array(1) { [0]=> object(stdClass)#13440 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 196

3 عناصر تهدد الأمن الإقليمي الخليجي إقليمية ودولية وداخلية وإيران في صلبها

الأحد، 31 آذار/مارس 2024

أثناء التحضير لإنشاء مجلس التعاون في بداية الثمانينات من القرن الماضي وكنت أحد كتاب الأوراق الأولى، و برغبة من أمير الكويت الراحل الشيح جابر الأحمد الصباح  ـ رحمه الله ـ  أشار  إلى أهمية أن يكون للمجلس المقترح ( هيئة فض المنازعات)، وكان الدافع لذلك الاقتراح ما كانت تشهده الساحة العربية من خلافات حادة نشأت من عدد من الصراعات طوال العقود الثلاثة السابقة منها  الحرب العربية الباردة في ستينات و سبعينات القرن، ومنها الحرب العراقية / الإيرانية، والتي قسمت العرب تقريبًا إلى قسمين، وأيضًا تاريخ من الصراعات طويلة الأمد بين الأنظمة العربية، وفعلًا تم تضمين وثائق المجلس مقترح لتلك الفكرة، إلا أنه بعد التشاور ظهر أن الأفضل أن تكون الهيئة ( اختيارية) بين الأطراف التي يقع بينها الاختلاف، و أيضًا يتوجب أن يقبل بها الطرفان، فكان ذلك حلًا توافقيًا وقتها عند قيام مجلس التعاون في مايو 1981م.

التجربة الأولى والقاسية كانت عندما أثيرت قضية جزيرة حوار المتنازع عليها بين البحرين و قطر ، وطرح الموضوع في قمة الدوحة عام 1991م، تلك القمة التي كانت تشهد أحداث احتلال العراق للكويت، و كان وقتًا عصيبًا، و بدى أن الطرفان ( البحرين و قطر) غير متفقين على تحكيم محلي، مما اضطر القادة بعد عناء أن ينصحوا بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية، و بعد سنوات من بذل الجهد و المال من الطرفين، حكمت محكمة العدل بحكم كان استشاريًا و غير ملزم ، إلا أن الطرفان استحسنا ذلك الحكم و نزلا على قراره، ذلك كان درسًا قاسيًا لطريقة حل الخلاف بين الأشقاء.

بعد تلك الحادثة نشأ عدد من الخلافات البينية بين بعض دول مجلس التعاون وسببت جروح في الجسم الخليجي، ومن ثم تمت معالجتها، إلا أنها مرة أخرى تركت شيئًا من المرارة وكان للتدخل الشعبي (التلقائي أو الموحى به) من بعض النشطاء بمثابة صب الزيت على النار، مما أورث لفترة كراهية استهجنها العقلاء في عموم الخليج.

لذلك كان لا بد من تفكير جدي في إقامة كيان متفق عليه لحل المنازعات بين الأشقاء متى ما ظهرت حفاظًا على كرامة الأوطان والمواطنين وأيضًا حفظًا للأمن الإقليمي المهدد من قبل عدد من العناصر الخارجية، وحتى الداخلية المرتبطة بالخارج.

عاد مجلس التعاون للاهتمام  المشترك بالفكرة و تنظيمها،  فأصدر مجلس الوزراء الخليجي  (مكون من وزراء الخارجية) وثيقة سماها ( رؤية دول الخليج للأمن القومي) كشف عنها في 26 يناير 2024م،  مستندًا على أربع وثائق سابقة، النظام الأساسي للمجلس، اتفاقية الدفاع المشترك، مبدأ المصير المشترك لدول مجلس التعاون، وأن أمن مجلس التعاون كل لا يتجزأ، و هذه القواعد أو الخلفيات تؤمن بها دول و شعوب المنطقة ، وتفاصيل الوثيقة هي حل الخلاف بالتفاوض، المحافظة على عدم انتشار الأسلحة الذرية، تعزيز مكافحة الإرهاب، تفعيل مبادرة السلام العربية، تطوير القدرات الذاتية والحفاظ على الأمن البحري و الممرات المائية، التعامل مع تحديات التغير المناخي، والوثيقة مسهبة في بيان الضرر من تفاقم الخلافات وتحديد الأهداف المرجوة للوصول إلى توافق، إلا انها خطوة، تحتاج إلى مأسستها من خلال تكوين ( لجنة دائمة) لتفادي تفاقم الخلافات .

