array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 192

4 دلالات مرتبطة بسياسات طهران وراء استبعاد إيران من الممر الاقتصادي الدولي الجديد

الأربعاء، 29 تشرين2/نوفمبر 2023

رغم أن إيران ما زالت حريصة على منح الأولوية لتعزيز حضورها الإقليمي حتى لو كان ذلك على حساب أولويات وملفات حيوية أخرى، إلا أن التحولات الاستراتيجية التي طرأت على المنطقة والعالم خلال الفترة الماضية تتجاوز، إلى حد كبير، الجهود التي تبذلها والآليات التي تستخدمها في سبيل تحويل ذلك إلى خطوات إجرائية على الأرض.

وهنا، فإن لذلك ارتدادات بدأت تتضح معالمها تدريجياً داخل إيران. فالتساؤلات التي باتت تطرح عن "جدوى" الأجندة الأيديولوجية التي يتبناها نظام الجمهورية الإسلامية ويحاول تطبيقها تتزايد باستمرار حتى من داخل دوائر السلطة ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام القريبة منها.

فمعظم الاتجاهات في إيران باتت ترى أن الأخيرة لم تلحق بركب التحولات الاستراتيجية الجديدة، رغم مكانتها وموقعها الاستراتيجي، على عكس قوى عديدة في المنطقة نجحت في استغلال موقعها وقراءة التحولات الاستراتيجية التي طرأت على الصعيدين الإقليمي والدولي بشكل مبكر، ومن ثم استباق تداعياتها على الأرض بغرض تحقيق مكاسب استراتيجية كبيرة منها، على نحو يبدو جلياً في حالة السعودية تحديداً.

وربما يكون لذلك علاقة مباشرة بالسياسة التي اتبعتها إيران إزاء الحرب التي تدور رحاها الآن في قطاع غزة، بين إسرائيل وحركة حماس، بعد العملية التي قامت "كتائب القسام"-الذراع العسكرية التابعة لحماس-بتنفيذها داخل منطقة غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023م.

إذ بات الجدل يتزايد داخل إيران حول مدى "واقعية" و"إيجابية" قرار إيران بعدم الانخراط في تلك الحرب، والإيعاز لوكلائها من المليشيات الموجودة في دول الصراعات بعدم توسيع نطاقها. وانعكس ذلك في التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، في 6 نوفمبر 2023م، والتي أشاد فيها بتأكيد المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي على أن إيران ليست معنية بالتحول إلى طرف مباشر في تلك الحرب.

فقد قال ظريف في هذا السياق: "يجب ألا نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين"، مضيفاً أن "إيران تدافع عن المظلومين وفقاً لدستورها، لكن لا تقاتل نيابة عنهم". ورغم أن بعض الأطراف اتهمت ظريف بـ"الخيانة"، إلا أن ذلك لم يخصم من وجاهة هذا التوجه الجديد الذي بدأ يكتسب أرضية داخل إيران ويتمثل في ضرورة إجراء تغييرات في السياسة الخارجية بحيث تستوعب التحولات الدولية والإقليمية الجديدة وتستطيع التعامل معها بما يمكن أن يساعد ليس فقط في تحييد تداعياتها السلبية وإنما أيضاً في الحصول على مكاسب استراتيجية منها.

هذا التوجه الجديد استند في محاولة إضفاء وجاهة خاصة على هذا الطرح، إلى التطور الجديد الذي سوف يؤدي إلى توثيق العلاقات الاستراتيجية بين الهند وبعض دول المنطقة وأوروبا فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية.

فعلى هامش اجتماعات مجموعة العشرين في نيودلهي، في 9 سبتمبر 2023م، أعلن صاحب السمو ولى العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان عن توقيع مذكرة تفاهم لتأسيس ممر اقتصادي جديد بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. ويشمل هذا المشروع كلاً من الهند والسعودية والإمارات والأردن وبعض الدول الأوروبية منها إيطاليا وفرنسا وألمانيا، ويهدف إلى رفع مستوى التبادل التجاري وتسهيل مرور البضائع وربط الموانئ البحرية، عبر إقامة شبكة من السكك الحديدية وإنشاء كابلات بحرية وتطوير البنية التحتية لنقل الطاقة، لاسيما الكهرباء والهيدروجين.

