تمتاز دول مجلس التعاون الخليجي بقوة الترابط الذي يجمع بينها، وتعدد القواسم المشتركة التي تجمعها، للدرجة التي جعلتها تبدو وكأنها دولة واحدة. ويمتد هذا التماثل ليشمل أوضاعها الاقتصادية المتطورة وما تنعم به من استقرار سياسي، ويعود الفضل في ذلك - بعد الله سبحانه وتعالى - إلى الحكمة التي تميز قادتها وشيوخها، والثقافة التي تجمع بين أبنائها، وتركيبتها السكانية المتجانسة، ورغبة حكوماتها في تحقيق التقدم الاقتصادي لشعوب المنطقة، وتمسكها بتحقيق المساواة بين شعوبها، دون تفرقة سواء على أساس العرق أو اللون أو المذهب، ولعل هذا هو السبب في تحقيق الطفرة الاقتصادية التي تنعم بها، واستتباب الأمن والاستقرار في ربوعها، رغم أن تلك الدول تجاور منطقة أزمات وتحيط بها دول تتعرض لكثير من التقلبات الأمنية والسياسية التي أدت إلى غياب الاستقرار عنها.
ولكن لأن تلك الدول تقع وسط محيط مضطرب، كما أنها بحكم الثروات الطبيعية التي اختصها بها الله تعالى تمثّل مطمعًا لقوى خارجية ترغب في السيطرة عليها وتوجيه ثرواتها لتحقيق أهدافها العدوانية، فقد كان لا بد لقادة هذه الدول من البحث عن استراتيجية شاملة لضمان أمنها الإقليمي وحماية شعوبها.
مأساة إنسانية مؤلمة
خلال دورته الأخيرة الـ 158، خلص المجلس الوزاري الخليجي إلى رؤية موحدة للأمن الإقليمي في المنطقة في ظل الصراعات المتجددة، خصوصاً التنازع الدولي على شواطئ البحر الأحمر واندلاع الأزمة الإنسانية في قطاع غزة نتيجة لمواصلة قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتداءاتها على المدنيين العزل، واستمرار آلة القتل الرهيبة التي حصدت حتى الآن ما يتجاوز 32 ألف قتيل إضافة إلى مئات الآلاف من المصابين والمعاقين والمشردين.
وتتمثل أولى ركائز تلك الرؤية في اتفاق دول المنظومة الخليجية على دعم جهود تفعيل مبادرة السلام العربية والجهود الدولية لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، إيمانًا منها بأن القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين المركزية التي لن تعرف المنطقة سلامًا واستقرارًا إلا بعد إيجاد الحلول العادلة لها، واستعادة الحقوق المسلوبة وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967م، وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين والمشردين الذين تعرضت منازلهم وممتلكاتهم للتدمير والمصادرة.
ظهور أسلحة جديدة
كما أولت الرؤية الخليجية اهتمامًا كبيرًا بتطوير القدرات الذاتية وتعميق الشراكات للحفاظ على الأمن البحري وأمن الممرات المائية، وإبعاد منطقة البحر الأحمر عن الصراعات الدولية والتجاذبات السياسية نتيجة للأهمية الكبرى التي يتمتع بها هذا الممر المائي الهام الذي تمر عبره قرابة 40% من حركة التجارة العالمية.
كما أبرزت الرؤية التوجّه الاستراتيجي لدول المجلس لتنسيق مواقفها نحو الأزمات الدولية الراهنة، في وقت برزت فيه أهمية تعزيز وتفعيل جوانب العمل المشترك للاستجابة لتحديات الأمن الإقليمي، في ظل ما يشهده محيط الخليج من صراعات وبؤر ملتهبة، وتغليبًا للتفاهم الراسخ بين هذه الشعوب بأن وحدة مواقفها واتفاق كلمتها هي الضامن الأساسي لأمنها القومي جميعًا لأنه وحدة واحدة لا تتجزأ.
كذلك فإن ظهور أسلحة جديدة غيّرت الشكل التقليدي للصراعات بين الدول وأدخلت إليها لاعبين جددًا زادت من حاجة دول الخليج إلى مزيد من الوحدة والتكاتف، وهو ما يدركه قادة هذه الدول بدون شك، فالمرافق الحكومية الحساسة في كل دول العالم أصبحت عرضة لأخطار الاختراقات الأمنية، خصوصًا بعد ظهور الحروب الإلكترونية، والإرهاب السيبراني والتجسس، وهي مخاطر لا تكاد أي دولة في العالم تكون بمنأى عنها بفعل تطور استعمال تقنيات المعلومات والاتصالات.
