لقد تحركت السعودية ودول الخليج للانخراط في علاقات سياسية واقتصادية وأمنية عبر إقليمية تستهدف آسيا الوسطى وآسيان ومنظمة شنغهاي للتعاون وأخيرًا بركس، في بيئة اهتزت فيها أركان النظام الدولي للذود عن مصالحها. ففي أوروبا استعرت حرب بالوكالة بين روسيا وأمريكا /الغرب فانفرط عقد اليقينية بالسلام والاستقرار الدائم في أوروبا. وتآكلت القدرات والصدقية والاعتراف بدور القوة القائد، بعدما استحالت عليها الهيمنة. وتطورت علاقات بين القوتين المحوريتين في السياسة الآسيوية في ميدان بحر الصين الجنوبي وقضية تايوان. وتصاعد خطاب الحرب الباردة العدائي. وتوسع نطاق الحرب التجارية. وتدهورت بيئة الأمن الاقتصادي والسياسي والعسكري والغذائي عالمياً وإقليمياً.
التوجه صوب منظمة شنغهاي للتعاون
في مارس 2023م، توجت مساعي الحوار مع منظمة شنغهاي للتعاون بأن أصبحت السعودية " شريك حوار" مع قطر. وتبعها طلبات من الكويت والبحرين والإمارات لنيل هذه المنزلة. وجاءت هذه الخطوات في إطار العلاقات الثنائية أكثر منها بين التنظيمين الإقليميين. وثمة ما يحث دول الخليج على الاقتراب من شنغهاي في إطار علاقات شراكة تعاون.
إن المنظمة أكبر تنظيم إقليمي في آسيا. وما هي بمنظمة أمنية ولا تقوم على مبدأ الدفاع أو الاحتواء ولا تحدد هدفاً خصماً أو عدواً. وليس لها استراتيجية عسكرية أو هيكل أمني. إنها مرنة الهيكل التنظيمي، وأبوابها مشرعة للعضوية، وأجندتها اقتصادية وتجارية واستثمارية واجتماعية، وتؤمن بإمكانية تشكيل أسرة واحدة من أسر متنوعة. وما هي حاملة راية وعظ لنظام معين تفاضله على ثقافات أخرى. وما هي عنوان قيم راجحة ولها العلوية. حشد من ثقافات وقوميات وأديان. إنها منصة للحوار. ليس فيها غلبة لقوة محورية. إنها طراز من التنظيم الإقليمي الجديد يتخطى الأقواس الجغرافية. إنها تتواءم مع مجلس التعاون وآسيان والاتحاد الإفريقي. فيها اقتصادات كبرى كالصين والهند وروسيا. ولا يترتب على عضويتها بطلان خيارات أخرى للعضو كالعلاقات مع القوى الأخرى كالولايات المتحدة والغرب في الخليج العربي وفي آسيان. شنغهاي آلية تعاون شامل متعدد الأطراف في الاقتصاد والتجارة والأمن. كما إنها تضاهي ما للسعودية ودول الخليج من علاقات مع الولايات المتحدة وحلف الناتو. إن شنغهاي أرضية صالحة للحوار والتشاور. إنها عصبة للأمم من شرق آسيا - وسط آسيا- جنوب آسيا- الشرق الأوسط وحتى شمال إفريقيا (مصر هي شريك حوار كذلك).
إن توجه منظمة شنغهاي صوب الغرب لا مفر له من أن يقصد السعودية في المقام الأول. فهي مركز قوى الخليج العربي والفاعل الأساسي في الشرق الأوسط الذي انضمت إليه منها إيران كعضو فاعل وتركيا كشريك حوار. وإن الأهمية الاقتصادية السعودية تتمثل في دورها في النظام الاقتصادي العالمي كأهم مصدر للطاقة، وإنها أصبحت قطبًا في أوبك بلس تتعاون مع روسيا العضو الأساسي في شنغهاي.