 

مصار تهديد الأمن الخليجي:

 

كتب الكثير عن مصادر تهديد الأمن القومي للخليج وهناك سرديات تفصيلية من وجهة نظر الكتاب أو المؤسسات التي تناولت الموضوع، وتتلخص تلك التهديدات في عناصر ثلاث وهي (الإقليمية والدولية والداخلية).

التهديد الإيراني: هناك الكثير من الكتابات تناولت هذا الموضوع بالتفصيل بعضها تكهنات  والأخرى حقائق،  تشير إلى التهديد الإيراني الأمني لدول الخليج، إلا أنه بين يدينا الآن وثيقة لا مجال لإنكارها وهي الكتاب الذي صدر في بيروت بالعربية، وربما كتب بالفارسية قبل الإصدار العربي، الكتاب بعنوان ( صبح الشام) والمؤلف ليس غير الدكتور حسين أمير عبد اللهيان، هو الوزير الحالي للخارجية الإيرانية ( صدر بالعربي عام 2023م ) و ربما قبلها بالفارسية . يقول السيد اللهيان من ضمن ما يقول : ( إن الربيع العربي هو ليس ربيع عربي بل ربيع إسلامي، استمد زخمه من أفكار و تعاليم السيد الخميني)!

ويذهب التحليل إلى أن وجود إيران ونفوذها في سوريا هو بسب موافقة أمريكية ضمنية للوصول إلى اتفاق في الملف النووي! كما يذهب بوضوح إلى القول إن (البحرين هي جزء من الجمهورية الإيرانية، ارتكب النظام البهلوي خطيئة التفريط بها) ولا يترك الغمز فيبين نظرة الإيرانيين الدونية إلى العرب، فيقول في مكان آخر (إن إيران جمعت المعارضة السورية التي تؤمن بالحل السياسي في طهران، ولكن (المشاجرات العصبية ذات الطابع العربي أخذت قسمًا كبيرًا من الوقت)! والإشارة هنا إلى (الطابع العربي) لها معناها!

فالتهديد الإيراني ليس متخيل ولا مضخم، هو حقيقة تظهر في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، وأيضًا في غزة الفلسطينية، فهناك من القوى المسلحة في تلك البلاد من يناصر (المشروع الإيراني)، حتى على مصالح وطنه، كما أن هذا المشروع يستخدم الأرض والموارد العربية للدفاع عن وجوده وضد (الاستكبار الدولي) كما يصفه، أي الدفاع عن إيران في المناطق البعيدة عنها مستخدمًا حزمة من الأيديولوجيا والمال والشعارات لتنفيذ ذلك.

المثال هو ما حدث ويحدث في غزة، والحال واضح فيما نتج عن أحداث 7 أكتوبر في غزة، وما تلاها من حرب شعواء على الشعب الفلسطيني، وهي برمتها خصصت لخدمة المشروع الإيراني، وإرباك العرب وتعطيل التنمية في دولهم.

المراد من عملية 7 أكتوبر إيرانيًا هو:

  • قطع الطريق على اتفاق سعودي/ أمريكي / إسرائيلي، كان يمكن من خلاله بحث الخروج بدولة فلسطينية، على الخطوط العريضة لاتفاقية أوسلو.
  • قطع الطريق على الفكرة الاستراتيجية، وهي المحور اللوجستي الذي اتفق عليه في لقاء مجموعة العشرين، سبتمبر 2023م، (الهند / الإمارات/ إسرائيل ثم أوروبا) بمباركة من الولايات المتحدة.

الفكرة (تحقيق استراتيجية إيران وهي حرب العدو دون الاشتباك معه)!  (سون تزو) منها الاشتباك المحدود في جنوب لبنان، إثارة المناصرين في العراق ضد الوجود الأمريكي، ومحاولة خنق التجارة العالمية في باب المندب!