نجاحات واختراقات أمنية
ولا شك أن انعكاسات ذلك على الأمن الوطني والقومي الخليجي والعربي يدفع قادة الدول الخليجية إلى تنسيق خطواتها وتوحيد مواقفها للتصدي لهذا الخطر الداهم، عبر رسم استراتيجيات موحدة وسياسات واضحة على المستويَين الوطني والإقليمي، ووضع أطر لتعاونٍ وثيق وتنسيقٍ دائم وإنشاء هيئات متخصصة تتوافق مع طبيعة هذه التحديات الأمنية الجديدة.
كذلك فقد أثبتت التجارب السابقة نجاح دول مجلس التعاون الحقيقي في تحقيق نجاحات واختراقات أمنية مؤثرة، ليس فقط على صعيدها الداخلي بل على صعيد المنطقة والعالم، وذلك بعد تسخير ما تملكه من مقومات وقدرات اقتصادية وسياسية مؤثرة في السياسة الدولية والاقتصاد الدولي وهو ما مكّنها من الإسهام في إيجاد حلول للعديد من الصراعات والأزمات.
فعلى صعيد الحرب اليمنية مثلاً استطاعت الدول الخليجية بما بذلته من جهود صادقة طيلة السنوات الماضية من عمر الصراع في وضع أسس تكون منطلقاً لإنهاء النزاع. كذلك فإن أبرز الجهود العربية والإسلامية لإيجاد حل تسوية عادلة للأزمة الفلسطينية تنطلق من منطقة الخليج، سواء عبر مجلس التعاون لدول الخليج أو من منظومة دول المجلس، حيث تجد الرؤى الخليجية تفهمًا كاملًا واحترامًا كبيرًا من مؤسسات صنع القرار العالمي مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومن الدول الكبرى.
تبنّي القضية الفلسطينية
لذلك نشطت دول الخليج في مساعيها الرامية لإيجاد موقف عربي وإسلامي موحّد، وتبنت الدعوة إلى حل الدولتين باعتباره الحل الوحيد المقبول الذي يمكن أن يضع حلًا نهائيًا ومقبولًا لكافة الأطراف، ونشطت في إنهاء العدوان الإسرائيلي على فلسطين وتخفيف معاناة المنكوبين، ولأجل ذلك تم عقد القمة العربية -الإسلامية الاستثنائية في الرياض واللجنة الوزارية المتفرعة عنها، وتكثيف حراكها العالمي وعبر مجلس الأمن.
أما على صعيد القضايا العامة التي تهم المجتمع الدولي بأسره، فقد لفتت الرؤية الخليجية كذلك إلى أهمية تكثيف الجهود الجماعية لمحاربة انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتعزيز جهود مكافحة الإرهاب والتطرف بجميع أشكاله ومظاهره، وتجفيف منابعه ومحاصرة تمويله، وزيادة وتيرة العمل لإيجاد الحلول الفاعلة للتعامل مع تحديات التغير المناخي، وتنفيذ نهج الاقتصاد الدائري للكربون، وتعزيز مبادئ التعايش والاحترام المتبادل مع دول العالم.
الالتزام بالمرجعيات المعتمدة
والمتأمل لطبيعة القضايا المذكورة أعلاه يجد أنها ظلت تمثل مبادئ أساسية لكافة دول الخليج العربي، سواء عبر منظومة مجلس التعاون أو على المستوى الفردي للدول، ذلك أن سياسات دول الخليج تقوم على أساس المقاربة مع التوجهات الدولية ولا تنفصل عنها، والمرجعيات الداخلية الراسخة التي تحكم طبيعة عملها، مثل النظام الأساس لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، واتفاق الدفاع المشترك، ومبدأ المصير المشترك لدول مجلس التعاون، إضافة إلى التزامها التام بتنفيذ الالتزامات التي تقطعها على نفسها بموجب المواثيق والمعاهدات الدولية التي توقع عليها.
وبطبيعة الحال فإن دول الخليج – رغم اتفاق كلمتها في القضايا المصيرية واتحادها الذي لا يتزعزع – إلا أن هناك اختلافات تحدث في كثير من الأحيان في وجهات النظر بين مسؤوليها، لكنها اختلافات حميدة، لا تصل درجة الخلاف المؤدي إلى التنازع والشقاق، ولم يحدث في تاريخ المجلس منذ تأسيسه أن تطور أي اختلاف بين قادة الدول ليبحثوا عن حل له من الخارج، بل إن التباين يتم علاجه داخل البيت الواحد، وعدم السماح لأي خلاف أن يصل مرحلة القطيعة.
