array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 194

تطوير المبادرة العربية يحقق فرصًا للمنطقة والأطراف الفاعلة الخارجية وطرفي الصراع

الخميس، 25 كانون2/يناير 2024

تشكل حرب أكتوبر 2023م، على غزة حدثًا لم يسبق له مثيل من حيث حجم الموت والدمار، مع آثار مؤلمة على حياة الفلسطينيين في القطاع، وتمثل غزة جغرافيًا واقتصاديًا جيب ساحلي يبلغ طوله 45 كم 2 تحتله إسرائيل منذ عام 1967م، ويعتبر من أكثر مناطق العالم كثافة من حيث السكان، حيث يبلغ عدد سكانها 2.3 مليون فلسطيني، أكثر من 66 % منهم من اللاجئين منذ عام 1948م.

ومما لا شك فيه أن الحرب الحالية سوف تسفر عن تغيرات جذرية في الواقع الجيوسياسي والجيو اقتصادي، وغيرت بالفعل الكثير من المفاهيم والمسلمات، ومن ثم في شكل التسوية السياسية في المستقبل، التي كان محورها المبادرة السعودية العربية للسلام مع إسرائيل.

وتتناول المقالة الحالية نقطتين أساسيتين، أولهما الآثار الاقتصادية المتوقعة للحرب قصيرة الأمد وفي الأمد الطويل، وكيف يمكن للحرب بين إسرائيل وحماس أن تؤثر على الاقتصاد العالمي وتزيد من سوء الوضع الدولي، وعلى الوضع الاقتصادي في المنطقة، وماهي تداعيات تلك الآثار على المبادرة السعودية العربية للسلام مع إسرائيل.

الآثار الاقتصادية للحرب عالميًا

تؤثر الصراعات الداخلية وكذا الصراعات بين الدول على الأوضاع الاقتصادية العالمية أيا كانت منطقة الصراع، بدءًا من التأثير على مؤشرات الأسواق المالية، وأسعار صرف العملات الأجنبية، وأسعار السلع الأولية خاصة النفط والغاز والسلع الغذائية والذهب، فضلاً عن ذلك يترتب على الصراعات تأثيرات دائمة على سلوك الأفراد والمستثمرين وحركة رؤوس الأموال واتجاهاتها، بل وعلى طبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية والنظام الاقتصادي العالمي.

وتمثل منطقة الشرق الأوسط، حالة خاصة، حيث تملك دول المنطقة أكثر من ثلث إمدادات النفط العالمية، ويقع فيها ممرين تجاريين عالميين ( قناة السويس ومضيق هرمز) وبالتالي فإن عدم الاستقرار يخلق  حالة من عدم اليقين في أسواق النفط العالمية، نتيجة المخاوف من إنقطاع تلك الإمدادات، وهو ما تؤكده تجارب قريبة، حين تم حظر النفط العربي خلال الفترة 1973- 1974م، وإبان الثورة الإيرانية 1978- 1979م، والحرب الإيرانية العراقية عام 1980م، وحرب الخليج الأولى 1990- 1991م، وتبعتها ارتفاعات في أسعار النفط العالمية، نتيجة ما يعرف  بعلاوات المخاطر في السوق، واحتياطات التحوط التي تفرضها الشركات المنتجة للنفط،  والاختلالات في  قوى الطلب والعرض.

ورغم أن تأثير الحرب في غزة على الأوضاع الاقتصادية في المنطقة والأسواق المالية العالمية وتدفق رؤوس الأموال وحركة التجارة العالمية، لا يزال محدودًا حتى الآن، إلا أن اتساع نطاق الحرب وامتداده لدول أخرى ومناطق أخرى، سيرتب أوضاعًا اقتصادية مختلفة تمامًا، خاصة لو طالت الحرب إيران، حيث يخشى من عواقب وخيمة لن تقتصر على أسعار النفط، بل ستمتد إلى التأثير على جهود البنوك المركزية في العالم لمكافحة التضخم العالمي، وعودة ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، ومن ثم ارتفاع تكاليف الإقتراض من الأسواق العالمية.  وعادة ما يكون التأثير الاقتصادي الأطول أجلاً أكثر تعقيدًا، وقد يكون من الصعب التنبؤ بالتأثيرات الدائمة التي قد تخلفها الأحداث المأساوية على سلوك المستثمرين.

