array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 191

الآسيان تمتلك 4 أوراق استراتيجية تقلل مخاطر إعادة هندسة النظام الدولي

الأحد، 29 تشرين1/أكتوير 2023

تشكل رابطة جنوب شرقي آسيا، المعروفة اختصارًا بالآسيان، نموذجًا للتكامل الاندماجي الإقليمي الذي يجمع بين الحفاظ على خصوصيات السيادة الوطنية لدوله، من جهة، والطموح لبناء نموذج تنموي مترابط يشبه القطار الذي يجر عرباته المتلاصقة بديناميكية تنموية متسارعة، من جهة أخرى. كما تمثل دول رابطة الآسيان تجربة تطبيقية للدراسات الأمنية والاستراتيجية فيما يسميه باري بوزان، بالأمن الإقليمي المركب، بحيث تقع دول الآسيان ما بين لاعبين جيوستراتيجيين آسيويين، الصين والهند، المتنافسين والمتخاصمين، متنافسين حول الأسواق الآسيوية والمكانة الاستراتيجية في المنطقة لما يملكانه من عناصر القوة النووية والاقتصادية، ومتخاصمين حول الحدود والأنهار المائية التي تمر عبرهما وحولهما، مما يدفعهما لإدارة اللعبة الاستراتيجية بالأساليب التقليدية لمأزق الأمن، ببناء سياسات الاحتواء والاحتواء المضاد. وإلى جانب الصين والهند، فإن دول الآسيان تتجاذبها السياسة الأمريكية الكونية، القائمة على القوة البحرية، التي تلعب ورقة توازن القوى مع الصين ومحاولات تحييدها بإقامة تحالفات استراتيجية مع الهند والانخراط الأمني مع دول الآسيان للحفاظ على مكانتها وتفوقها في النظام الدولي القائم والمرتقب.

في إطار مفهوم الأمن الإقليمي المركب، فإن دول الآسيان تدرك الأوراق الاستراتيجية التي تملكها في إطار مأزق الأمن، الخوف المتبادل بين اللاعبين الاستراتجيين الثلاث، الصين، الهند والولايات المتحدة الأمريكية، محاولة فرض رؤيتها العملية القائمة على المنطق الجيواقتصادي الذي يجمع كل الخصوم الاستراتيجيين لتجاوز العقد الجيوبوليتيكية التي تدفع اللعبة الاستراتيجية باتجاه صراع الإرادات على من يملك المكانة والقوة والنفوذ في النظام الدولي الذي تتشكل معالمه في إطار الفوضى الدولية والغموض الاستراتيجي وعدم اليقينية في اتجاهاته المستقبلية.

أولًا: الآسيان: أوراق استراتيجية لإدارة الصراع الدولي.

في ظل الصراع على المكانة الدولية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في منطقة آسيا، ومخاطر الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية على منطقة أوراسيا وتداعياتها العالمية، فإن دول رابطة الآسيان تمتلك مجموعة من الأوراق الاستراتيجية التي تدعم المقاربة الجيواقتصادية، مما يجعلها تقلل وتحيد بعض المخاطر والتأثيرات ذات الثقل الجيوسياسي في إطار إعادة تركيب وهندسة النظام الدولي، وفق أسس التعددية القطبية وإدارة النزاعات بالطرق القانونية والدبلوماسية، والمساهمة في ترابط المصالح الاقتصادية والاعتماد المتبادل على حساب الإفراط في استخدام القوة العسكرية.

الورقة الاستراتيجية الأولى التي تملكها دول الآسيان، أنها استطاعت بالمنطق الجيواقتصادي، أن تجمع أكبر اتفاق للتبادل الحر في العالم في إطار الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، الذي تم توقيعه في نوفمبر 2020م، ودخل حيز التنفيذ في يناير 2022م، يجمع الدول العشرة للآسيان وخمسة شركاء من القطب الآسيوي-الهادئ، التي سبق لكل دولة منها أن وقعت اتفاق ثنائي للتبادل الحر مع الآسيان، وهي كل من الصين، أستراليا، اليابان، كوريا الجنوبية ونيوزيلندا. حيث يغطي هذا الاتفاق نصف صادرات العالم وما يقارب ثلث الإنتاج الداخلي الخام العالمي.كما يمثل معظم القطاعات الاقتصادية، حوالي 90 بالمائة من السلع يتم تبادلها بإعفاءات من الحقوق الضريبية. وحسب البيانات المقدمة من قبل البنك العالمي، فإن الاتفاق يجمع 2.3 مليار نسمة، أي 30 بالمائة من سكان العالم، ويساهم ب 30 بالمائة من الإنتاج الداخلي الخام العالمي، و31 بالمائة من تدفق الاستثمارات الأجنبية.

