من أجل فهم ما يجري في أوكرانيا، من المهم التعرف بشكل مفصل على تاريخ هذه الدولة، حيث إن أي محاولة لطرح أو تحليل الأحداث الجارية بمعزل عن خلفيتها التاريخية لن تقود سوى إلى أفكار ساذجة بعيدة عن الواقع، والتي لن يساعد تنفيذها في حل الأزمة.
مؤخرًا، أصبحت وكالات الأنباء، والمجلات، والصحف " في عجلة من أمرها" من أجل التركيز على المُجريات الآنية في حين تظل خلفية الأحداث خارج إطار التحليلات المطروحة لما يجري. وقد أفضى ذلك إلى سيل من التعليقات والتحليلات التي تفتقر إلى المهنية وتنم في بعض الأحيان عن جهل، مانحة القارئ جرعة إضافية من المعلومات المغلوطة.
لماذا إذن يتم تكرار هذه السرديات التي لا تعكس جوهر الأزمة، ألن يكون من الأفضل أن يتم تحليل الأزمة بصورة أكثر عمقًا ودقة؟
نظرًا لضعف الإلمام بتاريخ هذه القضية، فإن العديد من المقترحات المطروحة من أجل الخروج من الأزمة وإنهاء الحرب والتي تم صياغتها بأفضل النوايا، لا يمكنها أن تقدم الكثير لتسوية الوضع. وهذا يؤثر إلى حد ما على خطط زملائنا في الشرق الأوسط بما في ذلك الخطة الصينية، التي يتناولها اليوم صديقي العزيز لي هوي، السفير الصيني السابق في موسكو، والذي يشغل حالياً منصب الممثل الخاص لجمهورية الصين الشعبية في أوراسيا، ورئيس وفد تسوية الصراع الروسي / الأوكراني. فليس من قبيل الصدفة أن يستفيض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال حواره مع الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون، في حديثه عن تاريخ وأصول الصراع الدائر إلى الحد الذي أثار معه دهشة الكاتب الأمريكي. ففي البداية، كما اعترف تاكر نفسه، كان نافد الصبر وأراد الانتقال سريعا إلى "جوهر أزمات اليوم"، لكنه أدرك أن الفهم الجيد لتاريخ الأزمة هو السبيل الصحيح من أجل استيعاب الحقيقة.
إن معرفتي الشخصية بتاريخ تطور الأوضاع السياسية في الداخل الأوكراني وتاريخ العلاقات بين موسكو وكييف على مدار العقود الماضية لم يتم استقاؤها من الكتب، والأفلام، والمقالات التي تم كتابتها بواسطة مختصين فقط. بل كان والدي الجنرال جليب باكلانوف- أحد أبطال الاتحاد السوفيتي، الذين قاموا بتحرير أوكرانيا، ثم توجه بعد الحرب إلى الخدمة هناك وظل ممثلًا عن المناطق الغربية في البرلمان الأوكراني خلال حقبة الخمسينيات من القرن الماضي. لقد عشت في أوكرانيا لسنوات عديدة، ما بين الشرق - في مدينة بيلا تسيركفا، بالقرب من العاصمة - كييف، والغرب - في مدينة ريفني. وبالمناسبة، يعتبر الكثيرون مدينة ريفني عاصمة الحركة الوطنية المناهضة لروسيا في أوكرانيا. وتُسمى هذه الحركة الراديكالية أيضا بــ "حركة بانديرا" تكريما لستيبان بانديرا، المُنظر الأيديولوجي الرئيسي لفكرة انفصال أوكرانيا عن روسيا، وهو الرجل الذي قاد المجموعات شبه العسكرية التي قاتلت ضد الجيش الأحمر في أوكرانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وغالبًا ما كان هناك تنسيق بين تحركات هذه المجموعات والقوات الفاشية الألمانية. لذلك، اعتبرته روسيا خائنًا وعميلًا، في حين خلدت الحكومة الأوكرانية الحالية ذكراه كبطل قومي.
