- تاريخياً واستراتيجياً، تُعتبر أوكرانيا الحد الفاصل جغرافياً بين الشرق والغرب.. وبين آسيا وأوروبا، حيث تفصلهما سلسلة جبال الأورال والقوقاز والبحر الأسود، كحدود طبيعية، وإن أطلق على أجزاء بينهما لتشكيل ما يسمى بمنطقة أو قارة أوراسيا. تقع أوكرانيا، في منطقة فاصلة بين آسيا وأوروبا، ولذا من يسيطر على أوكرانيا يتحكم في مفاتيح الغرب ومغاليق الشرق. في الحرب العالمية الثانية، كانت أوكرانيا النقطة التي وقف عندها جيش هتلر، وانكساره فيها هو بداية اندحار الزحف الألماني شرقاً، أكثر من فشل الجيش النازي دخول مدينة ستالين جراد، على الجبهة الشمالية الشرقية من حملة (بربروسا)، التي أراد بها هتلر إكمال سيطرته على أوروبا، بما فيها الأجزاء الشرقية من قارة أوراسيا، ليكتمل بها صرح تاج رايخه الثالث، للهيمنة على العالم.
كان سهلاً على هتلر، دخول جيوشه موسكو، كما فعل من قبله نابليون، للقضاء على نظام ستالين والجيش الأحمر، ليغلق الجبهة الشمالية الشرقية، في حملة (بر بروسا )، إلا أنه اختار، رغماً عن إرادة جنرالاته، أن تتوجه جيوشه جنوباً للسيطرة على حقول النفط في القوقاز، والوصول إلى موسكو عن طريق كييف، قبل أن يحسم جبهة ستالين جراد، التي يمكنه الوصول إليها، من جبهة الشرق، بدل الدخول إليها من الغرب. لكن الذي حدث: أن تجمد الجيش النازي في صقيع ستالين جراد ليغوص في وحل كييف.. وتتهاوى أحلامه في بناء رايخه الثالث بالسيطرة على أوروبا، بما فيها الجزء الشرقي من منطقة أوراسيا، ومن ثَمّ السيطرة على العالم.
جبهة الدب الروسي الرخوة
كانت منطقة القرم وجنوب شرق أوكرانيا، تاريخياً واستراتيجياً، خاصرة الحدود الروسية الرخوة، بسهولة اختراقها وعبور الإمبراطوريات الكبرى إلى آسيا الصغرى ومن ثم إلى الصين، بينما الدب الروسي كامنٌ في عرينه على امتداد سفوح جبال الأورال الشرقية، التي تمثل فاصلاً طبيعياً يصعب اختراقه من أعداء الروس الأوروبيون في الغرب. من هذه المنطقة دلف جيش الإسكندر الأكبر، ليزحف لمناطق آسيا الصغرى ومنها إلى الصين نزولاً إلى بلاد فارس ومن ثَمّ إلى شبه القارة الهندية، مهدداً التخوم الجنوبية لحدود روسيا مع الصين وبلدان آسيا الوسطى، حتى الشواطئ الشرقية للبحر الأسود.
نفس الطريق شقته الإمبراطورية الرومانية.. ودخلت منه الديانة المسيحية الأرثوذكسية، بعد أن سقطت روما. ونفس المسار الذي اتبعه التتار لتوسع مملكتهم شمالاً من أراضي آسيا الوسطى اجتياحاً لشبه جزيرة القرم، ثم احتلال الجنوب الشرقي لروسيا بما فيه أجزاء من أوكرانيا مع حرمان الروس من الإطلالة المباشرة على مياه البحر الأسود.
نابليون بحملته الوطنية الكبرى ضد أوروبا، بهدف إخضاعها، اخترق الحدود الروسية من الوسط وصولاً إلى موسكو، لكنه واجه ما واجهه بعده هتلر في حملة ( بر بروسا )، عندما حل الشتاء وانقطعت سبل الإمداد من باريس إلى وسط أوروبا وصولاً إلى الجبهة الشرقية في عمق وسط روسيا، الأمر الذي أجبر نابليون على الانسحاب من موسكو والأراضي الروسية بعد أكثر من شهر لاحتلاله موسكو. العثمانيون، أيضاً كان لهم حروب، كر وفر مع الروس، احتل خلالها العثمانيون جزيرة القرم وطول الساحل الجنوبي من أوكرانيا، على البحر الأسود، وأجزاء من الحدود بين أوكرانيا وروسيا في أقصى الجنوب الشرقي من روسيا.
باختصار، كان الغزاة، طوال خمسة وعشرون قرناً، يهددون أمن الروس من خاصرة حدود إمبراطوريتهم الرخوة الواقعة على تخوم حدودهم الجنوبية الغربية مع أوكرانيا. حتى أن الأمر وصل بحكام الكرملين في موسكو التمسك بهذه الخاصرة الرخوة التي طالما أغرت الغزاة تهديد أمنهم القومي، لتصبح أوكرانيا خط الدفاع الأول عن الإمبراطورية الروسية، في عهد القياصرة.. والنظام الشيوعي في عهد الاتحاد السوفيتي، وروسيا الاتحادية الجديدة في عهد بوتن.
