بتوقيع المملكة العربية السعودية على مذكرة التفاهم الخاصة بمشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا India-Middle East-Europe Economic Corridor(IMEC)، خلال انعقاد قمة مجموعة العشرين في سبتمبر 2023م، وضعت المملكة نفسها في منطقة مفصلية من عالم المستقبل. ففضلًا عن أن المشروع يربط دول الخليج بالهند، التي تشكل قطبًا دوليًا وقاريًا صاعدًا، يتوقع أن يتفوق على الصين خلال عقود، فإنه يمتد ليصل دول الخليج بأوروبا بالولايات المتحدة، مما يعظم الميزة الاستراتيجية للمنطقة ويعظم دورها كجسر اقتصادي واستراتيجي وحضاري بين القارات، ويمكنها من الإمساك بطرف أساسي من المستقبل العالمي.
ويضع مشروع الممر الاقتصادي دول الخليج وسط دوائر حركة متعددة في صناعة السياسة الدولية، ويربطها بشراكة مصلحية واستراتيجية مستدامة مع الهند والغرب (أوروبا والولايات المتحدة)، تفيدها اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا وتقنيًا، وتجعلها في مركز أي نظام دولي مقبل، ومن شأن ذلك أن يوفر حلولًا لإشكاليات الأمن الخليجي تتجاوز تحديات السنوات الماضية، التي بحثت فيها دول المجلس عن شركاء استراتيجيين تعويضًا عن الولايات المتحدة في ظل استراتيجية التوجه الأمريكي شرقاً، حيث من شأن مشروع الممر الاقتصادي أن يزيد الأهمية الاستراتيجية لدول الخليج للأمن العالمي.
في هذا التقرير، لن يتم التعامل مع مشروع الممر الاقتصادي كمعطى نهائي مسلم به، وإنما سيجري التعاطي مع الإشكاليات المتوقعة في تنفيذه والمكاسب والتحديات المحتملة منه على منطقة الخليج، مع الإقرار ابتداء بأن أي مشروع يزيد من الأرصدة والأسهم الاستراتيجية والاقتصادية لدول المجلس يمثل في المحصلة الإجمالية مكسبًا عامًا لدول المنطقة، وأي مشروع يزيد من حضورها وصعودها الدولي هو إضافة إلى مخزون قدراتها وأرصدتها من القوة.
أولاً: مكاسب دول الخليج من مشروع الممر الاقتصادي
إذا استبعدنا مؤقتًا التفكير في الحسابات التفصيلية والمعقدة، يمكن القول بأن مشروع الممر الاقتصادي كفكرة ومشروع عالمي ضخم يكسب دول مجلس التعاون مزايا كثيرة، في أنه سوف يجعلها في مركز شبكات المصالح العالمية التي يقدر بأن تستمر لعقود أو قرون مقبلة، على نحو يعظم من قيمتها الاستراتيجية وينطلق بها بثقة إلى حقبة ما بعد النفط، وفي يدها أوراق استراتيجية جديدة توازي قيمة النفط وقد تفوقه، عندما تجد ذاتها في خضم مشروع دولي للاقتصاد والاستراتيجية والمواصلات واللوجستيات والتكنولوجيا والرقمية والتواصل البشري والحضاري. وذلك يحقق أهم الأهداف التي طرحتها الرؤى الوطنية لمختلف دول مجلس التعاون، سواء تلك الخاصة بعام 2030 أو 2040 أو 2050 أو 2070م، لذلك ففي كل الأحوال فإن مشروع الممر الاقتصادي بالغ الحيوية لدول الخليج، وتعتبر هي من أكثر الأطراف استفادة من هذا المشروع في قيمته الاستراتيجية. وربما ذلك هو ما يفسر غياب الاعتراضات بشأنه من أي من دول المجلس، على الأقل على الصعيد الرسمي. وبشكل عام، يزيد مشروع الممر من الاحتياج الدولي لمنطقة الخليج ويعظم أهميتها للعالم، وهو أمر لا تستفيد منه دول المجلس وحدها، وإنما يفيد مجمل منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي.