بشكل عام، لدي اعتقاد راسخ أنه من الصعب بمكان أن تتوصل روسيا، بالنسبة للعديد من دول العالم اليوم، إلى فهم متبادل فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الأحداث في أوكرانيا وما حولها.
بالنسبة لنا، تعتبر أحداث اليوم استمرارًا للحرب العالمية الثانية والصراع الذي نخوضه ضد محاولات الغرب للحجر على إرادتنا، ومحاولات التيار الوطني داخل أوكرانيا حظر اللغة الروسية وتحجيم نفوذها. فنحن ننظر إلى الصراع الدائر بين كييف وموسكو ليس باعتباره نزاع بين دولتين أو بين الروس والشعب الأوكراني كما يعتقد الكثيرون. بل إنه صراع بين أبناء وأحفاد أولئك الذين كانوا يدعمون الفاشية والتيار القومي الراديكالي إبان الحرب العالمية الثانية، والذين حاربوا ضد الفاشية وانتصروا. فإنها أقرب إلى حرب أهلية أو محاولة للثأر والانتقام من جانب الذين ذاقوا مرارة الهزيمة في 1945م، وأصبحوا اليوم أصحاب نفوذ كبير. في اعتقادي أن طبيعة الصراع الدائر ليست واضحة بشكل كامل للكثيرين داخل منطقة الشرق الأوسط وذلك نظرا إلى أن الحرب العالمية الثانية كانت تدور رحاها بشكل أساسي داخل أوروبا والشرق الأقصى.
تجرى حاليًا الكثير من النقاشات بشأن "محادثات سلام" بين موسكو وكييف، وآفاقها، وأهدافها. ولكني أود هنا تحديدًا التذكرة بأنه خلال الحرب العالمية الثانية، لم ينخرط الاتحاد السوفيتي في مفاوضات مع النظام الفاشي. لقد تعرضنا لهجوم غير متوقع في 22 يونيو 1941م، وانطلقنا من حقيقة أنه كان من الممكن إنهاء الحرب ليس عن طريق تقديم تنازلات، ولكن عن طريق القضاء على الفاشية وتصفية جيوش ألمانيا وحلفائها. فقد بدأ الفاشيون الحرب غدرًا من خلال انتهاك معاهدة عدم الاعتداء الرسمية لعام 1939م. وبالتالي، ما الذي يمكن التفاوض عليه مع أولئك الذين عزموا غدرًا على انتهاك الاتفاقيات المنصوص عليها وراحوا يقتلون ويزهقون أرواح الملايين من أبناء شعبنا؟
في ذلك الوقت، كان يُعتقد أن أولئك الذين يدعون إلى إجراء محادثات السلام هم "خونة ويجب مُعاقبتهم بشدة". أما اليوم، فإن الرأي العام الروسي منقسم حول هذه القضية، بين من يدعو إلى محاربة القومية الأوكرانية والفاشية الحديثة لتحقيق النصر الكامل، ومن يعتقد أن التصدي للتهديد العسكري الذي تشكله السلطات في كييف وحلفاؤها، الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "ناتو"، سيكون كافيًا، على أن يتم التوصل إلى تسوية فيما بعد.
اليوم، أصبحت دول أوروبا ضدنا، فما هو شعورنا حيال ذلك؟
لم يكن ذلك مفاجئًا، فنحن نعي جيدًا مع من نتعامل، لكن لايزال هناك العديدون داخل روسيا ممن يشعرون بالغضب حيال "جحود" أولئك الذين لم يتمكنوا من استعادة سيادة أوطانهم إلا بفضل انتصار الجيش السوفييتي على الفاشية. وإن كان قد يثير ذلك اعتراض البعض على اعتبار أن النصر المُحقق حينذاك كان مشتركا مع الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، ودول أخرى. وقد يكون ذلك صحيحًا، لكن من المهم أيضًا الأخذ بعين الاعتبار أن 75٪ في المتوسط من قوات ألمانيا والدول التابعة لها كانت على الجبهة الشرقية، ضد الاتحاد السوفييتي. في حين أن الولايات المتحدة لم تدخل الحرب إلا في صيف عام 1944م، أي بعد ثلاث سنوات منذ بدء الصراع الدموي الذي خاضه الاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا والدول التابعة لها.