إن عضوية السعودية تمثل التقاء مسيرتين. اقتراب شنغهاي من “الغرب" ودرب السعودية والمجلس إلى "الشرق". إن عضوية السعودية في شنغهاي تندرج في السياق الاستراتيجي الجديد في الانخراط الاستراتيجي مع التكتلات الإقليمية، كذلك الذي وقع مع دول آسيا الوسطى وآسيان والاتحاد الأوروبي وشراكة آسيا-الهادي انخراط مؤسسي يعضد الانخراط الثنائي المتبادل. فقد جاءت القمم تترى في الرياض بعد قمة الصين -مجلس التعاون في 9 ديسمبر 2022م.
لقد كانت العلاقات الخليجية والسعودية مع دول شنغهاي تدار في إطار علاقات ثنائية متبادلة وفق رؤى فردية غير مؤسسية، من هنا فالانخراط مع شنغهاي يرقى بالعلاقات إلى المستوى المؤسسي الإقليمي فيعزز المساران أحدهما الآخر. والتعاون الاستراتيجي مع شنغهاي يدل على أن الاستراتيجية السعودية تبنت خيار المسارات والاتجاهات المتعددة والتنوع في أنماط السياسة الخارجية حسب القضايا والأقاليم، وليس من إقليم وأعضاء يجاري منظمة شنغهاي.
لقد جسدت الرياض في اقترابها من شنغهاي بأنها ذات إرادة سياسية مستقلة وإن ما فرضته لعقود علاقاتها مع واشنطن لم تعد مانعة لحركة سياسة خارجية في فضاءات تراها أمريكا تتضاد مع مصالحها الاستراتيجية. إن تعاون مجلس التعاون والسعودية مع تجمع شنغهاي علامة إضافية بأن النظام الدولي أصبح متعدد الأطراف، وإن السعودية تنشد أن يكن لها دور في تكوينه. فحضورها في شنغهاي، وهي ذات أوزان ذاتية معززة بمنزلتها الإقليمية، يتيح لها الفرصة في أن تسهم في توجه شنغهاي حيال قضايا إقليمية خليجية وعربية وكذلك عالمية.
إن مطلب الاستقرار والأمن الإقليمي والعالمي هدف مشترك للسعودية ودول شنغهاي. ومثلما أن السعودية قوة استقرار وأمن إقليميا، فإنها وهي منخرطة في شنغهاي تسهم في الأمن العالمي لا كقوة تابعة، بل فاعلة، لا تستجيب برد فعل، بل مشاركة بفعل إيجابي.
إن إيران حاضرة في حركة السياسة الخارجية الخليجية والسعودية. وقد أفلحت طهران في تعشيق علاقاتها مع قوى " الشرق" خاصة الصين وروسيا. وليس من مصلحة الخليج والسعودية أن تستأثر طهران بهذا الدور، لذلك فإن الشراكة مع شنغهاي فرصة لرصد حركة إيران وتقييدها. وقد أسهم انضواء القوتين تحت خيمة شنغهاي في دفع الصين للوساطة ورعاية المصالحة السعودية والإيرانية. إنه مكسب في عملية خلق بيئة استقرار في إقليم جيو استراتيجي وجيو اقتصادي فيه منافع للاستقرار العالمي "كمصلحة عامة".
لقد كانت السعودية تدور في فلك السياسة الخليجية والشرق أوسطية لسنين، وبالاتجاه صوب منظمة شنغهاي تكون قد أضافت على دورها الأبعاد الجيو بولتيكية العالمية. فمن ناحية عن منزلتها الإقليمية سوف تتعزز، ومن جهة ثانية أنها ترقى بها إلى فعل لاعب جيو بولتيكي دولي.
لقد اتجه النظام الدولي والإقليمي، من بعد أن تآكلت الأحادية الأمريكية، إلى ديناميكية التوازنات إقليمياً وعالمياً. وفي النظام شبه الإقليمي الخليجي العربي تمثل السعودية كفة ميزان قوى، أما على الصعيد الدولي فإن علاقاتها مع شنغهاي تيسر لها إمكانية لعب دور في عملية التوازن الدولي. إن الشرق الأوسط والخليج العربي يعتبران فضاءً حصرياً للولايات المتحدة وقد منحت السعودية ومن قبلها إيران المجال لشنغهاي لتكون لاعباً إقليمياً.
