بعد وداع عام مضى واستقبال عام جديد، نتوقف لمراجعة الأحداث التي مرت وتحليل أسبابها ورصد نتائجها بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، ومن ثم وضع الخطط والاحتمالات لعام آت سواء كان ذلك على مستوى الدول والشعوب، أو على مستوى إدارات العمل بمختلف أنواعه، وعند تقييم أحداث عام 2023م، على مستوى منطقة الخليج نجد ذلك العام بدأ بداية جيدة ومحفزة حيث قادت المملكة العربية السعودية ومعها دول مجلس التعاون منطقة الخليج والعالم العربي إلى مرحلة جديدة مع دول الجوار والمجتمع الدولي، وبذلت جهودًا حثيثة لتجاوز ومعالجة الأزمات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والصراعات التي ضربت المنطقة العربية، أو تلك التي عصفت بالعالم وألقت بظلالها على منطقتنا.
والتحرك السعودي / الخليجي ينطلق من ثوابت راسخة للتعامل مع التحديات الداخلية، والمتغيرات الإقليمية والدولية، وهذه الثوابت تعتمد على تحقيق التنمية المستدامة داخل دول مجلس التعاون وفقًا لخطة التنمية التي أقرتها الأمم المتحدة و رسمت معالمها دول المنطقة حسب رؤيتها لاحتياجاتها وطموحات قادتها وشعوبها، فجاءت رؤية 2030 التي يجري تطبيقها وفق برامج استراتيجية، وأخرى مرحلية لتحقيق ما تسعى إليه الحكومة وما تحتاجه الشعوب، وقد بدأت المملكة بتوفيق الله وبفضل حكمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ يحفظه الله ـ وصانع رؤية 2030 صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء ـ يحفظه الله ـ في جني الثمار والفوائد التي تحققت والتي كانت مرجوة وموضوعة في الخطط وكنا نطلق عليها (الحلم) الذي تحول إلى (حقيقة) بفضل جهود القيادة الصادقة والمخلصة.
وفي إطار تفعيل روافد رؤية 2030 على المستوى الخارجي، وضمن المسؤوليات العربية والإقليمية الملقاة على كاهل المملكة والتي تعتبرها ضمن ثوابت سياستها الخارجية، اتجهت المملكة إلى تحقيق الشراكات الدولية لتنويعها وتعظيم الفوائد لتنويع مصادر الدخل وتوسيع القاعدة الاقتصادية، فجاءت عضوية المملكة بمنظمة شنغهاي للتعاون، والانضمام إلى تجمع البريكس، والشراكة مع رابطة الآسيان، وتوطيد عرى الصداقة مع جمهوريات آسيا الوسطى، ودول الاتحاد الإفريقي، و دول أمريكا اللاتينية ومن قبل توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك تعزيز وتطوير الشراكة مع الولايات المتحدة، وروسيا ، وكل ذلك جاء وباعتراف جميع الشركاء أن المملكة تنتهج سياسة موضوعية ومحايدة وغير منحازة بعيدًا عن الأحلاف، أو إحلال دولة على حساب دولة أخرى، أو فلسفة المكايدة لتنفيذ أجندات غير معلنة، لأنها لا ترى أهمية لأي سياسات لا تخدم مصلحة الوطن والمواطن والاستفادة من النمو الاقتصادي الحالي في توطين التكنولوجيا، وتحديث الصناعات المدنية والعسكرية، وزيادة الاستثمارات، والحفاظ على البيئة، كما تم تتويج ذلك بإعلان سمو الأمير محمد بن سلمان في قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي عن إنشاء الممر الاقتصادي الذي يبدأ من الهند مرورًا بمنطقة الخليج وصولًا إلى المملكة ثم الأردن في طريقه إلى دول الاتحاد الأوروبي لتفعيل حركة التجارة العالمية مع مجموعة دول يبلغ إنتاجها المحلي نصف إنتاج العالم، إضافة إلى موقف المملكة الداعم والمشارك في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وكل ذلك يصب في دعم الاقتصاد الوطني والتنمية والاستفادة من موقع المملكة على الطرق والممرات العالمية بين جميع القارات، و بما يتناسب مع حجمها الاقتصادي وعضويتها في مجموعة العشرين ذات الاقتصادات الأكبر والأقوى على مستوى العالم، وهذا ما انعكس على نسبة النمو في الاقتصاد الوطني والتي فاقت توقعات المنظمات المالية العالمية حيث حققت المملكة النمو الأعلى بين دول مجموعة العشرين.
