بات الأمن الاقتصادي في صدارة المناقشات حول السياسات في الوقت الذي أدت فيه مجموعة من الأزمات – جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا في الآونة الأخيرة – إلى انقطاعات في سلاسل الإمداد العالمية، وتعكف الحكومات حول العالم على تحري السبل لجعل البلدان أقل عرضة لتلك الانقطاعات، لا سيما في الوقت الحالي الذي تضيف فيه الاضطرابات الجغرافية-السياسية المتصاعدة بعدًا جديدًا إلى حالة عدم اليقين السائدة، وفي هذا الصدد، أصبحت إعادة توطين الأنشطة والتوريد من الدول الصديقة من التوصيات الشائعة على مستوى السياسات، وزاد الحديث عن التفكك العالمي، مع تصاعد الانتقادات الموجهة لقواعد منظمة التجارة العالمية القائمة على نظام متعدد الأطراف، وظهرت الدعوات لمزيد من التعاون الإقليمي على حساب النظام متعدد الأطراف
يتسع مفهوم الأمن الاقتصادي للأمن المائي والأمن الغذائي، وهما من القضايا الهامة بالنسبة لدول مجلس التعاون نظرًا لشح المياه عمومًا في المنطقة، ومن ثم ضعف إمكانات الزراعة، ويحتاج كلاهما معالجات خاصة، أما الأمن الاقتصادي بمفهومه الضيق فينصرف إلى توفر قدرات ذاتية في شكل أصول إنتاجية متجددة ومتراكمة ذاتيا ( مشروعات في مختلف الأنشطة الاقتصادية تضم آلات ومعدات وتجهيزات رأسمالية مادية وبشرية) قادرة على تخريج قيمة مضافة، وتوليد الدخل والثروة بشكل مستمر، تتراكم مع مرور الزمن وتتسع، وتزيد قدراتها على إنتاج قيمة مضافة في شكل سلع وخدمات منتجة وتوليد الدخل والثروة.
لذا سنتناول هنا أبعاد الأمن الاقتصادي، ثم نعرض لعدد من التهديات الاقتصادية التي تواجه دول المنطقة، وسبل تحقيق الأمن الاقتصادي بدول مجلس التعاون
أولًا: أبعاد الأمن الاقتصادي لدول مجلس التعاون
رغم حتمية تحقيق الأمن الوطني جيو-سياسيًا، وحماية حدود البلاد وسلامة أراضيها ومواطنيها من التهديدات والأخطار الداخلية والخارجية، وتحقيق السيادة والاستقرار، إلا أن تحقيق الأمن الاقتصادي، وتوفير الحماية للبلدان من التهديدات والأخطار الاقتصادية الخارجية، أصبحت تحظى باهتمام الدول والمنظمات العالمية، مع تعدد مصادر الأخطار الاقتصادية.
وقد عرفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأمن الاقتصادي بأنه الحالة التي تمكن الأفراد أو الأسر أو المجتمعات المحلية من تلبية احتياجاتهم الأساسية وتغطية المصاريف الإلزامية بشكل مستدام يحترم كرامتهم، وتشمل الاحتياجات الأساسية الطعام والماء والمأوى واللباس وأدوات النظافة الشخصية بالإضافة إلى القدرة على تغطية مصاريف الرعاية الصحية والتعليم، وينصرف هذا المفهوم إلى تأمين الفئات الهشة في أي مجتمع، ويدخل في اهتمام الحكومات ووظائفها الأساسية لحماية هذه الطبقات، وتوفير حياة كريمة لهم.
وتحت عنوان الأمن الاقتصادي مطلب حيوي في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء صدر أول تقرير عن مكتب العمل الدولي عام 2004م، وتطرق إلى تأثير العولمة على الأمن الاقتصادي، وكان من اللافت للنظرأن القوة الاقتصادية للدول لا تضمن مراكز متقدمة في عناصر الأمن الاقتصادي التي شملت 90 دولة من دول العالم وشارك فيها أكثر من 48 ألف عامل يمثلون 86% من سكان العالم، حيث أتت الولايات المتحدة في المركز 25 تسبقها 19 دولة أوروبية، و3 دول من أوروبا الشرقية، واحتلت تونس المركز 49 سابقة الجزائر ثم لبنان في المرتبة 54.