إن التوجه إلى شنغهاي خطوة في بناء بيئة إقليمية ودولية تتواءم مع طموح بلوغ إقليم يسود فيه الاستقرار والسلام والأمن والتنمية الاقتصادية وغايات رؤية المملكة 2030، وإن أي دور كهذا الذي يتلازم مع الحركة للسياسة الخارجية السعودية في رحاب التنظيمات الدولية والإقليمية يستدعي أن يمتلك صاحبه من القدرات والعزم وتحمل المسؤولية والصدقية، ولا فكاك للسعودية من الاندفاع في هذا الدرب الذي اختاراه صناع القرار لأنفسهم ومواجهة التحديات المتوقعة للاعب ذي منزلة ودور إقليمي عالمي.
قمة آسيان – مجلس التعاون الخليجي العربي
في 20 أكتوبر الماضي خيمت على لقاء قمة مجلس التعاون الخليجي العربي-دول جنوب شرق آسيا العشرة (آسيان) حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب العربي الفلسطيني في غزة فكان لدول آسيان مواقف متناقضة. فإندونيسيا وماليزيا وبروني طالبت بوقف العدوان والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، أما الفلبين وسنغافورة فقد تمسكتا في موقفهما المؤيد لإسرائيل والدول الأخرى آثرت الحياد. ويعكس هذا الموقف حقيقة أن آسيان لم تقدم إلى القمة صفاً واحدًا وكتلة متماسكة، بل فرادا، في مواقفها من القضايا العربية المركزية وهو الأمر الذي كان يراد من القمة أن تكون منصة للحوار في القضايا المشتركة السياسية وغيرها، وإن الفاعل الخارجي، الولايات المتحدة والصين، يؤثر على مصالحها فتختلف مواقفها. ويمثل هذا التحدي السياسي لحوار القمة فعلى السياسة الخليجية العربية أن تجند روافعها لدفع كتلة آسيان إلى دعم القضية الفلسطينية.
تاريخياً لم يكن مجلس التعاون الخليجي من صلب السياسة الإقليمية لرابطة آسيان، مثلما لم يكن له نصيب في سياسة المجلس لعدة أسباب منها: أولاً، إن كلاً من الكتلتين لم يتبلور لديها مقاربة العلاقات عبر الإقليمية بل اقتصرت على دول الجوار الإقليمي وعلى القوى الدولية الكبرى ذات المصالح الاستراتيجية والجيو اقتصادية والسياسية في الإقليمين. ثانيًا، إن العلاقات كانت على مستويات محدودة، وعلى وجه الخصوص الاقتصاد والقضايا الإسلامية، لبعض دول آسيان. ثالثًا، إن العلاقات كانت ثنائية متبادلة، فمن بين دول مجلس التعاون انفردت السعودية والإمارات العربية في إرساء أسس العلاقات مع إقليم جنوب شرق آسيا، وكذا فإن إندونيسيا والفلبين وماليزيا كانت تتصدر آسيان في الاقتراب من الخليج العربي. رابعًا، إن ديناميكية التطورات في الإقليمين كانت ساكنة ومحدودة وإقليمية، ولم تصبح فوارة ومنتشرة جيو بوليتيكيًا إلا في العقد الأخير وهو الأمر الذي دفع نحو التقارب عبر الإقليمي. وأخيراً، إن ضواغط التطورات في السياسة الدولية ما بعد الأحادية الأمريكية والنزاعات في بحر جنوب الصين وأزمة تايوان المستدامة، وأخيرًا الحرب الأوكرانية في رحاب أوروبا أفضت إلى أن تسعى الأقاليم إلى التقارب الإقليمي بحثًا عن بدائل.
يجسد لقاء القمة الأول الدوافع والجواذب التي لكل وفي كل كتلة نحو الانخراط الإقليمي والتكامل الاقتصادي والحوار والتشاور والتنسيق والتعاون في ميادين لم يكن لها حصة من قبل. لقد كانت العلاقات تركز على التجارة والاستثمار والعمالة. ولم يكن من دول الخليج العربي شريكًا لآسيان سوى الإمارات وعلى المستوى القطاعي وليس الشامل والاستراتيجي.
