عرفت الحالة الاقتصادية والاجتماعية في بلدان المغرب العربي الخمس، الجزائر، المغرب، تونس، ليبيا وموريتانيا، صعوبات كبيرة في التكيف مع الصدمات الخارجية في فترة ما بعد كوفيد 19، حيث بقيت تأثيراتها واضحة في سنة 2023م، مع ما لحقها من التأثيرات الجيوسياسية للحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية وتداعياتها على سلاسل التوريد وأزمة الأمن الغذائي والطاقوي، نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا والحرب التي منعت التصدير والاستيراد عبر البحر الأسود، وما صاحبهما من تراجع نمو الاقتصاد العالمي وتزايد حدة التضخم وتأثيراتها على ضبط الميزانيات السنوية للبلدان المغاربية لمعالجة التهديدات الاجتماعية، المتمثلة أساسًا في توسع دائرة البطالة في أوساط الشباب، تزايد حدة الفقر، تراجع القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة، مع ضغوطات المديونية الخارجية للبعض منها، والمشروطية السياسية والمالية التي يفرضها صندوق النقد الدولي ومجموعة الدائنين الدوليين. والملاحظة العامة، في إطار هذا الانكشاف الاقتصادي والاجتماعي لمجموعة الدول المغاربية، تستوجب التمييز بين الدول المستوردة للطاقة، الغاز والنفط، والدول المصدرة لها، من حيث درجة التأثر بالمتغير الطاقوي، حيث تأثرت كل من تونس، المغرب وموريتانيا بشكل أساسي بسبب تصاعد أسعار الطاقة مقارنة بالدولتين المنتجتين والمصدرتين، الجزائر وليبيا. وينعكس ذلك على القدرة على تمويل الحاجيات الطاقوية والغذائية معًا، وكان هذا استمرارًا لتوقعات 2022 و2023م، حيث عرفت أسعار المواد الأولية والمواد الغذائية ارتفاعًا محسوسًا، كما رسمها صندوق النقد الدولي لترتفع بما يزيد عن 14 % مع نهاية 2022م، واستقرت عند ارتفاع بنسبة 80 % مقارنة بمستوى الأسعار لسنة 2019م.
أولًا: المشهد العام في دول المغرب العربي في سنة 2023 وتوقعات 2024.
تصنف كل من الجزائر والمغرب من بين القوة الاقتصادية العشرة الأولى في إفريقيا، حسب ترتيب صندوق النقد الدولي، حيث احتلت الجزائر المرتبة الرابعة في سنة 2023م، بإجمالي الإنتاج الداخلي الخام 224 مليار دولار، بعد كل من مصر، نيجيريا وجنوب إفريقيا، بينما المغرب احتل المرتبة السابعة بــ 147 مليار دولار، ويتوقع أن تتراجع الجزائر إلى المرتبة الخامسة حسب نفس التوقعات في سنة 2024م، بإنتاج داخلي خام 239 مليار دولار، في الوقت الذي تتراجع المغرب إلى الرتبة السابعة بإنتاج داخلي خام قدر بــ 157 مليار دولار. بينما تغيب كلية الدول المغاربية الثلاثة، ليبيا، تونس وموريتانيا، عن الترتيب العام الإفريقي للقوة الاقتصادية الإفريقية العشرة الأولى في نفس الفترة.
