array(1) { [0]=> object(stdClass)#13490 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 196

التعايش السلمي في الرؤية الخليجية معادل وسط وحل موضوعي للتناقضات من أجل السلام العالمي

الأحد، 31 آذار/مارس 2024

إن هذه المقالة لا تبحث في قضية المعضلة الأمنية، التي تواجه دول المنطقة، والمترتبة على تدافع وتعارض رؤى القوى الإقليمية والدولية لكيفية تحقيق الأمن الإقليمي الخليجي كل حسب منظوره في ظل اختلاف وتشابك المصالح فحسب، وإنما تركز على سعي دول الخليج لتعزيز مبادئ التعايش السلمي والاحترام المتبادل مع دول العالم. وكيف لهذا الهدف، الذي تتوخاه الرؤية الخليجية، أن يُفَعَّل، ويسهل تطبيقه؛ سواء بالجهود الخليجية، التي بدأت مبكرًا، أو بالتعاون مع الجهات المعنية في العالم، وعلى رأسها التكتلات الكبرى والدول العظمى. وذلك بغية تخفيف التوترات الثقافية والدينية والصراعات الاجتماعية والسياسية، التي تسود العالم وتغذيها الحروب الإقليمية، إضافة إلى التنافس على النفوذ ومحاولات الاستقطاب لإعادة تشكيل النظام الدولي الجديد. لذلك، فإن التعددية المعيارية، المُشَارُ إليها في هذه المقالة، قد تؤدي إلى تعقيد أي جهود لإحياء وإصلاح وإعادة ترسيخ نظام دولي مفتوح ومقيد بالقواعد يجسد ويعزز القيم الإنسانية، التي تتمسك بها مجتمعات ودول الخليج. وبدلاً من عودة هيمنة نظام عالمي أحادي، قد يكون الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو الظهور المتزامن لأنظمة فرعية مميزة متداخلة داخل نظام عالمي أكثر شمولاً، ولكن أرق من الناحية المعيارية، مثلما تميزت الحرب الباردة في الفترة من 1947 إلى 1989م، بكتل ديمقراطية واشتراكية متنافسة. وضمن إطار عالمي للأمم المتحدة، التي سعى العديد من أعضائها في مرحلة ما بعد الاستعمار، بدرجات متفاوتة من النجاح، إلى تجنب الانحياز إلى أي من الجانبين، فيما عُرِفَ بـ"حركة عدم الانحياز"، والتي ما تزال لافتاتها تُرفَعُ بين الحين والآخر.

وغني عن القول إن النظام الدولي، الذي نشأ بالفعل من الحرب العالمية الثانية، قد انحرف بطرق مهمة عن هذا المخطط. فيما أجبرت البداية السريعة للحرب الباردة الولايات المتحدة وحلفاءها على تعديل الأممية الليبرالية لتتوافق مع ظهور القطبية الثنائية وضرورات الاحتواء المتصورة. وعلى نحو مماثل، أدت عملية إنهاء الاستعمار المفاجئة في السابق إلى تحويل تركيبة الأمم المتحدة، وتزويد البلدان النامية بمنصة للمقاومة والسعي إلى إعادة تشكيل المعايير والقواعد الدولية، بما في ذلك تلك، التي تحكم الاقتصاد العالمي. وعلى الرغم من هذه التعديلات المهمة، استمرت الخطوط العريضة للنظام الدولي المتعدد الأطراف، حتى أصبح من المحتمل أن يصبح عالميًا مع زوال الاتحاد السوفييتي. والسؤال اليوم هو: ما هي القواعد الرئيسة للنظام العالمي في عام 2024م، وما مدى صحتها فيما يلي قضايا التعايش السلمي؟ ويتناول هذا المقال ملامح عامة حول الوضع الحالي للمبادئ والمعايير وقواعد سلوك الدولة المتعددة الأطراف عبر رؤية مجلس التعاون لدول الخليج العربية للقضايا العالمية، وفي مقدمتها تعزيز التعايش السلمي. مع الاعتراف بوجود خلافات معيارية كبيرة بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة حول المسؤوليات المناسبة للحكومات ذات السيادة والحدود المرغوبة للحوكمة العالمية، التي تُمَكِّن للاستقرار والتعايش والحد من العنف، والتي تبدأ باحترام السيادة وعدم التدخل والسلامة الإقليمية.

