصراعات وحل النزاعات، فضلاً عن بناء السلام بعد انتهاء الصراع. وتهدف هذه الأنشطة البحثية إلى تقديم توصيات مناسبة إلى الدول والهيئات الأعضاء في الرابطة، بناء على طلبها. ويُكلّف المعهد أيضاً بإجراء دراسات لتعزيز تعميم مراعاة المنظور الإنساني في عمليات بناء السلام وكذلك في عمليات السلام وفي حل النزاعات، فضلاً عن دراسة وتحليل الآليات القائمة لتسوية المنازعات في رابطة أمم جنوب شرق آسيا بهدف تعزيز الآليات الإقليمية لتسوية المنازعات بالوسائل السلمية. وفيما يتعلق ببناء القدرات، يعقد المعهد ورش عمل بشأن السلام وإدارة الصراعات وتسوية النزاعات؛ وبشأن النهوض بالعمل في مجال الحوار بين الأديان؛ وبناء المعرفة بين المسؤولين الحكوميين المعنيين والباحثين والمراكز الفكرية.
وفيما يتعلق بتطوير مجموعة من الخبراء، فمن المتوقع أن تستفيد الدول الأعضاء في رابطة أمم جنوب شرق آسيا من هذا التجمع للعمل كموظفين للموارد في أنشطة إدارة الصراعات وحلها، بما في ذلك تقديم توصيات تتعلق بالسياسة العامة بشأن تعزيز السلام والمصالحة. وفيما يتعلق بالربط الشبكي، فمن المتوقع أن يعمل المعهد كمركز للمعرفة، من خلال إقامة روابط مع المؤسسات والمنظمات ذات الصلة في الدول الأعضاء في رابطة أمم جنوب شرقي آسيا، وكذلك مع منظمات مماثلة على الصعيدين الإقليمي والدولي. وأخيرًا، فيما يتعلق بنشر المعلومات، من المتوقع أن يرفع المعهد الوعي والفهم للمواضيع التي تقع ضمن نطاق عمله.
وفيما يخص دور المعهد في السياق الأوسع لمنع نشوب الصراعات والأزمات، فلا يمكن فصله عن إطار الجماعة السياسية والأمنية التابعة لرابطة أمم جنوب شرق آسيا (APSC)، التي يعمل المعهد في ظلها. وقد أنشئ المعهد بموجب البند (B.2.2.i) في 1 مارس 2009م، من الخطة المجتمعية للجماعة السياسية والأمنية (2015-2009)، كمتابعة للبيان المشترك لقادة رابطة أمم جنوب شرق آسيا بشأن إنشاء معهد الآسيان للسلام والمصالحة في 8 مايو 2011م. ومن المهم أن نلاحظ أن ولاية المعهد تشمل أيضاً تعزيز الأنشطة في إطار هذا المخطط للجماعة السياسية والأمنية. ويقدم مخطط الجماعة السياسية والأمنية لعام 2025م، والذي تم اعتماده في 22 نوفمبر 2015م، إلى جانب مخططات مماثلة للركائز الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خطوط عمل تهدف إلى إنجاز تدابير رئيسية، في إطار زمني محدد، من أجل تحقيق رؤية جماعة أمم جنوب شرق آسيا الخاصة بتحقيق مجتمع متماسك سياسياً. وأحد العناصر الرئيسية لمخطط الجماعة السياسية والأمنية لعام 2025م، هو رؤيتها المتعلقة بتحقيق السلام والأمن والاستقرار لمنطقة رابطة أمم جنوب شرق آسيا. ويمثل ذلك في المقام الأول هذا العنصر الذي يساهم فيه معهد رابطة أمم جنوب شرق آسيا للسلام والمصالحة. كما يتوقع أن يكون للمعهد القدرة على القيام بدور هام في تعزيز تبادل المعارف والتوصيات المتعلقة بالسياسة العامة للمساعدة في تعزيز السلام والمصالحة ومنع نشوب الأزمات في رابطة أمم جنوب شرق آسيا.