تقديرات مؤسسات برتن وودز، البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، لاقتصاديات المغاربية تتجه نحو التفاؤل الذي يشوبه الكثير من الحذر فيما يخص استمرارية تأثير الصدمات الخارجية في سنة 2024م، وحسب التقرير الصادر عن البنك الدولي المخصص لحالة الاقتصاد المغربي في نهاية 2023م، والمسوم بــ " من القدرة على الصمود إلى الرخاء المشترك"، توقع أن يتعافى الاقتصاد المغربي بعد الصدمات الطاقوية والسلعية ليرتفع النمو الاقتصادي إلى 3.1 % في سنة 2024م، وإلى 3.3 % سنة 2025م، و3.5 % سنة 2026م، مقارنة بـــ 2.8 % في سنة 2023م، بينما لم يكن تتعدى نسبة النمو 1.3 % سنة 2022م، ورغم القدرة على التكيف المغربي في مواجهة الصدمات العالمية والداخلية، بما فيها زلزال سبتمبر 2023م، إلا أن التأثيرات على الاقتصاد الجزئي تبقى قائمة، كما صرح بذلك، جيسكو هنتشل، المدير الإقليمي لدائرة المغرب العربي بالبنك الدولي:" أظهر المغرب قدرة قوية على الصمود في وجه عدد من الصدمات، إلا أنه لا تزال تأثير هذه الصدمات على رفاهية السكان واضحا، كما أن الإصلاحات الاقتصادية تعد ضرورية لبناء القدرة على الصمود الخارجي، لإنجاز الأهداف الإنمائية المسطرة". وفي نفس الاتجاه، ذهب صندوق النقد الدولي إلى استشراف الاتجاهات الإيجابية فيما يخص الاقتصاد المغربي، من خلال مؤشر الانخفاض الملحوظ في نسبة التضخم من 6.6 % سنة 2022م، إلى 6.3 % سنة 2023م، ليتوقع انخفاضها بمقدار النصف، 3.5 % سنة 2024م، بينما يبقى الحذر قائمًا فيما يخص استمرارية مؤشر البطالة بمعدلاته المتقاربة، من 11.8 % سنة 2022 م، إلى 12 % سنة 2023م، ليتوقع أن يتراجع بنسبة طفيفة في سنة 2024م، ليصل إلى 11.7%. ورغم القدرة على التكيف مع الصدمات الخارجية، فإن من أكبر التهديدات الاجتماعية التي سيعرفها الاقتصاد المغربي حسب توقعات منتدى دافوس العالمي، كما ورد ذلك في تقرير" المخاطر العالمية لسنة 2023"، تتمثل في أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة، التضخم السريع، خطر الصدمات الشديدة في أسعار السلع الأساسية وأزمات الديون، مع التوقع باستمرار هذه المخاطر الاجتماعية-الاقتصادية في السنتين القادمتين 2024-2025م.
فيما يخص الحالة الجزائرية التي تصنف ضمن الاقتصاديات الريعية، فإنها تعتمد على عائدات النفط والغاز، الذي يشكل جوهر النمو الاقتصادي ومحرك المشاريع الاقتصادية والضامن لتغطية الصدمات الاجتماعية، وهو ما سمح لها بوضع أضخم ميزانية في تاريخ الجزائر في سنة 2023م، بلغت قيمتها ما يقارب مائة مليار دولار، حيث اعتمدت في مداخيلها على سعر مرجعي للنفط قدر بــ 60 دولار للبرميل، مستفيدة من التقلبات الجيوسياسية في أوراسيا وزيادة الطلب العالمي على النفط والغاز. بتوقعات للنمو الاقتصادي وصلت إلى 4.1 % في سنة 2023م، ليرتفع إلى 4.4 % في سنة 2024م، كما ساهمت عائدات المحروقات في دعم احتياطي الصرف الجزائري، قدر مستواه في الثلاثي الأول لسنة 2023م، بما يزيد عن 66 مليار دولار بتوقعات بلوغ 85 مليار دولار في نهاية 2023م، وحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن احتياطي الصرف الأجنبي يكفي الجزائر لتغطية 14 شهرًا كاملًا من استيراد حاجياتها من السلع في سنة 2024م، يمكنها من تجنب الصدمات الاقتصادية الفجائية الكبرى في هذه الفترة. فضلًا عن التحسن الملحوظ في عائدات الصادرات خارج قطاع المحروقات، الذي حقق لأول مرة في سنة 2022م، ما يزيد عن 7 مليار دولار ومتوقع أن تصل إلى 13 مليار دولار سنة 2023م، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها لم تكن تتجاوز المليارين دولار في العقود السابقة، وهو ما يوحي بجدية البحث عن تنويع الاقتصاد خارج قطاع المحروقات الذي يغطي 90 % من عائدات النقد الأجنبي. وتعود هذه الديناميكية خارج قطاع المحروقات إلى الاستثمارات في المنتجات الحيوية، الأسمدة، الحديد والصلب، الإسمنت والقطاع الفلاحي. إلى جانب التفاؤل في المؤشرات الاقتصادية الكبرى، فإن الميزان التجاري سيعرف فائضًا بين سنتي 2024-2025م، ليبلغ 6.3 مليار دولار، وهو ما يعكسه تقرير وفد صندوق النقد الدولي الذي زار الجزائر في نوفمبر 2023م، الذي أرجع هذا الإنعاش الاقتصادي إلى ارتفاع أسعار المحروقات بعد صدمة جائحة كوفيد19، وتخفيف عائدات المحروقات الاستثنائية الضغوط على المالية العامة والخارجية. الملاحظ، أنه بقدر ما تحقق عائدات المحروقات الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الجزائر، بقدر ما تشكل هاجس مستقبلي لكل التقلبات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية غير المتوقعة، والمثال الأقرب إلى ذلك، فترة كوفيد19 الذي تراجعت فيه أسعار النفط إلى ما يقارب 20 دولار للبرميل الواحد، فرضت على الحكومة إعادة النظر في الموازنة العامة بفرض سياسة التقشف، حيث تراجعت عن تقديراتها الأولية للميزانية المعتمدة على سعر البرميل 50 دولار، لتعيد مراجعته إلى 30 دولار، مما اضطرها لتقليص الإنفاق العمومي بنسبة 50 % مع فرض الزيادات على أسعار البنزين للاستهلاك المحلي، ورغم ذلك فإن عجز الموازنة العامة تجاوز 22 مليار دولار.