الورقة الاستراتيجية الثانية التي تملكها دول الآسيان لإدارة اللعبة الاستراتيجية بالمنطق الجيواقتصادي، أنها تقع في قلب منطقة الهندي-الهادئ التي تعرف ديناميكية اقتصادية متسارعة، بكتلة ديمغرافية تشكل 50 بالمائة من سكان العالم، مما يجعلها مجالاً حيويًا وجيواستراتيجيًا لكل القوى التي تبحث عن تعزيز قدراتها الاستراتيجية، حيث يمر ثلثي التبادلات التجارية بالحاويات عبر منطقة الهندي-الهادئ، كما تشكل ممراتها المائية من أهم الطرق التجارية والتموين بالطاقة في العالم. على المستوى البحري، تشكل منطقة الآسيان ثاني منطقة لنقل الحاويات في العالم، حيث يمثل ميناء سنغافورة لوحده واجهة جنوب شرقي آسيا، يمتد إلى 17 كلم يتصل بأكثر من 600 خط دولي، مما يجعله محل استقطاب وتنافس كل الشركات العالمية. ونظرًا للازدحام على ميناء سنغافورة، فإنه تم تفعيل مشاريع بحرية في المنطقة على غرار تنشيط مضيق مالكا بفضل مشاريع الموانئ مثل كيلابا، في جنوب شرق ماليزيا. إلى جانب قوتها البحرية، فإن رابطة الآسيان تعد من بين الخطوط الجوية الأكثر ديناميكية في العالم حيث تمثل 24 بالمائة من التدفق العالمي، بما يمنحها ميزة السهولة والسرعة في النقل وتقريب المسافات لجذب السياحة ورجال الأعمال.

في إطار هذا القلب الحيوي للعالم، فإن دول الآسيان تتشكل من سوق استهلاكي يقدر بـ 664 مليون نسمة مقابل 520 مليون في الاتحاد الأوروبي، الفيليبين لوحدها تستقطب 200 مليون نسمة في آفاق 2030م، وهي من المناطق الأكثر انفتاحًا على التبادلات التجارية، بنمو داخلي من أعلى النسب في العالم. ومن المؤشرات المتحركة والمغرية للتعاون والشراكة مع دول الآسيان أنها تملك الفئة السكانية الأكثر نشاطا التي يغلب عليها فئة الشباب متوسط العمر فيها 28 سنة، يعيش أغلبهم في أكثر من 100 مدينة بكثافة تزيد عن مليون نسمة، ومتوقع أن يتزايد عدد السكان بــ 90 مليون إضافي في السنوات العشرة القادمة. والمؤشر البارز أن أغلب السكان يعيش في كنف الموجة الحضارية الثالثة والرابعة، حيث المجتمع المعرفي والرقمي والابتكارات التكنولوجية التي تعد من أكبر المعدلات في العالم، بتوقعات متفائلة للنمو تتراوح بين 5 إلى 7 بالمائة في العشر إلى العشرين سنة القادمة. وأحد المؤشرات على الديناميكية التنموية في منطقة الآسيان، أن حاجياتها من البنية التحية تعد معتبرة، حيث قدرها البنك الآسيوي للتنمية بــ 3150 مليار دولار في الفترة ما بين 2016-2030، أي بمعدل 200 مليار دولار سنويًا بما يمثل 5 بالمائة من الإنتاج الداخلي الخام، الذي يقدر ب 3900 مليار دولار. وهي بذلك تشكل ثالث أكبر اقتصاد في آسيا والخامس عالميًا بعد كل الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، اليابان والهند.