ضمن هذا السياق، يمكن تحديد خمسة مكاسب خليجية أساسية متوقعة من المشروع:
(1) التمركز في قلب النظام العالمي والاستراتيجيات الجديدة:
إذ تشير النظرة الفاحصة على الممرات الجغرافية والموانئ البحرية التي ينتظر أن يسلكها مشروع الممر الاقتصادي إلى أنه يتوسط خطوط الاقتصاد والتجارة والاتصال والتكنولوجيا والأمن، ويؤسس لمركزية دور دول المجلس وأهميتها التي لا يمكن تجاوزها مستقبلًا بالنسبة للهند وأوروبا والولايات المتحدة. وسيكون هذا الممر الاقتصادي بدعم أمريكي غربي هو أهم خط رابط بين الشرق والغرب، وفي الوقت نفسه قد يصبح في مركز تنافس وربما صراع إذا تعارض مع المشروع الصيني للحزام والطريق. وذلك أمر يمكن أن تكسب منه دول المجلس أيضًا بتعظيم مكانتها الاستراتيجية قبالة مختلف الأطراف؛ إزاء الصين التي أسست معها دول المجلس علاقات قوية في السنوات الأخيرة، وإزاء الولايات المتحدة ببناء شراكة أمن ومصالح جديدة، على نحو ما ترجم في توقيع حكومتي السعودية والولايات المتحدة في 8 سبتمبر 2023م، مذكرة تفاهم بين البلدين لتأسيس ممرات العبور الخضراء العابرة للقارات. وإزاء الهند التي وقعت معها المملكة اتفاقية «مجلس الشراكة الاستراتيجي»، ضمن 47 اتفاقية تم توقيعها بين البلدين في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والغذاء والصناعة والبناء، خلال زيارة ولى العهد ورئيس مجلس الوزراء السعوي، سمو الأمير محمد بن سلمان، إلى نيودلهي في 11 سبتمبر الماضي.
(2) التموضع في مركز حركة التجارة والاستثمار:
فلن تكون الدول التي يقطعها الممر الاقتصادي مجرد ممرات عبور لنقل التجارة، ولن تقتصر مكاسبها منه على كونها تحصد رسوم العبور، وإنما سيجعل الممر من هذه الدول ذاتها مراكز ووجهات اقتصادية عالمية، وستكون هي المستفيد الأول من حركة التجارة البينية، سواء من خلال الانتقال مع زخم حركة الصادرات والواردات، أو من خلال التشغيل البشري والخدمات اللوجستية، مما يوفر ملايين من فرص العمل للمواطنين والأجانب، ويزيد المصالح التي تدور مع حركة الاقتصادات الوطنية، مما يؤسس لدورات جديدة من الانتعاش الاقتصادي لدول مجلس التعاون ويعطي دفعة لمشروعات وخطط تنويع الاقتصاد الوطني، ويعظم تجارتها الفعلية مع كل من الهند وأوروبا. وستتمثل الفوائد المباشرة والسريعة للمشروع في حجم الإنشاءات والنفقات المطلوبة على البنية التحتية من دول الخليج ومن غيرها من الدول المشاركة في المشروع، وأيضا من نوعيات المصالح والشركات وأفرع الشركات الدولية والمكاتب اللازمة لتشغيل الممرات والموانئ والإشراف على حركة التجارة، وكل ذلك يخلق مصالح للملايين من مواطني دول المجلس، فضلًا عن الأجانب، وذلك يكرس استدامة مركزية العواصم الخليجية كمراكز ومدن كوزموبوليتية بالغة الأهمية للمستقبل العالمي.
