تشهد العلاقات الأمريكية-الصينية مرحلة توترات لم تألفها منذ انطلاق المصالحة والتطبيع والانخراط الإيجابي وتعزيز الاعتمادية المتبادلة في 1979م، وترتب عليها انعكاسات اقتصادية وسياسية وأمنية على الصعد الإقليمية والكونية. ويمثل إقليم جنوب شرق آسيا المحرار لقياس مستوى التعاون والتنافس والانخراط والتنسيق والعداء بين القوتين العظيمتين لما له من أهمية استراتيجية واقتصادية وسياسية وأمنية في علاقات القوتين.
وفي 1967م، صدر بيان بانكوك للتعاون الجماعي بين إندونيسيا وماليزيا وتايلاند وسنغافورة والفلبين في إطار تنظيم إقليمي يعرف " آسيان" يهدف التكامل الاقتصادي ولتدبر العلاقات الثنائية والإقليمية على أساس مبادئ احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشوؤن الداخلية والمساواة والشراكة. وأن يتعاون الأعضاء في ضمان الأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية من منطلق المسؤولية الجماعية وأن العضوية مفتوحة لبقية دول الإقليم. وانخرطت اليابان مع الإقليم في علاقات اقتصادية أفضت إلى أن تحقق دول آسيان تنمية اقتصادية على النموذج الياباني ونعت " الوز الطائر". وتكفلت أمريكا مسؤولية الأمن الإقليمي بعد انسحاب بريطانيا من شرق السويس في 1969م، وعززت حضورها العسكري من خلال الأحلاف، كما هو مع الفلبين وتايلاند، وبالتعاون مع شركاء آخرين. ولعبت آسيان دورها في مقاومة التأثير السوفيتي والصيني لنشر الشيوعية في فترة الحرب الباردة.
لقد كان إقليم جنوب شرق آسيا البوابة لانخراط الصين في العلاقات الإقليمية بعد الحرب الباردة والولوج إلى العولمة. وأصبحت منظمة آسيان مفتوحة لدول الإقليم بعد نهاية الحرب الباردة، فانضمت إليها فيتنام في 1995م، ثم تبعتها كل من لاوس وميانمار وكمبوديا في 1997م، وأخيرًا كمبوديا في 1999م، ليصبح عددها عشر دول بحدود. وبذلك أصبحت آسيان المنظمة الإقليمية الأساسية في جنوب شرق آسيا. وقد سعت القوى الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة واليابان والهند وقوى إقليمية مثل كوريا الجنوبية الانخراط في علاقات تعاون وشراكة مع آسيان. وكان يغلب في بادئ الأمر على آسيان الانصراف إلى العلاقات الاقتصادية بغرض بلوغ التكامل الاقتصادي وكذلك التأكيد على الأبعاد السياسية ذات الصلة بالأمن المحلي والإقليمي.
وسعت دول آسيان إلى إبعاد الإقليم من تنافس الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والصين على السيطرة والنفوذ في الإقليم في فترة الحرب الباردة. وفي 1971م، أعلن عن أن الإقليم منطقة سلام وحرية وحياد. وفي 1976م، تبنت رابطة آسيان وثيقة "الصداقة والتعاون" لتنظيم العلاقات فيما بين دولها والدول الخارجية، ووضعت قواعد لها ومنها حق كل دولة في الاستقلالية والابتعاد عن التحالفات والتدخلات الخارجية ورفض التهديد واستخدام القوة وحل النزاعات بالطرق السلمية. لقد خشيت دول آسيان من أن المنطقة المشحونة بالنزاعات الداخلية والخلافات على المناطق الحدودية البحرية قد تصبح ميدان تدخل خارجي إما بذريعة الدفاع عن المصالح أو بدعوة من قوى سياسية وعرقية في الدول الأعضاء. وكانت هناك دعوة لجعل المنطقة خالية من السلاح النووي بعدما حازت الصين على القدرة النووية العسكرية، إذ قلقت بعض دول الرابطة من سباق السلاح وانتشار الأسلحة النووية، بيد أن معارضة الولايات المتحدة التي رأت في ذلك حرمانها من الحضور النووي في المنطقة وضغطت على حلفائها فلم يتحقق إجماع وأخفقت المساعي في ذلك الاتجاه.