وفي ضوء ذلك، ننطلق من حقيقة أن موقف زعماء أوروبا اليوم ما هو إلا استكمال لما حدث خلال الحرب العالمية الثانية. ومن المهم أن نتذكر أن المواقف الأوروبية حينها كانت إما داعمة للفاشية - مثل إيطاليا، وإسبانيا، والمجر، أو معلنةً استسلامها إلى ألمانيا النازية دون أن تظهر مقاومة. على سبيل المثال، أعلنت فرنسا استسلامها بعد 45 يومًا من القتال، خلال الفترة ما بين عام 1941 إلى عام 1945م، وتم تطويع الصناعات الفرنسية في خدمة وتلبية احتياجات وأوامر الجيش النازي، وبالتالي فقد شاركت في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي إلى جانب الفاشية النازية. كان ذلك بمثابة إذلال مُهين لفرنسا والبلدان الأوروبية، وجنودها، الذين تبين أنهم، على عكس القوات السوفييتية، لا يتحلون بنفس القدر من الشجاعة. واليوم، يسعى أحفادهم إلى إعادة كتابة التاريخ، وإعادة تأهيل أنفسهم بعد عار الهزيمة الذي لحق بأجدادهم والترويج لفاشية هتلر. فإن سلوك الرئيس الفرنسي مانيول ماكرون - يُعد مثالًا لأولئك الذين يريدون حرمان روسيا من مكانة المنتصر في الحرب ضد الفاشية، في حين أن " القضاة" هم الذين استسلموا بشكل مخز للنظام النازي في ألمانيا.
وفيما يلي موجز عن بعض مما عايشته أوكرانيا عقب انتصارها في الحرب ضد الفاشية عام 1945م:
واصلت حركة "بانديرا" قتالها ضد القوات السوفيتية بعد انسحاب القوات التابعة لهتلر وظلت متمركزة داخل أوكرانيا حتى عام 1953م. وقامت عناصرها المسلحة بترويع المواطنين بالأخص في المناطق الحضرية وارغامهم على تسليم قوتهم وأموالهم من أجل تلبية احتياجاتها. اعتادت هذه الجماعات الاختباء داخل الغابات والمستنقعات، لذلك لم يكن من السهل القتال معهم. مع ذلك، تم هزيمتهم وارتأى البعض في البداية أن جزاءهم يجب أن يكون الإعدام بسبب جرائمهم ضد المدنيين والجيش السوفيتي، إلا أن موسكو قررت فيما بعد استبدال العقوبة بالسجن المؤبد وترحيلهم إلى سيبيريا.
ظلت الأوضاع هادئة داخل أوكرانيا، في الفترة ما بين عامي 1953 و1955م، وتم تدريس اللغتين، الأوكرانية والروسية، على قدم المساواة داخل المدارس ومنح حرية استخدام أي منهما داخل البلاد. وخلال سنوات الطفولة، أرسلني والدي إلى إحدى المدارس التي تدرس باللغة الأوكرانية من أجل "توسيع مداركي ومعرفتي". وأثناء هذه الفترة لم يكن الأطفال بشكل عام مهتمين بمعرفة أي جنسية يحملها أقرانهم. كان الجميع يتحدث حينها عن "صداقة الشعوب" والأمة السوفيتية الموحدة". مع ذلك، لم يدم هذا الهدوء طويلا.