حدود روسيا الصلبة
عكس جبهة روسيا الرخوة في أوكرانيا على ساحل البحر الأسود، روسيا كان عليها فعل القليل لحماية جبهتها الوسطى في مواجهة موسكو.. وجبهتها الشمالية الشرقية في مواجهة ستالين جراد. على طول هاتين الجبهتين (الوسطى والشمالية الغربية) كان الروس يتبعون خطة دفاعية، عمادها جر العدو للعمق الروسي الدافئ نسبياً في فصول الربيع والصيف، حتى لو اقتضى ذلك اختراق الجبهة الروسية على طول سفوح جبال الأورال الوكر الحصين للدب الروسي، حتى إذا توغل العدو في الداخل حيث العمق الاستراتيجي لعرين الدب الروسي، أنقض عليهم الجيش الروسي وأبادهم.
عند هذه النقطة من توغل العدو في عمق الأراضي الروسية عند العاصمة موسكو وحولها، تطول خطوط إمداد العدو الزاحف من الغرب، فيحدث نقص خطير في المعدات والذخيرة والمؤن المحروقات، فتضعف جيوش الأعداء، ثم تقوم الطبيعية بعملها الاستراتيجي في صعوبة سير قوافل الجنود، إما تتجمد في الصقيع القارس شتاءً، في الشمال والوسط.. أو تغوص في وحل الخريف والربيع الممطر بغزارة، في الجنوب الدافئ. ثم يأتي الجيش الروسي في هجوم مضاد إما أن يقنع العدو العودة من حيث أتى بعد يأسه من استحالة غزو روسيا، كما هو في حالة حملة نابليون (١٨١١، ١٨١٢ م).. أو ملاحقة العدو حتى عمقه الاستراتيجي بدخول عاصمته، كما حدث عند دخول الجيش الأحمر برلين وتدمير مقر البرلمان النازي (الريستاج) في قلب برلين، بل حتى الوصول إلى مخبأ هتلر في قلب العاصمة برلين.
لهذه الأسباب الاستراتيجية، ذات الخلفية التاريخية، لم تكن موسكو أن تسمح لكييف بأن تقترب كثيراً من الغرب، بما يهدد الأمن القومي لروسيا الاتحادية… دعك السماح لها من أن تنضم لعدوه اللدود حلف شمال الأطلسي، بقيادة الولايات المتحدة.. ولا حتى الانضمام، إلى صيغة للتعاون أكثر "براءة" مع الغرب، ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي.
المشكلة أن الغرب يعرف هذه الحساسية الاستراتيجية لدى الروس من الاقتراب تجاه حدودها، خاصة تلك الخاصرة الرخوة التي تقع في أوكرانيا… بل أن الغرب تعهد بعدم محاولة الاقتراب من حدود روسيا التاريخية، خاصةً عند حدود الجبهة الجنوبية الشرقية (أوكرانيا) بما قد يهدد أمنها القومي. لقد قدم الغرب هذا التعهد للاتحاد السوفيتي، عندما وافقت موسكو الانسحاب من دول حلف وراسو، في شرق أوروبا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (٢٦ ديسمبر ١٩٩١ م)، متوجاً تفكك حلف وارسو، والرجوع إلى حدود روسيا الاتحادية التاريخية، قبل قيام الثورة البلشفية (٢٥ أكتوبر - ٧ نوفمبر ١٩١٧م).
لكن الغرب، لم يف بذلك الوعد، فأخذ يتمدد شرقاً في بولندا ورومانيا والمجر، حتى شارف الاقتراب من أوكرانيا، عندها انتفض الدب الروسي دفاعاً عن حدود روسيا الاتحادية، حتى لو اقتضى الأمر احتلال أوكرانيا. وكان أن شنت روسيا الحرب على أوكرانيا، بأن استغلت الفصائل الداعية للانفصال من أوكرانيا، في منطقة الحدود الجنوبية الغربية مع روسيا، في مقاطعة (دو نباس) بدعوى طلب سكان جمهوريتي دونتسك ولوغانسك، ذوي الأصول الروسية، الانضمام لروسيا الاتحادية، بعد إعلان انفصالهما عن أوكرانيا، لتستجيب لهم موسكو بدعوى استعادة أجزاء من أراضيها ترى أن كييف تحتلها، فاندلعت الحرب في الرابع والعشرين من فبراير ٢٠٢٢م.