آسيان والمبادرات المؤسسية والتعددية الإقليمية
لقد توجت الجهود الإقليمية للرابطة بعد الحرب الباردة إلى تأسيس " منتدى آسيان الإقليمي " في 1993م، والذي يمثل خطوة متقدمة في تدبير العلاقات الإقليمية والدولية للرابطة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الدعوة إلى القوى الخارجية للانخراط مع الإقليم من خلال المنتدى. وكانت الرابطة قد عززت التعاون فيما بين أعضائها بعقد اتفاقية إطار تعزيز التعاون الاقتصادي لترسيخ التنمية بعد أن أفلحت الدول الأعضاء في سياساتها التنموية وأقامت منطقة آسيان للتجارة الحرة.
ويعتبرالمنتدى خطوة استراتيجية للخروج بالإقليم بعد عقود الحرب الباردة من دلالته الجيوبوليتيكية الضيقة إلى الفضاء الآسيوي – الهادي الجيوستراتيجي والجيو اقتصادي الواسع. ويؤكد إنشاء المنتدى أن آسيان ذات منزلة الفاعل المركزي في السياسة الآسيوية-الهادي. وإن المركزية لها دورها في إرساء قواعد التعاون والسلام والاستقرار في المنطقة، وإن العلاقات الثنائية المتبادلة مع أعضاء الرابطة لا يمكن أن تكون ذات جدوى ما لم تستكمل بالعلاقات مع الإقليم ككيان. والمنتدى ليس حلفًا عسكريًا ولا يستند إلى مؤسسات كالاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي.
الصين ومنتدى آسيان الإقليمي
ولقد كانت الصين سباقة في الانخراط مع المنتدى في 1994م، فمن الناحية التاريخية كان للصين مع دول الإقليم علاقات تعاون اقتصادي أسهم في التنمية السلمية، لذلك رأت بكين في المنتدى فرصًا لتعزيز ذلك التعاون واستدامة التنمية الصينية. وتسابقت الصين مع الولايات المتحدة ذلك أن بكين خشت أن تهرع الولايات المتحدة للانضمام إلى المنتدى فتخلق كتلة من حلفاء لها وشركاء جدد وتستأثر بالإقليم وتعزز وجودها العسكري والاقتصادي والسياسي وتتخذه آلية للتأثير على مواقف الرابطة في علاقاتها مع الصين. وعدت الصين الانخراطَ طوق نجاة من عواقب أحداث نيانمن في 1989م، والعزلة التي تعرضت لها والحملة الإعلامية المعارضة. ويمثل المنتدى منصة إقليمية ودولية للحوار والتشاور وتبادل الآراء في قضايا إقليمية ودولية. وتعرض الصينُ في المنتدى مواقفها وتوضح سياستها. وتُحسِن إدراكَ القوى الإقليمية والدولية لنياتها وطموحاتها ولسلوكها. وتعفي صناعَ القرارلدول الرابطة من الوهم والتهويل لحركة السياسة الخارجية الصينية. وتطمئن الصين العواصم من توجهاتها في بحر الصين الجنوبي الذي لها فيه نزاعات مع بعض من دوله. وتحث دولَ جوارها على التعاون مع الصين وحسن تقييم منافع ذلك. ودفهعا لتغليب الشراكة مع الصين لا عزلها. وتقدم نفسها على أنها منبع خبرات لدول الرابطة ، للتعاون معها وليس الاعتماد على الولايات المتحدة وحسب. وتدفع الصين في اتجاه الثقة والصدقية