وتمثلت عناصر الأمن الاقتصادي، في تأمين الدخل الفردي، والعنصر الثاني يتعلق بأمن سوق العمل واستقرارها في تقديم فرص عمل وفقًا لمتطلبات الاقتصاد من جهة وتبعًا لليد العاملة الملتحقة بهذه السوق من جهة أخرى، والعنصر الثالث هو التكوين المهني أو ما أشار إليه تقرير مكتب العمل بظاهرة “الفقر التربوي” وهي ظاهرة تمنع قسمًا هامًا من الشعوب من بلوغ مستوى التعليم الأساسي.
أما صندوق النقد الدولي وفي عدد يونيو 2023م، من مجلة التمويل والتنمية وفي مقالة تحت عنوان ركائز الأمن الاقتصادي، فقد ركز على الأخطار التي نجمت عن الانقطاعات الأخيرة في سلاسل الإمداد، وأشارت إلى أن الأمن الاقتصادي بات في صدارة المناقشات حول السياسات في الوقت الذي أدت فيه مجموعة من الأزمات – جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا في الآونة الأخيرة – إلى انقطاعات في سلاسل الإمداد العالمية، وجعل الحكومات حول العالم تعكف على تحري السبل لجعل البلدان أقل عرضة لتلك الانقطاعات، لا سيما في الوقت الحالي الذي تضيف فيه الاضطرابات الجيو-سياسية المتصاعدة بعدًا جديدًا إلى حالة عدم اليقين السائدة.
ثانيًا: التهديدات الاقتصادية التي تواجه دول مجلس التعاون
- أخطار لعنة الموارد الطبيعية أو المرض الهولندي
لا يزال ارتكاز اقتصادات دول مجلس التعاون على النفط والغاز أكبر التحديات التي تواجهها داخليًا و يعرضها للصدمات الخارجية، كما حدث في التباطؤ الاقتصادي العالمي الذي نتج عن جائحة كوفيد -19 وما ادت إليه من انخفاض أسعار خام برنت من 64 دولاراً للبرميل في بداية العام 2020 إلى 23 دولارًا في أبريل 2020م، وقد ترتب على ذلك ضغوطًا كبيرة على الأوضاع المالية لدول المنطقة وأثرت سلبًا على الموازنات العامة وتسببت في تحقيق عجوزات مالية، كان على الحكومات مواجهتها، من خلال الاستعانة بأصول مالية بقيمة ألف مليار دولار كفوائض متراكمة على مدى عقود واستثمرتها في صناديق الثروة السيادية للأجيال المقبلة لمقابلة هذه العجوزات.
ومن ثم فإن أكبر الأخطار الداخلية التي تواجه اقتصاديات المنطقة تكمن في مدى استدامة عائداتها من النفط والغاز، فعلى المدى الطويل، ستنفد احتياطات النفط والغاز في نهاية الأمر، وتعتبر البحرين وعمان الأقرب إلى ذلك، حيث تشير توقعات البنك الدولي أن تنفد الاحتياطات في غضون العقد المقبل لدى البحرين وفي غضون 25 سنة لدى عمان.
ولا تتوقف التهديدات عند عملية النفاذ بل من المتوقع على المدى المتوسط أن تنخفض العائدات من النفط إزاء التراجعات في الطلب العالمي ابتداء من العام 2040م، تقريبًا، بسبب ارتفاع الطلب على الطاقة المتجددة وتقليل الاعتماد على مصادر الوقود الأحفوري ( النفط والغاز)، والتحسينات في كفاءة الطاقة وتخزينها في الدول الصناعية المتقدمة التي لا تألوا جهدًا في ذلك، وقد قدر صندوق النقد الدولي قبل الجائحة منتصف العقد القادم كنقطة تحول في عوائد النفط والغاز، ما لم تطبق دول مجلس التعاون الخليجي إصلاحات مالية واقتصادية جوهرية، وتتحول إلى اقتصادات قادرة على توليد قيمة مضافة بعيدًا عن الثروة النفطية.