 

  • الشواهد على ما تقدم كثيرة منها:

 

  • تصريح إسماعيل هنية لتلفزيون الجزيرة (موجود على اليوتيوب) حيث قال (نحارب إسرائيل لإلهائها عن إيران) يمكن اعتبار ذلك التصريح للمتشككين (زلة لسان)!
  • تصريح المتحدث باسم الحرس الثوري رمضان شريف في 27 ديسمبر قال إن (طوفان الأقصى رد على مقتل سليمان) نفى ذلك التصريح بسبب الإحراج، ويمكن اعتباره زلة لسان!
  • ما كتبته الصحافة وما أذيع في المحطات التلفزيونية الرسمية الإيرانية هو الذي يعتد به ومنه ...
  • كتبت صحيفة جوان التابعة للحرس الإيراني في 8 أكتوبر (بعد يوم واحد فقط من بد العمليات الحربية في غزة): تزامن هذه العملية مع كلام المرشد خامنئي الواضح في 3 أكتوبر هو (مؤشر واضح على علم المرشد بالغزو) !! فقد قال المرشد (إن الحكومات التي تتخذ من مغامرة التطبيع مع الكيان الصهيوني نموذجًا لها ستخسر، والخسارة في انتظارها، وكما يقول الأوربيون إنهم يراهنون على الحصان الخاسر)!
  • عزت ضرغامي وزير التراث والصناعات اليدوية في الجمهورية الإسلامية يقول (ذهبت إلى المنطقة (غزة) بصفتي المسؤول عن إنتاج الصواريخ .... وهذه هي نفس الأنفاق التي يقاتلون فيها اليوم، قضيت بعض الوقت داخل هذه الأنفاق .... حيث كنت أذهب لأعطيهم دورة تدريبية حول كيفية استخدام الصواريخ، لقد كانت واحدة من أنجح الدورات (تليفزيون أفق الحكومي الإيراني 24 نوفمبر 2023م).
  • (العميد قاسم قرشي، نائب قائد منظمة الباسيج التابعة للحرس الثوري الإيراني)، في كلمة له أمام قوات الباسيج: يقول: حزب الله في لبنان وحماس والجهاد الإسلامي في غزة واليمنيون والرجال السوريون الأحرار يسترشدون بأفكاركم وتدريباتكم وتعليماتكم وتوجيهات القائد .... (تلفزيون قم الحكومي 24 نوفمبر 2023م)
  • العميد محمد تقى أصانلو (أحد قادة الحرس الثوري، (قناة إشراق التابعة للنظام 24 نوفمبر 2023م) يقول (اليوم خنادقنا تبعد الفي كليو من حدودنا، وهم يقاتلون في اليمن، وقد أخذ المحاربون الأفغان والباكستانيون والعراقيون والسوريون يقاتلون في اليمن ولبنان وسوريا وفلسطين، هذه الحرب التي بدأناها لا تنتهي ستستمر وتتطور !!
  • قال وزير خارجية إيران الحالي عبد الحسين اللهيان في مقابلة تلفزيونية (موقع ديدبان الإيرانية 22 أكتوبر 2023م)، (إذا لم ندافع عن غزة اليوم، فسنضطر غدا إلى التعامل مع القنابل الفسفورية في مدننا)
  • ما تقدم هو غيض من فيض من تصريحات قادمة من مصادر إيرانية وقد نوه عن مكانها وتاريخها وقائلها، وبعضها كان متعجلًا، قبل أن يأخذ المسار الرسمي الإيراني تراجعًا من خلال الإعلان (النأي بالنفس) كما هو معلوم.
  • بل إن إيران في وقت ما طلبت أن يكون تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل في طهران !!!

تلك هي الشواهد والأدلة على واحدة من ملفات التهديد الإيراني في المنطقة، وهي إثارة الفوضى، تحت شعارات يمكن أن يستهلكها رجل الشارع العادي العربي، ولأن القضية الفلسطينية لديه هي قضية مركزية، إلا أن كل الدلائل تشير إلى تدخل إيراني خبيث، حيث منع حزب الله اللبناني التابع لها من التدخل النشط (ولو حصل لتغيرت ربما المعادلة) ولكن إيران تريد الحفاظ على قوة الحزب لاستخدامه في زعزعة الأمن في المنطقة متى ما قررت !!

