مع الغزو الروسي لأوكرانيا تغير كل شيء في أوروبا وفي العالم وإلى الأبد .. وقع الغزو ليكون أضخم اجتياح عسكري بري في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فحين دخلت وحدات الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية، لم تكن هذه الوحدات تدرك جيداً بأنها قد غيرت التاريخ ومعه روسيا وأوكرانيا أيضًا وللأبد. ظن الرئيس الروسي بوتين بأنه أعد للحرب جيداً، وكانت حسابات قادته العسكريين بأن رياح التغيرات الجيوسياسية مواتية لهذه الخطوة والتي بدورها سترعب أوروبا وستُعيد أمجاد روسيا، وستكون عملية خاطفة مثل عملية القرم، فقد كانت الحسابات بأن الجيش الأوكراني سيُلقي السلاح وسيسلم بكل مطالب روسيا، أما الجيش الروسي فسيقوم بعرض عسكري في شارع خريشاتيك بقلب العاصمة الأوكرانية كييف، وهذا ما أثبتته الغنائم التي استولى عليها الجيش الأوكراني من فلول الجيش الروسي بعد هزيمته في إقليم كييف، كانت المهمة واضحة جدًا: بوتين يريد إخضاع أوكرانيا عبر إخضاع العاصمة كييف وبعدها إملاء شروطه على الغرب وليس على أوكرانيا فقط، إذ كان في حساباته بأن أوكرانيا ستدور في فلك روسيا كما هي بيلاروسيا اليوم.
كل الحسابات كانت هكذا، فبعد عشرين عاماً من حكم بوتين أراد أن يتوج حياته السياسية بإنجاز تاريخي وهو تشكيل قوة عظمى جديدة على شاكلة الاتحاد السوفييتي المنهار، ولم يكن ذلك سراً، فبوتين نفسه صرح وأكثر من مرة بأن انهيار الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة. كما أن شغفه بالتاريخ يدفعنا للاستنتاج بأن بوتين فعلاً يعيش التاريخ والماضي، فلقاءاته لا تخلو من الحديث عن طموحه بالعدالة التاريخية -حسب وصفه-واستعادة الأراضي التي كانت يوماً ما تابعة لروسيا القيصرية؛ فهو يقدم نفسه لشعبه كقائد فذ سيعيد الأمجاد للشعب ويجمع أشلاء الدولة البائدة. والسبب هو حفاظه على حكمه المطلق ولتستمر سلطته الدستورية صورياً عليه أن يقدم إنجازًا يصادر به كل الحقوق للأحزاب الأخرى والمواطنين مقابل إنجازاته غير المسبوقة، فمن سيتحدى ديكتاتوراً استعاد أمجاد دولة عظمى كما فعل الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين؟ فهو يسعى لأن يكون ستاليناً جديداً ذو سلطة مطلقة بلا منازع والحل السحري لذلك هو أوكرانيا.
-----وتوقع العالم سقوط أوكرانيا في غضون أسبوع وسقوط العاصمة الأوكرانية كييف في غضون ثلاثة أيام. لم تكن هذه التوقعات من محبي وأتباع روسيا بل من أجهزة الاستخبارات الغربية نفسها، ويعكس هذا الأمر القوة التي تمتعت بها آلة البروباغاندا الروسية في التأثير حتى على عقول أصحاب القرار، فلطالما صنف العالم الجيش الروسي بالثاني عالمياً.
ولكن..
في الأسبوع الأول من الغزو تبددت هذه الأوهام؛ فقد تحطم حلم بوتين واصطدم بصخرة الصمود الأوكراني قبل وصول أي دعم غربي لأوكرانيا؛ فمع انتهاء الأسبوع الأول من الحرب أصبح واضحاً بأن الجيش الأوكراني لم يلق بسلاحه وأصبح واضحًا بأن روسيا لن تحتل أوكرانيا في غضون أسبوع ولم تدخل كييف في ثلاثة أيام.
صُدمت أوروبا وانقسم القادة الأوروبيون بين حمائم وصقور، حيث حاول ماكرون وشولتس جاهدين إقناع بوتين بالتراجع، فهما من تزعما معسكر الحمائم وهنا بدأ محور برلين – باريس بالظهور، في المقابل تزعم رئيس الوزراء البريطاني آنذاك بوريس جونسون معسكر الصقور لدعم أوكرانيا وعدم التفاوض أبداً مع بوتن، كما تزعم حملات ضخمة لإقناع بلاده والعالم بضرورة تقديم الدعم العسكري العاجل لأوكرانيا لهزيمة بوتين في الحرب، ومعه يداً بيد الولايات المتحدة الأمريكية ليتبلور محور لندن – واشنطن، فوجدت أوكرانيا نفسها أمام عدو أهدافه المعلنة هي حياد أوكرانيا والتنازل عن القرم والأهداف الحقيقية هي هزيمة أوكرانيا واحتلالها أو تصبح ضمن نفوذ "فنائها الخلفي" كما يحب بوتين أن يصفها بذلك، ومن خلفها معسكر الحلفاء المنقسمين بين محوري" لندن – واشنطن" و"برلين – باريس"، بين الصقور والحمائم، بين رؤيتين للتعامل مع الدب الروسي الهائج ؛ رؤية تفضل احتواء الأزمة ولو على حساب أوكرانيا وترابها وأراضيها، ورؤية تصر على الدعم بهدف هزيمة روسيا هنا واليوم ...