في سياساتها بكونها القوة الآسيوية المركزية. وتشدد أنها القوة الكبرى الآسيوية الواعية والملتزمة بمسؤوليتها عن الأمن والاستقرار والسلام والتنمية. والصين في المنتدى تؤدي دور القوة الفاعلة لا السلبية الواقفة عن خط المراقبة. والمنتدى فيه فرصة أمام الصين لعرض نموذجها في تدبر العلاقات الدولية، فقد دفعت بقوة ضد التدخل الخارجي في حل النزاعات وشددت خيار الحل الثنائي السياسي وليس التحكيم أو التدويل. ففي أزمة الجزر مع فيتنام في عام 1995م، أكدت بكين أنه" يجب على الدول ألا تدوّل النزاع الإقليمي في بحر جنوب الصين...فهذا يجعل الأمر أسوأ والحل أكثر صعوبة" وعادت الصين وأكدت موقفها عندما حاولت أمريكا حث الدول على إنشاء آلية دولية لفض النزاعات كما اقترحت هيلاري كلنتون في 2012م، ولكن حذرت بكين " بأن تمتنع هذه الدول من اتخاذ أي أفعال ربما تفضي إلى التصعيد في الإقليم." واقترحت خلق مؤتمر سياسة الأمن يشارك فيه مسؤولون عسكريون ليتدارسوا القضايا ذات الصلة بالنزاعات والأبعاد الأمنية العسكرية.
الولايات المتحدة ومنتدى آسيان الإقليمي
لقد تلكأت أمريكا في الانضمام إلى المنتدى. وتباينت الآراء في تقييم أهميته. فدعاة المؤسسية رحبوا به كونه يمثل التعددية والليبرالية والعولمة، أما الواقعيون فقد تحفظوا في الانخراط في العملية. وقد أعدلت إدارة كلنتون عن إرسال كريستوفر، وزير الخارجية، لحضور لقاء وزراء خارجية آسيان للإعلان عن انبثاق المنتدى. وخشيت واشنطن من ألا يكون لها دور أساسي في حوارات المنتدى. وقد يصبح المنتدى عقبة في طريق تأكيد الهيمنة الإقليمية الأمريكية. وأن استراتيجية أمريكا تقوم على ركائز الأحلاف العسكرية والحضور العسكري منذ عقود وليس المحافل للحوار. ولم ير المعرضون للمنتدى من جدوى فيه، بل سيكون " مقهى دولي للحديث ولنشر التصريحات والدراسات".
ومع ذلك، انضمت أمريكا إلى المنتدى. فقد عدته إدارة كلنتون منصة لتأكيد دور أمريكا في بيئة ما بعد الحرب الباردة. وأن تكون طرفًا في صوغ أجندة المنتدى. وأن تقيد دوره وتراقب خياراته بحيث لا تتعارض مع المصالح الأمريكية. وألا يعمل المنتدى عمل هيكل يحل محل الهيكل الأمريكي. وتأكيد دورها المهيمن، وبأنها عنصر رئيس في الأمن والاستقرار، ولطمأنة آسيان بأن أمريكا لم تعدل عن التزاماتها. وحرصت واشنطن على أن تكون الصين في المنتدى تحت رقابتها. وأن تقيد دورها في دفعه إلى الضد من المصالح الأمريكية. وأن تقيد حركتها في إطار مؤسسي وتخلق جبهة من مؤيدي أمريكا لمواجهة الصين.
لم تسر إدارة بوش في درب إدارة كلنتون وأعطت الأهمية إلى الشرق الأوسط وأفغانستان. واستعاد أوباما دور أمريكا في المنتدى في سياق استراتيجية التمحور في الشرق، لكن ترامب أغفل المنتدى ولم يشارك في لقاءاته.