أما فيما يخص الحالة الليبية، فهي ذات خصوصية في منطقة المغرب العربي، أولا، لصعوبة مسار الانتقال الديمقراطي لفترة ما بعد نظام القذافي واستمرار حالة الانقسام السياسي والجغرافي بين الليبيين في انتظار بناء التوافقات الداخلية والإقليمية والدولية، على أمل إنهاء المرحلة الانتقالية الطويلة والعسيرة (2011-2023م)، التي تكون عبر مخرجات سياسية توافقية، يعبر عنها بالانتخابات التشريعية والرئاسية، التي تفضي إلى سلطة سياسية ذات شرعية شعبية تضع حدًا للانشطار السياسي والانقسامات التي زادت من إطالة عمر الأزمات العنيفة، إلى حد ظلت فيها بعض النخب الليبية متمسكة بإدارة المرحلة الانتقالية واستمراريتها لما فيها مصالحها الذاتية والأنانية على حساب المصلحة الوطنية الليبية. فقد شهدت سنة 2023م، استمرارية لهذا الاتجاه العام، الذي عرف تكريس الخلافات بين الفاعلين في إدارة المرحلة الانتقالية، حيث لم يتوافق كل من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول القاعدة الدستورية والقوانين الانتخابية، رغم الجولات المكوكية للمبعوث الأممي لليبيا، عبدالله باتيلي، ومقاربته التوافقية التي يحاول من خلالها جمع اللاعبين الخمس الممسكين باللعبة السياسية والأمنية، والمتشكلة من، رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، رئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، رئيس الحكومة، عبدالحميد الدبيبة، وقائد الجيش، خليفة حفتر. ويمكن أن تعرف هذه المقاربة طريقها للواقع في سنة 2024م، خصوصًا أنها تلقى دعمًا من القوى الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا وألمانيا. وفي حالة عدم الإسراع في الوصول إلى حل سياسي، فإن عبد الله باتيلي كان صريحًا جدًا في إحاطته التي قدمها لمجلس الأمن، في أغسطس 2023م، حيث رسم من خلالها مستقبل الأوضاع السياسية والأمنية بقوله:" إن الوضع سيتفاقم ويسبب المزيد من المعاناة للشعب الليبي إذا لم يتم التوصل لاتفاق سياسي شامل يمهد الطريق أمام إجراء انتخابات سلمية شاملة وشفافة". وحذر من استمرار الترتيبات المؤقتة المحفوفة بالمخاطر والعنف والتفكك وتأثيراتها على استقرار ليبيا والأمن الإقليمي. وعليه، فإن سنة 2024م، ستكرس للأهداف الثلاثة التي حددها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لليبيا، والمتمثلة في، أولًا، إيجاد التوافق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول المقترحات المتعلقة بمشاريع قوانين الانتخابات التي أعدتها لجنة 6+6 من المجلسين. ثانيًا، السعي لعقد اجتماع الفاعلين الخمسة قصد التوصل لصيغة نهائية لاتفاق سياسي حول القضايا الخلافية. أما الهدف الثالث، فيكمن فيما سماه باستدامة الحوار بين الجهات الأمنية والعسكرية تحضيرًا للانتخابات ودعمًا للاستقرار السياسي والأمني.