(3) تعزيز حصة دول المجلس من مصادر الطاقة الجديدة والاقتصاد الأخضر:
حيث يقبل العالم على موجة جديدة من الاقتصادات الخضراء، التي تعظم مواردها من مصادر الطاقة النظيفة من الهيدروجين وطاقة الرياح والطاقة الشمسية والكهرباء المتجددة. وعلى قدر تشبيك دول مجلس التعاون ذاتها مع هذه الموجة الجديدة التي يستهدفها مشروع الممر الاقتصادي، على قدر تأمينها وحيازتها لقدر من اقتصاد المستقبل. وهنا يعتبر مشروع الممر الاقتصادي ترجمة عصرية للاقتصادات الخضراء والطاقة النظيفة، حيث أنه لا يتأسس فقط على تعظيم المبادلات التجارية في الاقتصاد التقليدي والموانئ وخطوط السكك الحديدية، وإنما يستهدف أيضًا -وفق ما أعلن-تطوير البنى التحتية لممرات العبور الخضراء واللوجستيات وخطوط الأنابيب والكابلات الضوئية وكابلات الإنترنت والاقتصاد الرقمي والأنشطة السياحية. وكل ذلك يؤسس لحقبة تنموية جديدة تحقق فوائد هائلة لدول المجلس، وتجعل حدودها وموانئها وباطن أراضيها نقاط وصل وتشبيك لوجستي وفني عالية التأهيل والجاهزية، وهو ما يجعلها نقاط التقاء لأمن الطاقة وأمن الاتصالات والأمن السيبراني بين الشرق والغرب.
(4) تكريس منظومة السياسة الخارجية والدبلوماسية:
يعطي بناء مشروع الممر الاقتصادي لدول المجلس قوة جديدة في سياساتها الخارجية، ويعزز الثقة في توجهاتها ومبادئها الدبلوماسية كوسطاء في النزاعات وكدعاة للسلام والخير العالمي. فلقد طورت دول المجلس خلال العقدين الماضيين دبلوماسيات لها خصائص نابعة من الشخصية والحكمة والتراث الخليجي، توظف خيرات بلادها لأجل الخير العالمي على نحو ما يتبدى في أعمال الإغاثة الإنسانية والتوسط في النزاعات وإيجاد الحلول للمشاكل، وهي توجهات دبلوماسية تستهدف المستقبل وتعكس تاريخ وشخصية المنطقة. ومن شأن وجود دول المجلس في مشروع الممر الاقتصادي أن يكرس قدراتها على التأثير السياسي والدبلوماسي في الأزمات الدولية، وأن يقدم تسهيلات طبيعية لعمليات الإغاثة الإنسانية التي تمارسها مع البلاد المنكوبة والدول المأزومة بأزمات طبيعية أو من صنع البشر. ذلك أن الصورة التي تسعى دول المجلس لتشكيلها عن ذاتها والدور الذي تتجه لممارسته في سياستها الخارجية هما صورة ودور صانع السلام والمتدخل بالوساطة في الأزمات والنزاعات. ومن شأن مشروع الممر الاقتصادي أن يعزز الأرصدة السياسية والاقتصادية والحضارية لدول المجلس على نحو يطلق دبلوماسيتها في عمليات بناء السلام والأمن. وفي ظل تكاثر الأزمات العالمية التي يتوقع أن تزيد خلال الحقبة المقبلة، ستكون الحاجة ملحة لفائض الدبلوماسية الخليجية التي راكمت خبرات وتوجهات تزداد الحاجة إليها على الصعيد الدولي.
(5) تكثيف خطوط الالتقاء والتجمع البشري في الخليج:
فلقد نجحت دول مجلس التعاون في أن تجعل من نفسها مراكز ونقاط التقاء بشري من كل الجنسيات، على نحو عزز وضعيتها المتفردة كدول ذات طبيعة منفتحة ومتسامحة، على نحو ما تعكسه تركيبتها السكانية، وحجم المواطنين والوافدين فيها، حيث يعيش السكان من كل الجنسيات داخلها في حالة انسجام وتواصل مدهش. ويبدو أن هذه الخصيصة التي كان بعض مفكري دول المجلس يتعاملون معها على أنها تشكل تحديًا، أخذ البعض ينتبه إليها كميزة، لذلك تقدم دول المجلس ذاتها كدول تقتنص الأفكار وتبحث عن الفرص في كل ما هو جديد. ومن شأن انخراط دول المجلس في مشروع الممر الاقتصادي أن تزداد دورات المصالح والتفاعل البشري داخلها وتدور معها أكثر عجلة العمل والاقتصاد. وذلك ليس فقط لتلبية احتياجات العمالة في هذا المشروع، الذي سوف يستغرق سنوات وينفق عليها عشرات المليارات، وإنما أيضا لتشغيل عجلة الاقتصاد الجديد، الذي يستلزم عمالة من كافة المستويات من كل الدول. وهو أمر من المهم أن تنتبه إليه دول المجلس، التي تضع تنويع الاقتصاد والسياحة كإحدى أهم الرهانات على زيادة ناتجها القومي، وعلى سبيل المثال السعودية التي رفعت مستهدفها السياحي إلى 150 مليون زيارة سنويًا بحلول 2030م.