ووراء هاتين الرؤيتين قصة طويلة ولكن موجزها هو: أن الشك سيد الموقف بين الحلفاء الغربيين، ففرنسا وألمانيا تريان بأن التصعيد لن يخدم مصالحهما بل وتدرك هذه الدول بأن الاقتصاد الأوروبي لا يمكن أن يستمر بالازدهار وقوة المنافسة دون طاقة رخيصة ولا بديل لذلك عن روسيا فهي بالنسبة لبرلين وباريس محطة وقود الاقتصاد الأوروبي، بل وعزز الشك عندما عرضت الولايات المتحدة غازها الصخري بدلًا من الغاز الطبيعي الروسي وهذا ما تحقق بالفعل لاحقاً لو بشكل تدريجي، لذلك عززت كل من باريس وبرلين محاولاتهما للتوصل لحل ما مع روسيا لقطع الطريق على واشنطن في الملف الأوروبي، ولكن لسوء حظ ماكرون وشولتس بأن أصواتهما ورجائهما لم تلقيا آذاناً صائغة في موسكو، فاللاحكمة الروسية والتعالي والتكبر وسوء تقدير الموقف أفشل مساعي فرنسا وألمانيا قبل اتخاذهما قراراً بدعم أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة.
ولعل التاريخ سيوثق كيف أخفقت روسيا الدولة التي تقدم نفسها بالعظمى والتي سعت من خلال هذه الحرب لتكون ضمن نادي الأقوياء، كيف أنها ارتكبت حماقة سياسية تاريخية في الغزو أولاً وفي إفشال المساعي الألمانية الفرنسية ثانياً.
وفي هذه الفترة أيقن الأوكرانيون الحقيقة المرة بأن الرؤية الرومانسية للاتفاقيات والضمانات الأمنية لم يعد لها قيمة حقيقية في عالمنا اليوم، وبالسلاح الغربي الخفيف بدأت تتغير الأمور على الأرض، فكان كافياً في البداية دعم أوكرانيا بأسلحة خفيفة مضادة للدروع مثل صواريخ جافلين وأخرى مضادة للطائرات مثل ستينغر، أي سلاح حرب الشوارع. ومع تكاثر الأخبار عن المعارك المحتدمة وأنباء عن الدبابات الروسية المدمرة بصواريخ جافلين الأمريكية وإسقاط طائرات الهليكوبتر بل والصواريخ المجنحة الروسية بصواريخ ستينغر أفاق العالم على حقيقة صادمة للأصدقاء وللأعداء بأنه كان مخدوعاً بالدب الروسي الذي تبين بأنه نمر من ورق ورأى وقوع مئات الأسرى الروس في يد الجيش الأوكراني وصور الآليات الروسية المدمرة والتي لطالما تغنت بها روسيا. أفاق الجميع على حقيقة بأن روسيا التي يخشاها الناتو غير قادرة على حسم المعركة مع دولة واحدة ليست بحلف الناتو. ومع طرد القوات الروسية من إقليم كييف وتشينريهيف وسومي نهاية مارس 2024م، كان هذا أول انتصار واضح للجيش الأوكراني والذي شجع معسكر الصقور في الغرب لتقديم المزيد من الدعم وبدأت الرؤية تتغير لدى معسكر الحمائم بالذات مع تلاشي آمال التوصل لحل مع بوتين.
بالطبع الخسائر الأوكرانية ليست بالهينة، ولكننا نركز هنا على خسائر الطرف الروسي، لماذا؟ لأنه هو الذي استعد للحرب وهو الذي بادر بها وهو الذي أراد تغيير موازين القوى في أوروبا.
أوروبا أمام مرحلة تاريخية جديدة
إن الخسائر التي تكبّدها الجيش الروسي في الأيام الأولى من الغزو -بحسب المصادر الأوكرانية والغربية التي أكدتها ايضاً-بددت كل أوهام بوتين بأنّ أوكرانيا ستلقي سلاحها في اليوم الأوّل من الهجوم. لقد صُدمت روسيا لأنّها لم تتوقّع بأن الجيش الأوكراني سيُقاوِم بل ويقاوم في الوقت الذي ألمحت به عواصم أوروبية لأوكرانيا بالاستسلام.
ومنذ انتهاء الحرب الروسية الشيشانية في 1996م، لم تتكبّد روسيا خسائر في الجيش كما تكبّدته في الأشهر الأولى من الحرب التي لا زالت مستمرة حاليًّا.
وهنا انتقلت الحرب لمرحلة جديدة أعادت شبح الحروب والمجازر لأوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فمع قصف الروس للأحياء السكنية الأوكرانية وارتكاب المجازر في مدينتي بوتشا وايربين بمحافظة العاصمة الأوكرانية كييف بدا واضحاً أنّ الطرف الروسي بدأ يفقد أعصابه، خاصة وأنّ الدول الغربية بعد هذا الأمر توحّدت في موقفها، وهنا أيقن بوتين بأن إنهاء المعركة لن يتم بسرعة.
ثم حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شق الصف الداخلي واتباع حيلة جديدة بطلبه من الجيش الأوكراني أن يطيح بالرئيس فولوديمير زيلينسكي، فبدا الأمر للعالم وكأنه هرطقة روسية، لأن في أوكرانيا ثقافة الانقلاب غير موجودة أصلاً، فقبل ذلك طلب الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش -الموالي لروسيا-في عام 2014م، من الجيش الأوكراني آنذاك قمع المتظاهرين في ساحة الميدان وقوبل طلبه بالرفض أيضاً، لأنّه لا يمتلك ثقافة الانقلاب على السياسيين ولا التدخل في الشؤون السياسية. أمّا فيما يتعلّق بالجيش الجديد الذي يحارب حالياً، فقد تأسس أصلاً بعد ثورة 2014م، وفي صميم عقيدته "مواجهة العدوّ الروسي" بعد احتلال روسيا للقرم وللدو نباس.