وفي الفترة ما بين عام 1955 إلى عام 1956م، قرر زعيم الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت نيكيتا خروتشوف تطبيق ما سمي بـ “المصالحة الوطنية". حيث أصدر مرسوما بإطلاق سراح 100 ألف من مجرمي الحرب، والقتلى، والمتواطئين من السجون قبل انتهاء مدتهم، ومن بينهم أولئك الذين ارتكبوا جرائمهم على الأراضي الأوكرانية. أثار ذلك قلقا لدى العديد من المواطنين حيال عودة هذه العصابات مرة أخرى، مطالبين بالتوقف عن تنفيذ هذا القرار. وهو ما قوبل برفض من خروشوف الذي أصر على استئناف قراره ليشعل بذلك شرارة الأحداث المأساوية التي آلت إلى الحرب التي نعايشها اليوم.
فقد نجحت العناصر الراديكالية العائدة من السجون في توحيد صفوفها عازمة على الثأر. وفي ظل ضعف وتلكؤ السلطات الرسمية في موسكو، استطاع القوميون والمتواطئون السابقون مع الفاشيين الألمان الوصول إلى السلطة في أوكرانيا. ارتكب خروشوف جريمة أخرى بإصراره على النقل "غير القانوني" لشبه جزيرة القرم من الولاية القضائية الروسية إلى الولاية القضائية الأوكرانية. لم يعر المواطنون حينها اهتماما بهذا القرار إن صدقنا القول - حيث كانت الحدود الفاصلة بين روسيا وأوكرانيا حبرًا على ورق وظل البلدان جزئين من دولة واحدة- الإتحاد السوفيتي، إلا أن ديناميكيات ذلك الوضع المعقد كانت قد بدأت تتكشف، حيث شرع القوميون الأوكرانيون في تنفيذ خططهم السرية من أجل الاستيلاء على السلطة مع الابتعاد تدريجيا عن الفلك الروسي.
بداية في عام 1991، استطاع القوميون الأوكرانيون الانفصال عن الاتحاد السوفيتي. وجدير بالذكر أن القرار الذي اتخذه البرلمان الأوكراني عام 1991م، تحت ضغط سيطرة القوميين على أغلبية الأصوات، بشأن "استقلال" أوكرانيا، يعد انتهاكًا لنتائج الاستفتاء الوطني بشأن الحفاظ على الوحدة مع الاتحاد السوفيتي.
بالعودة إلى مارس من عام 1991م، صوت 78 % من المواطنين الأوكرانيين، في "استفتاء السيادة الأوكراني "، لصالح استمرار الوجود المشترك في إطار دولة واحدة من روسيا وأوكرانيا والحفاظ على وحدة الاتحاد السوفيتي. ومن هذا المنطلق، فإن الاتفاقيات المُتعلقة بتصفية الاتحاد السوفييتي، التي تم التوصل إليها سرًا ضمن المفاوضات التي جرت على أراضي بيلاروسيا في ديسمبر من عام 1991م، من قبل رؤساء روسيا، وأوكرانيا، وبيلاروسيا - يلتسين، وكرافشوك، وشوشكيفيتش، يمكن اعتبارها جريمة، واتفاقيات غير دستورية، ومؤامرة للاستيلاء على السلطة.
لسوء الحظ، لم تصمد الهياكل الحكومية سواء للجمهورية الروسية أو غيرها من الجمهوريات السوفيتية أمام هذا التيار، وأصبح المواطنون العاديون في حالة من التشوش والارتباك. استطاعت أوكرانيا فيما بعد أن تصبح دولة ذات سيادة وحظيت باعتراف موسكو باستقلاليتها. وتم تقديم مساعدات مالية واقتصادية أحادية الجانب بقيمة تزيد على 140 مليار دولار أمريكي. في غضون ذلك، نجحت العناصر القومية في حشد وكسب النفوذ داخل أوكرانيا مطالبين بالحظر الفعلي لاستخدام اللغة الروسية التي كان ينطق بها أكثر من نصف سكان أوكرانيا. وفي عام 2014م، حدث انقلاب عسكري داخل كييف لتتمكن العناصر الموالية للنظام الفاشي والمدعومة من الغرب، من الصعود إلى السلطة.