الورقة الاستراتيجية الثالثة التي تديرها دول الآسيان بحكمة، هي تشبثها بتوجهاتها في السياسة الخارجية، القائمة على توازن المصالح وعدم الانخراط في التحالفات العسكرية واللعبة الاستراتيجية الأمريكية-الصينية- الهندية، مما يجعلها تربط علاقاتها مع الجميع بآليات للتعاون والشراكة، فهي دائمًا ما تذكر شركاءها في الاتفاقيات التعاونية بالمبادئ الأساسية التي تضبط سلوكها الخارجي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، وميثاق الآسيان، والإعلان حول منطقة السلم، الحرية والحياد، واتفاق الصداقة والتعاون لجنوب شرقي آسيا الذي يضم 51 شريكًا، واتفاقية الأمم المتحدة حول قانون البحار لسنة 1982م، والاتفاقية المتعلقة بحظر الأسلحة النووية في جنوب شرقي آسيا، ووثيقة آفاق الآسيان في المحيطين الهندي والهادي. ضمن هذا السياق، فإن الإعلان المشترك الآسيان-الولايات المتحدة الأمريكية الذي تم إصداره بعد القمة الخاصة المنعقدة بواشنطن في 13 مايو 2022م، أكدت مرة أخرى على كل هذه المرجعيات والمبادئ التي تساهم في ترقية التعاون الثنائي من أجل بناء السلم والاستقرار في المنطقة وفي العالم. وهو ما تحاول أن تتكيف معه الولايات المتحدة الأمريكية التي بنت علاقاتها مع دول الآسيان منذ الحوار الأول الأمريكي-الآسيان بمانيلا في سنة 1977م، إلى غاية التوقيع على اتفاقية الصداقة والتعاون بين الطرفين مع تعيين بعثة أمريكية دائمة لدى الآسيان بجاكرتا، وإنشاء قمة خاصة الآسيان-الولايات المتحدة الأمريكية. وبمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لعلاقات الحوار الأمريكي-الآسيان، التزم الطرفان بإقامة شراكة استراتيجية شاملة، لكي تترجم التقدم المكتسب على مستوى التعاون الجيواقتصادي، بتنفيذ اتفاق الإطار للتجارة والاستثمار وخطة العمل الخاصة بالمبادرات والالتزامات الاقتصادية الموسعة. وفق معطيات مكتب الإحصائيات للآسيان لسنة 2022م، فإن التبادل التجاري بين واشنطن والآسيان وصل إلى 420 مليار دولار بزيادة نسبتها 15 بالمائة مقارنة بسنة 2021، في الوقت الذي تزايدت نسبة الاستثمارات الأمريكية المباشرة بــ 3 بالمائة لتصل إلى 36.5 مليار دولار، مما يجعلها الشريك التجاري الثاني والمستثمر الأجنبي الأول في المنطقة.