هذا التطور الجديد الذي سوف يساهم في تعزيز المكانة الاستراتيجية للسعودية، باعتبار أنها أصبحت محوراً رئيسياً في التحولات الاقتصادية والاستراتيجية التي تشهدها الساحة الدولية، على نحو يبدو جلياً في انضمامها لهذا المشروع الطموح، وانضمامها إلى مجموعة "بريكس"، أثار قلق دول عديدة كان في مقدمتها إيران. ورغم أن ذلك لم ينعكس بشكل كبير في تصريحات مسؤوليها، إلا أن الاتجاهات العامة التي برزت على صعيد مراكز أبحاثها ووسائل إعلامها باتت تشير إلى أنها سوف تكون أحد الخاسرين الرئيسيين من تفعيل هذا الممر.

دلالات عديدة

يطرح استبعاد إيران من هذا الممر الاقتصادي الدولي الجديد دلالات عديدة ترتبط باتجاهات السياسة الإيرانية إزاء الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يجري في منطقة الشرق الأوسط، والتداعيات التي تفرضها تلك السياسات على المستويين الداخلي والخارجي، ويتمثل أبرزها في:

  • تراجع الثقة في التزامات إيران الدولية: لم تثبت إيران في أي مرحلة سابقة أنها طرف يستطيع الانخراط في التزامات دولية صارمة. إذ دائماً ما تسعى إيران إلى الالتفاف على المعاهدات والاتفاقيات التي تبرمها أو تكون طرفاً أساسياً فيها، وتحاول من خلال ذلك توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمامها للتعامل مع ما يجري في المنطقة والعالم من تحولات متسارعة.

ومن دون شك، فإن ذلك معناه أنه لا يمكن الوثوق في مدى التزام إيران بالتعهدات التي يمكن أن يفرضها انضمامها، على سبيل المثال، لمثل هذا الممر الاستراتيجي الدولي، ولا يوجد ما يضمن أنها لا تحاول، في أي مرحلة، إعاقة حركة التجارة التي تمر عبره، باستخدام آليات مختلفة.

وقد بدا ذلك جلياً، على سبيل المثال، في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015م. إذ سارعت إيران إلى استغلال ما يمكن تسميته بـ"الثغرات" التي يتضمنها وأبرزها تطوير برنامج الصواريخ الباليستية، حيث استندت إلى أن البند الذي يتضمنه قرار مجلس الأمن رقم 2231 والذي "يدعوها"-لا "يطالبها"-إلى عدم ممارسة أنشطة خاصة بتطوير هذا البرنامج، لا ينطبق على النوعية التي تنتجها من هذه الصواريخ، باعتبار أنها ليست مصممة لحمل أسلحة نووية، وهو ما دفعها ليس فقط إلى تطوير هذا البرنامج وإنما أيضاً إلى استخدامه في تهديد أمن جيرانها، ومصالح بعض القوى الإقليمية. والدولية.

والأخطر من ذلك، أنها نقلت تكنولوجيا هذه الصواريخ إلى الميليشيات المسلحة في المنطقة، بشكل يمثل انتهاكاً صارخاً لقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية، على غرار إمدادها لميليشيا الحوثيين بتكنولوجيا صناعة وتوجيه هذه الصواريخ على نحو يتناقض مع قرار مجلس الأمن رقم 2216. ويبدو أن هذا التوجه سوف يتصاعد في مرحلة ما بعد رفع الحظر الأممي الذي كان مفروضاً عليها في هذا الصدد بداية من 18 أكتوبر 2023م.

كما أنها رفعت مستوى أنشطتها النووية التي وصلت إلى مرحلة خطيرة، ساهمت في اقترابها من امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية. فوفقاً للتقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 15 نوفمبر 2023م، فإن إيران قامت بزيادة كمية اليورانيوم المخصب التي تنتجها لتصل إلى 22 ضعفًا ما نص عليه الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015م.

إذ بلغت كمية اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة التي أنتجتها إيران 4.486 كيلوجرام، في حين وصلت كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% إلى 128.3 كيلوجرام، وهو ما يكفي، حسب تقارير عديدة، لإنتاج ثلاثة قنابل نووية على الأقل، في حالة ما إذا اتخذت إيران قراراً سياسياً في هذا الصدد، وبدأت في الحصول على التقنيات الأخرى اللازمة للوصول إلى هذه المرحلة، على غرار المفجر النووي.

  • تهديدات إيران المستمرة لحرية الملاحة: لم تتوقف إيران عن إطلاق تهديدات بعرقلة حركة الملاحة سواء في منطقة الخليج العربي من خلال التدخل المباشر، عبر التلميح بإمكانية إغلاق مضيق هرمز، أو في البحر الأحمر وباب المندب، عبر الإيعاز لمليشيا الحوثيين بتعزيز قدرتها على القيام بذلك.