هكذا يجعل مشروع الممر الاقتصادي دول مجلس التعاون في قلب منظومات السياسة والأمن والاقتصاد الدولية، وفي قلب خطوط الاتصال والتكنولوجيا، وفي قلب عمليات هائلة متوقعة من الانتقال والتواصل البشري العالمي، وهو أمر من شأنه أن يخلق فرصًا وتحديات كثيرة.
ثانياً: مشروع الممر .. بين التحديات والعراقيل
على الرغم من أن فكرة ومشروع الممر الاقتصادي هو من أهم الأفكار والمشروعات الاستراتيجية الدولية التي أطلقت في السنوات الأخيرة، والتي تناظر –من ناحية الطموح والخيال الاستراتيجي- فكرة مشروع الحزام والطريق الصيني، وهي فكرة ومشروع يكتسب أهمية استراتيجية للمستقبل العالمي، ولأجلها وجه الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال قمة العشرين الشكر أكثر من مرة للشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات على دوره المحوري في طرحها وصياغتها، موجهًا حديثه إليه قائلا "لولاك ما كنا هنا"، فإن التعاطي مع الفكرة وتطبيق المشروع وتنفيذه قد لا يكون بمستوى السلاسة المطلوبة؛ وفي سياق ذلك، يمكن تصور خمسة تحديات محتملة أمام مستقبل المشروع، لا ينبغي أن تكون باعثًا على إحباط فكرته، وإنما دافعة إلى مزيد من الدراسة أو التفكير في البدائل والحلول، تتمثل فيما يلي:
(1) التحديات الخاصة بدراسات الجدوى والقيمة الاستراتيجية: فوفقا للمعلن فإن مشروع الممر هو مشروع اقتصادي استراتيجي يراهن الشركاء فيه بين آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية على حزم من الشراكات تمتد لعشرات وربما لمئات السنين المقبلة، وهنا يحضر تصريح رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، الذي قال في خطاب إذاعي بعد الإعلان عن المشروع "إن الممر الجديد، سيصبح أساس التجارة العالمية لمئات السنين القادمة". لكن بحكم تقلبات السياسة الدولية في القرن العشرين، والتي أصبحت أكثر إيقاعًا وسرعة في القرن الحادي والعشرين، وبحكم خبرات التاريخ السياسي العالمي، فإن الأفكار على الخرائط قد تختلف كثيرًا على أرض الواقع؛ فالممر الاقتصادي يمر عبر دول ومناطق وتضاريس طبيعية وسياسية وبشرية متفاوتة، وإذا كان من الصعب التوفيق بين الدول على الصعيد الثنائي، وبين القوى السياسية الأصغر داخل الدول في قضايا السياسات الأدنى، فكيف يمكن التوفيق بين عشرات الدول في قضايا الاستراتيجية التي ترتبط بالمصالح المعقدة. ويطرح المشروع إشكاليات تتعلق بتأمينه عسكريًا وأمنيًا، كما قد تطرح دراسات الجدوى الخاصة به إشكاليات من نوعيات مختلفة، من ناحية مقارنته بالقائم من الممرات البحرية مثل قناة السويس، التي يعتبر النقل عبرها عن طريق البحر أرخص وأسرع وأقل تعقيدًا، ومن ثم فإن الهدف الأساسي الذي ربما تسعى إليه أغلب الدول المنتظر انضوائها في إطار المشروع، وهو الخاص بخفض التكاليف اللوجستية للنقل، قد لا يتحقق بالقدر المتصور.