مبدأ السيادة:

يظل المبدأ الأساس للنظام العالمي، كما كان الحال منذ عقود، هو الاعتراف المتبادل بالسيادة، أو السلطة السياسية العليا لدولة ما لحكم أراضيها والتمتع بالامتيازات القانونية كعضو كامل ومتساوي ومستقل في المجتمع الدولي. والنتيجة الطبيعية للسيادة هي مبدأ عدم التدخل، كما هو منصوص عليه في المادتين 2.4 و2.7 من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يحظر على الدول الأخرى؛ أو في الواقع الأمم المتحدة نفسها، انتهاك، أو التهديد بانتهاك السلامة الإقليمية، أو الاستقلال السياسي لأي دولة ومن التدخل في شؤون تدخل في نطاق اختصاص الغير. ولكن رغم ذلك، فمن المؤكد أن السيادة لم تكن قط عالمية، أو غير قابلة للتغيير، أو مطلقة، إذ لم يكن الأمر كذلك إلا بعد أن بدأت عملية إنهاء الاستعمار تمضي على قدم وساق مع مطالبات الدول المُسْتَعْمَرَة بحقوقها السيادية. على سبيل المثال، حيث تم تقسيم معظم سطح الأرض بأكمله، باستثناء القارة القطبية الجنوبية، إلى دول إقليمية مستقلة. كما تطورت التزامات وصلاحيات السيادة وتقلبت استجابة للتوقعات المحلية والدولية المتغيرة. ومن الناحية العملية، فضلًا عن ذلك، فإن كافة الدول تناضل من أجل ممارسة جوانب من سلطتها السيادية في عالم مترابط. غير أنه على الرغم كل المحاذير، تظل السيادة المبدأ الأكثر حراسة في النظام العالمي.

ومع ذلك، فإن السيادة وعدم التدخل معرضان للتهديد، وذلك بفضل اتجاهين مختلفين تمامًا: عودة إمبريالية القوى العظمى وتغيير التوقعات بشأن مسؤوليات الدول ذات السيادة نفسها. فقد انتهك الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير 2022م، أحد المبادئ الأساسية للقانون الدولي، الذي ينص على أنه لا يجوز لأي دولة أن تسعى إلى تغيير حدود دولة أخرى بالقوة. إن الجهود، التي بذلها الغرب للإيقاع بروسيا، والتي تنبأ بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فَعَمَدَ لتقطيع أوصال أوكرانيا بضمه شبه جزيرة القرم والاستيلاء على منطقة دونباس من قبل قوات بالوكالة في عام 2014م، وتُعَد الهجوم الأكثر جرأة على سيادة دولة أخرى منذ استيلاء صدام حسين على الكويت في عام 1990م، وغزو أمريكا والغرب للعراق، في عام 2003م. ولأن الحالتين تنطويان على قرار قوتين عظميين؛ روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتوابعهما، سيكون له آثار خطيرة على النظام العالمي، والتعايش السلمي، والاستقرار الدولي. وهذا يجعل إحجام العديد من البلدان النامية عن إدانة العدوان الروسي؛ رغم أنه مفهوم لأسباب تاريخية واستراتيجية، أمراً مُضَاعِفًا للقلق. ومن خلال غض الطرف، فإن هؤلاء الذين يقفون على الحياد اليوم لا يخونون أوكرانيا، أو حتى غزة فحسب، بل إنهم يقوضون أي ادعاء بالتعايش السلمي، أو الأمن الجماعي من خلال الأمم المتحدة.

بيد أننا نشهد العديد من الانسحابات من العقود والمعاهدات الدولية في السنوات الأخيرة، مثل خطة البرنامج النووي الإيراني، ومعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى بشأن الحد من الأسلحة، واتفاق باريس بشأن تغير المناخ، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وما إلى ذلك. وقد تم زعزعة استقرار المنظمات الدولية القائمة مثل منظمة التجارة العالمية. وفي أعقاب التحول السياسي الأخير في الولايات المتحدة والتزامها المعزز بالعلاقة عبر الأطلسي، فإن "النظام الدولي" في المستقبل قد يكون مزيجاً من المنافسة والتعاون بين القوى الكبرى. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى مزيج من الترتيبات، مثل تعاون البلدان بشأن التحديات المشتركة، إلى جانب التعاون الجديد للشبكات، التي تشمل البلدان والجهات الفاعلة من غير الدول ودون الدول، التي توفر النسيج للتعاون الدولي بشأن قضايا محددة، مثل التنمية المستدامة والتطوير، أو "الرقمنة"، كاتجاه عام لتدافع الأحداث والتصورات.