كل ذلك نقل الحرب إلى مستوى جديد من الوحشية والدمار ورأينا كيف فقدت روسيا أعصابها عبر سياسة الأرض المحروقة وتدمير مدن بالكامل مثل ماريوبول وباخموت ومارينيفكا وتدمير الجسور والسدود المائية وأهمها سد كاخوفكا وغيرها، وباتت سياسة الأرض المحروقة السياسة المتبعة للجيش الروسي لإرهاب الطرف الأوروبي بعد التدخل ونجح في ذلك إلى حد ما.
لكن القوة الروسية المفرطة غيرت موقف الدول وبدا معسكر "الحمائم" بالتضاؤل لصالح معسكر "الصقور" في أوروبا، وبدأت تتبلور القناعة لدى قادة الغرب بأن الأزمة ليست في أوكرانيا وإنما في طموح بوتين نفسه وأن أوكرانيا ما هي إلا بوابة التوسع وعزز ذلك القناعة الغربية بضرورة هزيمة بوتين وليس الاتفاق معه.
كما أن سياسة الأرض المحروقة والقوة المفرطة نقلت مستوى التسليح والدعم الغربي لأوكرانيا إلى مستوى جديد؛ فتطور الدعم من جافلين المضادة للدروع إلى دبابات ليوبارد وتشالنجر وآبرامز رغم محدودية عددها، أما في السماء، فبالرغم من أن الحلفاء رفضوا طلب أوكرانيا باغلاق السماء ولكنهم زودوها بمنظومات الدفاع الجوي مثل باتيريوت الأمريكية وايريس تي الألمانية وناسمس النرويجية وكذلك منظومة هاربون البريطانية لحماية سواحل أهم مدينة أوكرانية على البحر الأسود وهي أوديسا؛ فلم تعد سماء أوكرانيا متاحة للطيران الروسي كما كان في الأسابيع الأولى من الغزو وكذلك أصبحت مياه أوكرانيا والمياه الإقليمية محرمة على الأسطول الروسي.
هزيمة روسيا الأولى وقعت بالفعل
مع بدء تداول مصطلح حرب عالمية ثالثة في العالم كله في حال تدخّل حلف الناتو مباشرة في الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا، قرر الحلف إلحاق هزيمة سياسية استراتيجية بروسيا بعد توغل جيشها أكثر فأكثر في الوحل الأوكراني وذلك بتعزيز الجناح الشرقي للحلف.
فوفق الأهداف الروسية المُعلنة من الحرب والتي صرح بها بوتين نفسه، اشتراطه على الحلف بعدم التمدد شرقًا وتقديم تعهدات بعدم ضم أوكرانيا في المستقبل، بل وأحيانًا تجرأ بوتين بابتزاز الحلف مطالبًا إياه بالعودة لحدود عام 1997م، أي طرد دول البلطيق وشرق أوروبا من الحلف.
إذن أصبح من الواضح بأن المكسب الأكبر لبوتين سيكون عبر تحقيق انتصار سياسي على الحلف قبل أن يحقق الانتصار العسكري على أوكرانيا، وهنا جاءت الضربة التاريخية لنظام بوتين عبر إعلان فنلندا والسويد طلبهما للانضمام للحلف، فمع إعلان فنلندا رغبتها بإنهاء 80 عاماً من سياسة الحياد، مقابل 180 عاماً من الحياد السويدي، بات واضحاً بأن حرب بوتين حققت نتائج عكسية تماماً، فبوتين سيدخل التاريخ كزعيم روسي فرط بمكتسبات القياصرة والقادة الروس بهذا الخصوص، فاختار الغرب بأن تكون هزيمة بوتين الأولى تاريخياً وهو المشغوف بالتاريخ، فلطالما سعى بوتين أن يقدم نفسه كقيصر جديد مثل بطرس الأول وكذلك كزعيم سوفييتي فذ مثل جوزيف ستالين، فها هو بوتين بذاته يفرط بأهم مكتسبات بطرس الأول وهو حياد السويد والتي خاض معها حرباً طويلة، وها هو بوتين نفسه يفرط بأحد أهم مكتسبات ستالين بحياد فنلندا والتي فرضه عليها بعد حربي الشتاء الأولى والثانية، وبانضمام فلندا عام 2023 م، والسويد عام 2024 م، حقق الحلف موجة توسع غير مسبوقة واتت كنتائج عكسية تماماً لطموح بوتين، وبالتالي حصل الحلف على 1300 كلم إضافية من الحدود البرية مع روسيا معززاً بذلك أمن دول البلطيق الصغيرة، وكذلك تحول بحر البلطيق إلى بحيرة الناتو بانضمام السويد بأسطولها القوي واقتصادها المزدهر، وانعكس ذلك إيجابياُ على دول البلطيق الثلاث بالطمأنينة أكثر فأكثر وعلى بولندا والمانيا .