لقد جذب المنتدى كلاً من الصين وأمريكا لتنظم علاقاتهما مؤسسيًا مع دول الرابطة وليس أن تنفرد بهم فرادا لتوظفا روافعهما لصالحهما. وأن تعترف بمركزية رابطة آسيان. وأن يكون للرابطة خيارات بديلة. وأن توازن ما بين أمريكا والصين. وأن ييسر المنتدى فرصًا للتفاهم بينهما، وليس منصة نزاعات وتنافس. وأن يكون للمنتدى دور المبادر والوسيط. وأن يجعل الإقليم تنظيمًا مفتوح النهايات الجيوبوليتيكية أمام دول أخرى. فقد انخرطت معه أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية في إطار (آسيان بلس 3)، وانضمت الهند وروسيا والاتحاد الأوروبي وكندا ونيوزيلاند وتشارك دول أخرى كمراقبين مثل باكستان وكوريا الشمالية ومنغوليا وبنغلادش.
ولرابطة آسيان دورها في التطورات والتنافس بين أمريكا والصين على الصعيد المؤسسي في فضاء الهندي-الهادي. ومنذ 2005م، تساهم دول آسيان في لقاءات (قمة شرق آسيا) الذي يضم الصين وأستراليا واليابان ونيوزيلاند وكوريا الجنوبية. ولم تشارك أمريكا وروسيا حتى 2011م. والقمة منصة للحوار الاستراتيجي في قضايا سياسية واقتصادية وأمنية وللتعاون الجماعي في مواجهة التحديات في الفضاء الهندي-الهادي. وفي سياق التصدي للصين الصاعدة واستراتيجية احتواء الصين خلقت إدارة أوباما في 2015م، (الشراكة عبر الهادي) تضم 14 دولة دون الصين. وتشارك كل دول آسيان والهند واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ونيوزيلاند وفيجي .. وقبل أن يصادق عليها الكونغرس انسحبت إدارة ترامب من الاتفاقية في عام 2017م، وفي 2020 م، انخرطت آسيان في أكبر تكتل اقتصادي في التاريخ هو (الاتفاقية الإقليمية للشراكة الاقتصادية الشاملة)، ويضم الصين وآسيان، وآسيان بلس 3 وأستراليا ونيوزيلاند ويهدف إلى تخفيض التعريفة الجمركية إلى 90% خلال عشرين سنة. ويمثل 30% من سكان العالم و30% من إجمالي الإنتاج المحلي العالمي وكذلك أوسع منطقة تجارة حرة في العالم. وفي 2022م، تقدمت إدارة بايدن بمبادرتها (الإطار الاقتصادي لرفاهية الهندي – الهادي) وتضم 14 دولة ليعوض عن الاتفاقية السابقة ولتكون محوره. ونعتها بايدن بأنها تدوين قواعد جديدة لاقتصاد القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، فقد وصفت بأنها مبادرة " خاوية" و" لا جدوى فيها" وخطاب رمزي ولا آليات لها. وقد امتنعت لاوس وكمبوديا وميانمار من المشاركة تعاضدًا مع الصين.
العواقب الاقتصادية لتوتر العلاقات الأمريكية-الصينية
لقد احتدم التوتر بين أمريكا والصين في عهد إدارة ترامب. وتحول إدراك التهديد الصيني من خطاب سياسي إلى استراتيجية وسياسية سمات حرب باردة جديدية سياسية واقتصادية وتجارية وأمنية. وهي حرب بين اقتصادين يشكلان 42% من الاقتصاد العالمي وتوثر على إجمالي الإنتاج المحلي الكوني. فقد تناقص0.4% في 2022م، وكون دول جنوب شرق آسيا لها علاقات اقتصادية أساسية ومنخرطة في اقتصاد العولمة، فإن الحرب التجارية ما بين أمريكا والصين لها انعكاسات على اقتصادات تلك الدول. وبلغت تجارة آسيا مع أمريكا 505 مليارات دولار في 2022م، وتنشط فيها 6200 شركة أمريكية ويدرس 50000 طالب في أمريكا، وهي أكبر مستثمر في آسيان 40 مليار دولار. وتجارة الصين 975 مليارًا، وهي أكبر شريك منذ 2009م، وتحتل المرتبة الثالثة في الاستثمار 13 مليار دولار.