إن الآسيان تراهن على الانخراط الإقليمي ييسر لها فرص التعاون الاقتصادي وخاصة الاستثمارات. إن آسيان ليست بيئة استثمارات أمريكية، بل تحولت إلى إقليم استثمار صيني. وليس من الحكمة ان ترهن آسيان مستقبل تنميتها الاقتصادية المستدامة إلى شريك فرد، لذا لاذت إلى المجلس تنشد جذب الخليجيين للاستثمار في مشاريع آسيانية. ومن طرفها فدول المجلس تسعى وراء فرص استثمارات جديدة في سياق تنويع مصادر وارداتها وتقليل الاعتماد على واردات الطاقة وثمة فرص جديدة في الاقتصاد الآسياني بفضل وتيرة التنمية المستدامة منذ عقود.
إن التجارة والاستثمار عصب العلاقات عبر الإقليمية. وإن كلاً من الإقليمين ينشد زيادتهما وتنوعهما. إن آسيان تعتمد على الاستثمارات المباشرة الخارجية الصينية في المقام الأول والأوروبية والهند، وتطمح لزيادة استثمارات دول المجلس بعدما كانت تحتل الإمارات الصدارة في الاستثمار تاريخيًا. وكذلك لتقليل التعويل على ما يترتب عليه التعاون في سياق مبادرة الحزام والطريق التي سادت آسيا وأقاليمها.
بلغت استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في آسيان 70 مليار دولار في 2022م، وتمثل نسبة (4%) من مجموع استثماراته الدولية، في حين إن استثمارات آسيان (24.8) مليار دولار بنسبة (3.4%) من اجمالي استثماراته عالمياً. وحجم التبادل التجاري (137.4) مليار دولار، أما نسبة آسيان من إجمالي التجارة الدولية لدول مجلس التعاون الخليجي فهي (8%). وتشكل صادرات آسيان إلى الخليج العربي (9%) من إجمالي الصادرات الآسيانية، و(44%) من وارداته.
إن الغرض من التعاون عبر الإقليمي من ناحية آسيان دفع دول المجلس للانخراط الناشط التعددي في مشاريع استثمار مباشرة ومشتركة عوضًا عن أن يبقى التوجه تقوده السعودية والإمارات. ومع ذلك فإن خطة العمل تبقى انتقائية وتحظى بعض دول آسيان بالحصة الكبرى من الاستثمار الخليجي دون غيرها لأنها علاقات متبادلة منذ عقود وأن اقتصاداتها أكثر ازدهارًا وتنمية. إن الهدف الاستراتيجي للتعاون التعددي للأطراف هو خلق بيئة تنمية مستدامة وليس الإبقاء على علاقات اقتصادية عامودها النفط والغاز وحسب، فهناك مجالات أخرى كالبنية التحتية والتكنولوجيا فيها فرص واعدة لتعاون أنشط وأوسع.
إن آفاق التنوع والتوسع رحبة في هذا المجال من التعاون. إن آسيان والمجلس يعتمدان على سلاسل التجهيز الصينية بقدر كبير، فمن الحكمة أن يتعزز التعاون عبر الإقليمي لتخفيف عبء الاعتمادية على الصين. وثمة خيارات يمكن اعتمادها من بينها تعزيز التعاون عبر الإقليمي في مجالات الصناعات والبنى التحتية والتكنلوجيا.
ويُعد تطوير تحسين الربط بين الممرات مثل الربط البحري بين شرق المحيط الهادي-جنوب شرق آسيا-الهند-الخليج العربي-أوروبا من الأهمية بمكان في تعزيز وتقوية الشراكة الاقتصادية. فلكل من الإقليمين دوره المركزي الإقليمي المتكامل. إن آسيان تتوسط ما بين شرق وجنوب فضاء الهندي-الهادي، والخليج العربي يتوسط ما بين آسيا وأوروبا. إن الهند فاعل إيجابي في هذا المجال في نسق تنافسها مع الصين على الدور الآسيوي والإقليمي لذا تحتضن الهند مثل هذه المبادرة، وبذلك، تصبح محفزًا لتمتين عرى الشراكة الاقتصادية بين الإقليمين.