وتنبئ التجارب التاريخية السابقة بما يمكن أن يحدث في أعقاب الصراعات المسلحة من تغيرات في الأجل القصير في أسعار السلع الأساسية، كالنفط، والغاز، والحبوب، والذهب، وأسعار الفائدة العالمية وتدفقات رؤوس الأموال، لكن أثر الحروب لا يقف عند هذا الحد حيث تحدث تداعيات بعيدة الأمد من خلال التأثير في بيئة الأعمال العالمية، والنظام الاقتصادي العالمي، ومصالح القوى العظمى.

ومن هنا يتوقع  أن تدعم الحرب الحالية  التوجه الحاصل نحو تراجع نظام التجارة العالمي متعدد الأطراف، وتأكيد النزعة نحو الإقليمية، والذي يترجم في شكل تجمع البريكس، والتوجه الصيني نحو الغرب الآسيوي وإفريقيا، وسعي الهند لفرض وجودها في الاقتصاد العالمي من خلال مبادرة الممر الاقتصادي مدعومة من الغرب في مواجة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبالتالي فإن توسع الصراع المطول بين إسرائيل وفلسطين، وخاصة مع تورط القوى الإقليمية الكبرى، من شأنه أن يزيد من التعجيل بعملية إعادة التنظيم الدولي هذه وأن يخلف عواقب ضارة على النمو الاقتصادي العالمي.

ولا شك في أن اندلاع الحرب على غزة قد  كشف القناع عن مواقف القوى الإقليمية الكبرى وحالة الاستقطاب العالمي الحالية، ودعمت مساعي الخروج عن النظام  الاقتصادي الدولي،  كما تأثرت الأسواق المالية العالمية تحسبًا لاحتمالات التصعيد، وتترقب البنوك المركزية الكبرى تطورات الحرب وأسعار النفط مخافة معاودة الاتجاهات التضخمية من جديد، بعد أن بدأت تأخذ اتجاهات تنازلية بعد عامين من الارتفاع المستمر في أسعار المستهلكين.

ويتوقف تأثير الصراع الأخير بين إسرائيل وحماس على الأسواق المالية العالمية على مشاركة قوى إقليمية كبرى أخرى، وإذا ظل الصراع محصورا بين إسرائيل وحماس، فربما يكون التأثير محدودًا وقد يكون قاصرًا على البلدان التي تتعرض بشكل مباشر للتجارة مع إسرائيل أو فلسطين، أو تعتمد على السياحة العالمية مثل مصر والأردن، أما إذا امتد الصراع إلى الدول الرئيسية المنتجة للنفط في المنطقة مثل إيران، فقد يواجه الاقتصاد العالمي عواقب وخيمة حيث قد ترتفع تكاليف الطاقة بالنسبة للشركات والأسر إذا انقطعت الإمدادات.

ومن الممكن أن يقدم لنا التاريخ بعض الرؤى حول الكيفية التي قد يحدث بها التأثير على الاقتصاد العالمي في ظل هذه السيناريوهات المختلفة، على سبيل المثال، لم يكن للحرب التي دامت خمسين يومًا بين إسرائيل وحماس في عام 2014م، والتي أسفرت عن مقتل 2200 شخص، أغلبهم من المدنيين، تأثير يذكر على الاقتصاد العالمي أو الأسواق المالية، ومع ذلك، عندما وقعت اشتباكات بين إسرائيل وحزب الله في لبنان في عام 2006م، ارتفعت أسعار النفط عالميًا بسبب المخاوف من صراع أوسع في الشرق الأوسط.

وفي ظل هذه الظروف، يستعد المستثمرون بالفعل لزيادة التقلبات المالية في مختلف القطاعات من الأسهم والسندات الحكومية إلى أسواق السلع الأساسية إضافة إلى التحول نحو الأصول الآمنة مثل الذهب الذي يستخدم عادة كحماية ضد حالة عدم اليقين الاقتصادي السائدة، وقد ارتفع سعر الذهب في أعقاب التصعيد الأخير في الصراع الإسرائيلي / الفلسطيني، وسوف تستمر الأسواق المالية في مراقبة الصراع بين إسرائيل وحماس تحسبًا لعلامات التصعيد، أو أي تطورات من شأنها أن ترفع أسعار النفط و إلى زيادة المخاوف من إرتفاع معدلات التضخم العالمي، خاصة  مع اتجاه العديد من البلدان إلى إبطاء التضخم من جديد بعد عامين من الارتفاع المستمر في أسعار المستهلكين.