في 2018م، فرض ترامب ضرائب 25%على السلع والتكنولوجيا الصينية بحجة أن العجز التجاري الأمريكي سببه الممارسات التجارية الصينية غير العادلة. إن للحرب التجارية عواقب مختلفة على دول آسيان، وذلك لاختلاف المستوى الاقتصادي. وثمة انعكاسات سلبية مشتركة لحقت باقتصاد دول جنوب شرق آسيا. أولاً، أن كثيرًا من تلك الدول تعتمد في التجارة والتكنولوجيا على الولايات المتحدة والصين، لذلك تأثرت بالحرب التجارية بينهما. فقد انتفعت بعضها من انتقال الأعمال الأمريكية إلى خارج الصين. وتوجهت بعض الاستثمارات إلى إندونيسيا وفيتنام وتايلاند. ويتوقع أن يزداد إجمالي الإنتاج المحلي ما بين 1-5% في الإقليم، وذلك يعتمد على مستوى التطور الاقتصادي للدول. فسنغافورة هي الأكثر اعتمادًا على الاستثمار الأجنبي المباشر والأكثر اعتمادًا على التجارة العالمية، لذا فهي الأكثر انكشافاً للحرب التجارية، مما أفضى إلى انكماش في الاقتصاد وبطأ في تدفق الاستثمار. ولكنها انتفعت من زيادة الطلب على السلع الصناعية في السوق الأمريكي، وكذلك من رحيل الشركات الأمريكية من هونج كونج إلى سنغافورة، ومع ذلك، فإن الحرب التجارية أفضت إلى وضع تعريفة جمركية على السلع الصينية المصنعة في دول المنطقة. أما إندونيسيا فهي أقل انكشافًا لأنها غنية بالموارد ومصدرة للسلع. وتحاكي كلًا من فيتنام وتايلاند وماليزيا وضع سنغافورة في الانكشاف، لانها تعتمد على التجارة. وتعتبر فيتنام من أكثر المنتفعين، فقد تدفق إليها الاستثمار من الصين، لقربها الجغرافي والأيدي العاملة الرخيصة والموارد البشرية والمواد الأولية والانفتاح الاقتصادي. وارتفع التصدير إلى أمريكا.
وقلق آسيان من أن تفيض الحرب التجارية على مجالات أخرى لتصبح حربًا باردة متعددة الأبعاد العسكرية والسياسية والأيديولوجية. وتخشى من أن يتعذر عليها أن تعفي نفسها عن أن تحيد إلى طرف دون آخر. وقد طفحت مثل هذه المعالم في العلاقات بين أمريكا والصين.
آسيان والخصام الأيديولوجي
في المجال الأيديولوجي ثمة تنافس بين القوتين بشأن طبيعة النظام الدولي والإقليمي في جنوب شرق آسيا. فأمريكا عازمة على الإبقاء على النظام الذي تقوده منذ 1945م، ولها فيه الدور المهيمن وتحشد إليه حلفاءها وشركاءها والمتطوعين. وتنشر قيمها في الحرية والشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان من منطلق علوية الليبرالية-الرأسمالية أطروحة الرجل الأخير لفوكايما وصراع الحضارات لهنغنتهن. والصين ترمي إلى خلق عالم تسوده القيم المشتركة والمساواة والتعددية وحكم القانون الدولي وينعم فيه مجتمع رفاهية مشتركة ويسود فيه الوئام ودفن الهيمنة. ويعمل المعول الاقتصادي والقوة الناعمة الصيني على تغيير الوضع القائم، ولا تغفل بناء القوة العسكرية، وخاصة في جنوب شرق آسيا. ولا يوجد إجماع بين أعضاء آسيان في الموقف من الجدل الأيديولوجي. ففي الجملة، إنهم لا يرجح لديهم تغيير الوضع القائم. فلا يذهبون إلى استبدال الطراز الأمريكي بالطراز الصيني وثمة اختلافات بينهم في الاقتراب من المنطوق الأيديولوجي لكل من القوتين. ومع ذلك، يحرصون على الحفاظ على الهويات القومية لكل منهم.