إن مجلس التعاون الخليجي يعثر له في تعاونه مع آسيان على إقليم ينعم بالاستقرار. فعلى العكس من بيئة سياسة الخليج العربي التنافسية والبيئة داخل المجلس، وكذلك الخلافات والصراعات العربية / الإيرانية، فإن آسيان أفلحت في تدبر سياستها البينية بعيداً عن الصراعات والنزاعات. إن الاستقرار في إقليم آسيان ثبات، ذلك أن راعي الأمن الإقليمي هو الولايات المتحدة، والتي فيها إمكانية أن تكون المحفز لتمتين عرى التعاون عبر الإقليمي، فمن مصلحتها أن يقع مثل هذا التعاون لاحتواء التحديات الصينية في بحر جنوب الصين، وإيران في الخليج العربي. والولايات المتحدة حليف وشريك لدول الإقليمين.
وإن توجه المجلس إلى آسيان له صلة بالتنافس العربي / الخليجي-الإيراني. فقد سبقت إيران المجلس في التوجه إلى الشرق، ولم يكن لدول آسيان أولوية في التوجه الإيراني، ومع أن بعض الدول من المجلس مثل السعودية والإمارات العربية قد أولت أهمية إلى التوجه إلى الشرق، إلا أنها لم تقدم على ذلك برؤية واضحة.
وبالتعاون مع آسيان يصبح الإقليم بوابة الولوج إلى الشرق، وكذلك يعفي من التركيز على الصين وحدها. إن التعددية في محطات التوجه إلى الشرق يمد السياسة الخليجية العربية بالمرونة وبروافع إضافية للتأثير على المواقف في خدمة المصالح المشتركة.
يؤكد لقاء القمة تداخل المصالح المشتركة السياسية والاقتصادية والأمنية والدفاع. فقد أكد البيان المشترك الطموحات والأهداف للتعاون والشراكة عبر الإقليمية. ووضع المبادئ لها بالالتزام بقواعد النظام الدولي المستند إلى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والاستجابة لمعايير السلوك الذي اتفقت عليه دول آسيان وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واللجوء إلى التهديد واستخدام القوة في فض النزاعات، بل الأخذ بالطرق السلمية والمساواة وحرمة وحدة التراب الوطنية، وإن الطرفين معنيان بالحفاظ على أمن حرية البحار.
إن الأمن مصلحة مشتركة للإقليمين تستدعي التعاون، ذلك أنهما هدف للتهديدات غير التقليدية مثل الإرهاب والتطرف والجريمة والمخدرات. وقد أشار البيان المشترك إلى ذلك ودعا المشاركون إلى تعزيز التعاون في هذا الميدان.
لقد تأزمت العلاقات الدولية والإقليمية بشكل حاد في السنوات الأخيرة بسبب التنافس والصراع بين الولايات المتحدة والصين في آسيا وجنوب شرق آسيا، وأخيرًا في المواجهة المسلحة بين روسيا والغرب في حرب الوكالة في أوروبا. لقد ارتجت أركان النظام الدولي واستقطبت العلاقات الدولية فأصبح لا فرار من الانحياز إلى أحد الخصمين، لذلك فمن الحكمة أن تنأى الأقاليم عن الاستقطاب، ولهذا فالتعاون عبر الإقليم يعين على تنسيق المواقف الحيادية كمصلحة مشتركة. وإن الإقليمين مطالبين تعزيز التعاون.
لقد كان للسعودية دور الريادة في الدفع صوب التعاون التعددي عبر الإقليمي ذلك أنها مركز الثقل الخليجي شبه الإقليمي ومحوره الشرق أوسطي، فضلاً عن أنها أصبحت قبلة للدنو منها سواء على صعيد القوى الفاعلة الأساسية كالولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وشاهد ذلك طرق بابها الدبلوماسي وما تستضيفه من لقاءات وزيارات من رؤساء الدول. ويقع على السعودية بعض المسؤولية في إدارة دفة التعاون لما لها من أثقال في السياسة الخليجية، وفي علاقات عبر الإقليمية وفي رحاب السياسة الدولية. إن التحدي ليس في جمع القوى حول طاولة مستديرة سعودية، وإنما في الإبقاء على زخمها وتخطي العقبات في طريقها سواء على صعيد تطورات السياسة في الأقاليم أو على صعد السياسة الدولية.