ومن هنا صارت عملية التنويع الاقتصادي في دول مجلس التعاون هدفًا استراتيجيًا تسعى لتحقيقة ، ويعني ذلك، ببساطة، أن يتم إفساح المجال وتحفيز القطاع الخاص أفرادًا ومنشآت، بإقامة طاقات وأصول إنتاجية في مجالات النشاط الاقتصادي بعيدًا عن قطاع الهيدركربون، وتوفير فرص عمل عالية الإنتاجية، وتوليد قيمة مضافة، وتحقيق مستويات دخل عالية للعمالة عالية المعرفة والمهارات، بعيدًا عن التدخل الحكومي المباشر، بحيث تتنوع مصادر الدخل والثروة بعيدًا عن النفط والغاز، ويمكن للحكومة أن تجد مصادر للإيرادات العامة، بعيدًا عن الفوائض البترولية، في المستقبل، بفرض ضرائب سواء على الدخل أو الإنفاق والثروة عندما تنضب مواردها من النفط والغاز.
2-المخاطر والتهديدات الاقتصادية الخارجية
تتميز دول مجلس التعاون بارتفاع درجة انفتاحها على العالم الخارجي، مما يعرضها لعدد من الأخطار الاقتصادية الخارجية الناشئة عن تصدع نظام التجارة العالمي متعدد الأطراف، تحكمه قواعد منظمة التجارة العالمية، وفيما يلي نعرض لعدد من تلك التهديدات التي لها انعكاسات على الأمن الاقتصادي لدول المنطقة.
هناك ما لا يقل عن ثلاثة أسباب تفسر الدور الحيوي لحرية التجارة، في تحقيق الرخاء العالمي وفق قواعد منظمة التجارة العالمية متعدد الأطراف، أولًا، تساهم التجارة في زيادة الإنتاجية من خلال التوسع في توزيع العمل بين البلدان، وثانيًا، تتيح التجارة نمو الاقتصاد المدفوع بالتصدير من خلال التمكين من النفاذ إلى الأسواق الأجنبية، وثالثًا، تؤدي التجارة إلى تعزيز الأمن الاقتصادي من خلال إتاحة خيارات خارجية قيمة للشركات وقطاع العائلات حال وقوع صدمات سلبية.
ظهر في الآونة الأخيرة اتجاه عام نحو التشتت الجغرافي-الاقتصادي بعيدًا عن قواعد التجارة متعددة الأطراف هو ما يشكل تحديًا كبيرًا سيكون له عواقب اقتصادية بعيدة الأثر على البلدان في جميع أنحاء العالم ويهدد بحدوث خسائر في مستويات المعيشة العالمية لا تقل حدة عما أحدثته جائحة كوفيد-19، وحرب روسيا وأوكرانيا، لذلك تبرز تعزيز نظام التجارة العالمي وتحديثه، حيث سيكون بمقدورنا التغلب على هذه التحديات والحفاظ على المكاسب الكبيرة التي تتحقق من التكامل الاقتصادي.
وقد تعرض الاقتصاد العالمي برمته لآثارها السلبية، فبسبب الغزو الذي أدى إلى تعطيل الإنتاج في أوكرانيا، وفرض بلدان الغرب عقوبات على روسيا، تقلصت الإمدادات العالمية من السلع الأولية الرئيسية، وفي غضون أيام قليلة، بلغت أسعار الطاقة والأغذية وبعض المعادن مستويات غير مسبوقة، تسببت البيئة الجغرافية-السياسية الحالية في إحداث تغيير سريع في مشهد التجارة العالمية، أما البيئة السياسية التي كانت سائدة منذ عقود قليلة مضت فتبدو وكأنها ذكرى بعيدة، فخلال فترة الإصلاح في تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فتحت الاقتصادات النامية واقتصادات التحول أسواقها وتبنت العولمة، وشهدت تلك الفترة إنشاء منظمة التجارة العالمية، وإنشاء نظام للتجارة غير التمييزية قائم على قواعد، وتميزت هذه الفترة أيضًا بغياب التوترات الجغرافية-السياسية حيث ركزت الصين على النمو وكافحت روسيا من أجل تحقيق الاستقرار.