وبدأنا نسمع شعارات جديدة بأن أوكرانيا ستكون العضو الـ33 في الحلف، فما حققته أوكرانيا في ساحة المعركة معجزات بحق لخوضها معارك غير متكافئة تماماً، فقد غيرت المعادلة الأمنية في أوروبا، وفاجأت أصدقاءها وأعداءها بصمودها أمام الجيش الروسي المصنف ثانياً عالمياً. وهذا الذي يعتبر ثاني أقوى جيش في العالم أصبح غارقاً في الوحل الأوكراني منذ عامين، وقد رأى العالم كله حقيقة قوة روسيا المنهكة من الداخل، والتي تعتمد على أسلحة قديمة، واقتصادها الضعيف، والروبل المتهاوي، فكيف هكذا دولة أن تواجه حلف الناتو؟
فالصمود الأوكراني جعل العديد من الدول تعيد النظر في نظريات الأمن لديها، وأصبح واضحاً لكل هذه الدول بأن الجيش الأوكراني هو مكسب لا يستهان به للحلف، ولا ينبغي التفريط به.
خسائر قياسية
خلفت الحرب مآس وخسائر ضخمة على الطرفين، فوفق هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية فإن إجمالي الخسائر الروسية في الفترة الممتدة من 24 فبراير 2022 ولغاية 15 أبريل 2024م، تقدر بـ: الطائرات 347، المروحيات 325، الدبابات7180، العربات المصفحة 13796، مدافع 11593، منظومات الدفاع الجوي 758، راجمات صواريخ 1046 عربات عسكرية وصهاريج وقود15510، طائرات مسيرة 9266، سفن / قوارب 26، غواصة واحدة، آليات تقنية 1908م، صواريخ مجنحة 2092، والخسائر في الأفراد سواء جنود أو ضباط أو جنرالات بالإضافة إلى المرتزقة وغيرهم قد فاق 454 ألف عنصر. ومع أن المصادر الغربية لا تتفق بدقة مع الأرقام إلا أنها أجرت عدة إحصائيات وكانت قريبة من هذه الأرقام.
في المقابل تكبدت أوكرانيا خسائر كبيرة في الأرواح بين المدنيين والعسكريين ولا تزال تتحفظ أوكرانيا بسرية على هذه الأرقام، فمن جهة صرح بوتين بأن خسائر الجيش الأوكراني بلغت 300 ألف، الأمر الذي استدعى رداً من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن خسائر الجيش الأوكراني بلغت 31 ألف فقط، في حين أشار تقرير لوكالة دي دبليو الألمانية إلى 42 ألف عسكريا أوكرانيًا قد قضوا نحبهم منذ بداية الصراع. أما نيويورك تايمز فقد نشرت دراسة مجملة تشير إلى أن مجمل الخسائر في الأرواح للجيشين الروسي والأوكراني فقد بلغت 500 ألف وهو بحد ذاته رقم خطير جدًا. وترى الصحيفة بأن حصة أوكرانيا من هذا الرقم 70 الفا.
وبالطبع نعلم بأنه في عصر الحروب يتحدث دوماً إعلام الحرب والذي لا يكشف تفاصيل قد تضرب الروح المعنوية ولن يكشف عن الأرقام الدقيقة إلا بعد نهاية الحرب بأشهر وربما لسنوات، ولكن الشاهد في الأمر أن الحرب الخاطفة التي أرادها بوتين في ثلاثة أيام طال أمدها وألحقت بجيشه خسائر فادحة، وكشفت عن فضائح فساد قد يكون بوتين نفسه لا يعلمها وكشفت هشاشة الدب الروسي الذي ظن بأنه قادر على مواجهة حلف الناتو مجتمعاً فإذا به عاجز أن يحسم حربه ضد أوكرانيا لوحدها. في المقابل خسرت أوكرانيا 25 % من أراضيها تحت احتلال روسي غير معلوم متى قد تستعيدها ونزح قرابة 10 مليون نسمة من أصل 42 مليون مجمل تعداد سكان أوكرانيا، ومهما كانت خسائر الجيش الأوكراني أقل بكثير من الخسائر الروسية إلا أنها مؤلمة لأوكرانيا لأنها لم تنشد الحرب أصلًا ولصغر تعدادها السكاني الذي يقدر بخُمس تعداد روسيا السكاني.
العام الثالث سيختلف عن كل ما سبق
مع نهاية العام الثاني للغزو الروسي وانتهاج بوتين سياسية جديدة في الحرب وهي موجات الصواريخ البالستية المستمرة على المدن الأوكرانية والبنية التحتية وكذلك أشراب مسيرات شاهد إيرانية الصنع والتي ألحقت أضراراً كبيرة بمحطات الطاقة والبنية التحتية الأوكرانية، أيقنت القيادة العسكرية الأوكرانية بضرورة نقل الحرب إلى العمق الروسي، فقد كانت القناعة سابقاً بأنه في حال الحقت هزيمة عسكرية ببوتين في أوكرانيا فهذا سيدفعه للانسحاب. وقد نجحت أوكرانيا بالفعل بإلحاق عدة هزائم بروسيا في العام الأول برياً فقد حررت كامل إقليم كييف وإقليمي سومي وتشيرنيهيف، ثم كان الهجوم الخاطف صيف عام 2022م، والذي حرر إقليم خاركيف وألحق هزائم ثقيلة بالجيش الروسي ثم تحرير الضفة اليسرى أو الجزء الشمالي من إقليم خيرسون وتحرير مدينة خيرسون نفسها وهي أكبر مدينة احتلتها روسيا في الغزو، ورأى العالم بأسره كيف أن الجيش الروسي يتكبد الهزيمة تلو الأخرى. ولكن هذا لم يدفع بوتين لإعطاء الأوامر بالانسحاب، ثم تبلورت قناعة بأنه في حال تكبدت روسيا خسائر مؤلمة سينهي ذلك الحرب، إلا أن بوتين لم يتراجع رغم تكبد روسيا خسائر فادحة سواء في الأفراد أو في المعدات وعلى سبيل المثال لا الحصر خسر الجيش الروسي قرابة 50 ألف جندي ومرتزق فقط في باخموت.