كان الوضع الأكثر إثارة للقلق في شبه جزيرة القرم، عندما قررت العناصر القومية الأوكرانية نقل القوات في سبيل إزاحة الأغلبية الناطقة باللغة الروسية من السلطة. ومن جانبها، اتخذت روسيا إجراءاتها من أجل منع حدوث مثل هذا السيناريو. في حين صوت أكثر من 90 %من سكان شبه جزيرة القرم لصالح العودة إلى روسيا خلال استفتاء شعبي.
جدير بالذكر أن 40 ألف فقط من إجمالي 570 ألف مواطن من أصل أوكراني ممن يعيشون في شبه جزيرة القرم هم من عارضوا الانضمام إلى الفيدرالية الروسية أي ما يمثل 3 % من إجمالي أصوات الناخبين. كما أبدت الأغلبية المطلقة من السكان الأوكرانيين تضامنا مع الروس والقوميات الأخرى التي تسكن شبه جزيرة القرم لصالح العودة إلى روسيا، كما كان الحال قبل عام 1954م، أي أن ترسيم الحدود لم يكن على أساس مبدأ عرقي، بل كان مدفوعًا بأسباب سياسية.
وفي المناطق الواقعة في شرق أوكرانيا، طالب القوميون من السلطات في كييف باعتماد اللغة الأوكرانية فقط كلغة رسمية. وعندما رفض سكان منطقتي دونيتسك ولوهانسك القيام بذلك، تم شن عدوان مُسلح ضدهم. وفي عام 2021م، كثفت كييف الجهود الرامية إلى انضمام البلاد إلى حلف الناتو وهو الأمر الذي يعد غير مقبول على الإطلاق بالنسبة للجانب الروسي. وفي نهاية عام 2021م، دعت موسكو حلف الناتو وأوكرانيا للتخلي عن مثل هذه الخطط وإعطاء ضمانات بعدم توسع الحلف الغربي تجاه روسيا، وجاء الرد من الجانب الآخر متمثلا في هجمات بالمدفعية ضد أهداف مدنية في دونباس، وحصار شبه جزيرة القرم وغيرها من الأفعال العدوانية. وفي ضوء هذا السياق، قررت روسيا بدء عمليتها العسكرية ضد النظام النازي الجديد في كييف.
أدت التطورات المتتالية على الصعيد الأوكراني منذ عام 2014 م، إلى اندلاع أزمة داخل البلاد، وتدهور الأوضاع المالية، إلى جانب تزايد اعتماد كييف على الغرب. وهو ما اضطر العديد من المواطنين إلى مغادرة البلاد؛ فبعضهم سافر إلى روسيا بينما قصد البعض الآخر دولًا أوروبية. واليوم يتواجد نحو 11 مليون أوكراني في روسيا إلى جانب أولئك الذين عاشوا وعملوا ودرسوا في أوكرانيا مثلي. جميع هؤلاء يدعمون فكرة" التحرير الثاني" لأوكرانيا من قبضة الفاشيين والخونة.
من المثير للاهتمام مدى التغير الذي طرأ على الشعب الأوكراني. بالعودة إلى حقبة الحكم السوفيتي خلال (1950-1990م) شهد التعداد السكاني زيادة كبيرة من 36 مليون نسمة إلى 51 مليون نسمة. واليوم، يتواجد نحو 29 مليون داخل أوكرانيا بعد الانقلاب الفاشي الذي وقع عام 2014 م، في حين انتقل الباقون إلى روسيا ودول أوروبا.