موسكو، من جانها، أطلقت على تدخلها العسكري ضد أوكرانيا، على مشارف حدودها الجنوبية الشرقية (حملة عسكرية خاصة ومحدودة)! لتتجنب الدخول في إشكالات مصطلح الحرب، التي قد تترتب عليه مسؤوليات قانونية وسياسية، يحكمها القانون الدولي، وتفادياً لحساسية العلاقات الاستراتيجية مع الغرب. بينما، في المقابل، اعتبر الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا حرباً على دولة مستقلة، ذات سيادة، امتداداً لمحاولة سابقة عام ٢٠١٤م، التي انتهت باحتلال الروس شبه جزيرة القرم، وإعلان ضمها لروسيا الاتحادية. تكريساً لمشروع ضم شبه جزيرة القرم عمدت موسكو، منذ احتلاها لشبه جزيرة القرم، إنشاء جسر بري مزدوج (للسيارات والقطارات) لربط البر الروسي بشبه جزيرة القرم. وفي فبراير 2022 م، قدّرت موسكو أن الوقت قد حان لإخضاع أوكرانيا، ولو تطلب الأمر احتلالها، لإجهاض محاولات كييف والغرب انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بما في ذلك انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي… وكانت الحرب، التي دخلت في فبراير الماضي عامها الثالث.
استراتيجية الخوف المضاد
ليست روسيا وحدها التي كانت تخشى غزوها من الغرب، الغرب نفسه، كان يخشى من غدر الدب الروسي، الذي يتخذ من الحدود الطبيعة مع أوروبا على امتداد جبال الأورال، الفاصلة بين آسيا في الشرق وأوروبا في الغرب، حدوداً طبيعية، مثل ما هي خطوط دفاعية لروسيا، يمكن من الناحية الاستراتيجية، تتحول إلى نقطة هجوم استراتيجية تهدد شرق ووسط أوروبا.
هذا ما حدث، بنهاية الحرب العالمية الثانية، عندما اندفع الجيش الأحمر، بعد انهيار جيوش هتلر على الجبهة الشرقية عبر سهول أوروبا الشرقية المفتوحة، حتى وصل الجيش الأحمر إلى قلب عاصمة الرايخ الثالث (برلين). كان الغرب، في تلك الحرب يخشى، أن يستمر زحف الجيش الأحمر حتى يستولي على كامل أوروبا، حتى المحيط الأطلسي.. وتدين لموسكو (الشيوعية) كل أوروبا، مما يشكل تهديداً فورياً وناجزاً على مجتمعات دول غرب أوروبا الديمقراطية، وربما يمتد خطر الزحف الروسي المحتمل، ليعبر المحيط الأطلسي، حتى السواحل الشرقية للولايات المتحدة وكندا.. ويمكن أن يتواكب مع هذا الزحف الروسي المحتمل غرباً، مع زحف آخر من الشمال الشرقي لأمريكا الشمالية من خلال مضيق بيرنج، ليستعيد الروس ألاسكا، نزولاً إلى مقاطعة كولومبيا البريطانية، ومنها إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة على طول سواحل ولايات، واشنطن، وأوريغون، وكاليفورنيا.
'سيناريو" مقلق سيطر على دول الحلفاء الغربيين، لو فكر الروس، أن لا يقفوا عند حدود أوروبا الشرقية ويواصلوا زحفهم غرباً، لاحتلال كامل أوروبا. كابوس استراتيجي كان يقض مضاجع دول الحلفاء الغربيين، ناتج عن قناعتهم الاستراتيجية بعدم تمكنهم من صد أي هجوم بالأسلحة التقليدية يقدم عليه الجيش الأحمر، ولا يقف عند النقطة التي انتهى إليها، في منتصف ألمانيا واقتسام العاصمة الألمانية برلين مع حلفائه الغربيين (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، عند الإعلان عن نهاية الحرب الكونية الثانية، في أوروبا مايو ١٩٤٥م.
خارج وجود قوة ردع تقليدية لمنع مواصلة الجيش الأحمر تقدمه على جبهة أوروبا الغربية، الذي من المحتمل أن ينتهي بإعلان الاتحاد السوفيتي المنتصر الوحيد في الحرب العالمية الثانية، ومن ثَمّ إعلانه زعامة عالم ما بعد الحرب، بدايةً للهيمنة الكونية، مما يشكل نكسة استراتيجية لمجتمعات الديمقراطيات الليبرالية في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، وبالتبعية: مشروع الولايات المتحدة الأممي لزعامة النظام الدولي الجديد (نظام الأمم المتحدة)، بعد الحرب. هذا الخوف الاستراتيجي، الذي انتاب الغرب، من احتمال زحف الجيش الأحمر من وسط إلى غرب أوروبا.. وفي غياب قوة ردع تقليدية رادعة، بل وحتى إرادة حقيقية لمواصلة الحرب عند الحلفاء الغربيين، بزعامة الولايات المتحدة، فقد أعيت الحرب الجميع، خاصةً الولايات المتحدة، التي تجددت لديها بعد الحرب نزعتها الانعزالية، ورغبة جيشها ترك المسرح الأوروبي.