التهديد الدولي: على الرغم من الوفاق بين دول الخليج والولايات المتحدة، إلا أن الأخيرة تسعى بشكل طبيعي لتحقيق مصالحها، ومتى ما تعارضت تلك المصالح فإنها يمكن أن تضحي بمصالح دول الخليج، وكما قال لنا عبد اللهيان في كتابه المشار إليه سلفًا، إنه في سبيل الوصول إلى حلول في الملف الإيراني النووي، تركت سوريا للنفوذ الإيراني! لذلك فإن التواصل مع القوى الدولية بشكل محايد، وتعظيم المصالح بينها وبين دول الخليج ربما وثيقة تأمين من نوع ما من النزعات التي قد تصيب القرار في الدول الكبرى.

أما التهديدات الداخلية، فهي نابعة من نفس المصدر الإيراني، أي تلك المجاميع التي تتبع الأيدلوجية الإيرانية ومن خلال (تعظيم المذهبية البغيضة) للإضرار بالأوطان، مع التأكيد أن ليس كل من يتبع المذهب هو موالي لإيران، إلا أن البعض منهم يفعل ذلك، وترغب إيران أن تشيع أن كل من يتبع المذهب هو تابع لها، من هنا يتوجب أن تبذل الجهود الإعلامية والتوعوية لفصل الخبيث عن الطيب!

 

       تأثير الفوضى في الإقليم على الأمن في الخليج

كيف نظرنا إلى موضوع (الإجرام السائد) وتشجيع الاضطراب وراعيه الإيراني، سوف نرى بؤرته في سوريا وآثاره في العراق ومفاعيله في اليمن، ونتائجه في غزة، ويكمن انفجاره أساسًا في ضعف تناول الدولة (في العراق وفي سوريا وحتى في اليمن) لشؤون مواطنيها بشكل عقلاني وسليم، ووقوف نخبتها الحاكمة أمام استحقاقات العصر دون حراك إلى الأمام، فقط لتحقيق مطامحهم الشخصية أو الحزبية، تلك جذور كل هذه الفوضى التي تستفيد منها إيران بل تعمقها. تزايد ذلك في خلل في المنظومة الدولية، الذي سهل انتشار الإرهاب،  فالولايات المتحدة ليست راغبة أو حتى قادرة أن تقوم بواجب (الدولة الكبرى) في العالم، ولا روسيا تستطيع أن تفعل الكثير، هي أي روسيا ترسل طائرات في الجو لحرب جيوب الإرهاب كما تسميه في سوريا، ولكن بانتقائية شديدة، وأيضًا بعدم قدرة على الحسم!

فشل بناء دولة عراقية حديثة بعد عام 2003م، وحتى اليوم، سبب من أسباب انتشار الإرهاب في المنطقة وتغول النفوذ الإيراني، فالمجموعة الحاكمة الحالية وبالتحديد التي سبقتها كانت مصابة بالعمى الطائفي ومهمومة بالسلطة، ونقص ضخم في الخبرة السياسية، قاد في نهاية المطاف إلى هذا الاحتراب الأهلي الذي أوصل بدوره إلى أعمال الإرهاب. إضافة إلى فشل الدولتين ( العراق – سوريا ) في معالجة تحديات المطالب السياسية الحديثة وتغيراتها السريعة، زاد من جهة أخرى التدخل الإيراني من التهيئة لحواضن الإرهاب.

هذا المربع الخطر، الخلل في المنظومة الدولية، وفشل الدولة (العراق وسوريا إلى اليمن) وتشرذم القوى الفلسطينية في المعالجات السياسية، التدخل الإقليمي السلبي، وقصور كل ذلك قاد الأحداث لتكوين بيئة صالحة لنمو الإرهاب في الإقليم، ومن يعتقد أن استمرار هذا الجو الموبوء لن يصيبه بأذى فهو بالتأكيد واهم. لقد أصيبت حتى الآن دول الإقليم ودول كبرى برذاذ هذا الإرهاب المتطاير أو تأثيراته المباشرة وغير المباشرة، كما ضربت التجارة الدولية والعلاقات بين الشعوب في مقتل، كما يحدث في البحر الأحمر وتغول الحوثي على التجارة الدولية.