التطورات الاقتصادية والاجتماعية في ليبيا لا تعكس الواقع السياسي بشكل عام، في حالة ما إذا نظرنا إلى المؤشرات الاقتصادية الكبرى لسنة 2023م، والسيناريو التفاؤلي الذي يعكسه التوجه نحو توحيد المؤسسة النفطية والبنك المركزي الليبي، الذي قد يسرع من توحيد الرؤية في إدارة العملية السياسية والأمنية. وستبقى القوة الطاقوية في ليبيا، عامل مساهم للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تمكنه من مواجهة الصدمات الخارجية وتمنحه القدرة على تجنب الاضطرابات الاجتماعية الكبرى، حيث أن الاقتصاد الليبي يعتمد بشكل أساسي بنسبة 95 %على صادرات وعائدات مداخيل الطاقة، النفط والغاز، غطت عائدات النفط في الفترة ما بين يناير وأغسطس 2023م، أكثر من 98 % إجمالي العائدات المالية حسب بيانات البنك المركزي الليبي. وعليه، ستبقى ليبيا تصنف دولة ريعية بامتياز، حيث أكثر من 85 % من فئة السكان النشطة اقتصاديا تعمل في القطاعين العام والاقتصاد غير الرسمي، الذي يعتمد بدوره على الموارد الريعية، الاتجار غير الشرعي بالعملة الأجنبية عائدات البترودولار وتهريب الوقود إلى السوق السوداء. وتمثل هذه الحالة، نقطة ضعف في ليبيا في حالة أي صدمات داخلية أو خارجية، بسبب عبء تكاليف الانفاق الحكومي على أجور القطاع العام الذي يغطي أكثر من مليوني موظف، والدعم المستمر للمواد ذات الاستهلاك الواسع، حيث تشكل إعانات الدعم والمنح ما يقارب ربع الإنفاق الحكومي.
في سنة 2023م، بدأت ملامح التفاؤل المفرط في تعافي الاقتصاد الليبي بفعل تحسن الانتاج النفطي ما جعل صندوق النقد الدولي، يصنف ليبيا في توقعات سنة 2023م، بأنها ستكون الأسرع نموًا بين اقتصادات الدول العربية بنسبة نمو تقارب 18 %. وتم بناء هذا السيناريو التفاؤلي على نمو الإنتاج الطاقوي بحوالي 15 % خلال سنة 2023م، بعد الزيادة في إنتاج النفط من مليون برميل يوميًا في سنة 2022م، إلى 1.2 مليون في سنة 2023م. ونفس التوقعات التفاؤلية التي ذهبت إليها مؤسسة" فيتش سيلوشن" التي قدرت نسبة النمو الاقتصادي الليبي بما يقارب 20 %، وبررت دوافعها في خمسة عوامل متضافرة، أولا، الانتعاش في صادرات الطاقة وما ترتب عنه من الزيادة في الإيرادات النفطية. ثانيًا، الاستقرار السياسي النسبي، ثالثًا، زيادة الإنفاق العام، رابعًا، تصاعد الأنشطة الاستثمارية، وخامسًا، ارتفاع الاستهلاك المحلي.
إجمالًا، فإن المشهد الليبي في أبعاده السياسية، الاقتصادية والاجتماعية على المديين القريب والمتوسط، يبقى مرهونا كما أوصت بذلك المؤسسات المالية الكبرى بأربعة ركائز متكاملة، الركيزة الأولى، الإسراع في إيجاد اتفاق سياسي مستدام لبناء الشرعية السياسية والدستورية. الثانية، يقع على الحكومة الشرعية وضع رؤية توافقية لمستقبل الاقتصاد الليبي من خلال تنويع العائدات والصادرات لتجنب الصدمات الكبرى. الركيزة الثالثة، اعتماد نظام مالي معاصر قائم على معايير الشفافية في توزيع الثروة وحسن التدبير في تسيير الإنفاق العام. أما الركيزة الرابعة، فتعتمد على بناء سياسات عامة اجتماعية تقوم على الرشادة في الإنفاق العمومي.