كُلِّيَة الأمن:

يُدْرِك مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن الأمن الإقليمي كل لا يتجزأ من الأمن العالمي، لذلك قام المجلس الوزاري، خلال دورته الأخيرة الـ (158)، التي عقدت في الفترة بين 3 إلى 5 ديسمبر 2023م، بتحديث صياغة رؤيته لكل ما يتعلق بتحديات هذا الأمن الإقليمي، وإعطاء دفعة كبيرة للعمل المشترك في ظل الصراعات المتجددة، خصوصاً في البحر الأحمر وقطاع غزة. وخَلُصَ إلى رُؤية خليجية موحدة أكدت التمسك بـ"حل الخلافات عبر التفاوض والحوار، وتكثيف الجهود لتجنيب المنطقة تداعيات الحروب". وفي سياق الصراع الدائر على خلفية الحرب في قطاع غزة، اتفقت دول المنظومة على "دعم جهود تفعيل مبادرة السلام العربية والجهود الدولية لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية"، بالتزامن مع العمل على "تطوير القدرات الذاتية وتعميق الشراكات للحفاظ على الأمن البحري وأمن الممرات المائية". كما أن الرؤية تضمنت كذلك "تكثيف جهود المحافظة على منظومة عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتعزيز جهود مكافحة الإرهاب والتطرف بجميع أشكاله ومظاهره، وتجفيف منابعه ومحاصرة تمويله"، إضافة إلى العمل على "إيجاد الحلول الفاعلة للتعامل مع تحديات التغير المناخي، وتنفيذ نهج الاقتصاد الدائري للكربون، وتعزيز مبادئ التعايش والاحترام المتبادل مع دول العالم". واستندت رؤية المجلس إلى مرجعيات مثل "النظام الأساس لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، واتفاق الدفاع المشترك، ومبدأ المصير المشترك لدول مجلس التعاون، وأن أمنها كل لا يتجزأ"، وذلك في إطار سعي إلى تحقيق أهداف أشمل نحو استقرار المنطقة والإقليم وازدهار الدول وشعوبها، وتعزيز الأمن والسلم الدوليين.

لقد أعاد التصعيد، التي تشهده منطقة الشرق الأوسط؛ غزة والبحر الأحمر، منذ مطلع العام الجاري، طرح المزيد من الجدل حول الإشكاليات المركبة، التي تهدد الأمن الإقليمي والخليجي، كما فرض تساؤلات حول طبيعة رؤى الأطراف الفاعلة في المنطقة حول هذه المسألة. ويشكل الأمن في المنطقة هاجساً دولياً في ظل المخاوف من تمدد الحرب في غزة إلى نطاق أوسع؛ بعد ازدياد المناوشات مع حزب الله في جنوب لبنان، والضربات الإسرائيلية في العمق السوري، ومسيرات المليشيات العراقية على الأردن وسوريا، وبعد استهداف الحوثيين المعابر المائية في البحر الأحمر، ما دفع الأنظار تتجه إلى الرياض والقاهرة وعمان، لبحث أهم القضايا الأمنية والإقليمية، والاتفاق على استكشاف فرص التعاون في هذه المجالات. إذ إن الحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الأوسع يمثل أولوية رئيسة لمجلس التعاون. ومصلحة مشتركة مهمة مع جامعة الدول العربية والدول الأعضاء فيها، وغيرها من المنظمات الدولية والشركاء الإقليميين. إن عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الأوسع له تأثير مباشر على المصالح الأمنية والاقتصادية لدول الخليج العربية، ولا يتردد صداه في جوار الخليج فحسب، بل يمتد أيضًا في مجالات أخرى ذات اهتمام مشترك مثل القرن الإفريقي ومنطقة الساحل. والتفاعل النشط لبعض دول الخليج مع ما يجري في هذه المجالات الجيواستراتيجية، يوضح بجلاء أن الاستقرار الدائم في الجوار الأوسع لهذه الدول سوف يتطلب تعاوناً وثيقاً معهم، رغم كل ما يجلبه من حساسيات.