ومع هذه الإنجازات الاقتصادية والتنموية العملاقة، وقفت المملكة تتصدى للتحديات التي تواجه منطقة الخليج والمنطقة العربية برمتها لأنها تعتبر أمن المنطقة من صلب قضاياها، ومن أمنها الوطني والإقليمي، وضمن ثوابتها التي تسير عليها منذ أن وضع أسسها الملك المؤسس المغفور له بإذن الله تعالى جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، وعليه فقد شهد العام المنصرم واحدة من أهم الخطوات الإيجابية التي طالما انتظرها الإقليم والعالم ألا وهي خطوة الوفاق السعودي ـ الإيراني والذي ترتب عليه إعادة فتح سفارتي البلدين في الرياض وطهران، والزيارات المتبادلة لكبار المسؤولين في الدولتين للتأكيد على سياسة حُسن الجوار والاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وإغلاق باب الصراع في منطقة الخليج، كما استضافت الرياض وجدة خلال العام المنصرم العديد من القمم التي جمعت أقطاب العالم بهدف تحقيق السلام والوفاق الإقليمي والدولي ، و حل مشكلات المنطقة العربية، ومنها عودة سوريا إلى حضنها العربي بإعادة عضويتها في جامعة الدول العربية خلال القمة العربية التي استضافتها المملكة، كما استضافت المملكة اجتماعات متتالية لإيقاف الحرب الداخلية في السودان . وأيضًا تبذل الجهود لمساعدة اليمنيين على تجاوز معوقات السلام الداخلي، ثم جاءت حرب غزة التي نشبت في السابع من أكتوبر الماضي ،والتي تصدت لها المملكة بكل السبل، وتطالب بإيقافها فورًا ، واستضافت قمة طارئة مشتركة (عربية / إسلامية) صدر عنها بيان هام يرفض ما تفعله إسرائيل ضد الأبرياء الفلسطينيين، وشكلت رئاسة القمة لجنة وزارية مشتركة من الدول العربية والإسلامية لطرح مشكلة قطاع غزة وتعسف إسرائيل على جميع دول العالم خاصة الدول الكبرى ودائمة العضوية في مجلس الأمن، وقد جابت هذه اللجنة برئاسة وزير خارجية المملكة الأمير فيصل بن فرحان العالم لنصرة غزة، إضافة إلى الدعم المالي الكبير والدبلوماسي الذي تقدمه للشعب الفلسطيني الشقيق.
وعلى ضوء ما حدث خلال العام المنصرم، ومازالت تداعياته مستمرة، تتبنى المملكة في عام 2024م، سياسة ثابتة تعمل على تهدئة المنطقة العربية وتحقيق السلام في كافة دولها وإنهاء الصراعات في الدول العربية التي تعرضت لأحداث ما يسمى بالربيع العربي وتوابعه، وفي مقدمة ذلك وبصورة عاجلة إيقاف حرب غزة والعودة إلى التفاوض على أساس المبادرة العربية للسلام وحل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وكذلك تدعو المملكة لتأمين الملاحة البحرية في البحر الأحمر بمسؤولية دولية جماعية، ونزع أسلحة الدمار الشامل من عموم الشرق الأوسط، ومساعدة الدول الفقيرة على تجاوز الصعوبات الاقتصادية، وبالمجمل تسعى المملكة لتنفيذ منهجها القائم على (السلام والتنمية) في إطار الحياد بعيدًا عن الصراع الدولي والإقليمي، وإنقاذ المنطقة من الصراعات .