وحينها تبلورت في أوكرانيا القناعة بضرورة إلحاق هزائم في العمق الروسي بالذات مع انتهاج موسكو نهجاً جديداً وهو استنزاف أوكرانيا من السماء عبر القصف المستمر بالصواريخ والمسيرات والتي غيرت شكل الحرب عن سابقتها، وهنا بدأت أوكرانيا بالعمل بجدية على صناعة درناتها الخاصة بها ونجحت بذلك لتستطيع قصف العمق الروسي، وتجلى ذلك النجاح في ليلة الرابع من أبريل الماضي حينما استطاعت أوكرانيا تدمير 19 طائرة حربية روسية جاثمة على أراضي ثلاث مطارات منها مطار آنجلس الحربي والذي يقع على بُعد 800 كم عن الحدود الأوكرانية، الأمر الذي نقلنا إلى حروب من جيل جديد، حروب الدرونات والتكنولوجيا؛ أي أننا فعلاً أمام حرب روبوتات إلى حد ما.
امتعاض أوكراني من شح الدعم الغربي
طال انتظار أوكرانيا بالدعم الجوي من الحلفاء كي تحمي كلياً أجواءها، فهي بحاجة لمزيد من منظومات الدفاع الجوي، ولأن أوكرانيا تعتبر أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة، فهي بحاجة إلى سلاح طيران متطور. وبكل ما تملكه اليوم من طائرات قديمة كميغ وسوخوي، استطاعت أن تحرم روسيا من التفوق في السماء، وما إن يسلم الحلفاء لأوكرانيا طائرات أف-16 الأمريكية أو "تايفون" البريطانية، ستكون قادرة أن تحمي سماءها، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. وعلى الأرض مكنت الدبابات الحديثة "تشالنجر" و"ليوبارد" و"أبرامز" من تمتين خطوطها الأمامية ليشكل تناغماً مهماً جدًا في كسب أي معركة، وطبعاً الدبابات بحاجة إلى غطاء جوي، وعلى الأرض تكسب المعركة ليس بالسماء فقط بل وبالدبابات، وبالتالي فإن أوكرانيا بأمس الحاجة إلى هذين السلاحين معاً.
كما أن أوكرانيا طلبت أكثر من مرة دعمها بصواريخ "أتاكمز"، بعيدة المدى (270 كلم)، مقابل تعهد أوكراني للغرب بأنها لن تقصف العمق الروسي. ولكن بحاجة لصواريخ بمدى 300 كم لتفرغ مخازن العدو؛ ففي أي حرب إذا أردت أن تضرب العدو عليك بقطع خط الإمداد، وخط الإمداد الروسي هو في عمق 200 إلى 300 كم عن خط الجبهة في ميليتوبول وفي ماريوبول وفي القرم وفي لوغانسك وفيدونيتسك، بعيداً عن الأراضي التي تسيطر عليها أوكرانيا، إذن توفرالصواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا القدرة على تدمير المخازن الروسية. وهذا سيسهل على الجيش الأوكراني هجومه المضاد ويمنع روسيا من الهجوم. ورأينا كيف أن منظومات "هيمارس" غيرت المعادلة، لقد كانت انكساراً لروسيا وتحولاً كبيراً في المعارك. وصول هذه الصواريخ -التي تتحدث التسريبات عن أن الغرب يفاوض أوكرانيا لمنحها إياها-لأوكرانيا اليوم سيعني تحولًا كبيرًا، لكن ستبقى الحاجة الماسة بالدرجة الأولى إلى الدبابات وسلاح الطيران، ولكن لم يحدث شيء من ذلك وهذا ما يدفع للاعتقاد فعلاً بأن الحلفاء يضعون حالياً سقفاً معيناً للتصعيد لا يريدون بأن تتجاوزه أوكرانيا، فهم من طرف يدعمون كييف بالسلاح لدفاع ناجح ولكن يدعمون بقدر كاف لهجوم ناجح وهذا ما كشف عنه رئيس الأركان السابق الجنرال فاليري زالوجني في إحدى تصريحاته التي أغضبت الرئاسة الأوكرانية.
فقد سُئِل قائد الجيش الأوكراني السابق الجنرال فاليري زالوجني: "كم تحتاجوا إلى النصر؟"، وقال: "نحن بحاجة إلى 600 مدفع هاوتزر، ولدى أوكرانيا 160 فقط، ونحن بحاجة إلى 500 دبابة، وصواريخ بعيدة المدى". وأضاف: "سلموني هذا الكم ودون أية مفاوضات، وأنا سأطرد الروس من كل أراضي أوكرانيا بما في ذلك القرم". ولكن هذا لم يتحقق ولذلك نرى الفرق الكبير بين المنشود والواقع الذي ما يزال أقل بكثير من الطموحات الأوكرانية.
