الحرب الروسية / الأوكرانية التي دلفت إلى عامها الثالث، تجسد الصراع الدولي الجديد الذي يسود العالم في الوقت الحالي، أو مرحلة ما بعد منظمة الأمم المتحدة التي ظهرت إلى حيز الوجود بعد الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، حيث تشير كل الدلائل إلى أن الدول الكبرى التي وضعت النظام العالمي بعد الحرب الكونية الثانية، هي التي ضربت بكل مخرجات ومكاسب هذه الحرب عرض الحائط، ودهست كل المنظمات والقوانين التي تمخضت عنها، فلم يعد وجود لما يسمى بالعالم الحر واحترام القانون الدولي، ولا يوجد أي تأثير يذكر على ما يسمى بالأمم المتحدة أو المنظمات التابعة لها، أو مجلس الأمن الدولي، حيث تهيمن الدول الخمس الكبرى على قرارات مجلس الأمن، بل تحتكرها تحت ما يسمى بحق النقض (الفيتو)، والغريب أن دول الفيتو الكبرى تتصارع تحت قبة مجلس الأمن كما هو الحال بين روسيا والصين من جهة، وأمريكا والحلفاء الغربيين من جهة أخرى، فها هي المنظمة الدولية عاجزة أمام الحرب الروسية / الأوكرانية، وعاجزة أمام آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة، وغيرها من الصراعات الدولية والإقليمية التي يكون أحد أطرافها دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، أو الدول التي تناصرها، والغريب أن الأمم المتحدة لا تستطيع حماية منظماتها كما هو الحال تجاه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأنروا)، تلك الوكالة ذات الحصانة الأممية تحاصرها إسرائيل وتؤيدها في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الغربية، ويجري خنقها بعدم تمويلها، بذريعة أن الوكالة تأوي أو تساعد عناصر المقاومة الفلسطينية دون سند أو أدلة تؤيد هذه المزاعم، وهذا ما فعلته أيضًا الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق ترامب تجاه منظمة الصحة العالمية، بل الغريب أيضًا عدم الإصغاء للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي بُح صوته بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة والحرب الروسية على أوكرانيا، كل ذلك يؤكد اختفاء مظاهر وجود الأمم المتحدة وتأثيرها، ومنظماتها الفرعية وحتى أمينها العام تحت ضغط الدول الكبرى المتصارعة التي تتقاسم النفوذ على العالم، كل ذلك وغيره يؤكد أن الواقع تجاوز الأمم المتحدة كما حدث قبيل الحربين العالميتين الأولى والثانية عندما فقدت المنظمات الدولية تأثيرها ما أدى إلى نشوب الحربين الكبريين اللتين أوديتا بحياة ملايين البشر دون وجود وازع قانوني أو أخلاقي يكبح جماح عنفوان آلة الحرب الغاشمة.
كل هذه الشواهد والدلالات تؤكد أن النظام العالمي الجديد ومنظماته ومؤسساته يتشكل الآن تحت وقع ظهور القوى الكبرى الجديدة التي ستقفز إلى إدارة العالم لما تبقى من القرن الحادي والعشرين، ولعل صعود دول تجمع البريكس، ومنظمة شنغهاي، وتجمع الآسيان، إلى جانب حلف الناتو وبقية التكتلات الموجودة هي مؤشر على ظهور النظام العالمي الجديد، الذي سوف تحكمه القوة الاقتصادية في المقام الأول وليست القوة العسكرية فقط كما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية، وبعض دول البريكس وشنغهاي هي دول نووية وقوية اقتصاديًا وصناعيًا، وذات عدد سكان كبير وتمثل أسواقًا ضخمة وتملك موارد طبيعية غاية في الأهمية ما يؤهلها لقيادة العالم، أو اقتسام إدارته ويجعلها تشارك بفاعلية في صياغة مستقبل النظام العالمي الجديد.
ومن حُسن الطالع أن دول مجلس التعاون الخليجي ، ودول عربية أخرى تعاملت مع هذه المتغيرات مبكرًا وانفتحت على هذه التكتلات الصاعدة، بل أصبحت من الأعضاء الفاعلين فيها وحققت بذلك مكاسب متنوعة حيث تعددت شراكاتها، ونمت قدراتها الذاتية، واستفادت من التطورات التقنية في الشرق والغرب، وجذبت الاستثمارات لدعم تنفيذ رؤاها التنموية، وكذلك تطوير صناعاتها المدنية والعسكرية، وافتتاح أسواقًا جديدة لتصدير الطاقة، وعدم ارتهان قرارها السياسي والاقتصادي إلا لمصلحتها فقط، بل أن دول مجلس التعاون الخليجي حددت رؤيتها للأمن الإقليمي ووضعت خارطة لهذه الرؤية تضمنت 15 بندًا وفي مجملها تحقق الاعتماد على الذات مع التوجه إلى الشراكات والانفتاح على جميع دول العالم بما يحقق مصلحتها في المقام الأول، ووضعت منهجًا إيجابيًا للتعامل مع الأزمات وهو حل النزاعات بالتفاوض وليس بلغة السلاح، مع إقرار مبدأ الحوار مع الآخر والتعايش السلمي.
وهذه التوجهات سوف تضع دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية الراغبة والمؤهلة شركاءً في النظام العالمي الجديد وتكون دول فاعلة وليست مفعولًا بها، فالمؤكد أن عالم ما بعد الحرب الروسية / الأوكرانية لن يكون كما كان قبلها.