ويكشف استمرار الصراع العربي / الإسرائيلي عن عجز الحكومات والمنظمات الدولية عن إقرار السلام، وسيدفع الجميع تكاليف الحرب وسيعانون من تبعاتها الاقتصادية والتي من أهمها تحول مسار التجارة العالمية وتوقف حركة السياحة، وتحد من تدفقات رؤوس الأموال وتزيد وتيرة الهجرة غير الشرعية، كما تتسبب في إضعاف التعاون بين البلدان، وهو ما يؤثر سلبًا على الرخاء العالمي.

الآثار الاقتصادية للحرب على منطقة الخليج

من المؤكد أن الحرب في غزة، رغم محدوديتها  حتى الآن من حيث النطاق الجغرافي، وحتى على المستوى العسكري، ستترك أثارًا اقتصادية على الإقليم لن تقل أهمية عن آثار الحرب الأوكرانية، فالمحيط الجغرافي لغزة، مرتبط بطبيعته بالعالم الخارجي، من خلال التجارة الدولية، خاصة صادرات النفط والغاز  من دول الخليج العربية، و التدفقات السياحية إلى بلدان مثل مصر والأردن ولبنان، وإذا كانت السياحة الوافدة قد تأثرت بالفعل في المنطقة، فإن الحرب بين حماس وإسرائيل، تهدد خطط التنمية التي تسعى لها دول مجلس التعاون، مستهدفة تنويع اقتصاداتها بعيدًا عن مصدر الطاقة غير المتجددة، والتي تحتاج انفتاحًا على العالم وتدفقًا للاستثمارات الأجنبية والتقنيات العالمية، وتنفيذ قدر كبير من الاستثمارات لبناء قواعد انتاجية في قطاع الصناعات التحويلية لتنويع اقتصاداتها بعيدًا عن النفط والغاز.

وتتطلب رؤى 2030م، التي تقوم عليها خطط التنمية الاقتصادية في دول الخليج العربية استقرارًا  في المنطقة، وهواتجاه تقوده المملكة، والذي في سبيله أعادت بناء علاقات جوار مع إيران، وبدء محادثات تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل، وتأتي هذه الحرب في منتصف الطريق  مما يولد مخاوف من إبطاء عملية بناء اقتصادات متنوعة النشاط في دول المنطقة، وهو ما يتطلب ليس فقط جهودًا تنموية كبيرة، بل يستلزم جوارًا مستقرًا، حيث من الصعب تنفيذ استثمارات ضخمة في البنية الأساسية وفي بناء قواعد إنتاجية واستكمال خطط الإصلاح الاقتصادي في منطقة لا يعمها السلام والاستقرار.

وتعتبر المنطقة أهم منتج للطاقة في العالم، وتشير إحصاءات الطاقة العالمية لعام 2023م، أن منطقة الشرق الأوسط تحتوي على 48٪ من الاحتياطيات العالمية المؤكدة وأنتجت 33٪ من نفط العالم في عام 2022م، كما أن 20% من إمدادات النفط العالمية مرت عبر مضيق هرمز، الذي يتعرض الأن لتهديدات واسعة.

وتتزايدالمخاوف  من امتداد الحرب خارج  محيط غزة، ومن ثم تأثر إمدادات الطاقة للغرب،  ويشير البنك الدولي إلى أن صدمات الطاقة السابقة كانت مؤلمة للغاية، حيث ترتب على غزو العراق للكويت في عام 1990م، ارتفاع متوسط أسعار النفط بعد ثلاثة أشهر بنسبة 105 %، وأدى الحظر النفطي العربي في الفترة 1973-1974م، إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية بنسبة 52 %، وتسببت الثورة الإيرانية عام 1978م، في زيادة أسعار النفط بنسبة 48 %، وبما أن المنطقة تمثل ما يقرب من ثلث إمدادات النفط العالمية، فإن أي عدم استقرار يمكن أن يخلق حالة من عدم اليقين في السوق استنادًا إلى المخاوف بشأن انقطاع إمدادات النفط العالمية.