وفي رؤية إيران، فإن التهديد بعرقلة حركة الملاحة في مضيقي هرمز وباب المندب يمكن أن يوفر لها أوراق ضغط تستطيع التلويح بها في مواجهة العديد من القوى الإقليمية والدولية. ومن دون شك، فإنها تدرك تماماً مدى أهمية المضيقين بالنسبة لحركة التجارة على مستوى العالم، ومدى تأثير أي تراجع في إمدادات الطاقة عبرهما على أسعارها العالمية.

إذ أن 20% من استهلاك العالم من النفط يمر عبر مضيق هرمز يومياً. ووفقاً لتقديرات شركة "فورتكسا"، فإن متوسط النفط الخام والمنتجات البتروكيماوية والمكثفات الذي مر عبر المضيق خلال الفترة من يناير حتى سبتمبر 2023م، وصل إلى 20.5 مليون برميل يومياً.  

أما مضيق باب المندب، فيحتل المركز الثالث على مستوى العالم من حيث الأهمية بعد مضيقي ملقا وهرمز. إذ تمر عبره 38% من الملاحة العالمية، وتعبره 21 ألف قطعة بحرية سنوياً، بما يعادل 57 قطعة يومياً أو 10% من السلع والبضائع والشحنات. كما يمر من خلاله 3 مليون برميل نفط يومياً.

ورغم أن تهديدات إيران بإغلاق مضيق هرمز تحديداً ارتبطت خلال الفترة الماضية بتراجع قدرتها على تصدير النفط، على خلفية العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية في 7 أغسطس 2018م، بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو من العام نفسه، إلا أنها عادت وبرزت مجدداً لأسباب أخرى، على غرار محاولة ممارسة ضغوط على بعض الدول من أجل الإفراج عن مستحقاتها من واردات النفط مثل كوريا الجنوبية.

وقد حرصت إيران على توجيه تهديدات إلى كوريا الجنوبية في هذا السياق بشكل غير رسمي، وذلك عن طريق وسائل الإعلام الرسمية القريبة من النظام، مثل صحيفة "كيهان" التي تعد المتحدثة بلسان المرشد علي خامنئي. ففي 16 أبريل 2022م، كتب حسين شريعتمداري رئيس تحرير الصحيفة افتتاحيتها تحت عنوان "لنبدأ الحظر على كوريا الجنوبية" دعا فيها إلى إغلاق المضيق أمام حركة التجارة الكورية الجنوبية حتى تستجيب لمطالب إيران بالحصول على مستحقاتها.

وقد حصلت إيران بالفعل على مستحقاتها لدى كوريا الجنوبية، والتي تقدر بنحو 6 مليارات دولار، ضمن صفقة تبادل السجناء التي أبرمتها مع الولايات المتحدة الأمريكية ونفذ شقها الأول في 18 سبتمبر 2023م، بالإفراج المتبادل عن بعض المحتجزين، فيما لم ينفذ بعد شقها الثاني الخاص بتسلم إيران هذه المستحقات التي وضعت في حسابات لدى مصارف قطرية تخضع لرقابة من جانب وزارة الخزانة الأمريكية.

وقد فضلت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تأجيل السماح لإيران بالوصول إلى هذه المستحقات بعد اندلاع الحرب في قطاع غزة، في ظل الاتهامات العديدة التي وجهت إلى إيران بالضلوع في عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها "كتائب القسام" في 7 أكتوبر 2023م، وفي ظل المخاوف التي أثيرت داخل الولايات المتحدة الأمريكية من إمكانية استغلال إيران لهذه الأموال في مواصلة تقديم دعمها المالي لوكلائها من المليشيات المسلحة في المنطقة، والتي تهدد المصالح الأمريكية بشكل مباشر.

هذه الاتهامات وجهت مجدداً إلى إيران عقب قيام ميليشيا الحوثيين بالاستيلاء على السفينة "جلاكسي ليدر" في 19 نوفمبر 2023م، والتي قالت إنها تابعة لشركة إسرائيلية، في إطار ردها على العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل داخل قطاع غزة.

إذ أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في اليوم نفسه، إلى أن إيران ضالعة في عملية اختطاف السفينة، وهو الموقف نفسه الذي تبناه منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض جون كيربي، وهو ما نفته إيران التي اعتبرت أنه ليس لها علاقة بعملية الاختطاف.