يواجه العالم بعد عدة عقود من التكامل الاقتصادي العالمي المتزايد، خطر التفتت الجيو - اقتصادي المدفوع بممارسات تخرج عن قواعد النظام متعدد الأطراف، ويمكن القول أن خطر التفتت الاقتصادي أصبح واقعًا، والتي يمكن أن تكون لها عواقب بعيدة المدى على العلاقات الاقتصادية الدولية، كما أن التوترات التجارية آخذة في الزيادة، وتظهر أولى علامات التفتت في أن نظام التجارة يعاد صياغته تدريجيًا على أسس جيوسياسية، وتباطأت تجارة السلع وفق الاتفاقات متعددة الأطراف بنسبة 4-6 % مما كانت عليه منذ بداية الحرب في أوكرانيا، مما يشير إلى تحول نحو التجارة البينية للتكتلات الإقليمية ( أو ما يعرف بدعم الأصدقاء)
وعمدت العديد من الدول لإقامة نظم الدفع الثنائية والإقليمية لتعزيز التجارة الإقليمية والحد من التعرض لتقلبات أسعار الصرف، وارتبطت في معظمها باتحادات جمركية وأنظمة دفع تستهدف خفض تكاليف المعاملات ( أمريكا اللاتينية)، وتنسيق سياسات أسعار الصرف الرامية إلى وقف التقلبات الكبيرة في أسعار العملات وسياسات إفقار الجار، واستهدفت بعض الآليات إنشاء عملة موحدة أوسياسات موحدة لأسعار الصرف فيما بين البلدان الأعضاء (إفريقيا)، ومع ذلك فقد ظلت هذه المحاولات إلى حد كبير في مرحلة ما قبل التنفيذ، كما يعتبر التوسع في دعوى الانضمام إلى مجموعة البريكس، ذروة الدعوات للاستقطاب العالمي بعيدًا عن النظام الاقتصادي العالمي ومنظمات بريتون وودز، حيث لا تقتصر الأهداف على التعاون التجاري الإقليمي بل تمتد لإنشاء مؤسسات مناظرة، ولا نقول حتى الأن بديلة، لمؤسسات بريتون وودز خاصة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فضلًا عن اقتراح أسس بديلة للتبادل التجاري وخلق عملة موحدة لتسوية المدفوعات البينية، أو اقتراح طرق للتسويات الثنائية واعتماد العملات الوطنية في التعامل.
ويخلق عدم مصداقية النظام التجاري متعدد الأطراف وعدم التزام الدول الكبرى بالسياسات التي تتوافق مع متطلبات قواعد نظام التجارة متعدد الأطراف أضرارًا بالدول النامية والصاعدة التي تضع استراتيجيتها على أساس من التعددية في العلاقات الاقتصادية الدولية، ويخلق حالة من عدم اليقين بشأن السياسات التجارية وتقويض التدفقات التجارية.
مما لا شك فيه أن هناك تحول معاكس لفكرة التعاضد الاقتصادي والتجارة الدولية، ففي أعقاب الأزمة المالية العالمية، ازدادت القيود وإعانات الدعم التجارية، كما اشتد تصاعد التوترات نتيجة تدافع الحكومات لتأمين سلاسل الإمداد الاستراتيجية وتنفيذ سياسات عاجلة أدت إلى تشويه التجارة في مواجهة الجائحة والحرب الروسية في أوكرانيا. وقد تنشأ عن المغالاة في تنفيذ هذه الإجراءات سياسات قائمة على التحالفات من شأنها تقويض كفاءة الاقتصاد وتفكيك النظام التجاري العالمي، بل وربما أتت هذه الإجراءات بنتائج عكسية إذا ما أصبحت سلاسل الإمداد القصيرة أكثر عرضة لتداعيات الصدمات المحلية. وقد ازداد تركز الاستثمار الأجنبي المباشر بالفعل بين البلدان التي تربطها تحالفات جغرافية-سياسية.
وفي هذا السياق، يمكن أن يتكبد الاقتصاد العالمي تكلفة هائلة من جراء التفكك، فحسب الأبحاث الصادرة عن منظمة التجارة العالمية، قد يؤدي سيناريو ينقسم فيه العالم إلى كتلتين تجاريتين منفصلتين إلى تراجع قدره 5% في إجمالي الناتج المحلي العالمي. وفي الوقت نفسه، تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الخسائر العالمية من جراء التفكك التجاري قد تتراوح بين 0,2% و7% من إجمالي الناتج المحلي. وقد تزداد التكلفة نتيجة التباعد التكنولوجي، ويقع الخطر الأكبر على اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل نتيجة فقدان المنافع المتأتية من انتقال المعرفة.