ورغم أن التأثيرات المترتبة على  الحرب في غزة على أسعار النفط لا تزال محدودة حتى الآن، خاصة في ظل تنوع مصادر الإمدادات العالمية، وارتفاع الاحتياطي الاستراتيجي، وتراجع الأهمية النسبية للنفط العالمية في مدخلات الطاقة العالمية، لكنه سيظل حيويًا باعتبارة وقود نقل حيوي، كما أن الغاز  الطبيعي المسال من منطقة الخليج، يمثل جزءًا أساسيًا من إمدادات الغاز العالمية، وبالتالي فإن أي اضطرابات في هذه الإمدادات ستؤثر بشكل كبير على أسعار الطاقة العالمية ومن ثم على الناتج العالمي من السلع والخدمات وعلى مستوى التضخم العالمي، وارتفاع أسعار السلع المصنعة و المواد الأولية الأخرى والسلع الغذائية.

ووفقاً للسيناريوهات المتوقعة حول إمدادات النفط فإن انقطاع الإمدادات على نطاق صغير سيخفض العرض بما يصل إلى 2 مليون برميل يوميًا (حوالي 2 % من العرض العالمي)، وعلى نطاق متوسط سيخفض العرض بما يتراوح بين 3 و5 ملايين برميل يوميًا، بينما سيؤدي انخفاض كبير في الإمدادات إلى خفضها بما يتراوح بين 6 و8 ملايين برميل يوميًا. وتقدر أسعار النفط المقابلة لهذه السيناريوهات على النحو التالي 93 دولارًا و102 دولار و109 دولارات و121 دولارًا و141 دولارًا و157 دولارًا على التوالي، أي أن السيناريو الأسوأ سيدفع بالأسعار الحقيقية نحو ذروتها التاريخية، وإذا تم إغلاق مضيق هرمز، فإن النتائج سوف تكون أسوأ بكثير، حيث لا يزال العالم يعيش في عصر الوقود الأحفوري، وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأميركية.

دوافع  تطوير المبادرة السعودية العربية للسلام

على الرغم من أن الحروب قد تتأجج لأسباب عديدة سياسية وجغرافية واقتصادية وحتى ثقافية فإن السلام دائمًا ما يكون مدفوعًا بأسباب اقتصادية قبل كل شيء، ويرجع ذلك ببساطة إلى أن الحرب بصرف النظر عن نتائجها العسكرية والسياسية، فمن المؤكد أن محصلتها النهائية خسائر اقتصادية، بما فيها خسائر قوة العمل، والموارد الطبيعية وعناصر البنية التحتية وتراجع معدلات الاستثمار والنمو الاقتصادي، ناهيك عن نفقات إعادة ما دمرته الحرب، أو التعويضات التي قد ترتبها اتفاقات السلام.

غالبًا ما تلعب التوترات الجيوسياسية العالمية دورًا محوريًا في التاثير على السلوك الاقتصادي للأفراد والمنشآت بل والحكومات، وتشير نتائج الأبحاث أن المخاوف بشأن مثل هذه القضايا من الممكن أن تدفع الأفراد والشركات نحو تفضيل الحاضر عن المستقبل فتنخفض المدخرات، وتنكمش الاستثمارات وتقل موارد الحكومات من الإيرادات الضريبية، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى الركود الاقتصادي.

لذا فإن من أهم دوافع السلام في أي منطقة هو تأثير العوامل الاقتصادية، حين تتصرف الأطراف المختلفة من أفراد ومنشأت وحكومات برشد اقتصادي ساعين للمزيد من الدخول والأرباح، مما ينعش الأحوال الاقتصادية، كما يساعد الاستقرار الحكومات على توفير نفقات الحرب وتجنب تكاليف عدم الاستقرار، وتحقيق مكاسب عديدة تترتب على الاستقرار مع استتباب السلام، حيث تتفرغ الحكومات للانفاق على رفاهة الشعوب، ويزدهر الاستثمار، وتتدفق الأموال بين الدول، وتتوسع التجارة الدولية، وترتفع معدلات التنمية والنمو الاقتصادي العالمي.