وحدة الكلمة والاتفاق
وهذا لا يعني بالضرورة التبعية وغياب الرؤى الخاصة، لكن ما دام الجميع قد اتفقوا على وحدة المصير، وتشابه الغايات وتطابق الأهداف، فإن كل تباين في الرأي مصيره إلى الاتفاق، والتوافق، شريطة أن تتم معالجة كل الاختلافات داخل إطار البيت الخليجي الواحد، بأناة وسعة صدر وقدرة على إيجاد القواسم المشتركة.
لذلك فإن محافظة المجلس على بقائه وعلى التوافق بين قادته واتحاد كلمتهم طيلة هذه السنين يمثل دروسًا بليغة في وحدة الرأي، واتفاق المواقف، وتوافق القلوب، وهو ما يؤكد أن هذه الدول كل لا يتجزأ، وأن ما يحدث في الرياض ينعكس فورًا في أبو ظبي والكويت والدوحة والمنامة ومسقط، وما يهم المواطن الكويتي يتشارك فيه السعودي والإماراتي والبحريني والعماني والقطري.
ولا شك في أن استمرار هذا النهج الفريد وتناقله عبر الأجيال من شأنه أن يعزز "تماسك اللحمة التي ظلت تربط شعوب ودول المجموعة، وتمكنها من تأثير إيجابي أكبر في الأزمات المتلاحقة التي يعانيها العالم ومنطقتنا الشرق أوسطية، في ظل قصور بعض المنظومات الأخرى عن القيام بدورها المطلوب، سواء في الجوانب السياسية والتنموية.
تعزيز التعاون الاقتصادي
لذلك فإن المطلوب من قادة دول الخليج في هذه الفترة الحرجة من تاريخها هو رفع درجة التعاون بينها على كافة المستويات، وتعزيز التنسيق الأمني في كافة الملفات، لأن المرحلة المقبلة تستلزم زيادة الانتباه وتكثيف الجهود. ولا بد كذلك من مراجعة كافة الاستراتيجيات الأمنية التي تمت إجازتها في السابق لتنقيحها واستكمال نواقصها حتى تتوافق مع متطلبات العصر الحالي.
كذلك فإن برامج الإصلاح التي تتبعها دول الخليج لا تتوقف عند حدود الأمن والدفاع والسياسة، بل تصل إلى عمق طموحات شعوبها التي تتطلع إلى رفع مستوى التعاون الاقتصادي من مرحلة الشراكة إلى الوحدة والتكامل، فالحاجة ملحة لاستكمال مشروع السوق الخليجية المشتركة، التي تضمن بقاء رؤوس الأموال الوطنية، وتفعيل الصناعة، وتطوير التجارة، وزيادة الاستثمارات. ومع أن كثيرًا من الأهداف الاقتصادية التي طالبت بها الشعوب الخليجية وتمت إجازتها خلال القمم الخليجية السابقة لم يتم تنفيذها بصورة كاملة على أرض الواقع حتى الآن، إلا أن هناك جهود متواصلة لإنجاز تلك المشاريع، مثل التكامل الاقتصادي، والسوق المشتركة والعملة الموحدة.
وحدة المصير المشترك
وتستمد هذه الأهداف أهمية متزايدة في هذ العصر الذي يتزايد فيه اتجاه العالم نحو إنجاز المزيد من التكتلات الاقتصادية، تستطيع تحقيق المصلحة المشتركة. ولعل صدور قرار القمة الخليجية الأخيرة بإنشاء الهيئة الاقتصادية التنموية العليا بهدف الوصول للوحدة الاقتصادية كفيل بتحقيق تلك الطموحات.
ومع توافر الإرادة الخليجية، ووجود القيادة الواعية التي تمزج بين حكمة الشيوخ المعتقة التي يزيدها مرور السنوات قوة وثباتًا، ومع بروز القوى الشبابية الفاعلة التي تمتاز بالحماس والرغبة في تحقيق الإضافة الإيجابية فإن مستقبل دول الخليج يبدو أكثر استقرارًا وثباتًا. كما أن القناعة المتزايدة لدى قادة هذه الدول بوحدة مصير دولهم وأهمية تعزيز التنسيق تشكل ضمانة على نجاح الرؤى الاستراتيجية للأمن القومي المشترك.
وستظل دول الخليج العربي تقدم نموذجًا ناجحًا لبقية الدول العربية في كيفية جمع الصف والتوافق والاتفاق، وهو ما يمثل امتدادًا للنجاحات العديدة التي حققتها تلك الدول في الحقب السابقة والتي تنعكس في تزايد النهضة الاقتصادية التي تشهدها، والاستقرار السياسي الذي تنعم به، بعد أن اختارت طريقة الحكم التي تناسبها، واهتمت قياداتها بالعمل على ترقية واقع شعوبها.