موقف آسيان من السياسات
لقد أفضى نهوض الصين وانخراطها في سياسة جنوب شرق آسيا إلى تحول في إدراك شعوبها لمنزلة ودور أمريكا والصين. فبعدما كانت أمريكا الراعي للأمن والشريك الاستراتيجي لآسيان والموثوق فيه في الحرب الباردة تعاظمت منزلة ودور الصين في إدراك الآسيان. إن 73.3% من آسيان يرون أن للصين نفوذًا اقتصاديًا، 7.9% للولايات المتحدة. وأن 36% ليس لديهم ثقة قليلة بسياسة أمريكا. والسائد أن رؤية أمريكا للإقليم لا نصيب لها في الفلاح. ومع ذلك، فليس من بديل للضامن الأمريكي للأمن الإقليمي والفردي. ولا ترى جميع الدول التهديد الصيني بعين الخطر. فالدول المتنازعة معها على الحدود في بحر الصين الجنوبي هي الأكثر هواجس أمنية مثل الفلبين وفيتنام.
إن من تبعات التوترات الصينية-الأمريكية أن وجدت آسيان نفسها في محنة " الاختيار والتفضيل". وتناور دول آسيان للإفلات من هذه المعضلة. فواشنطن تضغط عليها للابتعاد عن بكين. وما هي بفاعلة. فحتى أستراليا ترى أن " ليس عليها أن تختار، بل إننا لن نختار" كما قال رئيس الوزراء، ورغم أن الجميع يدركون أهمية الغطاء الأمني الأمريكي، لكن الشراكات والاعتمادية الاقتصادية لها العلوية. فقد بلغ حجم التجارة مع الصين 975 مليار دولار في 2020م، وصدرت آسيان إليها بـ 408 مليارات دولار. ولهذا، يسعى كل عضو إلى الوقاية من العواقب السلبية. ويحرص على التوازن والاحتراز بطرائق مختلفة ويميل حسب مصالحه مع كل من القوتين وموقعه الجغرافي وإدراك التهديد الصيني وعلاقاته الأمنية مع أمريكا. وقد صعدت إدراة بايدن التنافس السياسي فتقدمت بمبادرة " الديمقراطيات" لمواجهة الصين سياسياً عالمياً وإقليمياً، بيد أن دول آسيان لم تشارك كجماعة فالديمقراطية ليست من أجندات الجميع.
لقد ترتب على التوترات أن تآكلت المنزلة المركزية لإقليم جنوب شرق آسيا في فضاء الهندي-الهادي والتي قامت عليها السياسة الآسيانية. وعمدت آسيان إلى بعث الدور في المركزية من خلال خيارات جماعية. فركزت على أهمية الحفاظ على الاستقرار في الإقليم وتحذر من مساعي الاستقطاب نحو المحور الأمريكي أو الصيني. فدول آسيان تدرك أن أمريكا تعمل لجذبها إليها في سياق استراتيجيتها الشاملة لاحتواء الصين. من هنا، في 2019م، قدمت (رؤية آسيانية للهندي-الهادي) تقوم على مبدأ الحياد في التنافس بين المبادرات الأمريكية والصينية التعددية وتغري قوى خارجية للانخراط كبريطانيا وفرنسا وألمانيا .. وفي حين أن أمريكا ذهبت إلى تعزيز علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع الأعضاء فرادا أكثر مما هم في كيان جماعي، جنحت الصين إلى توطيد علاقاتها عبر المسارين مغتنمة روافعها الاقتصادية على الرغم من سياساتها التأكيدية في مجال الأمن. كما آن آسيان تنشط في أن تكون المركزية في الدور ذات منافع في التصدي للتحديات المزعزعة للأمن بأن تكون آسيان منصة حوار لقضايا مشتركة وأن تتقدم بدور الوسيط.