إن دول الخليج مُدْرِكَةٌ لحقيقة أنه ليس من الممكن رسم مستقبل العلاقات الدولية بدقة من طرف واحد، لأنه في السياسة الدولية، غالباً ما يتبين أن الواقع يختلف عن التكهنات. لكن ما يُدْرِكَهُ العالم بالمقابل أن دول الخليج قوة متنامية، ولها من الإمكانيات ما يجعل من المرجح أن تنمو بشكل متزايد التأثير على النظام الدولي اقتصاديًا وسياسيًا. وهذا الأمر قد يتضمن ممارسات غير مألوفة للكثيرين، مما يثير التساؤل عما إذا كانت هذه الممارسات تعني حقًا وجودًا ما لانتقال وشيك إلى حقبة جديدة في توازنات النظام العالمي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن ظهور جهات فاعلة جديدة يجب أن يؤدي أيضًا إلى ظهور مبادئ فاعلة جديدة، وفي مقدمتها مبدأ التعايش السلمي. وبما أن ممارسات الدول العظمى لا تبشر بنظام قانوني دولي جديد، فلابد أن تفعل دول الخليج قُصَارَى جهدها لحث القوى المختلفة لمراجعة مبادئها. وليس أدل على ذلك من مواقف المملكة العربية السعودية، ودول الخليج الأخرى، من موضوع "الكراهية الدينية"، وما قامت به من جهود قادت لموافقة هيئة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في يوليو 2023م، على إجراء يدعو الدول إلى بذل المزيد من الجهد لمنع الكراهية الدينية في أعقاب حرق نسخ من القرآن الكريم في السويد. وجاءت الموافقة على القرار تتويجًا لجهودٍ متناسقة، دعت رئيس مجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي للإشادة بهذا الإجراء، ودعا الدول إلى اتخاذ خطوات "لمنع ومحاكمة الأفعال والدعوة إلى الكراهية الدينية، التي تشكل تحريضاً على التمييز، أو العداء، أو العنف". وقالت السعودية إن الموافقة على القرار، الذي جاء بعد مطالبات قوية من المملكة وعدد من دول العالم، تعد تجسيدًا لمبادئ احترام الأديان والثقافات وتعزيزًا للقيم الإنسانية، التي يكفلها القانون الدولي. وأشارت المملكة إلى أنها ستواصل كافة جهودها الداعمة للحوار والتسامح والاعتدال، وترفض كل الأعمال الهدامة، التي تسعى إلى نشر الكراهية والتطرف. وأضاف جاسم البديوي أن دول مجلس التعاون الخليجي تسعى دائمًا إلى تعزيز التسامح والتفاهم المتبادل بين الثقافات والأديان المختلفة، وأكد على احترام حرية المعتقد الديني باعتبارها أحد أهم أسس حقوق الإنسان والتعايش السلمي بما يمكن الجميع من ممارسة شعائرهم الدينية. الإيمان بحرية دون تمييز.

نهاية الأحادية:

لقد فشلت الفكرة، التي استخدمت كنموذج سياسي منذ نهاية الحرب الباردة، المتمثلة في خلق عالم أحادي القطب يتقدم من خلال التجارة العالمية. في أعقاب العدوان الروسي على أوكرانيا، ترفض العديد من الدول في إفريقيا، أو من بين دول البريكس، التي انضمت إليها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وجمهورية مصر العربية، والتي يتم دفعها إلى أحد المعسكرين. وقد تسارعت المواجهة الملموسة بين الأنظمة السياسية المتعارضة، والأنظمة المحافظة مقابل الليبرالية. إن الواقع الجيوسياسي الجديد، حيث الكثير من الأمور في حالة تغير مستمر وغير واضح، يمكن أن يخلق مساحة لظهور روايات واستراتيجيات جيوسياسية متنوعة، التي تسعى القوى المختلفة بشكل متزايد إلى تحقيق مصالحها الخاصة من خلالها. لذلك، فإن العالم المتعدد الأقطاب هو الواقع الجديد، حيث يفتقر إلى التماسك في المصالح الجيوسياسية. وتقوم بعض القوى بموازنة علاقاتها مع الكتل المتصارعة. وتتنافس قوى مثل الاتحاد الأوروبي والصين على إقامة علاقة جيدة مع الدول الأخرى على مستوى العالم، من خلال مبادرات مثل "البوابة العالمية"، ومبادرات "الحزام والطريق". وتشمل المصالح الكامنة وراء العلاقات الجيدة وجهات نظر تنموية مسؤولة، ولكنها تشمل أيضًا تسوية المصالح الجيواقتصادية والجيوسياسية، بما في ذلك خلق الاعتماد الاقتصادي والمالي، والتأثير في الهيئات الدولية عبر شركائها، والوجود العسكري، وما إلى ذلك.