أما المشهد في تونس في سنة 2023م، فأعاد بعض التفاؤل في بنيته الاقتصادية التي تعتمد بشكل أساسي على قطاع السياحة والخدمات والفلاحة، إلا أنه عكس الحالتين الجزائرية والليبية، فقد تأثرت تونس بشكل محسوس بتصاعد الأسعار العالمية للطاقة والمواد الغذائية، حيث شكل دعم أسعار الطاقة عبئًا ثقيلًا على الإنفاق الحكومي الذي مثل حوالي 2% من الإنتاج الداخلي الخام طيلة العشرية السابقة. مما أدى إلى العجز في الميزان التجاري بسبب الدعم للمواد ذات الاستهلاك الواسع وما صاحبه من ضغوطات كبيرة فيما يخص تمويل الديون الخارجية. وفي شهر فبراير 2023م، وصلت نسبة التضخم إلى 10.4 %، وهي النسبة التي لم يشهدها الاقتصاد التونسي منذ أكثر من ثلاثين سنة، بسبب تصاعد أسعار الطاقة والمواد الغذائية. يبقى الاقتصاد في تونس رهينة الإصلاحات الهيكلية بالرغم من أن ميزانية الدولة لسنة 2024م، ركزت على الطابع الاجتماعي للدولة من خلال دعم السوق بالمنتجات الأساسية، ودعم القطاع الفلاحي، الصيد والموارد المائية، حيث من المتوقع أن تمثل ديون الدولة في سنة 2024م، ما يقارب 80 % من الإنتاج الداخلي الخام بتغيير إيجابي طفيف مقارنة بالسنتين التي قبلها. والملاحظ، أن تنوع الاقتصاد التونسي ساهم إلى حد ما في منحها القدرة في سداد خدمة الديون الخارجية بنسبة 81 % مع نهاية 2023م، رغم الصعوبات للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، حيث سمحت عائدات الموارد السياحية وتحويلات العمالة التونسية في الخارج إلى دعم الاحتياطي من العملة الصعبة بنسبة 43.3 بالمائة وفق بيانات البنك المركزي التونسي، وهو ما غطى نسبيًا عن تراجع إنتاج القطاع الفلاحي الذي يمثل 11 % من الناتج المحلي الإجمالي أدى إلى تقليص نسبة النمو لسنة 2023م، إلى 0.9 % بدلًا عن التوقعات المنتظرة بتحقيق نمو بــ 2.3 %. بالرغم من هذه المؤشرات الاقتصادية العامة للمشهد التونسي فإنها احتلت المرتبة الخامسة إفريقيًا من حيث مؤشرات التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة في سنة 2023م، متجاوزة كل من ليبيا، المغرب وموريتانيا، بينما احتلت الجزائر الرتبة الثالثة.
أما فيما يخص المشهد العام في موريتانيا لسنة 2023م، من حيث تقييم درجة التكيف مع الصدمات الخارجية، الجيوسياسية والاقتصادية والبيئية، فإنها تتراوح بين مجموعة من الفرص والمقومات التي تشكل القوة الاقتصادية، من جهة، والتحديات التي تعيق النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. ولعل بعض المؤشرات التي طرحتها مؤسسة "كوفاس" المتخصصة في تقييم ضمانات القروض وتسيير مخاطر الاقتصاد العالمي، توحي ببعض التفاؤل فيما يخص النمو الاقتصادي لموريتانيا في سنة 2024م، بفضل ارتفاع الإنتاج المنجمي والانطلاق في تصدير الغاز الطبيعي بنهاية الربع الأول من 2024م، في الحقل البحري المسمى "السلحفاة أحميم" المشترك مع السينغال، مع تطوير حقل "بئر الله" الذي تطوره شركتي "بي.بي" البريطانية و"كوسموس" الأمريكية الذي سيتم استغلاله ابتداء من 2027م. كما تعتمد موريتانيا على إنتاج الذهب الذي أضحى المورد الحيوي الأول، من حيث العائدات من العملة الصعبة لثلاث سنوات متتالية متفوقًا على الصادرات التقليدية، الحديد والسمك. وتعد موريتانيا من بين أغنى المناجم الإفريقية من حيث الذهب وثاني دولة عربية من حيث الانتاج بعد السودان. ويمكن أن تغطي هذه العائدات المنجمية والغازية، العجز في الميزان التجاري في 2024م، مع توقع أن تغطي احتياطات الصرف لخمسة أشهر من