3ـ صعوبة انضمام إيران إلى المنظومة الاقتصادية العالمية: لم تنجح إيران خلال المرحلة الماضية في الانضمام إلى المنظومة الاقتصادية العالمية. ولا يعود ذلك فقط إلى العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية عليها، بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي، وإنما يعود أيضاً إلى عدم انضمام إيران إلى بعض الاتفاقيات الدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب وعمليات غسيل الأموال.

ويبدو أبرز مؤشرات ذلك في عدم انضمام إيران إلى مجموعة العمل الدولية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب "FATF"، وذلك بعدما رفضت بعض المؤسسات النافذة في النظام اتخاذ قرار بذلك، على غرار مجلس صيانة الدستور-الذي يبت في مشروعات القوانين التي يصدرها مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، ومجلس تشخيص مصلحة النظام-الذي يفصل في الخلافات العالقة بين مجلس صيانة الدستور ومجلس الشورى الإسلامي.

وتستند تلك المؤسسات في رفضها إلى أن الهدف من انضمام إيران إلى هذه المجموعة هو توجيه ضربة قوية لنفوذها الإقليمي، باعتبار أن اشتراطات تلك الهيئات لا تتماشى مع الدعم المستمر الذي تقدمه إيران إلى المليشيات الشيعية والسنية الموالية لها في المنطقة، والتي يصنف بعضها على أنها تنظيمات إرهابية.

كما ترى هذه المؤسسات أنه حتى في حالة الاستجابة لمطالب تلك المجموعة، فإن ذلك لن يساعد في استقطاب الاستثمارات داخل إيران، طالما أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تصنف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، حيث أن ذلك سوف يدفع الكثير من الشركات إلى العزوف عن الاستثمار في إيران، باعتبار أن قسماً كبيراً من الشركات الإيرانية التي تعمل في السوق الإيرانية يتبع الحرس في النهاية.

وربما يمكن القول إن هذه الرؤية لا تبعد عن المقاربة "الأيديولوجية" التي يتبناها النظام الإيراني إزاء المشروعات الاستراتيجية الكبرى التي تشهدها المنطقة. إذ يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى استثمار هذه المشروعات في سبيل تحقيق هدفها الأهم في المرحلة الحالية، والخاص بإعادة صياغة الترتيبات الأمنية والاستراتيجية في المنطقة، بما يتوافق مع مصالحها الحيوية، ويسمح بتوسيع نطاق اتفاقيات السلام بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، على نحو يمكن أن يساعدها لاحقاً على نقل اهتمامها إلى مناطق أخرى بهدف إدارة صراعاتها مع خصومها الدوليين وفي مقدمتهم الصين وروسيا.

ومن هنا، فإن النظام الإيراني يرى أن ضم إسرائيل تحديداً إلى مشروع الممر الاقتصادي الدولي، بالتوازي مع استبعاد إيران وكل الدول التي تمتلك فيها نفوذاً، على غرار لبنان وسوريا، يخدم هذا الهدف تحديداً.

لكن رفض إيران الانضمام إلى مثل هذه الاتفاقيات ينتج تداعيات سلبية عديدة عليها يتعلق أهمها بإضعاف قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية. صحيح أن العقوبات الأمريكية تخصم من قدرة إيران بالفعل على استقطاب هذه الاستثمارات، لكن الصحيح أيضاً أن عدم انضمام إيران لهذه الاتفاقيات يضاعف من هذه التأثيرات، بل يضع عقبات أمام شركائها الدوليين لمساعدتها على احتواء تداعيات العقوبات الأمريكية.

وقد كان لافتاً في هذا الصدد أنه رغم مرور أكثر من عامين ونصف على توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الصين والتي تقضي بقيام الأخيرة بضخ نحو 400 مليار دولار استثمارات في إيران على مدى 25 عاماً، إلا أن هذه الاتفاقية لم تجد طريقها إلى التنفيذ بعد أو على الأقل تواجه عقبات عديدة، وذلك بسبب مطالبة الصين لإيران بضرورة الانضمام إلى مجموعة العمل الدولية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وفي رؤية بكين، فإن ذلك يمكن أن يساعد في رفع مستوى التعاون الثنائي بين الطرفين في المجالات المختلفة ويدفع الشركات التابعة لها للانخراط في مثل هذا التعاون.