 حقيقة الأمر أن الإقليم بكامله يعيش في فترة (الفرص الضائعة) البعض يعتقد أنه فقط باستخدام القوة المفرطة يمكن محاربة الإرهاب، وهو واهم من جديد، فالإرهاب مرض له أسبابه الظاهرة أو الخفية، وكأي مرض إن لم تتعرف على تشخيصه على وجه قريب من الدقة، لن يسهل علاجه، بل وقد تقدم له وصفات تفاقم المرض لا تشفيه.

لقد أجج الصراع الدائر في كل من سوريا والعراق إطلاق موجات من الكراهية بين المكونات الاجتماعية في تلكم البلدين، زاد شحنة الكراهية التدخل الإيراني في كلاهما، فانتقلت الكراهية إلى الإقليم المجاور ، تعاطفًا أو نصرة، هنا اختلط الأمر على الجميع، فذهب بعض المتحمسين من أبناء الخليج إلى ساحات القتال، لأنها بالضرورة جاذبة، فالإنسان كما المادة ينجذب إلى أماكن الفراغ، ظهر ذلك في الحرب الأهلية الإسبانية قبل الحرب العالمية الثانية (1839ـ 1936م)  كما ظهر في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، حيث تدفق عدد من أبناء الخليج ( للجهاد) كما يظهر اليوم في كل من العراق و سوريا بل وحتى اليمن ! وأخيرًا الصراع المميت في غزة.

 التشخيص الصحيح يقود إلى العلاج الصحيح، فما دامت الساحة السورية نازفة وموقف مؤيدي نظامها (كل لأسبابه الخاصة) متعنت، ولا يريد أن ينظر إلى النزاع بمنظور عقلاني، كما هو موقف السلطات العراقية في تهميش بعض المكونات الوطنية، أو استيلاء مجموعة مسلحة على البلد كما في اليمن، كما أخذت حماس مغامرة غير محسوبة، يدفع ثمنها باهظًا الشعب الفلسطيني، سوف تستمر هذه الساحات تنبت أشكالًا نعرفها اليوم من الإرهاب، وأشكالًا أخرى حتى الآن لا نعرفها، قد تكون أسوأ في المستقبل يجب التحوط لها.

الخلل في علاقات المنظومة الدولية لن يعالج بالسرعة التي يرغب أهل الإقليم فيه. عض الأصابع بين الولايات المتحدة و رسيا الاتحادية سوف يستمر، فالساحة الهشة هي الشرق الأوسط ودماء العرب هي المكان الأهون للاشتباك، كلُ يعتقد أن الآخر سوف يصرخ أولًا، أوروبا تعاني من مشكلات داخلية، والخلل في بيئتها السياسية واقع لا محالة، وتواجه صعوبات اقتصادية تخرج من أزمة تدخل في أخرى، مع بدأ عملية الخروج البريطاني، والأخيرة سوف تواجه مشكلات اقتصادية تجعلها عاجزة عن الفعل الدولي أو مقيدة اليدين على الأقل، فرنسا بجانب تردي وضعها الاقتصادي عاجزة عن التأثير، الولايات المتحدة تشهد تنافسًا حرجًا بين قطبين سياسيين، لا يختلفان في الجوهر في نظرتهما بالنأي بالنفس عن مشكلات الشرق الأوسط أو المزايدة حول قضاياه،  بقي منظمتان إقليميتان على التوالي هي الجامعة العربية التي تحتاج إلى اتخاذ قرارات مصيرية، أهمها تخطي  العمل بالأغلبية والذهاب إلى توافق الراغبين ، وهو أمر يحتاج الأمين العام أن يفكر فيه بشجاعة وهو احتمال شخصي لا أركن إلى تفعيله على ضوء الاستقطاب الحاد في المنظومة العربية، ولكن لا بد من تجربته!