(2) التحديات الخاصة بالجوانب الفنية والتكاليف المالية: على الرغم من أن توزيع التكاليف والأعباء المالية للدول المشاركة في مشروع الممر الاقتصادي هي من الجوانب الفنية، وقد تكون هي أقل البنود التي يقع اختلافات حولها، ليس لضآلة تكاليف الإنشاء، وإنما بالنظر إلى كثرة الدول الراغبة به، والتي تتضمن الهند الطرف الآسيوي الأساسي فيه، ودول مجلس التعاون (السعودية والإمارات) المركزية والمحورية لتأسيسه، والدول الأوروبية التي تشكل الوجهة النهائية له، فضلًا عن إسرائيل والأردن، وجميع هذه الدول تتملكها رغبة في إكمال المشروع، ليس فقط لأهميته الاقتصادية، وإنما أيضًا لتوقيته ومعانيه السياسية، ولما يعول عليه من أهداف ترسم المكانة الاستراتيجية المستقبلية للمناطق. وقد يجرى الاتفاق حول المشروع في ظل حسابات وأوضاع وأنظمة سياسية استقرت على تصورات وأفكار محددة بشأنه، ثم تتغير الأوضاع والأفكار وتوجهات الحكم، مما يعرض المشروع لبعض العراقيل الخاصة بتباين الحسابات والتقديرات.
(3) التحديات الخاصة بغموض عالم المستقبل: فكما أن الأعوام الثلاثة الماضية شهدت أوبئة غير تقليدية مثل كوفيد - 19، وشهدت تفجر صراعات وحروبًا تقليدية مثل الحرب الروسية الأوكرانية والحرب في غزة، فإنه يصعب توقع ما يمكن أن تشهده السنوات المقبلة من أوبئة وأزمات وحروب جديدة، مع احتمال تفجر حروب إقليمية ممتدة أو حربًا عالمية ثالثة، تبدد حلم مشروع الممر الاقتصادي، وتفرض التعطيل على ممراته ومنشآته التي يكون قد أنفق عليها الكثير من قبل دوله، مع الأخذ في الاعتبار أن العالم ينطوي على احتمالات لنشوء أزمات لا تزال مجهولة. وينطوي عالم المستقبل على التحديات قد تكون أهم وأكبر، وهو ما يجعل مستقبل مشروع الممر الاقتصادي والحماية الأمنية للمسارات المتفرعة عنه والتي تخترق حدود الدول السياسية والتضاريس الطبيعية المعقدة والبحار والمحيطات والخلجان، مكلفة بما يتجاوز العائد من إنشائه، على نحو لا يمكن المشروع من الوصول إلى ممراته النهائية، وإذا حدث تحول مركزي في العلاقة بين روسيا أو الصين أو صدام أمريكي معهما أو مع أي منهما، أو وقع صدام بين الهند والصين، فإن الإنفاق الذي جرى على المشروع قد يتبدد، ويمكن تصور -ولو من باب الخيال العلمي- أن تتطور وسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية بعد 20 أو 50 سنة على نحو يبدد العائد منه والنفقات التي جرى إنفاقها عليه.