بداية تفكك الدولة الأوكرانية
ما هو السيناريو التالي المحتمل لتطور الأحداث؟
السيناريو الأكثر ترجيحًا هو انهيار الدولة الأوكرانية، حيث تشير تقديرات الخبراء المختصين في الشأن السياسي الأوكراني يوري رومانينكو وأليكسي كوماروف، إلى أن النموذج الحالي للدولة داخل أوكرانيا غير صالح للاستمرار. وأيدوا إجراء استفتاء داخل كل منطقة من مناطق أوكرانيا كي تحدد مستقبلها ومصيرها. فيبدو اليوم أنه من المحتمل جدًا أن تنقسم أوكرانيا إلى خمس أو ست مناطق تشكلت تاريخيًا، حيث تختلف في الوعي الذاتي، والتقاليد، والتاريخ، والخصائص العرقية والطائفية، والتوجه الجغرافي للعلاقات الاقتصادية. لقد اتخذت شبه جزيرة القرم والمناطق الشرقية بالفعل خيارها - فهي تعود إلى دولة واحدة مع روسيا. فيما يمكن أن تكون أوكرانيا الغربية وأوكرانيا الكارباتية أجزاء مستقلة من أوكرانيا.
يعتبر الوضع أكثر تعقيدًا للمدن المركزية والأجزاء الوسطى من البلاد مثل (كييف، وجيتومير، وغيرهم من المناطق). حيث يعد ظهور رابطة الدولة الأوكرانية الوسطى أمرًا ممكنًا وفقًا للمبدأ التكاملي. وفي هذه الحالة ستواجه الرابطة أزمة متعلقة بكيفية تقاسم القوات المسلحة والتسليح ومن المتوقع أن يزداد الوضع تعقيدًا بسبب مطالبات دول ثالثة. لذلك، لا تخفي وارسو بشكل خاص آمالها في ضم المناطق الغربية من أوكرانيا إلى بولندا، بل حتى إنه تم إطلاق اسم خصيصًا لها وهو “كريسي". كذلك، قد يطالب المجريون أيضًا الذين يعيشون في منطقة ترانسكارباثيا الواقعة داخل أوكرانيا، بالحكم الذاتي.
تتواصل الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا لأكثر من عامين حتى الآن. وتعتبر إحدى القضايا المركزية حاليا هي تحديد الشكل المستقبلي للمشاركة في أحداث خاصة بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. فللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، تستخدم الأسلحة الألمانية في قتل أبناء الشعب الروسي. ويعتقد الكثيرون في روسيا اليوم أن الاتحاد السوفييتي بزعامة ستالين ارتكب خطأً استراتيجيا في نهاية الحرب العالمية، وأن الاتحاد السوفييتي، الذي فقد 28 مليون شخص إما بالقتل او التعذيب داخل معسكرات الاعتقال نتيجة للأعمال الإجرامية التي ارتكبتها ألمانيا، تصرف بسخاء مع نظام هتلر الألماني الإجرامي في عام 1945م، ويعتقد هؤلاء أنه من الضروري القضاء على ألمانيا باعتبارها مجتمع إجرامي تسبب في إشعال فتيل الحرب العالمية الأولى والثانية. وبالفعل، يبدو اليوم أن الأمة الألمانية لم تتعظ من دروس الماضي ويواصل المستشار الألماني شولتز، الذي كان جده مجرم حرب وخدم في جيش هتلر، نفس المسار في التعامل مع روسيا. لذلك فأنا أرى أن "التقليد" الألماني للقتال ضد روسيا وقتل أبناء الشعب الروسي يجب أن يوضع له حداً، مرة واحدة وإلى الأبد.