ولن يتوقف مدى سوء الأمور على حجم القيود المفروضة على التجارة ومدى انقسام البلدان إلى تكتلات فحسب، فعملية تصحيح الأوضاع نفسها يمكن أن تنطوي على صعوبات بالغة، ففي حالة حدوث تشتت بشكل سريع، فسيكون تكيف سلاسل الإمداد معه ذا تكلفة باهظة. وسيعني هذا الأمر أيضًا خسائر أكبر في إجمالي الناتج المحلي العالمي، تبلغ نحو 7% إذا كانت تكاليف عملية التصحيح كبيرة إلى حد بعيد.
إن الاتجاه العام نحو التشتت الجغرافي-الاقتصادي يشكل تحديًا كبيرًا سيكون له عواقب اقتصادية بعيدة الأثر على البلدان في جميع أنحاء العالم. إلا أنه بتعزيز نظام التجارة العالمي وتحديثه، سيكون بمقدور العالم التغلب على هذه التحديات والحفاظ على المكاسب الكبيرة التي تتحقق من التكامل الاقتصادي.
ثالثًا: سبل تحقيق الأمن الاقتصادي بدول مجلس التعاون
استقر الفكر الاقتصادي بأن البلدان التي لديها إيرادات وفيرة من النفط والموارد الطبيعية الأخرى غالبًا ما تحقق مستويات أقل من النمو الاقتصادي وتعاني من مشكلات اجتماعية أكبر بالمقارنة مع البلدان التي تتمتع بموارد أقل – وهي الظاهرة التي عُرفت باسم لعنة الموارد.
وتركز فرضية لعنة الموارد على الآثار السلبية طويلة الأجل على الاقتصادات الناجمة عن فوائض تصدير الموارد الطبيعية. وعلى سبيل المثال، يشير ما يطلق عليه المرض الهولندي إلى حدوث طفرة في قطاع النفط والغاز تؤدي إلى إزاحة قطاع الصناعات التحويلية وخفض نمو الإنتاجية في معظم قطاعات النشاط الاقتصادي الأخرى، وقد يؤدي تقلب حصيلة التصدير والفوائض المتأتية من الموارد الطبيعية إلى الإضرار بالماليات العامة.
يتطلب تحقيق الأمن الاقتصادي التحول من الاعتماد في توليد الدخل وتكوين الثروة على الفوائض البترولية، والتي يعتبرها الاقتصاديون دخولًا ريعية، ناتجة من وفرة من الموارد متمثلة في النفط والغاز، ومع ارتفاع أسعارها في السوق العالمية، ترتب فوائض مالية، تمكن الحكومات من القيام بوظائفها التقليدية من الدفاع والأمن والعدالة، وتوفير عناصر حديثة من البنية الأساسية، والمرافق العامة من مطارات وموانيء وطرق وجسور، واتصالات، وتوفير مجموعة من الخدمات الاجتماعية الأساسية للسكان من تعليم وصحة، ورعاية اجتماعية.
التحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة
ويعتمد جوهر نجاح استراتيجية بناء قطاعات مستقلة فعلًا عن النفط والغاز، وابتعادها عن القطاعات المعومة بالهيدروكروبون، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة القطاع الخاص، فنيًا وماليًا، بحيث يعتمد على التمويل الذاتي من فوائض أعمال الشركات، وأن يلج مجالات للتصنيع للتصدير، وليس مجرد الإحلال محال الواردات، حتى لا يستكين للسياسات الحمائية تحت دعاوى الصناعات الناشئة، ودعمها بقوة عمل معرفية عالية المهارات، بجانب سياسة تشغيل تربط بين الأجر والإنتاجية، ودعم رواد الأعمال، وربط الجامعات بالصناعة للمزج بين القدرة على الابتكار في المراكز البحثية والقدرة على التنفيذ من رواد الأعمال
وكما يشير تقرير البنك الدولي عن تحول الاقتصادات العربية World Bank, 2013 فإن النموذج الاقتصادي الذي يقوم على المعرفة والابتكار يمكن أن يستجيب مباشرة وبشكل متزامن مع التحديات التي تواجه الاقتصادات العربية، وعلى رأسها التنافسية والولوج إلى سلاسل القيمة المضافة العالمية.