الورقة الاستراتيجية الرابعة التي بيد دول رابطة الآسيان تمكنها من تفعيل متغيرات المقاربة الجيواقتصادية، تكمن في مجموع الآليات والمنتديات التي تجمع الخصوم الاستراتيجيين لتخفيض حدة النزاعات الجيوسياسية، لاسيما في النزاع الصيني-الأمريكي حول تايوان وجنوب بحر الصين إلى جانب الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية والنزاع بين الصين واليابان حول تفريغ المياه الملوثة للمركز النووي لفوكوشيما. وهذا ما اتضح في قمة الآسيان المنعقدة بجاكارتا في 6 مارس 2023م،حيث حضرت 18 دولة من ضمنهم الصين، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان وكوريا الجنوبية وروسيا، وكان الخطاب الدبلوماسي لأندونسيا التي استضافت القمة صريح جدًا:" إن رابطة دول الآسيان لا يجب أن تقوم بدور الوسيط للقوى الكبرى"، بما يعني أن الفضاء مفتوح لإذابة الجليد فيما يخص مجموع القضايا الجيوسياسية المطروحة، وعلى هامش المائدة المستديرة للأشغال حضرت نائبة الرئيس الأمريكي كمالا هاريس ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وهو اللقاء الأول الأمريكي-الروسي رفيع المستوى من نوعه منذ ندوة وزراء خارجية الآسيان بجاكارتا في يوليو 2023م. ولم تخف رابطة دول الآسيان موقفها الثابت فيما يتعلق بالحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية، حيث أكدت على التسوية القانونية والدبلوماسية للحرب مع الالتزام بالدفاع على سيادة الدول وعدم استخدام القوة في إدارة العلاقات الدولية. أما فيما يخص النزاع القائم في بحر الصين الجنوبي التي تتنازع حول السيادة على مياه الدول المطلة عليه، الفيليبين، فيتنام، تايوان، ماليزيا وبروناي إلى جانب الصين التي أقامت جزر اصطناعية وتدعي السيادة على مناطق واسعة منه، فإن رابطة دول الآسيان تتوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية على الاعتراف بقواعد القانون الدولي لاسيما لائحة الجمعية العامة للأمم المتحدة 75/239 التي تؤكد على الطابع العالمي والموحد لاتفاقية الأمم المتحدة حول قانون البحار لسنة 1982م، التي أرست الإطار القانوني لكل النشاطات في البحار والمحيطات، وإن كان الهدف المعلن للولايات المتحدة الأمريكية من التوافق مع رابطة دول الآسيان إبقاء طرق الملاحة البحرية والجوية مفتوحة للجميع لتبرير عمليات حرية الملاحة لتواجد السفن الحربية والطائرات العسكرية بالقرب من الجزر المتنازع عليها، وهو حفاظ على عقيدتها العسكرية الكونية القائمة على القوة البحرية والتواجد الدائم في المحيطين الهندي والهادئ.  

ثانيًا: التعاون بين مجلس التعاون الخليجي ورابطة دول الآسيان: الفرص والرهانات.

أدركت دول مجلس التعاون الخليجي الأوراق الاستراتيجية التي تحوز عليها دول رابطة الآسيان من حيث أهميتها الجيوستراتيجية والجيواقتصادية، مما جعلها تقيم علاقات للحوار الاستراتيجي منذ 2009م، وتم وضع خطة العمل في الميادين الاقتصادية والاجتماعية في الاجتماع الوزاري الثاني في سنة 2010م، بسنغافورة، في الدورة الثانية للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون الخليجي والآسيان، وتم على إثرها تشكيل ست فرق عمل متخصصة في مجالات العمل المتوافق عليها وتضم، الاقتصاد والتجارة، الاستثمار الزراعي والأمن الغذائي، التعليم والثقافة، السياحة، الطاقة والإعلام. وقد تطورت تلك العلاقات بانضمام خمسة دول خليجية إلى معاهدة الصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا، حيث انضمت المملكة العربية السعودية في 11 يوليو 2023م، وسبقتها كل من الإمارات، عمان وقطر في 3 أغسطس 2022م، ولحقتها الكويت في سبتمبر 2023م، وتكمن الأهمية الاستراتيجية لهذه المعاهدة أنها تحاول أن ترسي قواعد العلاقات الدولية المتعددة الأطراف بجمع الخصوم الاستراتيجيين على توثيق قواعد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة التي تتمسك بها دول مجلس التعاون الخليجي، حيث انضمت إلى اتفاقية التعاون والصداقة كل من الهند والصين في سنة 2003م، ولحقت بهما الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 2009م، كما انضمت كل من روسيا، فرنسا، اليابان وكوريا الجنوبية إلى المعاهدة. إن انضمام دول مجلس التعاون الخليجي لاتفاقية التعاون والصداقة يخدم أهدافها المعلنة والمنشودة، القائمة على المشاركة الفعالة في ترتيب النظام الدولي على قواعد العامة للفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، لاسيما فيما يتعلق بالتسوية السلمية للنزاعات الدولية وتجنب استخدام أدوات الإكراه المادي والتدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول والحفاظ على الخصوصيات السيادية لكل دولة، وهو ما يتوافق في التعاون والصداقة مع أهداف دول رابطة الآسيان. ويتماشى هذا الانخراط لدول مجلس التعاون الخليجي مع المسارات التي تعمل على إرساء قواعد النظام الدولي الجديد وفق توازن المصالح ورفض سياسات الاستقطابات التي تكرسها المقاربة الجيوسياسية، وهو ما يظهر جليًا في انضمام كل من السعودية والإمارات لمجموعة البريكس، وقبلها انضمام المملكة العربية السعودية لمجموعة العشرين، فضلا عن علاقات الشراكات الاستراتيجية مع كل الفاعلين الجيوستراتيجيين، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، الهند، الاتحاد الأوروبي، روسيا.  