لقد تتبعنا أنه على مدى العقد الماضي، أعرب عدد لا يحصى من صناع السياسات والنقاد الغربيين عن أسفهم لتآكل النظام الدولي القائم على القواعد، وفي الوقت نفسه، تركوا أسئلة صعبة دون إجابة. والأكثر وضوحًا، ما هي القواعد، التي نتحدث عنها بالتحديد؟ ما هي المجالات، التي تغطيها، وما هو نطاقها وعمقها؟ أين تكون القواعد الحالية كافية، وأين تحتاج إلى التحديث، أو التخلص منها، أو إنشائها من جديد؟ لذلك، يجدر بِنا أن نسأل عما الذي قد يعنيه هذا الاتجاه، وما الذي يجب أن تكون دول الخليج على دراية به، وما الذي يمكنها دراسته بمزيد من التعمق؟ وكيف يمكن للخليج أن يوازن بين طموحاته للمضي قدماً في التقدم في السوق الموحدة ومع الاتفاقيات الثنائية مع دول ثالثة للحفاظ على قدرتها التنافسية، مع تعزيز دور منظمة التجارة العالمية؟ وكيف يمكن أن يدعو إلى نظام عالمي متعدد الأطراف وقائم على القواعد، من دون الوقوع في مرمى نيران القوى العالمية؟ وكيف يستطيع أن يستعد لعالم متعدد الأقطاب في ظل قدر أقل من التضامن الدولي ونشوء قوى جديدة؟ وكيف يمكن تعزيز جهوده في بناء شراكات أكثر مساواة مع البلدان في جميع أنحاء العالم وإعادة صياغة علاقته مع الجنوب والشمال؟ وأخيرًا، أين تتقارب، أو تتباعد مواقف اللاعبين العالميين الرئيسيين بشأن مثل هذه الأمور، وهل هناك احتمالات لتضييق الفجوات القائمة؟

وإذا أردنا أن نُعِين الإجابة حول ما تقدم من استفسارات تأسيسية ببعض الأفكار، فإننا نقول إن هذه الأسئلة تبدو منفصلة، ​​لكنها تشترك في سمة عامة، أو شيء يؤشر على الاتساق فيما بينها، إذ يكشف كل منها عن خلاف حول المبادئ والقواعد، التي ينبغي أن تحكم سلوك الدول ذات السيادة وتحدد التزاماتها في السياسة العالمية، إذ أصبحت مثل هذه الحلقات شائعة بشكل متزايد. والواقع أن مثل هذا التنافس المعياري أصبح سمة مميزة للعلاقات الدولية المعاصرة، مما يقوض الأسس المؤسسية للنظام العالمي ويشكل عوائق كبرى أمام التعاون المتعدد الأطراف في وقت يتسم بالاضطرابات العالمية والمواجهة بين القوى العظمى. فقد اشتد النقاش حول حالة النظام العالمي ومستقبله في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022م، الذي يفسره العديد من المراقبين على أنه حدث محدد لطبيعة العصر. وبينما ينتظر هجوم موسكو والاستيلاء اللاحق على أراضي جارتها ذات السيادة تقرير أهميته القصوى حكم التاريخ، فإن العدوان الإسرائيلي على غزة ينتهك كل المبادئ الأساسية للقانون الدولي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، مما يهز الأسس المؤسسية الضعيفة بالفعل للنظام الدولي المفتوح، الذي روجت له الولايات المتحدة وأقرب حلفائها، بعد عام 1945م، وسعت إلى عولمته بعد نهاية الحرب الباردة. ورغم أن هذا النظام المتعدد الأطراف كان دائمًا غير مكتمل وغير متساو، فإنه سهّل ظهور شيء غير مسبوق تاريخيًا؛ أي شبكة كثيفة ومتوسعة من المؤسسات الدولية، بما في ذلك المعاهدات والمنظمات والأطر الجماعية، التي سمحت بدرجة متزايدة من الإدارة الجماعية، بل وحتى الحكم، عبر مجالات عالمية متعددة.