كذلك بعد اتضاح نوايا ستالين في اقتسام غنائم الحرب الاستراتيجية، وليس الإبقاء على الشراكة التي تطورت أثناء الحرب لهزيمة هتلر.. وبعد أن رفض ستالين أن تشمل الاتحاد السوفيتي خطط إعادة إعمار مسرح الحرب في أوروبا والاتحاد السوفيتي، عن طريق مشروع مارشال الاقتصادي لإعادة إعمار مسرح عمليات الحرب العالمية الثانية، بما فيها الجانب السوفيتي. لقد وعى السوفييت مبكراً، أن فخ مشروع مارشال المسيل للعاب، سيكلف الاتحاد السوفيتي تخليه عن أيدولوجيته الشيوعية، بالذوبان في منظومة الدول الديمقراطية في الغرب، وبالتبعية التخلي عن كل مكاسبه الاستراتيجية من هزيمة ألمانيا النازية ودول المحور.
كل تلك اعتبارات وتقديرات جالت في عقول ساسة الغرب الديمقراطي، في حالة ما قرر الاتحاد السوفيتي، استغلال زخم زحفه غرباً بهدف هزيمة هتلر، لينتهي بحرب جديدة يفرضها على حلفائه في الغرب، يقضي بها على وجود الديمقراطيات الغربية، في أوروبا، وربما يهدد مباشرةً أمن الولايات المتحدة القومي، بصورة مباشرة، ربما بصورة أقوى من تهديد ألمانيا النازية، وتقترب من ما مثلته العسكرية اليابانية، من تهديد مباشر لأمن الولايات المتحدة، بالوصول لسواحل الولايات المتحدة الغربية على الباسفيك، لو قُيض لليابانيين النصر في الحرب.
لكن امتلاك الولايات المتحدة، واحتكارها للرادع النووي في ذلك الوقت، التي أفصحت عن امتلاكها له بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هوريشيما ونجزاكي ( ٩،٦ أغسطس ١٩٤٥م)، التين أسفرتا عن إعلان استسلام اليابان ( ١٥ أغسطس ١٩٤٥ م).. وانتهاء الحرب العالمية الثانية رسمياً على جبهة الباسفيك، بتوقيع وثيقة استسلام اليابان (٢ سبتمبر ١٩٤٥م). كان امتلاك الولايات المتحدة للسلاح النووي بمثابة الرادع الحقيقي، الذي أقنع السوفييت، الوقوف حيث هم في مناطق شرق أوروبا، واقتسام حصيلة غنائم الحرب الإقليمية مع الغرب.. والقبول بالشراكة في زعامة عالم ما بعد الحرب، بدلاً من التهور في مواصلة الحرب ضد حلفائهم الغربيين.
لكن، لم يتخلص الغرب من هاجس الاجتياح السوفييتي لغرب أوروبا، بل زاد بامتلاك السوفييت للرادع النووي… وظل الخوف المتولد من تفوق السوفييت في السلاح التقليدي، هاجساً يقض مضاجع حكومات الديمقراطيات الغربية في الغرب، حتى نشوب الحرب الأوكرانية، التي أظهرت كم كان الغرب تحت تأثير هاجس الخوف من التفوق التقليدي للاتحاد السوفييتي، وكان ذلك وراء محاولات الغرب المستمرة، للزحف شرقاً، اقتراباً من الحدود الدولية لروسيا الاتحادية… وايضاً وراء اتساع الدول المشاركة للحدود مع روسيا، مثل فلندا، وحتى الدول التي تخلت عن حيادها التاريخي، مثل السويد، بالانضمام إلى حلف الناتو.
من توازن القوى لتوازن الرعب
عاش العالم، بعد الحرب الكونية الثانية، عهد القطبية الثنائية، حيث انقسم العالم إلى قطبين رئيسيين، تقاسما الهيمنة على العالم، استراتيجياً وأيدلوجياً، منهياً نظام توازن القوى التقليدي، بزعامته الأوربية الاستعمارية التقليدية بقيادة بريطانيا العظمى، الذي انتهى بهزيمة ألمانيا النازية، التي انتفضت على ميزان القوى التقليدي، لإنهاء دور القوى الاستعمارية الكبرى المهيمن (بريطانيا وفرنسا)، على نظام عصبة الأمم، الذي انبثق عن هزيمة دول المحور، بقيادة ألمانيا، في الحرب العالمية الأولى.