في تقرير اقتصادي قدمته مجلة الإيكونمست البريطانية حول العلاقات الاقتصادية بين رابطة دول الآسيان ومجلس التعاون الخليجي يغطي الفترة 2016-2020م، يبين بأن حجم الواردات الخليجية من منطقة دول الآسيان تمثل 6 بالمائة من إجمالي واردات مجلس التعاون الخليجي، تستحوذ السلع الإلكترونية النسبة الأكبر بــ 28 بالمائة من إجمالي الواردات، وتشكل الآلات نسبة 12 بالمائة. بينما لم تتعد نسبة الصادرات الخليجية لدول الآسيان في نفس الفترة 4 بالمائة من إجمالي صادرات دول مجلس التعاون الخليجي بما يعادل 126 مليار دولار، النسبة الأكبر يغلب عليها النفط الخام بنسبة 43 بالمائة، والبوليمرات البلاستيكية بنسبة 20 بالمائة. أما فيما يخص استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في منطقة الآسيان، فقد بلغت 13.4 مليار دولار في الفترة ما بين 2016م، إلى غاية سبتمبر 2021م، وتجدر الإشارة أن دول مجلس التعاون الخليجي تمتلك فرصة استراتيجية للانضمام إلى أكبر تجمع جيواقتصادي، للتبادل التجاري الحر في إطار الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة الذي دخل حيز التنفيذ في يناير 2022م، وهي الورقة الاستراتيجية الأولى التي تم توضيحها أعلاه، حيث تضم إلى جانب دول الآسيان العشر، كل من الصين، استراليا، اليابان، كوريا الجنوبية ونيوزيلندا. ويمكن لتجربة سنغافورة مع دول مجلس التعاون الخليجي أن تعمم مع هذا القطب الجيواقتصادي العملاق، حيث وقعت سنغافورة اتفاقًا للتجارة الحرة مع مجلس التعاون الخليجي في سنة 2008م، يغطي 99 بالمائة من السلع المحلية السنغافورية، وكان نموذجًا مغريًا لكل من ماليزيا وأندونيسيا، مما يسهل تعميمه مع دول الآسيان في المستقبل القريب. وهو ما يزيد من حجم الترابط التجاري والاقتصادي ويرفع من حجم الاستثمارات الخليجية في المشاريع الضخمة التي تحتاج إليها رابطة الآسيان، والدخول في الشراكات التي تهم بنية الاقتصاد الخليجي في إطار مشاريعها المستقبلية، رؤية 2030م، للسعودية، التي تطمح أن تكون قوة عالمية في الاستثمارات بفضل القدرة التمويلية للصندوق السيادي، وزيادة الإيرادات غير النفطية بستة أضعاف والانتقال بحصة الصادرات غير النفطية من 16 بالمائة إلى 50 بالمائة. وهي الرغبة الخليجية إجمالاً التي تدفع نحو توطيد علاقاتها مع شركائها الاستراتيجيين في المجالات التي تخدم استراتيجية تنويع الاقتصاد خارج قطاع المحروقات، لاسيما في ميادين التعاون المطلوبة مثل طاقة الاقتصاد الأخضر، والاقتصاد الرقمي، والابتكار، والتكنولوجيا الخضراء، والسعي لتطوير طرق النقل المتصلة بين الخليج والمحيطين الهندي والهادئ، وبناء شبكات لوجستية وتجارية قوية، وتطوير أنظمة فعالة تسهم في تبادل المنتجات. وقد تدفع هذه الرغبة الخليجية التقديرات التفاؤلية لمستقبل الاقتصاد في دول رابطة الآسيان الذي بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي 3.62 ترليون دولار سنة 2021م، وحسب توقعات "غولدمان ساكس" فيتوقع أن يصل حجمها لما يقارب 5 تريليونات دولار بحلول نهاية 2030م، وقد يتجاوز 13 تريليون دولار في آفاق 2050م، على أن يبلغ 28 تريليون دولار بحلول سنة 2075م، من بين المشاريع المغرية لدول مجلس التعاون الخليجي الشراكة في مشاريع المدن الذكية حيث تمتلك دول رابطة الآسيان شبكة المدن الذكية، حيث دخلت في شراكات مع القوى الاقتصادية الفاعلة كما هو الحال مع الولايات المتحدة من خلال برنامج المشاركات الذكية لإدارة المياه لتعزيز الأمن المائي، فكانت التجارب العملية في التوأمة بين المدن على غرار مدينة سان فرانسيسكو ومدينة هوشي منه الفيتنامية لتحسين طرق التخطيط للاستجابة لحالات الطوارئ لمرافق المياه والصرف الصحي، ونموذج مدينة ميلوكي الأمريكية ومدينة فوكيت التايلاندية في إدارة مياه الأمطار وجدوى وتقنية الأنفاق العميقة أو مشروع معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدام المياه والقدرة على التكيف مع المناخ بين مدينة هيلزبورو، أوريغون ومدينة فينتيان باللاوس.