عند مفترق الطرق:

لقد أصبح من الواضح الآن أن المستقبل الجيوسياسي للعالم لن يتشكل على صورة الغرب، ولكن ما سوف يكون عليه المستقبل هو موضع نقاش، لا نحسب أننا سنحسمه قريبًا. لكن المؤكد أن فكرة الهيمنة العالمية والعالم الأحادي القطب فقدت تأييدها، ومن الواضح أننا ننتقل إلى عالم متعدد الأقطاب. فما هي مراكز القوى الكبرى، أو "الأقطاب"، والخصائص المميزة لهذا العالم الناشئ المتعدد الأقطاب؟ وهل ستكون ديناميكيات النظام المتعدد الأقطاب مختلفة عن تلك، التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال؟ نحن نعيش في عالم عولمي متقدم تكنولوجيا ومترابط بشكل متزايد؛ فهل هذا سوف يقوم بإحداث التغيير؟ وهل يتمكن النظام الاقتصادي العالمي القائم على السوق المفتوحة من النجاة من النظام الجديد؟ فهذه الأسئلة وأمثالها لا تزال بحاجة إلى إجابة. ولكن، في عالمنا الناشئ متعدد الأقطاب، تبدو الولايات المتحدة والصين وروسيا وكأنها مراكز القوى العسكرية العالمية الرئيسة، على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال القوة المهيمنة. وقد ارتقت العديد من الدول الأخرى إلى مكانة القوة الإقليمية، ولم تتحالف بشكل وثيق مع هذه القوى العالمية. إذ إن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في آسيا، والمنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا في أوكرانيا وأوروبا بشكل عام، هي أمثلة على الصراع على السلطة بين القوى الكبرى. وهذه الصراعات على السلطة تشكل عالمنا. فهل نعود إلى سياسة "القوى العظمى"؟

ويُشيرُ الاتجاه العام إلى حتمية التغيير في القيم والاحتياجات، الذي تحركه القوى ويتجلى بالفعل بطرق مختلفة داخل مجموعات معينة في المجتمع. فبعد سقوط جدار برلين، كانت هناك عقلية مهيمنة في الغرب تقوم على الاعتقاد بأن التنمية الاقتصادية من خلال العولمة ستؤدي إلى التقارب نحو القيم الليبرالية والسياسية والاقتصادية. وبدلًا من ذلك، أصبحت اتجاهات جيوسياسية أخرى حقيقة واقعة، في نفس الوقت، الذي أصبحت فيه التحديات العالمية العابرة للحدود؛ مثل، الأزمات الصحية، أو المناخ، أكثر وضوحًا وإلحاحًا. فالاتجاهات الجيوسياسية؛ مثل، تنامي النزعة القومية، أي دعم المصالح الخاصة للأمة، مع استبعاد الآخرين في كثير من الأحيان؛ والحمائية، أي السياسات، التي تقيد الواردات من خلال التعريفات الجمركية و/أو الحصص و/أو الأنظمة لمساعدة الصناعة المحلية. وتهيمن منافسة "القوى العظمى" على المشهد العالمي؛ على سبيل المثال، الولايات المتحدة في مواجهة الصين. وبالتوازي مع ذلك، أصبحت الحاجة إلى التعاون المتعدد الأطراف من أجل اتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة التحديات العالمية العابرة للحدود؛ مثل الصحة، أو أزمات المناخ، التي أصبحت واضحة، وأكثر إلحاحًا وشمولًا.

إن هذا الاتجاه هو جزء من التأثير المتوسع للشرق والجنوب، الذي من مظاهره التطورات، التي تحدث في فئات معينة في المجتمع، والتي تُشير إلى أمثلة للتغيير المرتبط بالاتجاه، الذي يتوقع أن تتخذه الأمور، بما فيها الموقف من التنافس الناشئ بين الولايات المتحدة والصين. ففي أعقاب الأزمة المالية العالمية، برزت الصين كقوة اقتصادية عالمية أكثر حزمًا وثقة بالنفس. وأدى ذلك إلى حرب تجارية وتنافس أيديولوجي ديناميكي. إن المنافسة الاقتصادية والصراع على التجارة والسياسة الاقتصادية والمالية يتم استخدامها الآن لأغراض سياسية. وتتجاوز المنافسات التكنولوجية الجوانب التجارية، لتصل إلى مسألة المعايير الفنية والتنافس الأيديولوجي، على سبيل المثال حول جمع البيانات، فضلاً عن مسائل المعالجة والأمن. التنافس الأيديولوجي بين النظام الاشتراكي في الصين والديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة، وكذلك بين الاقتصادات الاشتراكية، والتي تسيطر عليها الدولة والليبرالية الجديدة، أي تلك، التي تتمتع بتدخل حكومي محدود في القضايا الاقتصادية.