الدعم الاقتصادي الغربي لأوكرانيا
بالنسبة للدعم الغربي فهو متفاوت بكل مجال على حدة، فإذا كان الدعم العسكري بطيئاً ولا يرضي أوكرانيا حتى الآن، إلا أن الدعم الساسي والدبلوماسي واضح بقوة، إذ تمكن الحلفاء من فرض عزلة على روسيا في كثير من القطاعات، كما أن أوكرانيا حظيت بدعم مجموعة السبع الكبار والتي طردت منها روسيا، وفتحت لأوكرانيا منصات شتى في العالم لتحشد الدعم لموقفها وتمكنت أوكرانيا والغرب من تحويل روسيا في العام الأول والثاني من الحرب إلى دولة منبوذة تكاد تشبه كوريا الشمالية. فأصبح علنًا حلفاء موسكو في هذه الحرب فقط دول منبوذة مثل كوريا الشمالية وبيلاروسيا وإيران.
كما وصادق الاتحاد الأوروبي على منح أوكرانيا صفة دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي بطريقة استثنائية لم تحظ بها أي دولة في السابق، كما وأقرت برامج دعم اقتصادي سخية كان آخرها 50 مليار يورو، وكذلك مشروع دعم اقتصادي مستمر من دول السبع الكبار، أي أن الحلفاء الغربيين عملوا بجهد مستمر وبرامج جادة لعدم انهيار الاقتصاد الأوكراني الذي عول عليه بوتين جداً باستهدافه مطارات وموانئ أوكرانيا.
وعلى المستوى الإنساني فقد حظي اللاجئون الأوكران في دول الاتحاد الأوروبي باستقبال جيد وتسهيلات لم يحظ بها مهاجرون آخرون، كما وشملتهم عدة برامج اجتماعية وإنسانية ورعاية مميزة للأسر الشابة.
الغرب لم يُغرر بأوكرانيا
بالرغم من أن نظرية المؤامرة تلقى رواجاً بالذات في الدول العربية بخصوص هذا الصراع، إلا أن الواقع والحقائق تقول غير ذلك، فلو كان الغرب فعلًا قد غرر بأوكرانيا ومهد لروسيا للانزلاق بالحرب، لما رُفض طلب عضويتها في أكثر من قمة للحلف. وقبل الحرب ظلت أوكرانيا -رسمياً ووفق دستورها-دولة محايدة منذ استقلالها لحين وقوع أول عدوان روسي على الأراضي الأوكرانية عندما احتلت روسيا القرم وضمته لأراضيها، ثم دعمت ميليشيات انفصالية في إقليمي ولوهانسك ودونيتسك. ورغم ذلك تمسكت أوكرانيا بخيار المفاوضات عبر منصة مينسك 1 ومينسك 2. وظلت كل مساعي أوكرانيا دبلوماسية سياسية تطالب المجتمع الدولي بتحمل التزاماته بخصوص التعهدات المقدمة لأوكرانيا بوحدة وسلامة أراضيها بالذات عبر مذكرة بودابيست الشهيرة لعام 1994م، والتي بموجبها تنازلت أوكرانيا عن قرابة 2000 رأس نووي طوعاً كسابقة تاريخية من نوعها. فقبل عام 1994م، كانت أوكرانيا ثالث دولة نووية في العالم من حيث الرؤوس النووية.
ولو عدنا قليلًا بالذاكرة لخريف عام 2021م، بالذات نهاية أكتوبر كان العالم كله يتناول موضوع الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا في المقابل كان الجنود الأوكران في الثكنات وكلنا يذكر الزيارات الشهيرة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس إلى موسكو للتفاوض مع بوتين الذي استقبلهم بطريقة مهينة وأجلسهم على طاولة طولها 8 أمتار، ونذكر كيف غادر بوتين المؤتمر الصحفي مع ماكرون بطريقة غير لائقة، كما أن التحذيرات بخطر وقوع الغزو تكررت من قبل الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والكندية وبلغت ذروتها يناير وفبراير 2022م، وكل هذا كان على مسمع ومرأى العالم ..
فلو كان الغرب يريد فعلاً توريط روسيا بهذه الحرب لما قدم كل هذه التحذيرات ولما دق ناقوس الخطر باستمرار، أعتقد أن الحقيقة هي سوء تقدير من قبل روسيا للأمور وبالذات من قبل بوتين ومن حوله للموقف الغربي وعدم قراءة الإشارات بشكل صحيح، فروسيا التي تحارب اليوم من أجل مقعد لها في نادي الأقوياء ظهرت كدولة تفتقر لمركز دراسات جيد، فقد أخفقت بشكل خطير في سوء تقدير الموقف الحقيقي سواء للمساعي الغربية أو للواقع الداخلي الأوكراني، فقد فسر بوتين مساعي الغرب بالضعف ورأى في انتخاب الشعب الأوكراني بغالبية ساحقة لمرشح معسكر السلام والتفاوض فولوديمر زلينسكي بالضعف والهوان، فهو نفسه لطالما انتقد الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو بوصفه رئيس حرب وأن فريقه فريق حرب، فها هو الشعب الأوكراني يطيح بالرئيس السابق بوروشينكو في انتخابات عام 2019م، ويمنح ثقته للرئيس زيلينسكي ألد أعداء بوروشينكو وكذلك صاحب برنامج السلام مع روسيا، فكيف كافئ بوتين الشعب الأوكراني ...؟؟؟؟
المعضلة تكمن في العقلية الروسية التي حتى الآن لا تنظر للشعب الأوكراني كنظرتها للشعب الألماني أو البولندي مثلًا، فلا زالت روسيا تنظر لأوكرانيا وللأوكرانيين كالأخ الأصغر الذي يتوجب عليه أن ينصاع لأوامر أخيه الأكبر وهذا يعود لأسباب تاريخية يطول شرحها. ولكن الشاهد في الأمر الآن أن روسيا لم تستسلم حتى الآن لفكرة أن أوكرانيا هي دولة مستقلة ذات سيادة يجب التعامل معها على هذا الأساس.