كذلك الحال بالنسبة لممر شمال-جنوب الذي تم توقيع اتفاقية بشأنه بين إيران وروسيا والهند، في عام 2000م، حيث يبدو أن الهند باتت تمنح أولوية لتطوير الممر الاقتصادي الدولي، باعتبار أنه سوف يكون أكثر أمناً وأقل عرضة للمخاطر، خاصة أن الطرفين الآخرين في ممر شمال-جنوب يتعرضان لعقوبات غربية، بسبب استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022م، وحتى الآن، وتصاعد حدة الأزمة النووية الإيرانية. وقد كان ذلك هو السبب نفسه الذي دفع الهند إلى التردد في تطوير مشروع ميناء تشابهار الإيراني، الذي يفتح المجال أمام الهند للوصول إلى دول آسيا الوسطى دون عبور أراضي خصمها اللدود ممثلاً في باكستان.

وقد كان لافتاً أن هذا المشروع تحديداً أثار حفيظة الصين التي اعتبرت أنه يخدم مصالح منافستها الاستراتيجية الأولى في المنطقة، وهي الهند، ويخصم من أهمية وجدوى مشروع تطوير ميناء جوادار الباكستاني الذي تقوم بكين بتنفيذه.

4ـ استمرار تأثير العقوبات الأمريكية: كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية بداية من 7 أغسطس 2018م، سبباً في اندفاع العديد من الشركات الأجنبية إلى الانسحاب من الاستثمار في السوق الإيرانية، على غرار شركة "توتال" الفرنسية، التي انسحبت، في 20 أغسطس 2018م، أي بعد تطبيق العقوبات الأمريكية بنحو أسبوعين، من صفقة تطوير المرحلة الحادية عشر من حقل بارس الجنوبي التي كانت تصل قيمتها إلى 4.8 مليار دولار.

وهنا، فإن المتغير الرئيسي الذي يدفع تلك الشركات إلى الخروج من السوق الإيرانية بهذه السرعة يتعلق بتجنب التعرض لعقوبات أمريكية مماثلة، أو الاضطرار إلى دفع غرامات مالية كبيرة، بسبب التورط في الانخراط في تعاملات مالية وتجارية مع شركات وهيئات داخل إيران تخضع لعقوبات دولية أو أمريكية.

وحتى الشركات الصينية نفسها، التي سبق أن انخرطت في استثمارات داخل إيران، اندفعت بدورها إلى الخروج من السوق الإيرانية، على غرار شركة النفط الصينية "CNBS"، التي استحوذت على حصة شركة "توتال" الفرنسية في مشروع تطوير المرحلة الحادية عشر من حقل بارس الجنوبي، قبل أن تنسحب كلية في 6 أكتوبر 2019م.

أزمة قائمة

على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن السياسة التي تتبناها إيران في إدارة تفاعلاتها مع الأزمات الإقليمية التي تتصاعد حدتها في المنطقة كانت هي السبب الرئيسي الذي أدى أولاً إلى استبعادها من بعض المشروعات الاستراتيجية الطموحة، وثانياً إلى تراجع اهتمام شركائها ببعض الاتفاقيات التي أبرمت بينهم خلال المرحلة الماضية من أجل تحييد التداعيات المتوقعة لمثل هذه المشروعات الطموحة على مصالحهم.

ومع ذلك، فإن تهميش دور إيران لا يبدو أنه سوف يدفعها إلى إجراء عملية مراجعة لسياستها الخارجية. إذ أنها ترى أن جهودها الحثيثة من أجل تعزيز حضورها الإقليمي يجب أن تستمر مهما بلغت الضغوط التي تتعرض لها، خاصة أنها استنزفت في سبيل تحقيق ذلك موارد هائلة كانت كفيلة باحتواء الأزمات العديدة الاقتصادية والاجتماعية التي تتصاعد حدتها على الساحة الداخلية.

ومن دون شك، فإن ما يزيد من تأثير ذلك سلبياً على إيران هو أنه لا توجد مؤشرات تعزز من احتمالات الوصول إلى صفقة خاصة بالاتفاق النووي يمكن أن يرفع بمقتضاها القسم الأكبر من العقوبات الأمريكية. إذ أن الحرب التي تدور رحاها في قطاع غزة حالياً، فضلاً عن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجرى في نهاية العام القادم، والذي يدفع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى مواصلة تقديم مزيد من الدعم لإسرائيل، خاصة على المستويين العسكري والاقتصادي من أجل تعزيز فرصه في تجديد ولايته الرئاسية، كلها عوامل تشير بوضوح إلى أن معضلات إيران سوف تبقى على الأقل في المدى المنظور.

مقالات لنفس الكاتب