قمة مجلس التعاون الخليجي العربي ودول آسيا الوسطى
في19 يوليو 2023م، استضافت السعودية في جدة المؤتمر الأول لقمة دول مجلس التعاون الخليجي والدول الخمس من آسيا الوسطى (كازاخستان-قرغيزستان-تركمانستان-اوزبكستان-طاجكستان). ويمثل المؤتمر محطة تحول في العلاقات الخليجية العربية مع الدول الخمس، فقد كانت تلك الدول فرادًا وكإقليم خارج شاشة العلاقات الخليجية العربية الإقليمية والدولية، كما اقتصرت العلاقات على المستوى الثنائي المتبادل وفي الأبعاد الدينية في المقام الأول. وهذا المؤتمر يعتبر أول خطوة لمأسسة العلاقات على المستوى الإقليمي في إطار استراتيجيات الشراكة التعددية. ويضع اللبنات لهيكل علاقات تعاون متعدد الأطراف والمضامين في سياق علاقات ما بين الأقاليم صوب جنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى كما قاربه لتدبر العلاقات الخليجية العربية في بيئة ديناميكية إقليمية ودولية تشهد تحولات استراتيجية ومن رؤى مستقبلية.
ويأتي المؤتمر في مرحلة تقع فيها تطورات سياسية واقتصادية وأمنية لها انعكاسات ذات أهمية أساسية. إن دول الخليج العربية فرادًا وكتلة قد اعتلت منازل في السياسة الدولية لها تأثيراتها على الاقتصاد العالمي والآمن والاستقرار الإقليمي والدولي. إنها لم تعد الفاعل الطاقوي وإقليم تنافس القوى وحسب، بل من المنخرطين الناشطين في عملية التحولات الجارية في السياسة الدولية، وتقوم بدورها كفاعل يعزز المسؤولية ويقوم بالدور المتسم بالصدقية والمعترف به. وترمي دول المجلس إلى تنويع مسارات علاقاتها الدولية والعثور على هوامش لحركة سياستها الخارجية لتقليل الاعتماد على الفواعل الخارجية وللتوازن مع تركيا وإيران، وكذلك للارتقاء بالعلاقات من مستوى الحوار الثنائي إلى الحوار التعددي والتشاور والتنسيق على أصعدة التجارة والاقتصاد والاستثمار والأمن والثقافة. وإن إقليم آسيا الوسطى مصدر لتعزيز الأمن الغذائي ففيه فرص استثمارات خليجية.
ومن جهة الدول الخمس فهي الأخرى تسعى إلى تنويع مسارات سياستها الخارجية والوصول إلى منابع إضافية للتعاون الاقتصادي والاستثمار لبلوغ التنمية الاقتصادية وتحقيق الرخاء الاقتصادي وخلق بيئة يسودها الاستقرار والأمن المحلي والإقليمي. وتقليص الاعتمادية على روسيا الضامن الأمني وعلى الصين المهيمن الاقتصادي. وقد تفاقمت التحديات بعد الحرب في أكرانيا والعقوبات على روسيا فضاقت على الدول الخمس السبل في علاقاتها التجارية والأمنية. وإنها أصبحت ميدان تنافس للقوى الكبرى والإقليمية كتركيا وإيران. ففي مايو 2023م، ترأس الرئيس شي مؤتمر قمة صينية-آسيا وسطى، وبعدها في يونيو جاء الاتحاد الأوروبي إلى سشلبون في قرغيزستان ليلتقي الدول الخمس.
وكانت السعودية قوة الدفع للارتقاء بالعلاقات إلى مستوى التعددية. وإن المؤتمر يجسد الإرادة السياسية للانخراط في علاقات شراكة تعددية، دون إبطال الفردية، بل لتمتينها وصوغها في هياكل تعاون تكميلية. والمراد الأساسي هو التعاون في مجالات التجارة والاقتصاد والاستثمار والأمن والثقافة، فالصلات الثقافية والدينية تاريخية بين العرب وشعوب آسيا الوسطى، والتعليم والبنى التحتية والربط في المواصلات. والتعاون في المحافل الدولية.