التبعات الأمنية العسكرية
لقد أفضت التوترات بيين أمريكا والصين إلى أن يصبح جنوب شرق آسيا ميدان تحديات أمنية عسكرية لها تبعات على آسيان، خاصة في قضية النزاع على الجزر في بحر الصين الجنوبي وأزمة تايوان. وتندرج المسألتين في سياق النزاع الاستراتيجي العالمي والإقليمي للقوتين. فقد تصاعدت عملية العسكرة الأمنية للإقليم. فالصين تنشط في الانتشار العسكري في بحر الصين الجنوبي ويتوسع حضورها العسكري، وترفض الإذعان للتحكيم الدولي وتحتج وتقاوم الحضور الأمريكي والغربي في نطاق حرية الملاحة في المياه الدولية. وقد تكاثرت حوادث شبه الاحتكاك العسكري بين القوتين، وكذلك عمليات الإبحار الدولية من قبل حلفاء أمريكا من الاتحاد الأوروبي. ويخشى من التصعيد غير المقصود.
وقد تحول إقليم جنوب شرق آسيا إلى حلقة وسط في فضاء استراتيجي أمني هندي آسيوي تتنافس عليه أمريكا ومعها الغرب والهند مع الصين. وتضغط هذه الحالة على أعضاء آسيان. فالتوتر يؤدي إلى عدم الاستقرار ويربك التعاون والتنمية الاقتصادية. ويصبح الإقليم جزءًا من تكتلات وأحلاف. مجال سبق تسلح. فقد توسع التمحور في الشرق إلى تحالفات. ففي 2007م، تم بناء الرباعي من أمريكا وأستراليا واليابان والهند. وتعزز بالعصبة الانكلوسكسونية من أمريكا وأستراليا وبريطانيا(اوكوس) لمواجهة الصين. وقد نشطت أمريكا في دعم حلفائها ذوي النزاعات مع الصين مثل الفلبين التي اعادت اتفاقيات القواعد العسكرية مع أمريكا، وكذلك التسهيلات العسكرية في فيتنام. ويتعزز الحضور البحري الأمريكي وعمليات الإبحار الأمريكية والغربية في مياه تعدها الصين مجال سيادتها، فيكاد أن يغدو ناتو آسيوي.
حرب أكرانيا وآسيان
وكأي إقليم آخر فإن للحرب في أكرانيا انعكاسات اقتصادية وسياسية على أعضاء آسيان، ولكن بدرجات مختلفة، ولها مواقف متباينة. فقد دعت آسيان بعد يومين من الحرب إلى ضبط النفس واحترام مبادئ السيادة الوطنية وحرمة وحدة التراب الوطني. وأعربت عن دور الوساطة، ووقفت مع جهود الأمم المتحدة في إنشاء لجنة مستقلة للتقصي عن ضحايا مدنيين. ومع ذلك لن يأتي البيان على أسماء روسيا وأكرانيا. ولم يتطرق إلى طرف معتدي وآخر ضحية. وكانت آسيان حريصة على علاقاتها مع روسيا أكثر من تلك مع أكرانيا. وتشتت وحدة المواقف. فسنغافورة شجبت العدوان ووقفت مع فرض عقوبات على روسيا. في حين أيدت ميانمار روسيا. ورجح عند الآخرين الدعوة إلى الحل السلمي. وتخشى آسيان من أن تندفع الصين في اتجاه تايوان أو أن تستثمر الأوضاع وتوسع عملياتها الحربية في بحر الصين الجنوبي لانشغال أمريكا بمواجهة روسيا في أكرانيا.
الخاتمة
إن التوترات بين أمريكا والصين وضعت آسيان أمام تحديات جسيمة استراتيجية واقتصادية وسياسية وأمنية. وبات مستقبل مشروعها في التكامل الاقتصادي الإقليمي ودورها المركزي في الفضاء الهندي-الهادي مقيداً. وإن موقفها في الحياد ودور المسهل والوسيط لم يعد خيارًا متاحاً. وقد يلزمها الأمر أن تقترب من أقاليم أخرى مثل الخليج العربي وأمريكا اللاتينية كروافع في موقف المساومة مع أمريكا والصين.