في عصر الأمم المتحدة الجديد، جرى اقتسام العالم بين قوتين عظميين جديدتين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) هيمنتا على مسرح السياسة الدولية. من أهم ميزات نظام الأمم المتحدة، أنه أممي، غطى تقريبا الكرة الأرضية، ولم يعد الصراع الدولي تُحسم معاركه على المسرح الأوربي، كما كان الأمر في مراحل تطور ميزان القوى التقليدي، الذي كان يسيطر عليه ما أطلق عليه السلام البريطاني ( Pax Brittanica )، الذي استمر لمائة عام، منذ هزيمة نابليون في معركة واترلو ( ١٨١٥ م) وحتى نشوب الحرب الكونية الأولى ( ١٩١٤-١٩١٩ م)، ومر بفترة احتضار لربع قرن، حتى أجهز عليه تماماً، بالحرب العالمية الثانية، القوتيين العظميين، اقتسما العالم استراتيجياً وأيدلوجياً. معسكر الديمقراطيات الليبرالية (الرأسمالي)، بقيادة الولايات المتحدة.. والمعسكر الاشتراكي (الشيوعي)، بقيادة الاتحاد السوفيتي. كان الاقتسام حاداً، بحدود نفوذ دولية دقيقة، معترف بها ضمنياً من قبل الطرفين. عملية الانتقال من معسكر إلى معسكر آخر تكاد مستحيلة، ضمن الحدود الإقليمية الفاصلة بين القوتين العظميين، خاصةً على المسرح الأوروبي، حيث التقسيم الحاسم بين حمى ومناطق نفوذ كلٍ من القوتين العظمين، كان حاداً وحاسماً. ما وراء هذا الحد الفاصل الحاد بين نفوذ القوتين العظميين، خارج نطاق منطقة نفوذهما الحصرية لكلٍ منهما، كان مجال لتحرك الدول الهامشية، ضمن لعبة الأمم بين القوتين العظميين. هذا ما قاد أواسط خمسينيات القرن الماضي، إلى قيام مجموعة عدم الانحياز، التي أعطت لأعضائها مساحة مرنة للتحرك من معسكر للآخر، رغم أن الهدف من قيامها، عندما تطور فيما بعد تعريفاً للحياد، بإضافة مصطلح الإيجابي في العنوان الرئيسي للمجموعة. مساحة لم تكن متاحة فقط لأعضاء المجموعة التنقل من معسكر إلى آخر، بقدر ما كانت ساحة للصراع بين المعسكرين، في سعيهما التوسع في مجال نفوذ كلٍ منهما.
عكس نظام توازن القوى، غير المستقر، نظراً لتفاوت القدرات الاستراتيجية للقوى العظمى الرئيسية، نظام الأمم المتحدة كان يعتمد على آلية للتوازن من الصعب معها اتخاذ قرار مواجهة أي خلل في توازن القوى، عن طريق اللجوء للحرب. في نظام الأمم المتحدة، عكس نظام عصبة الأمم، كان قرار اللجوء للحرب لحسم حركة الصراع بين القوى، ليس فقط من الصعب اللجوء إليه، بل مستحيل أيضاً، التفكير بدايةً في اللجوء إليه لحسم الصراع من أجل مكانة الهيمنة الكونية.
كانت آلية توازن الرعب النووي أكثر جدارة في حفظ ميزان القوى، ومن ثَمّ الحفاظ على استقرار النظام الدولي السائد، بعيداً عن شبح الاقتراب من خيار الحرب. هذا لا يعني أن حركة الصراع بين القوتين العظميين في نظام الأمم الجديد، لم تكن تعتمل على مسرح السياسة الدولية، بل كانت نيران الصراع تعتمل تحت رمادٍ على سطح بارد (منخفض الحرارة)!
هذا هو عهد الحرب الباردة. هناك صراع على النفوذ الدولي، إلا أن طاقته المحركة باردة، ولا يسمح لها أن تزداد سخونة، خوفاً من تحولها إلى مواجهة نووية، لا تبقي ولا تذر. من أهم عوامل الاستقرار في آلية توازن الرعب النووي، عدم السماح لحركة الصراع أن ترتفع درجة حرارتها، إلى مستويات يصعب إن لم يستحيل الحؤول دون وصولها إلى درجة الاشتعال، لتولد مواجهة نووية، لا يمكن إطلاقاً ضمان النصر في حربها، لأيٍ من الطرفين.
حتى لو نشب صراع على النفوذ في منطقة قريبة أو بعيدة عن تخوم الحدود الفاصلة لنفوذهما، سرعان ما يتم احتواء تلك البقعة الذي حدث فيها تصعيد مفاجئ، حتى ولو كان محسوب حسابه، إلا أنه يجب أن تُسوى الأمور بأسرع وقت ممكن، تفادياً لحدوث مواجهة غير تقليدية (نووية) محتملة بين الطرفين. أهم الحوادث، في مثل هذه الحالات أزمة حصار برلين (٢٤ يونيه ١٩٤٨ – ١٢ مايو ١٩٤٩م) وأزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا (١٤ – ٢٨ أكتوبر ١٩٦٢م ) وأزمة قمع الجيش الأحمر لثورتي تشيكوسلوفاكيا ( ٢٠ -٢١ أغسطس ١٩٦٨م ) وقبلها قمع انتفاضة المجر ( ٢٣ أكتوبر – ٤ نوفمبر ١٩٥٦ م)… وحروب الشرق الأوسط ( ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧ و ١٩٧٣م ) والحرب الكورية ( ٢٥ يونيو ١٩٥٠ – ٢٧ يوليو ١٩٥٣م) والحرب الفيتنامية ( ١ نوفمبر ١٩٥٥ – ٣٠ أبريل ١٩٧٥م)، وغيرها من الحروب الصغيرة المتفرقة.
حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وفقدان نظام توازن الرعب النووي، لأحد جناحي توازنه، ظلت آلية توازن الرعب النووي تعمل، بالرغم من الخلل في ميزان القوى الذي حدث، نتيجة لسقوط حلف وارسو وسقوط الاتحاد السوفيتي. حتى بعد أن برزت الولايات المتحدة، كقوة عظمى رئيسية بعد خروج المعسكر الاشتراكي، بزعامة الاتحاد السوفيتي، من حلبة الصراع الدولي، بالنقاط وليس بالضربة القاضية، بقي توازن الرعب النووي يعمل، مع زيادة أعضاء المنتمين إلى النادي النووي الدولي. بالإضافة إلى روسيا وأعضاء مجلس الأمن الآخرين بريطانيا وفرنسا والصين، طورت دول من خارج النادي النووي الدولي قدرات نووية ضاربة، مثل: الهند وباكستان وكوريا الشمالية.. ودو أخرى يُشك بأنها تمتلك الرادع النووي، لكنها لم تعلن عن ذلك مثل إسرائيل.
إلا أنه في النهاية: صمد نظام توازن الرعب من الحفاظ على استقرار النظام الدولي، خوفاً من إخراج عفريت السلاح النووي من "قمقم" الترسانة النووية للدول التي تمتلك الرادع النووي… إلى أن حدث ما يمكن أن يضر باستقرار العالم، مع توفر واتساع نطاق انتشار السلاح النووي.. والعودة من جديد لآلية توازن القوى التقليدي، في ظل منظومة توازن الرعب النووي!؟ ولكن كيف حدث ذلك!؟
عودة الاستقطاب للنظام الدولي
الحرب في أوكرانيا (٢٤ فبراير ٢٠٢٢ – اليوم) أخطر تطور استراتيجي بين الشرق والغرب، من نهاية الحرب العالمية الثانية، مما قد يؤذن بنشوب حرب كونية ثالثة، خارج منظومة الردع الاستراتيجي لنظام توازن الرعب النووي. لأول مرة، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تنشب حرب على المسرح الأوروبي، حيث كان ميدان الحروب الكونية السابقة (الحرب العظمى (١٩١٤ – ١٩١٩م) والحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥م). ولأول مرة في تاريخ نظام الأمم المتحدة تنشب حرب تقليدية يكون أحد أطرافها قوة عظمى مالكة للسلاح النووي، خارج نطاق تجربة الحرب الكورية، (١٩٥٠ – ١٩٥٣م)، التي لم تكن الولايات المتحدة طرفاً فيها، بوصفها قوة نووية، لكنها حرب خُوضَت تحت علم الأمم المتحدة.
ثم أن الحرب في أوكرانيا، تشترك فيها، ولو بطريقة غير مباشرة، دول معاهدة حلف شمال الأطلسي. (الناتو)، بما فيها دول نووية (الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا)، مقابل دولة نووية كبرى (روسيا الاتحادية). كما أن الحرب في أوكرانيا، غير تلك الحروب الهامشية التي كانت تدور رحاها خارج تخوم مناطق النفوذ الإقليمية، لكلٍ من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. ثم أخيراً: الحرب في أوكرانيا، لم تكن تعكس صراعاً أيدلوجياً، في ظل آلية توازن الرعب النووي، بل هي تعكس صراعاً تقليدياً ضمن نطاق سيادي ضيق يعكس قضايا ذات أهمية استراتيجية قصوى بالنسبة للأمن القومي لدولة عظمى، في مواجهة ما يمكن وصفه بمحاولة استفزازية، من قبل جيران إقليمين، تدفعهم تجاه روسيا مخاوف استراتيجية تاريخية، يشترك الروس في نظرتهم المليئة بالشك تجاه جيران تاريخين، لطالما هددوا الأمن القومي الروسي، في عصور ممتدة، لأكثر من خمس وعشرون قرناً من الزمان.
حربٌ لم يكن لمتغير الإيدلوجية والتوسع الإقليمي، على الأقل من جانب الروس، دورٌ في اتخاذ قرار الحرب. هَمُ روسيا الاستراتيجي من قرار غزو أوكرانيا، هو إلى حدٍ كبير يشبه خشية الغرب من تقدم الروس غرباً ليهددوا أوروبا، من جديد. حربُ اختير المسرح الأوكراني لخوضها، دون أن يكون لأوكرانيا نفسها، حيلة في تفاديها، غير ما تهتم به أي دولة في العالم الدفاع عن نفسها، في مواجهة غزو خارجي.