(4) الدول العربية والخليجية التي لا يشملها مشروع الممر: وفقًا للمشروع، فإنه يتضمن دولتين من دول مجلس التعاون الخليجي، هما السعودية والإمارات، وهما الدولتان الوحيدتان من دول المجلس اللتان وقعتا على المشروع، مما يعني وجود 4 من دول المجلس غير منخرطة فيه، ومن ثم يمكن للمشروع أن يؤسس لتفاوت مصالح حول المشروع، مع ذلك فلدى دول المجلس من الحكمة والرشادة، التي قد تجعل هذه المسألة أقل التحديات تأثيرًا على مستقبل المشروع، خصوصًا أن الطرح العالمي للمشروع يمنحه القدرة على استيعاب مختلف دول المجلس في نطاقه، وهو الذي يحتاج لتكامل قدراتها جميعًا لتلبية الاحتياجات اللوجستية والأهداف الاقتصادية الخاصة بالمشروع، ومن المهم أن يجري حوار خاص داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي حول الممر الاقتصادي، وكيفية تعميم الفائدة منه. وعلى الجانب العربي عمومًا، لم يكن يتوقع أن يكون لطرح مشروع الممر الاقتصادي تأثير كبير، لو لم يتضمن إسرائيل، الأمر الذي أبرق برسائل إلى الدول العربية غير المشمولة فيه بأنه يستهدف استقطاب المملكة العربية السعودية والإمارات إلى هيكل اقتصادي وسياسي وأمني يفرض واقعًا لنظام إقليمي شرق أوسطي جديد يستثني باقي دول المنظومة العربية. وضمن هذا السياق، أشار البعض إلى أن المشروع ينطوي على احتمال تقليص ميزة استراتيجية ورصيد أساسي من الأرصدة العربية، وهو الخاص بالمرفق العالمي لقناة السويس، وهو مرفق يمتلكه العرب في النهاية ويمثل أحد أرصدتهم الاستراتيجية. وفي الحقيقة، فلم يثر مشروع الممر حساسية دول في العالم العربي فقط، وإنما دول إقليمية أخرى، ولم يكن موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من المشروع إلا مثالًا على ذلك، حيث انتقد المشروع لتجاوزه تركيا، وتعهد بمشروع بديل، هو مشروع طريق تنمية العراق.
(5) ما يطرحه الممر الاقتصادي قبالة الحزام والطريق الصيني: حيث يطرح مشروع الممر الاقتصادي تحديات في علاقة الدول العربية بروسيا والصين تحديدًا، وهي العلاقات التي تطورت في العامين الأخيرين، على نحو ترجمته الوساطة الصينية في اتفاق تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران. وإلى حد كبير كانت وجهة السياسة والدبلوماسية الخليجية على مدى العامين الأخيرين وجهة شرقية صينية روسية (ونحو تكتلات البريكس وشنغهاي والآسيان وآسيا الوسطى وإفريقيا). ويهدد مشروع الممر الاقتصادي بخلق تحديات لهذا المنحى الشرقي في السياسة والدبلوماسية الخليجية، على الرغم من وجود الهند وهي دولة شرقية "جغرافيا" ضمن هذا المشروع، حيث أن الحديث هنا ينصب على الشرق السياسي المتمثل أساسًا في الصين وروسيا؛ فمن شأن انخراط دول الخليج في الممر الاقتصادي، دخول دول المجلس على خط التنافس مع المشروع الصيني الخاص بالحزام والطريق، وهو المشروع الذي يشكل جوهر الرهان الاستراتيجي الاقتصادي العالمي للصين حاضرًا ومستقبلًا، وتعمل الولايات المتحدة من خلال دعم انخرط الدول في مشروع الممر الاقتصادي على مواجهة التوسع المتزايد للصين واحتواء نفوذها. وعلى جانب آخر، يشكل انخراط دول مجلس التعاون في مشروع الممر الاقتصادي مع الهند موقفًا آخر مناهضًا للصين التي تقف في حالة تنافس وصراع مع الهند في آسيا.
الخلاصة:
يضع مشروع الممر الاقتصادي المنطقة ودول الخليج في وسط تقلبات السياسة العالمية، وسوف يزداد ذلك كلما اتخذ المشروع إجراءات عملية في التطبيق والتنفيذ. وهو أمر على الأرجح أن دول مجلس التعاون سوف تزن فيه قراراتها بميزان من ذهب. ولقد طُرحت فكرة الممر الاقتصادي خلال فترة سادها مزاج التطبيع العربي مع إسرائيل، ولكن الحرب في غزة على أثر عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي، أطلقت عُقدا وإشكاليات جديدة فيما يتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية ومستقبل العلاقات بين العرب وإسرائيل، ومستقبل العلاقات بين العالم العربي والغرب، وهذا المزاج الجديد الذي خيم على المنطقة، قد يعرقل التطبيع أو في الحد الأدنى يؤخره، وهو ما يرجح أن يعرقل معه مشروع الممر الاقتصادي.