لقد مهد لقاء وزراء الخارجية للدول في الرياض في 2022م، إلى مؤتمر بآلية متمثلة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وآسيا الوسطى تحديد الأهداف والوسائل ووضع خطة عمل لفترة 2023-2027م، ولقد كانت السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر قد انخرطت في مشاريع استثمار في بعض الدول الخمس. فقد استثمرت السعودية 14 مليار دولار في أوزبكستان، وكذلك استثمرت الإمارات (10) مليارات دولار في قطاع النفط والغاز في أوزبكستان وتركمانستان ووقعت قطر عقود استثمار بقيمة 12 مليار دولار. بيد أن حجم التبادل التجاري لا يزال ضعيفًا بلغ 3.1 مليار دولار في 2021 م، وهو يمثل نسبة 0.27% من إجمالي حجم التجارة الخليجية. وهناك فرص التصدير بين الطرفين كالقمح وغيرها من المعادن بعدما يتمكن الطرفان في التعاون في خلق شبكة ربط مواصلات برية وسكك حديدية وبحرية. وقد روجت مقترحات للربط عبر شبكة الممر من الشمال إلى الجنوب أو عبر تركيا والقوقاز ووسط آسيا أو اوزبكستان -أفغانستان – باكستان، بل وبعد التطبيع بين السعودية وإيران من المحتمل التعاون الثنائي لربط المواصلات.
لقد أكد المؤتمر أهمية الحوار السياسي والتشاور بين الطرفين في القضايا المشتركة وحدد آفاق الشراكة في الحوار السياسي والاقتصادي والاستثمار والتواصل بين الشعوب الإسلامية والدفع إلى الامام بالنشاطات الثقافية والعلوم والتعاون في المنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودعم القضايا العربية والإسلامية. وفي مجال الأمن فهناك حاجة إلى التعاون والتنسيق في التصدي للتهديدات غير التقليدية التي تهدد الأمن القطري والإقليمي كمواجهة الإرهاب وجماعات التطرف والمخدرات وضرورة تبادل المعلومات.
إن آفاق التعاون رحبة بعدما تعضدت الإرادات السياسية من كل من الطرفين ووضعت الأجندة ومع ذلك فإن التحديات قد تعيق بلوغ الأهداف والطموحات. فمعضلة الربط تستدعي المعالجة وهي ليست عسيرة فنيًا أو ماليًا. وإن المواقف القطرية يجب ألا يكون لها العلوية على التعاون التعددي. وإن دول آسيا الوسطى بها حاجة إلى ترتيب جماعي وليس مواقف قطرية في الحوار مع المجلس. الشروع بمشاريع تعاون مشترك بهدف التكامل الاقتصادي. التغلب على الضغط الخارجي، خاصة من روسيا والصين.
إن الدول الخمس تدرك أن السياسة الخليجية ليس لخلق مناطق نفوذ أو تنافس بين محاور إقليمية. وبسبب افتقار آسيا الوسطى إلى قوة قاعدة أو محور معترف به إقليمياً، عكس ما هو عليه الحال في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فإن السعودية هي المرشح، الذي لديه القدرات الاقتصادية والخبرة والمنزلة الإقليمية والدولية، لاعتلاء منزلة المحور أو القوة القاعدة وتولي دور القيادة لبلوغ الأهداف. ويقع على الدبلوماسية السعودية أن تديم الاندفاع نحو التكاملية التعددية وألا تعيد العلاقات إلى سيرتها السابقة في تدبرها على الصعيد الثنائي المتبادل، ولعل تأسيس آلية المبعوث الخاص إلى آسيا الوسطى يجدي في هذه المرحلة لا ستدامة التشاور والتنسيق.