الحربُ الروسية على أوكرانيا، تعيد حدة الاستقطاب الدولي، إلى ما كان عليه الحال، في فترة سيادة توازن القوى التقليدي، في فترة ما بين الحربين، وهذا ما يشكل خطر استراتيجي فوري وناجز على سلام العالم وأمنه. روسيا وإن هددت بصورة مبطنة اللجوء للرادع النووي لحسم الحرب في أوكرانيا، إلا أنها من الناحية الفعلية لا تقوى ولا تجرء على تنفيذ تهديدها هذا. والغرب من ناحيته، لا يريد أن يبدو متهوراً المشاركة في الحرب، بصورة مباشرة، خوفاً من احتمالات التصعيد، التي تكون من بين احتمالات تطورها اللجوء للسلاح النووي.
ثم في غياب البعد الاستراتيجي للتوسع على المستوى العالمي، لنشر الإيدلوجية الشيوعية، كما كان الأمر بالنسبة للاتحاد السوفيتي في عهد الحرب الباردة، فإن المجال يكون أكبر لا تساع نطاق الاستقطاب الدولي، الذي يمكن أن ينتقل إلى مناطق أكثر سخونة، مثل الشرق الأوسط وشرق المتوسط، وصولاً إلى نقطة الصدام الأممي المحتمل والأكثر خطورة في منطقة غرب الباسفيك، بالذات بين الولايات المتحدة والصين.
منطقة الخليج العربي، بؤرة الاستقطاب القريبة
تختلف أوضاع منطقة الخليج، فيما يخص طبيعة الصراع بين القوى العظمى، في فترة الحرب الباردة، منها في فترة الاستقطاب الدولي الحاد، هذه الأيام. في عصر الحرب الباردة، كانت منطقة الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط، ضمن نفوذ المعسكر الغربي، حيث يشكل منطقة حيوية لأمن الولايات المتحدة، بصورة خاصة. وإن كان الاتحاد السوفيتي، نجح في إيجاد مواطئ قدم في المنطقة، بالذات في سوريا ومصر واليمن الجنوبي، إلا أن المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية الخاصة للأمن القومي الأمريكي، كانت متمركزة في منطقة الخليج، حيث احتياطات النفط الضخمة، وأقرب من تخوم مناطق، بل حدود الاتحاد السوفيتي المباشرة، مثل ما هو الحال في إيران وتركيا.
كذلك فإن للبعد الأيدولوجي موقع مهم، بالنسبة للمنطقة، في عهد الحرب الباردة، وقد لا يكون متوفراً هذه الأيام. دول الخليج العربية بعضها كانت لديه حساسية شديدة تجاه المد الشيوعي، للاتحاد السوفيتي، أكثر منه الشعور بالتهديد الأمني المباشر، ولا الحاجة المباشرة للمظلة الأمريكية المباشرة. حتى أن بعض الدول العربية بمنطقة الخليج العربي، لأسباب أيدولوجية في المقام الأول، لم تكن لها علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، حتى قرب انهيار الاتحاد السوفيتي. المملكة العربية السعودية على سبيل المثال: استأنفت العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي في ديسمبر ١٩٩٠م، قبل سنة من انهيار الاتحاد السوفيتي، بعد قطيعة بين الدولتين استمرت لستين سنة.
اليوم، ليس مثل الأمس. لم تعد للأيدولوجية دورٌ في تحديد مسار السياسة الخارجية للدول، كما هو الحال في عهد الحرب الباردة. هناك اعتبار أكثر للمصالح والهواجس الأمنية المتبادلة، لتحديد العلاقة بين الدول، بعيداً عن مثاليات القضايا المشتركة، ذات الاهتمامات القيمية والأيدولوجية المشتركة أو المتنافرة.
هناك مصالح اقتصادية مباشرة ووثيقة، بين دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا الاتحادية، تتقدمها مصالح صناعة النفط، إنتاجاً وتوزيعاً. روسيا ليست عضواً في أوبك، إلا أنها تنسق من خلال مشاركتها، غير الرسمية في اجتماعات أوبك، في اتخاذ قرارات استراتيجية في صناعة النفط مع دول أوبك، كدولة منتجة ومصدرة للنفط، كالتزامها بالتخفيض المتدرج الطوعي لإنتاج، حفاظاً على أسعار مستقرة للنفط، تخضع لقوى السوق أكثر منها للاعتبارات السياسية، اتساقاً مع قرارات الأوبك.
كما أن روسيا أضحت عاملاً مهماً في معادلة استقرار المنطقة من عدمه، بوجودها في سوريا وعلاقتها المتينة مع إيران وتركيا، وقد لا يكون من الحكمة النظر للدور الروسي المتنامي في السياسة الدولية، من منظور الغرب والولايات المتحدة، على وجه الخصوص، بل من منظور المصالح المشتركة وضرورات أمن منطقة الخليج العربي، امتداداً لمتطلبات الأمن القومي العربي.