وإذا كانت هناك مكاسب يحققها البعض جراء الحروب وعدم الاستقرار، فإن منافع السلام والاستقرار تعم أرجاء العالم وليست قاصرة على شعوب المنطقة، وهناك العديد من المكاسب الاقتصادية التي تدعوا إلى تطوير المبادرة السعودية العربية للسلام مع إسرائيل وحل القضية الفلسطينية، منها ما يتعلق بدول المنطقة ، كما أن مصالح الأطراف الفاعلة الخارجية تتلاقي مع مصالح دول المنطقة ذاتها، بما فيها طرفي الصراع .

فالمضي قدمًا في خطط الإصلاح الاقتصادي  في دول الخليج، يستلزم تطوير مبادرة السلام السعودية العربية تمشيًا مع تداعيات الحرب الحالية، واستمرارًا لالتزام المملكة تجاه القضية الفلسطينية، فضلاً عن كونها تمثل متطلبًا أساسيًا لاستئناف محادثات التطبيع مع إسرائيل وتحقيق الاستقرار والأمن اللازمين لاستكمال مسيرة التنمية الاقتصادية، وتوفير بيئة مواتية لتنفيذ استثمارات طويلة الأجل محليًا، وجذب استثمارات أجنبية مباشرة تسهم في دعم خطط التنمية بدول المنطقة وبدون السلام يصعب استكمال المشروعات النهضوية طويلة الأجل بالمنطقة.

ومما يؤكد أهمية تطوير المبادرة السعودية العربية أن المملكة تأتي في قلب المنطقة، وتضع خططها التنموية الطموحة في طليعة الأطراف المعنية بالسلام، مع إدراك حقيقة المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تتحقق على المديين القصير والطويل. ورغم أن تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي صراع سياسي وعسكري في المقام الأول إلا أن البعد الاقتصادي يقف في خلفية كل منها، سواء بسبب الخسائر أثناء اندلاع الحرب أو المكاسب عقب الهدنة وإقرار السلام، وإذا كان من المحتمل أن تتغير صيغة المبادرة السعودية العربية للسلام، في أعقاب تبعات الحرب الحالية، فإن البعد الاقتصادي لا يجب أن يغيب، في تشكيل صيغة السلام، الذي يجب أن يكون، دائمًا ومستدامًا، ويضمن فرصًا متساوية لكل شعوب المنطقة في صنع مستقبلها، وبدون إدراك ذلك لن تتحقق لهما الاستدامة.

لذلك فعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين من الزمن على المبادرة السعودية العربية للسلام مع إسرائيل، وما طرأ على المنطقة من تداعيات نتيجة الحرب القائمة على غزة، فستظل دوافع السلام أقوى من هدير قنابل الحرب، والخسائر البشرية التي لا تعوض خاصة على الجانب العربي، ولا تنبع دوافع السلام من مصلحة دول المنطقة فحسب، بل إن الحرب الحالية أكدت أن كل الأقطاب لهم مصلحة، في استقرار السلام وقيام الدولة الفلسطينية.

فمصالح الأمريكان في المنطقة تاريخية، واستراتيجية في آن واحد، ولا تقتصر على نفط الخليج، بل أصبحت ضرورة في مواجهة عمليات التوغل القادمة من الشرق الآسيوي، بزعامة الصين، والمزاحمة التاريخية من جانب روسيا الاتحادية، لذلك وجدنا أمريكا طرفًا رئيسيًا في اتفاقية الممر الاقتصادي الهندي، رغم بعدها الجغرافي عن أراضيها، لكنها محاولة للتواجد مستغلة رغبة الهند في منافسة الصين، ودعمًا لحلفائها في الخليج وفي إسرائيل، والتي يمر خلال أراضيها الممر ، ومن غزة تحديدًا، ودعمًا للغرب بطبيعة الحال التي ينتهي عندها الممر الاقتصادي.