الحرب الأوكرانية تدخل الآن عامها الثالث
ما هي الافتراضات المحتملة -الانتقال إلى مفاوضات سلام أم استمرار القتال والأعمال العدائية؟
محادثات السلام
قد يبدو ذلك أفضل من الخيار العسكري، ولكن هل يوجد أساس يفضي إلى التوصل إلى تسوية سلمية؟ من الواضح، أنه لا وجود لمثل هذا الأساس، باستثناء الحاجة المشتركة إلى معالجة قطاع محدود من القضايا الإنسانية – مثل تبادل الأسرى والجرحى، وما إلى ذلك. في البداية، أصدر زيلينسكي قانونا يحظر مفاوضات السلام. ولكن حتى لو لم يكن هناك مثل هذا القانون، فمن الصعب أن نتصور إمكانية التوصل إلى حل وسط، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الخلافات حول القضية الأكثر أهمية وهي قضية الأراضي. إن عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا ودخول أربع مناطق أخرى إلى الاتحاد الروسي هي قضية مغلقة، وقد تم اعتماد تعديلات على الدستور الروسي في هذا الصدد. ولكن لن تقبل القيادة الحالية في كييف بنقل سلطة هذه المناطق إلى روسيا. بالتالي، تنعدم رؤية الأساس الذي قد تقوم عليه التسوية. في الوقت ذاته، فإن روسيا ليست في عجلة من أمرها للقيام بعملية عسكرية في أوكرانيا. وعلى حد تعبير الرئيس الروسي مجازيًا، فإن "الدجاجة تنقر على الحبوب الصغيرة حبة حبة حتى تشبع". حيث تقوم روسيا، يومًا تلو الأخر، بتدمير البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 40٪ منها قد تم تدميرها بالفعل، ومن المتوقع أن يتم تنفيذ الضربات على البنية التحتية للطاقة.
السؤال ماذا سيحدث إذا قام الغرب بإرسال قواته لقتال داخل أوكرانيا؟
الإجابة بسيطة للغاية- وهي أنها ستتلقى شر هزيمة. ربما تستطيع القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو استهداف المدنيين في يوغوسلافيا، ولكن في دولة مثل باكستان، اتضح افتقارها الشديد للمهارات العسكرية. فضلًا عن مخاطرة الدول الأوروبية بــ “تعريض " أراضيها لهجوم روسي محتمل.
ينظر عدد من الباحثين الروس بشكل نقدي إلى الدور الحذر الذي تلعبه القيادة العسكرية -السياسية لروسيا. ويشيرون إلى أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبحت نسبة الأسلحة التقليدية في أوروبا حوالي 4 إلى 1 لصالح دول الناتو. وفي ظل هذه الظروف، وفي حالة القيام بعمل عسكري، سيتعين على روسيا اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية لضمان تحقيق النصر. وبالمناسبة، ليس من الضروري اللجوء إلى استخدام أي أنواع جديدة من الأسلحة الفضائية لهذا الغرض. حيث إن لدى روسيا القدرة على ضمان تدمير جميع خصومها.
ويحذر هؤلاء الباحثون من أن نشوب حرب نووية داخل أوروبا سوف يؤدي إلى اختفاء دول مثل فنلندا، والسويد، وألمانيا من على وجه الأرض. وبطبيعة الحال، يظل خطر حدوث دمار متبادل كامل، وبالتالي فمن الأفضل الامتناع عن إشعال فتيل حالة عامة من الانهيار والدمار. لقد تحدث زعماء الدول الغربية باستمرار عن "التهديد الروسي" المتزايد لسنوات عديدة. في هذه الأثناء، وافقت موسكو على تصفية اتفاقها الدفاعي لحلف وارسو، وسحبت قواتها من ألمانيا، وبولندا، والمجر، وتشيكوسلوفاكيا. ولكن واصل حلف الناتو توسعه بالقرب من حدودنا. لذلك ربما نكون أخطأنا في عدم إقامة رادع عسكري مسبقًا. ولكن الآن، ومثلما يتبين من خلال الأزمة الأوكرانية، ستواصل روسيا الدفاع وحماية مصالحها بشكل حاسم ومستمر. فلا يسعنا أن نكرر ما حدث في يونيو 1941م، عندما حركت ألمانيا قواتها للاستيلاء على أراضينا وثرواتنا الوطنية.
فأوكرانيا اليوم هي الساحة التي سيتقرر فيها مصير العالم. وسوف تلتزم روسيا بشدة بحماية مصالحها الوطنية.