 والمنظومة الثانية المرشحة أن تفعل شيئًا مختلفًا لمواجهة المتغيرات، هي منظومة مجلس التعاون، إلا أن الأخيرة عليها مغادرة الدبلوماسية الحذرة والمجاملات الاجتماعية والخطو نحو توافق الراغبين أيضًا في مواجهة هذا الاضطراب الكبير، بدلًا من انتظار الإجماع الذي لن يأتي. لا أعتقد أن الأمن الداخلي في الخليج مهدد بتلك الخطورة من تداعيات الإرهاب في الجوار، فالنسيج الخليجي الاجتماعي والسياسي في أغلبه متماسك، وهذا لا يمنع من شذوذ قلة، كما لا يمنع العمل الجاد على جبهتي الإعلام والثقافة والتوعية، إلا أن أعمال الإرهاب تستنزف مجهودات الدولة وبعض طاقتها، خاصة أن أسبابه قادمة في جلها من الخارج، كما لا أستبعد أن المضي في الإصلاحات المأمولة في دول الخليج قد تطلق أفكارًا متشددة مضادة، تستفيد من الفوضى الحاصلة في الإقليم للعبث بالأمن وإشاعة الخوف في الداخل.

ليس جديدًا الحديث عن تداعيات ما يحدث في الجوار الخليجي وتحليل مدخلاته السلبية على الأمن الخليجي، وليس صحيحًا أيضًا أن هناك مناعة لأي من الوحدات السياسية في الخليج أن يضربها الإرهاب، كما ليس جديدًا المطالبة بتجفيف منابع الإرهاب الثقافية والمالية، إلا أن أولويات العمل هي في النظر إلى إقالة عثرة الدول الفاشلة عن طريق إقناع المشاركين الدوليين، أن ذلك الفشل سوف يصل إلى عقر دارهم إن عاجلًا أو آجلًا، وعلى رأس ذلك فلسطين وسوريا و لبنان واليمن، و العمل الجماعي ما أمكن لتغيير العقد الاجتماعي القائم في كل من البلاد الموبوءة  بالحروب الأهلية، حيث لن يُصلح الأمر  من أفسده،  ففاقد الشيء لا يعطيه، وليس أكثر من منظومة مجلس التعاون أن تكون رأس الجسر الذي يبني ذلك التوجه ربما بمساعدة الراغبين في منظومة  الجامعة العربية  التي وجب إقالة عثرتها.

 

الاهتمام بالمناعة الفكرية كطريق للأمن الإقليمي

 

دائمًا ما يسبق العمل الإنساني فكر من نوع ما، الفكر هو الذي يبرر السلوك ويقوده، سوا أكان سلوكًا صالحًا أو طالحًا. وتتوجه الشعوب دائمًا إلى تكوين رأى عام في القضايا المختلفة من خلال الأفكار التي تسود في المجتمع وغالبًا ما تنشأ تلك الأفكار، إما من المنزل أو المدرسة أو الجيرة أو الفضاء العام مثل وسائل الاتصال المسموع والمقروء وأخيرًا شبكة التواصل الاجتماعي أو من مجموع تلك الحزمة المتداخلة، من المؤسسات والأدوات.  وكُلما قل مخزون المناعة الفكرية لدى الشخص، كلما زادت قابليته للانصياع لما يسمع أو يقرأ أو يشاهد. هنا لدينا معادلة تتكون من جانبين، ما يمكن أن يسمى (البث) من طرف و (الاستيعاب) من طرف آخر، ويعمد على طرفي تلك المعادلة تكوين رأى عام شامل أو محدود، ناقص أو مكتمل لدى المتلقي. قطبي البث والاستيعاب يتأثران أيضًا بالمدى الزمني والظروف المحيطة، فإن كثر البث باتجاه واحد وبأفكار متقاربة ومتعاظمة، فإننا نبقى أمام (شيء من التصلب) الفكري لكثرة ترديدنا لفكرة أو مجموعة أفكار على المتلقي التي تبقى ثابتة في ذهنه، خاصة إن ارتبطت بمقدسات ما، حقيقية أو متصورة، فمن الصعوبة تغيير آراء أو أفكار أشخاص لهم أحكام مسبقة ونهائية ويخضعون لتصورات ذهنية صارمة المراهنة هنا هي القدرة على تغيير الآراء المسبقة، وتلك (عملية طويلة الأمد) وتحتاج أولًا إلى إرادة وثانيًا إلى منهجية وبدائل متعددة.