السعودية والإمارات أعضاء بركس
سيكون استهلال العام الجديد في 2024م، انضمام السعودية ومعها الإمارات العربية، من دول المجلس، ومصر، فيكون ثلاث دول عربية في بريكس. وبركس أوسع كفضاء جيو بوليتيكي من شنغهاي. وتضاهي فضاء أمريكا / الغرب. وتقطن فيه قوى الجنوب الصاعدة. ويطرق بابها عشرات الدول النامية. وتنشأ لها مؤسسات تدريجياً مثل (بنك التنمية الجديدة). وترسم معالم درب جديد لنظام دولي تعددي. وتطمع إلى الوئام والعدل والمساواة والتنمية المشتركة. ويغيب فيها جنوح قوة مركزية تنشد الهيمنة. وتتشاور وتتوافق. ولا تحرم عضواً حق الاختلاف.
والخليج العربي والسعودية، على وجه الدقة، من أهداف توسع بركس في فضاء الجنوب. فالسعودية الثقل السياسي والاقتصادي الإقليمي والدولي. ولها معه تجارة 160$ مليار في 2022م، واقتصاد بركس يعول على الوصول إلى الطاقة وأمنها وسعرها العادل. والسعودية راعي أساسي لتأمين ذلك.
إن انخراط السعودية يأتي في سياق نهج تنوع المسارات والخيارات والاتجاهات لقوة إقليمية مركزية. وترسيخ "التوجه إلى الشرق." ففي بركس قوائمه والآخرون كلهم من غير " الغرب". وتثبت حقيقة أنها فاعل سياسي واقتصادي يعول عليه في الطاقة. والسعودية تحمل في عضويتها رائداً لإقليم الخليج العربي، مثلما فيه آسيا الوسطى وإفريقيا الجنوبية وأمريكا اللاتينية. والسعودية من ركائز الجنوب وتشكل مع جنوب إفريقيا والبرازيل مثلث قوى صاعدة غير نووية.
وفي انخراطها تسهم السعودية ومعها الخليج العربي في عملية التحول الجارية في هندسة النظام الدولي ممثلة لقيم عالم عربي-إسلامي لم يكن هناك حظ تاريخي في صوغه. وليس من الحكمة أن يكون الفضاء العربي بلا أثر في عملية التوازن الجديد إقليميًا ودوليًا. ففي بركس قوى الصين وروسيا البرازيل وجنوب إفريقيا تتوازن مع الغرب. وفي إقليم الشرق الأوسط قوى تركيا وإيران وإسرائيل تتوازن مع العرب.
إن رؤية 2030 تقوم على تنوع الاقتصاد وفي بركس يتحقق لها بعض مطالبها. إن فرص التعاون الاقتصادي والاستثمار والسوق الواسع للطاقة تعثر عليها السعودية في بركس. وكما يقول الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية، " خلق فرص اقتصادية وتنموية والارتقاء بالعلاقات إلى مستوى الطموحات". وللسعودية فرص التنسيق مع روسيا شريكها في أوبك بلس في إطار بركس. كما يكون للسعودية دورها في التنمية الاقتصادية العالمية في دول الجنوب من خلال إسهامها بتقديم القروض في بنك التنمية الجديد. وكذلك الانتفاع من فرص الاستثمار.
ومن الناحية السياسية فمنزلة الخليج العربي والسعودية في مراتب الفواعل في السياسة الدولية سوف تتعزز. وتؤكد الرياض استقلالية القرار الاستراتيجي، وستجند مواقف بركس في سياق مساعي الأمن والاستقرار والتنمية في الإقليم والقضايا العربية. لقد حظيت إيران بالعضوية وانخرطت في الشرق قبل السعودية، ومن مصلحة السياسة العربية أن تكون السعودية ثقل توازن معها.
إن انخراط السعودية ينطوي على تحديات فقد تذهب إلى السير للخروج من الدولار. وقد يتعذر الحياد في حالة المواجهة بين كتلة بركس والغرب. إن الاستقلالية لها ثمن. وعواقبها لا يمكن مواجهتها أحياناً. وقد اختطت السعودية ومن معها الاقتراب من الشرق والابتعاد عن الغرب. ومن الصائب البحث عن هوامش للحركة. إن الخليج في حالة توازن. والحكمة ألا يبقى عليها طارئة وتكتيكية. والانخراط مع الكتل والأقاليم يعين على بلوغ ذلك