ولم تغب المصالح الاقتصادية الصينية عن المشهد، حيث يعتمد المد الصيني نحو غرب آسيا ونحو إفريقيا من خلال مشروع الحزام والطريق على الدعم السعودي والإماراتي، ومحاولة استقطاب دول المنطقة لتحالف البريكس، والسعي لوضع بديل للنظام الاقتصادي الغربي ومؤسساته متعددة الأطراف من خلال تقوية هذا التحالف، واستقطاب دول المنطقة العربية، ومن هنا لاحظنا الموقف السياسي الصيني الداعم لغزة، والداعي لوقف الحرب، والدمار، ومساندة القضية الفلسطينية في المحافل الدولية بالجمعية العمومية للأمم المتحدة وغيرها

خلاصة القول ينظر الاقتصاديون للسلام والاستقرار باعتبارهما من المنافع العامة العالمية، حيث تعم المنافع كل دول العالم، وترتب فترات ازدهار الاقتصاد العالمي بفترات السلام العالمي، من ناحية أخرى فإنه لا يوجد بلد محصن من مضار الصراعات أينما كانت، كما أن تبعات الحروب تؤثر على حياة البشر في مختلف أنحاء العالم من خلال آثارها السلبية على الاقتصاد العالمي، الذي تعرض لسلسلة من الصدمات على مدى السنوات الأربع الماضية: كوفيد-19، والتضخم في مرحلة ما بعد كوفيد-19، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، يضاف إليها الحرب في غزة.

وقد أثبتت الصراعات الإقليمية السابقة والحالية أن ما يسببه العنف من آثار على الرفاهية الإنسانية والاقتصادية لا يقتصر على الدول الداخلة في الصراع، كما تشير دراسة البنك الدولي مؤخرًا إلى أن الصراعات والعنف تتسبب في فترات ركود اقتصادي طويلة، وارتفاع معدلات التضخم، وإرباك مسارات التجارة العالمية، وتدهور أوضاع المالية العامة للدول، بجانب الخسائر في الأرواح، وهذه تحديات جسيمة تتطلب قيام الحكومات بدورها القيادي من أجل وضع حد لهذه الصراعات، وإعتبار السلام والاستقرار في عداد السلع العامة العالمية، وعلى المنظمات المالية الدولية، تمشيًا مع المهام المنوطة بها، وضع السلام والاستقرار في صدارة جدول أعمالها.

وبالإضافة لما سيترتب على تلك الحرب من نتائج خاصة بالأمن وشكل الدولة الفلسطينية، فيجب أن يأخد تطوير المبادرة السعودية العربية في الاعتبار ضرورة توفير مقومات الدولة من أرض، وسكان، وحكومة، تعمل كلها من أجل أن تتاح لهذا الشعب أن يستغل موارده البشرية والطبيعية والتقنية في تحقيق حياة كريمة، اعتمادًا على ما ينتجه على أرضه من سلع وخدمات من خلال النشاط الاقتصادي، وتعيد تعمير ما دمرته الحرب من المنشآت السكنية والإدارية والطرق والمرافق والمنشآت.

كما يجب أن تأخذ المبادرة في اعتبارها أيضًا أن فك الترابط الذي كان قائمًا مع الاقتصاد الإسرائيلي سوف يعرض الجانب الفلسطيني لمخاطر اقتصادية سلبية إضافية قد تتفاقم إذا استمر تصعيد جولات الصراع بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أن نسبة كبيرة من قوة العمل الفلسطينية كانت تعمل خارج غزة والضفة، في إسرئيل، ولن يكون ذلك متاحًا في أي تسوية قادمة، مما يعني أن الأوضاع الاقتصادية ستتأثر لفترة إنتقالية طويلة تتخطى فترة إعادة الإعمار، حين كان الإنفاق الاستهلاكي داعمًا للنمو الاقتصادي في القطاع، نتيجة زيادة عدد الفلسطينيين العاملين في إسرائيل، وحيث يكسب العمال أكثر من ضعف متوسط الأجر اليومي في الضفة الغربية، وساعد ذلك أيضًا على زيادة إيرادات السلطة الفلسطينية بشكل كبير، بفضل زيادة النشاط الاقتصادي ونجاح الجهود الرامية إلى توسيع القاعدة الضريبية، ومن المتوقع أن يستمر تشديد الأوضاع  بعد أي تسوية قادمة بعد أن تضع الحرب أوزارها.

مقالات لنفس الكاتب