 

خواتيم:

باختصار، تجري الآن مساومات ومنافسات وسباق وصراع محتدم لتشكيل النسيج المعياري للنظام العالمي. وقد اشتدت حدة هذا الصراع بسبب العديد من الاتجاهات الحديثة، من بينها تجدد المنافسة الجيوسياسية، وخيبة الأمل في العولمة الجامحة، وتراجع حماس الغرب لنشر الديمقراطية، وصعود القومية الشعبوية في دوله، وعدم التوافق الواضح والمتزايد بين الترتيبات المتعددة الأطراف الموروثة والقواعد اللازمة للتحكم في التحديات الجديدة. مثل تغير المناخ والذكاء الاصطناعي، وغيرها من القضايا، التي يمكن للرؤية الخليجية أن تكون طوق نجاةٍ لأبعد مما هو خليجي؛ في تركيزها على مبدأ التعايش السلمي كركيزة هامة للأمن الإقليمي والعالمي.

وفي هذا السياق العالمي المضطرب، تستطيع الرؤية الخليجية أن تقدم مساهمتين بناءتين في عملية صنع السياسات على المستويين الإقليمي والعالمي. الأولي؛ هي في تمكن اللاعبين المستقلين تعميق فهم رؤى النظام العالمي المتطور لمختلف الدول، بما في ذلك تفضيلاتهم المتباينة فيما يتعلق بالمعايير والقواعد، التي ينبغي أن تحكم تحديات معينة. وتقوم هذه الرؤية بمحاولة جادة لرسم خريطة للتضاريس الحالية للأمن الإقليمي، وترقى إلى مستوى إجراء مساهمة شاملة لكيفية اصطفاف اللاعبين الرئيسيين، أو اختلافهم حول القضايا الرئيسة، ناهيك عن كيفية تعامل البلدان الأضعف، التي تمثل الغالبية العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ويسعون إلى تحدي النظام، الذي ورثوه من أصحاب السلطة اليوم.

أما المساهمة الثانية، التي يمكن أن تُقدمها الرؤية، والتي تتدفق بشكل طبيعي من المساهمة الأولى، فتكمن في مجال السياسة ومقتضيات التعايش السلمي، لما تهدف إليه من استكشاف واقتراح أفكار واعدة للمؤسسات المتعددة الأطراف الجديدة، أو المتكيفة، والتي تم تصميمها لتتلاءم مع التحديات الإقليمية والعالمية الحالية، ولديها القدرة على سد الفجوات العالمية القائمة، أو على الأقل العمل حولها، ومن خلالها. وللتمسك بجوهر هذه الرؤية، فإن الأمر لا يتعلق بمسح التضاريس المعقدة لرؤى النظام العالمي وتفضيلات القواعد بقدر ما يتعلق بتخطيط طريق عبر هذا المشهد يمكن أن يعزز التعايش السلمي العالمي في القرن الحادي والعشرين.

الأهم من ذلك، أن التحدي، الذي تواجهه الرؤية الخليجية يتمثل في الترتيبات المتعددة الأطراف القائمة، يأتي من ثلاثة مصادر على الأقل، أولاها، من القوى "المؤدلجة" الناشئة، التي تسعى إلى قلب، أو على الأقل مراجعة، القواعد العالمية القائمة لتعكس رؤاها للنظام العالمي وتفضيلاتها الوطنية؛ ومن مجموعة متنوعة من الدول النامية، التي تعتبر النظام الدولي الحالي مُكَرَّسًا ضدها بشكل يائس ويجسد أولويات الرفاهية للرأسمالية الغربية؛ وعلى الأقل في بعض الساحات من داخل الغرب نفسه، حيث تتمرد الأحزاب السياسية والجماهير ضد المؤسسات الدولية الموروثة وتسعى إلى تحويلها، والتي لم تعد تبدو مناسبة للغرض، أو متسقة مع القيم المتطورة، أو قادرة على تعزيز أهداف وطنية محددة بشكل ضيق. الأمر الذي يجعل مبدأ التعايش السلمي، في الرؤية الخليجية، معادلًا وسطًا بين هذه المصادر المتنافسة، وحلًا موضوعيًا لتناقضاتها، من أجل عالم يتنعم فيه الجميع بإيجابيات العيش المشترك، والاستقرار والسلام.

مقالات لنفس الكاتب