يمكن للشراكة المتقدمة بين دول مجلس التعاون الخليجي ورابطة الآسيان أن تساهم في مشاريع توطين الصناعات، على غرار مشروع الإمارات المسوق باسم"مشروع 300 مليار" في آفاق 2031م، الذي يركز على القطاعات الصناعية التكنولوجية التي تمتلكها دول الآسيان في مجالات التكنولوجيا الزراعية، المعدات الكهربائية والإلكترونيات، تكنولوجيا الفضاء، الهيدروجين والمنتجات الصيدلانية. كما يمكن للسعودية الاستفادة من التجارب التنموية للنمور الآسيوية فيما يخص إدارة مبادرة "مصانع المستقبل" التي تم إطلاقها في أكتوبر 2021م، للتحول من الصناعة التقليدية إلى المعاصرة، التي تعتمد على الكفاءات النوعية والتسيير التكنولوجي الذكي. ومن المشاريع المستقبلية التي يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي التركيز عليها وتوطينها صناعة السيارات الكهربائية وهي من المشاريع الواعدة لمرحلة ما بعد الطاقة الأحفورية، حيث تشير التقديرات إلى ما يقارب 55 بالمائة من مبيعات السيارات الجديدة و33 بالمائة من أساطيل السيارات العالمية من المتوقع أن تكون كهربائية بحلول سنة 2040م، وسيكون 50 بالمائة منها تشحن ببطاريات كهربائية وتكون دول رابطة الآسيان من الصناعات الرائدة في هذا المجال، وعليه فإن المنطقة ستشكل سوقًا مغرية ومنطقة لتقاسم المعرفة التكنولوجية معها في هذا الميدان.    

ختامًا، إذا كانت دول رابطة الآسيان تمتلك مجموعة الأوراق الاستراتيجية لدعم المقاربة الجيواقتصادية جاذبة ومغرية لدول مجلس التعاون الخليجي لبناء شراكة استراتيجية شاملة والانضمام إلى أكبر منطقة للتبادل التجاري الحر، فإن نظرية الأمن الإقليمي المركب تنبهنا بأن دول رابطة الآسيان تعيش مأزق الأمن مع الصين، فهي لا يمكنها أن تتخلى عنها بسبب قدرتها الاقتصادية وانخراطها في المجال الحيوي في بحر الصين الجنوبي، كما أنه لا يمكن أن تعاديها فتخسر قوى اقتصادية ساهمت في إخراجها من أكبر أزمة مالية عرفتها المنطقة في سنة1997م، وهو مؤشر آخر على أن العلاقات الدولية تقضي على ملامح الجيوسياسية كلما كانت المصالح المتبادلة أكثر ارتباطًا بين الوحدات الدولية.

مقالات لنفس الكاتب