 

الإشكالية في العلاقة بين الفكر والوحدة الوطنية

المعضلة التي تواجه شعوبنا اليوم هي الموازنة بين الرأي لجماعة معينة في موضوع معين، وبين التشبث بهذا الرأي إلى درجة تهميش الآخر، أكان الرأي سياسيًا أو اجتماعيًا أو حتى له علاقة بالدين. وتسعى المجتمعات لحل تلك المعضلة بالحديث عن (وجوب أن يكون الجوهري والعام والمشترك) من الأفكار متقاربة في المجتمع الواحد، مع عدم الحجر على الاجتهادات الأخرى المكونة للنسيج الاجتماعي. فالحقيقة يمكن أن يصل إليها بالنقاش الحر العقلاني، كما أن اختلاف الرأي في الفضاءات الجانبية (الاقتصادية والثقافية والفكرية) هو طريق سليم للوصول إلى المشترك العام في المجتمع الواحد. وتتوجه الشعوب في الغالب لتكوين رأي عام في القضايا الجوهرية بأن يكون مقارب ومشترك يحميها من التفرق والاحتراب والتنافر، حيث أن الشعوب تدخل مرحلة الخطر وتتعرض للعطب في حال (تفرق) الكلمة في القضايا الجوهرية، الذي قد يؤدي ذلك إلى توترات اجتماعية، ومن جهة أخرى فليس من العقل ولا من الطبيعة البشرية أن تُصب المكونات الاجتماعية في أي مجتمع في (قالب) واحد، وإلا انتفت الصفة البشرية عن هكذا جماعة، وأصبحت تتصرف كـ (قطيع ماشية). المجتمعات الحديثة قننت الاختلاف بأدوات وقيم وسلوك، يسمح من جانب بالاختلاف، ويتيح من جانب آخر التوافق. إلا أن تلك المجتمعات البشرية تكاد تكون مجمعة على ( ثوابت) وطنية يؤطرها قانون أو قوانين مرضاه من الجميع، تؤكد المساواة في الشؤون العامة بين المواطنين، كما تؤكد على رفع  شأن القانون الذي يفصل في خلافاتهم و تحرص على ( قيم وطنية) مشتركة، الخروج عنها هو خروج عن الصف وعلى الثوابت الوطنية، فالدولة الوطنية لا تقوم إلا على قيم مشتركة بين جميع الفئات المكونة للمجتمع، في بعض الدول يعتبر القانون العام ( الدستور) هو الذي يحمل تلك القيم وبعضها يشرع قانون أساسي، يضبط القوانين الفرعية، وبصرف النظر عن الشكل، فإن الدولة الحديثة لا بد لها من قيم مشتركة تؤسس عليها شرعيتها.

 

  الأفكار لا تنفذ نفسها تحتاج إلى رجال لتنفيذها                          

من كل ما تقدم نجد أن هناك علاقة وثيقة بين (الفهم الفكري الصحيح وبين أمن الوطن والمواطن) وأننا كعرب نمر مع الأسف باللحظة المريضة في تاريخنا الحديث، لحظة يسيطر عليها الفهم الخاطئ والتصورات المشوشة، ولا يجوز أن نضع كل ما نعاني من مشاكل في هذه اللحظة المريضة على عامل واحد أو أكثر، فهناك عوامل عديدة شاركت في وصولنا إلى هذه اللحظة التي يطلب بعض أبنائنا (التجانس القسري) وحتى المرضي كجماعات الإرهاب والطائفية والعرقية وفي تصورهم أن ذلك خروج من اللحظة المرضية .. مثل هذه اللحظة تدعو إلى (التشبيك الثقافي) بدلًا من (التشكيك الثقافي) وتطوير مهارات الانصهار وقبول الآخر في الوطن وخارجه، وأن هذا العالم جميل بتعدديته لا بفرديته وانعزاله وأن الاجتهاد في الأمور الحياتية وحتى الدينية واجب العقلاء، والتوافق كمثل الصراع، طبيعة اجتماعية، لا يمكن الوقوف أمامها وإلا توقف الكون، وعلينا أولًا الاعتراف بها ومن ثم إيجاد الوسائل والآليات لتنظيمها.

مقالات لنفس الكاتب