ويقوم ذلك على أساس ما يتسم به ذلك النموذج من سمات، فالعمليات الديناميكية للمعرفة وخلق فرص عمل عالية الإنتاجية والدخل، تخلق إمكانات جيدة لتحسين عمليات النمو وزيادة التنافسية في نفس الوقت، من خلال زيادة المدخلات من العمالة عالية التقنية، وتوفير جانب من المحاور الأساسية في متطلبات التنافسية العالمية.
ونظرًا لارتكاز الاقتصادات الوطنية في دول مجلس التعاون على عدد محدود من السلع المصدرة، هي بالأساس موارد طبيعية أو منتجات لا تحتاج عمليات تحويلية واسعة، فإنه يصعب عليها أن تقيم استراتيجية النمو والتنمية بها على الصادرات وحدها كما فعلت دول شرق آسيا في وقت سابق، وبالتالي يصبح من الضروري تطوير الأسواق المحلية جنباً إلى جنب مع الأسواق التصديرية. وحيث تسعى دول المنطقة نحو التحول من اقتصاد مرتكز على النفط إلى اقتصاد قائم على المعرفة لخلق فرص تشغيل وإعادة للداخلين الجدد من الشباب، والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط، ومن ثم تحتاج إلى استراتيجية عملية للاقتصاد المعرفي وإصلاح القطاعات ذات العلاقات خاصة التعليم وقطاعات الأعمال من أجل تحقق ذلك النمو.
وهناك إدراك واسع بين الدول على أن أهم متطلبات الاقتصاد القائم على المعرفة يتمثل في توفير نسبة عالية من قوة العمل الحاصلين على التعليم الجامعي، والذين لديهم الفرصة للحصول على التعليم مدى الحياة Lifelong Learning، مما يؤثر على معدلات القيد والمشاركة في التعليم الجامعي. وقد توسعت العديد من الدول في التعليم العالي، وشمل ذلك دول منظمة OECD، وكانت كندا أول دولة تحقق هدف الوصول إلى نسبة 50% من السكان في سن 25-34 سنة ممن يدخلون سوق العمل ولديهم شهادات جامعية، تليها كوريا، التي حققت معدلات نمو غير مسبوقة في خريجي الجامعات المؤهلين بالمعرفة والمهارات منذ عام 1991م.
إقامة دولة الرفاه الاجتماعي
ينصرف مفهوم دولة الرفاه إلى قيام الحكومات بدور أساسي في حماية الفئات الهشة، والمعرضة لخطر الفقر، من خلال تخصيص قدر مناسب لا يقل عن 25% من الناتج المحلي سنويًا لأغراض شبكة الحماية الاجتماعية. والتي تتمثل في نظم متطورة لدعم الفقراء، حيث توجد دائمًا فئات تحتاج لمساعدات مجتمعية من اليتامى والأرامل والعجزة، والمعدمين وكبار السن، والمرضى بأمراض مزمنة، وغيرهم، ووضع نظام للتأمين الصحي الشامل، يساهم في تمويله العاملون، وأرباب الأعمال، فضلًا عن نظام التأمينات الاجتماعية لمقابلة أخطار الوفاة أثناء العمل، والمرض، والعجز، والتقاعد.
ولعل من أهم ركائز الأمن الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي، إعادة صياغة أدوار القطاعات الرئيسية في النشاط الاقتصادي وتوليد الثروة، من خلال إعادة صياغة ادوار القطاع الحكومي، والقطاع العائلي، وقطاع المنشآت، وفي ظل اقتصاد السوق والحرية الاقتصادية في دول مجلس التعاون، يجب إفساح المجال للقطاع العائلي وقطاع المنشآت، وإشراك المواطنين في جهود توليد الثروات وتنوع الهيكل الاقتصادي، والقيام بعمليات الادخار والاستثمار على المستوى الفردي والمؤسسي، وتكوين أصول إنتاجية في أنشطة إنتاجية توفر فرص عمل للأجيال الداخلة لسوق العمل، وتنتج سلعًا وخدمات وتولد قيمة مضافة ودخول، مع تغيير النظرة للقطاع الحكومي ليقوم بدوره في توفير السلع العامة التقليدية من الدفاع والأمن والعدالة وحفظ الحقوق وإنفاذ القانون، وتوفير شبكة أمان اجتماعي عصرية، يقتصر فيها الدعم على الفقراء، مع توفير نظام متطور للتأمينات الاجتماعية، والتأمين الصحي.