فالرئيس الروسي بوتين هو من غرر بنفسه قبل أن يستدرجه الغرب كما يرى البعض، ولكن الغرب بالطبع وظّف الخطأ الروسي الفادح ، فقد أصبحت الحرب بمثابة "بروفا" لحرب محتملة مع دول حلف الناتو فقد تحولت ساحة المعارك إلى ساحة تجارب ودراسة الغرب جيداً لنقاط ضعف الأسلحة الروسية بل واختبر منظومته الشهيرة "باتريوت" والتي نجحت في اسقاط أسرع وأغلى وأقوى صاروخ روسي "كينجال" الفرط صوتي، وما كان لهذا ليحدث لو لم تقع هذه الحرب... كما أن روسيا تُستنزف اقتصاديًا وبشريًا ودبلوماسيًا قبل وقوع الحرب العالمية الثالثة التي كررها بوتين أكثر من مرة.
سيناريوهات نهاية الحرب
السيناريو الأول وهو أن يقدم الغرب لأوكرانيا كل ما تطلب لشن هجوم أوكراني مضاد قوي، تستطيع أوكرانيا بقوة السلاح أن تحرر كل أراضيها، وإذا نجحت بذلك، فحينها تصبح الحرب بلا معنى، سواء أقرت روسيا أو لم تقر بذلك. وهذا سيفتح المجال أمام القلاقل داخل روسيا، إن لم تخرج روسيا أو تعترف بأن عمليتها العسكرية قد فشلت.
السيناريو الثاني، تقوم أوكرانيا بطرد الروس من إقليمي خيرسون وزابوريجيا وإلحاق هزائم مؤلمة بهم، وهنا سيقبل بوتين بالوساطة السعودية أوالتركية مثلاً، والتي تهدف إلى إجراء لقاء قمة بينزيلينسكي وبوتين، وتفعيل مفاوضات حقيقة نحو الحل النهائي.
السيناريو الثالث هو انقلاب داخل روسيا، فقد رأينا بأن الدولة العميقة في روسيا، وبالذات الأوليغارشية، عندما شاهدوا تجميد أموالهم والعقوبات عليهم، مما يمكن أن يدفعهم للتحرك. هذه الطبقة المخملية قد تحضر لانقلاب في روسيا إذا شعرت بخطر حقيقي على كامل أصولها في الخارج، وإن حصل انقلاب بالطبع ستوضع كل الجرائم على ظهر بوتين وتنتهي الحرب، وهنا يمكن أن تأتي روسيا جديدةللتفاوض.
السيناريو الرابع، تجميد الحرب عند خطوط الجبهة الحالية، فما يريده بوتين حاليًا هو الاحتفاظ بالمكتسبات بالذات الأراضي التي تؤمن له ممرًا بريًا نحو القرم والاحتفاظ ببحر آزوف كبحر داخلي، هذا السيناريو ممكن عبر اتفاق غير معلن (من تحت الطاولة) أي عبر وسطاء من نوع خاص وخلف الأبواب المغلقة لإبقاء الوضع على ما هو عليه دون أي اعتراف رسمي من كل طرف من الأطراف بسيادة الطرف المعادي على تلك الأرضي، أي على شاكلة الكوريتين الشمالية والجنوبية او الالمانيتين الشرقية والغربية، ليبقى الأمر على ما هو عليه لحين تغير موازين القوى وإعادة تشكيل التحالفات الجيواستراتيجية . ولعلي حاليًا أرجح هذا السيناريو فبناء أوكرانيا لخطوط دفاعية متينة وتعهد الغرب بتزويد أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة الدفاعية من الألغام والدفاعات الجوية وغيرها كي لا تسمح لروسيا بأن تحتل أي أراض جديدة، آملة أن تعمل العقوبات بإضعاف الدولة الروسية من الداخل وهذا سيكون بداية حرب باردة ثانية.
عودة الأراضي لأوكرانيا
مع أنه يبدو حالياً أن عودة الأراضي الأوكرانية التي احتلتها روسيا -سواء عام 2014 أو عام 2022م-أمر مستحيل، إلا أن تاريخ الصراعات في أوروبا يقدم لنا واقعاً مختلفاً؛ فألمانيا الشرقية والتي كانت عبارة عن دولة دمية صنعها الاتحاد السوفييتي مع بدء الحرب الباردة عادت وتوحدت مع سقوط جدار برلين. ولكن ذلك ارتبط بسقوط الاتحاد السوفييتي نفسه. وكذلك استعادة أذربيجان لإقليم ناغورني كارباخ من أرمينيا المدعومة من روسيا بعد انشغالها بحربها في أوكرانيا. فقد استطاعت أذربيجان تحريره بعد 30 عامًا من الاحتلال الأرميني.