الواردات. من الأهمية أن نشير إلى أكبر تحدي يواجه موريتانيا يتمثل في عاملين مترابطين، ارتفاع نسبة التضخم، بمفهوم ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمستهلكين مع توسع دائرة الفقر، وفي هذا المجال فإن البنك الدولي صنف موريتانيا رابع دولة عربية الأعلى تضخمًا في أسعار الغذاء بنسبة 15.4 % إلى جانب دولتين مغاربيتين، المغرب بنسبة 16.8 بالمائة، وتونس 14.1 %. أما التحدي الثاني، فيكمن في حالة الفقر المتعدد الأبعاد، وهو مؤشر القياس الذي تم وضعه بالشراكة بين الوكالة الموريتانية للإحصاء والتحليل الديمغرافي واليونيسف ومبادرة أوكسفورد للفقر والتنمية، حيث تبين البيانات أن 57% من السكان، أي ستة من كل عشرة، يعيشون في حالة فقر متعدد الأبعاد، بمعنى أنهم محرومون من التعليم، الصحة، وظروف المعيشة اللائقة والتوظيف. ونظرًا لصعوبة الجغرافية، ثلثي المساحة الموريتانية صحراء وكثافة سكانية من الأضعف في العالم، فإن الاختلال في التوازن التنموي الإقليمي يبقى من بين العوامل التي تفقد البلد التجانس الاجتماعي، حيث ينتشر الفقر المتعدد الأبعاد أكثر في المناطق الريفية حيث ثمانية من كل عشرة ساكن تنطبق عليهم مؤشرات القياس.
ثانيًا: التحديات الجيوسياسية لبلدان المغرب العربي في آفاق 2024
توحي مجموعة البيانات والإحصائيات لمختلف دول المغرب العربي الخمسة، بأنها تملك مجموعة من الفرص المتنوعة، موارد حيوية ذات بعد عالمي، النفط، الغاز، الذهب، الحديد والفوسفات، إلى جانب الموارد الفلاحية الغنية، بالرغم من التأثيرات المناخية الناتجة عن موجة الجفاف التي مست كل الدول، إلا أن الدول المغاربية كان تكيفها إذعاني تجاه الصدمات الاقتصادية والغذائية التي نتجت عن مرحلة ما بعد كوفيد19، والحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية. إذ تبقى المنطقة الأقل تفاعلًا واندماجًا مقارنة بمجموع التكتلات الإقليمية في العالم بحيث لم تتعد نسبة التبادلات التجارية المغاربية 3 % في أفضل الأحوال، بحيث تبقى الدولتين الأكثر قوة اقتصاديا في إفريقيا، المغرب والجزائر، في حالة القطيعة الدبلوماسية والسياسية منذ 1994م، بسبب الرؤى المتناقضة في قضية الصحراء الغربية مع التصعيد في حدة الأزمة الدبلوماسية وحالة الشك المتبادل بعد التطبيع المغربي-الإسرائيلي الذي عمق من فجوة التباعد الأمني والسياسي، وهو ما سوف ينعكس أكثر على استقرار المنطقة المغاربية. ومن بين التحديات الجيوسياسية، حالة اللاستقرار السياسي التي تعرفها منطقة الساحل الإفريقي، نتيجة الانقلابات العسكرية المتتالية في مالي، بوركنا فاسو والنيجر وتأثيراتها على إعادة ترتيب المنطقة جيوستراتيجيا بفرض القطيعة الأمنية والاقتصادية مع سياسة فرنسا-أفريكا التي هيمنت على المنطقة منذ استقلالها، مع ما يترتب عنه من صراع القوى الدولية، الروسية-الأمريكية-الصينية بالأساس. وإذا فصلنا التأثيرات الاقتصادية الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية، فإن الدول المغاربية الخمس غير منخرطة بطريقة ديناميكية في هذا الصراع لا من حيث الاستقطابات ولا من حيث الدعم اللامشروط لأي طرف، والمشهد الواضح هنا، أن زيارة الرئيس الجزائري إلى روسيا في يونيو 2023م، حمل معه مبادرة الوساطة بين طرفي النزاع الروسي-الأوكراني، التي قبلها الرئيس فلاديمير بوتين، لأن القاسم المشترك بين جميع الدول المغاربية النزعة نحو نظام دولي متعدد الأطراف وتسوية النزاعات بالآليات السلمية لتجنت ارتداداتها على كل المنطقة سلبًا.