نرى بأن هذه النماذج مرتبطة بتغيرات سياسية في موازين القوى سمحت لحدوث ذلك، لذا ستعود الأراضي الأوكرانية ولكن ليس كما ينشده الأوكرانيون حالياً، ليس سرًا على أحد بأن الغرب يعول على تفكك روسيا أو تغير نظام الحكم أو انهيار حاد في الاقتصاد سيشغلها عن أمور أخرى وهذا ما يسعى الغرب لإقناع أوكرانيا به حالياً. ومن هنا برزت بعض الأفكار في أروقة حلف الناتو مفادها يمكن التفكير ولو نظريا في فكرة قبول عضوية أوكرانيا بالحلف وتعميم البند الخامس على الأراضي الأوكرانية باستثناء تلك التي تسيطر عليها روسيا، ومها كان الأمر فإن الأمم المتحدة والغرب بالذات لن يقبلوا أبدًا بفكرة شرعنة الوجود الروسي في الأراضي الأوكرانية، لأن ذلك وببساطة ينسف كلياً نظرية سيادة الدول وعدم المساس بالحدود والسيادة.
مؤتمر جدّة .. مبادرة من خارج الصندوق
بعد بذل الجهود التركية للوساطة والتفاوض منذ بداية الحرب، وكذلك المبادرات الصينية والأفريقية ومن أمريكا اللاتينية وغيرها، تحركت المملكة العربية السعودية للإدلاء بدلوها في هذه المعادلة الصعبة، وذلك حين عقد مؤتمر جدّة في الخامس والسادس من أغسطس 2023م، والذي اكتسب أهمية كبرى خاصة بالنسبة إلى كييف وحلفائها الغربيين حتى وإن غابت عنه روسيا.
وكانت صيغة السلام الأوكرانية الموضوع الأبرز للمؤتمر، فهي لا تضمن تحقيق السلام لأوكرانيا فحسب، بل ستخلق أيضًا آليات لمواجهة النزاعات المستقبلية في العالم كما يراها الرئيس الأوكراني زيلينسكي.
الجديد في المبادرة السعودية هو حجم المشاركة التي تعكس توجهاً دوليًا واسعًا ينشد وقف حرب أرهقت العالم، وسلاماً يعيد الاستقرارإلى العلاقات بين الدول والأمن إلى اقتصاداتها وأسواقها الغذائية.
فرغم جهود الكرملين اليائسة لتعطيل أي اجتماعات تخص صيغة السلام في أوكرانيا، إلا أن مؤتمر جدة عقد، وهذه المرة لم تشمل 15 دولة كما كانت الحال في كوبنهاغن في يونيو2023م، بل ما بين 40-50 دولة، على مستوى مستشاري الأمن القومي وكبار المسؤولين السياسيين.
وهذا لأمرين:
أولا: موقع السعودية ومكانتها الريادية بين كثير من دول العالم، لا سيما العربية والإسلامية والآسيوية، التي كانت حتى اللحظة الأقل تأثيرًا في جهود الضغط على روسيا لوقف الحرب.
ثانيًا: لأن دول العالم سئمت أكثر، ولم تعد تصدق ذرائع روسيا أو تثقبها، ومنها دول صمتت عن إدانة الحرب، ففُسر صمتها دعمًا لموسكو، كالصين والهند وبعض دول أفريقيا وأميركا اللاتينية.
فشيئًا فشيئًا، يتحول العالم نحو الوحدة ضد هذه الحرب، ودعم صيغة السلام الأوكرانية أو صيغة أخرى واقعية، بشرط أن تحظى بإيجابية وأن تتمتع فعلاً بمجالات حيوية يحتاجها العالم وأوكرانيا على حد سواء.
لم يخفِ الأوكرانيون في أعمال القمة اهتمامهم الخاص ببند "الضمانات الأمنية"، بل لعله أبرز ما يعنيهم في الوقت الراهن، وإلى أن تنضم أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي.
فأوكرانيا تعلّمت من خطأ بتوقيعها على وثيقة بودابست عام 1994م، (التي تخلت بموجبها عن الأسلحة النووية مقابل ضمانات روسية أميركية بريطانية بعدم الاعتداء). فلا ثقة بعد اليوم مع الروس، ولن تكون قريباً؛ الأوكرانيون يبحثون عن شركاء جدد بعيدين عن أي تأثير روسي وهذا أحد أهم عوامل اهتمام وثقة الأوكرانيين بالمملكة العربية السعودية.
فبعد قمة الناتو وقمة مجموعة الدول السبع الكبار، نرى بأن نحو 40 دولة حول العالم منها الهند والصين أعربت عن استعدادها لمناقشة الضمانات الأمنية، وهذا غاية في الأهمية بالنسبة لكييف، ما دامت كييف بعيدة عن مظلة الناتو وحمايته. وقبل اجتياح المملكة للمعترك السياسي سبقته بدبلوماسية الدعم الإنساني عبر حزم التبرعات للشعب الأوكراني والتي بلغت مجملها قرابة 400 مليون دولار، هذا النوع من الاستراتيجية الدبلوماسية فتح أعين أوكرانيا إلى الاهتمام جداً بالشرق الأوسط وبالسعودية خصوصاً بعدما رأت نجاح الوساطة السعودية في الإفراج عن أسرى الحرب لدى روسيا وكذلك والأهم لعلم كييف بأن موسكو لا تمتلك أوراق ضغط على الرياض.
إن الحرب الروسية الأوكرانية غيرت وجه العالم وضربت الأمن الغذائي ولا زالت تدفعه لحافة حرب مباشرة بين جميع الأطراف المتحاربة على أرض أوكرانيا. وهي أيضاً فرصة تاريخية للدول العربية عامة وللسعودية خاصة؛ فمن سيتمكن من إيقافها سيحظى بثقل سياسي غير مسبوق، والذي سيجنب العالم حرباً عالمية ثالثة أو صراعاً قد يصل لأسلحة الدمار الشامل سيخلد وسيكون لاعباً دولياً لن يستهان به بعد ذلك.