لكن، في المقابل، الحفاظ على الموقف المبدئي من حرب روسيا على أوكرانيا، بوصفه شكل من أشكال العدوان على دولة عضو في الأمم المتحدة، يعتبر موقف مبدأي تشارك فيه معظم دول العالم دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. كما أن احترام هواجس الأمن الروسية من اقتراب حلف شمال الأطلسي من حدود روسيا الاتحادية، خاصةً من ناحية خاصرتها الرخوة في مناطق حدودها الجنوبية الغربية، ناحية أوكرانيا، تُعد إلى حدٍ كبير هواجس أمن روسية مشروعة، على ألا يتطور التعامل معها بمنطق القوة والغزو، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
كما أن اتخاذ موقف متوازن بين طرفي الحرب في أوكرانيا، يصب في تشجيع الجهود بإنهاء الحرب والمساهمة الإنسانية في مساعدة المتضررين المدنيين من الحرب، وفي عمليات تبادل الأسرى.. والمساهمة في جهود إعادة الإعمار بعد أن تضع الحرب أوزارها، في أوكرانيا وروسيا، من شأنه أن يمهد الطريق لإنهاء الحرب والحؤول دون إعادة كرتها مرةً ثانية، عن طريق المساهمة في جهود حل الخلافات الحدودية بين الطرفين المتحاربين.. والاستجابة الإيجابية لاحترام هواجس الطرفين الأمنية، والعمل على تسويتها، بما يحقق استقرار الأمور في منطقة الحرب، والحؤول دون انتشار الحرب لمناطق أخرى مع كل ما يمثله ذلك من احتمالات اللجوء للأسلحة غير التقليدية، بالذات النووية.
من مصلحة دول مجلس التعاون، أن تنظر لتطور الأوضاع والظروف الحالية، من منظور المصلحة والذود عن الأمن القومي العربي، انطلاقاً من الاهتمام الاستراتيجي بأمن منطقة الخليج العربي، حيث تتلاقى قوى الاستقطاب العالمية، في المنطقة، بحثاً عن مصادر الطاقة والأسواق الواعدة لمنطقة الخليج العربي.. وجذب الاستثمارات الأجنبية، للمساهمة في تنمية مجتمعات مجلس التعاون العربي. على دول الخليج أن تخلع نظارتها التقليدية، التي كانت ترى تاريخياً من خلالها بعين واحدة، تجاه الغرب وتنظر بالعينين لمصالحها مع الشرق والغرب، بعينين مبصرتين، من خلال عدسات ثاقبة ومتفحصة للتغيرات التي تحدث على مستوى مسرح السياستين الإقليمية والدولية، للاستفادة من حركة الاستقطاب الدولي النشط هذه الأيام، للنظام الدولي الجديد، حتى لا تكون موضوعاً لهذا الاستقطاب الدولي، كما كان الأمر في عهد الحرب الباردة.
- تاريخياً واستراتيجياً، تُعتبر أوكرانيا الحد الفاصل جغرافياً بين الشرق والغرب.. وبين آسيا وأوروبا، حيث تفصلهما سلسلة جبال الأورال والقوقاز والبحر الأسود، كحدود طبيعية، وإن أطلق على أجزاء بينهما لتشكيل ما يسمى بمنطقة أو قارة أوراسيا. تقع أوكرانيا، في منطقة فاصلة بين آسيا وأوروبا، ولذا من يسيطر على أوكرانيا يتحكم في مفاتيح الغرب ومغاليق الشرق. في الحرب العالمية الثانية، كانت أوكرانيا النقطة التي وقف عندها جيش هتلر، وانكساره فيها هو بداية اندحار الزحف الألماني شرقاً، أكثر من فشل الجيش النازي دخول مدينة ستالين جراد، على الجبهة الشمالية الشرقية من حملة (بربروسا)، التي أراد بها هتلر إكمال سيطرته على أوروبا، بما فيها الأجزاء الشرقية من قارة أوراسيا، ليكتمل بها صرح تاج رايخه الثالث، للهيمنة على العالم.
كان سهلاً على هتلر، دخول جيوشه موسكو، كما فعل من قبله نابليون، للقضاء على نظام ستالين والجيش الأحمر، ليغلق الجبهة الشمالية الشرقية، في حملة (بر بروسا )، إلا أنه اختار، رغماً عن إرادة جنرالاته، أن تتوجه جيوشه جنوباً للسيطرة على حقول النفط في القوقاز، والوصول إلى موسكو عن طريق كييف، قبل أن يحسم جبهة ستالين جراد، التي يمكنه الوصول إليها، من جبهة الشرق، بدل الدخول إليها من الغرب. لكن الذي حدث: أن تجمد الجيش النازي في صقيع ستالين جراد ليغوص في وحل كييف.. وتتهاوى أحلامه في بناء رايخه الثالث بالسيطرة على أوروبا، بما فيها الجزء الشرقي من منطقة أوراسيا، ومن ثَمّ السيطرة على العالم.
جبهة الدب الروسي الرخوة
كانت منطقة القرم وجنوب شرق أوكرانيا، تاريخياً واستراتيجياً، خاصرة الحدود الروسية الرخوة، بسهولة اختراقها وعبور الإمبراطوريات الكبرى إلى آسيا الصغرى ومن ثم إلى الصين، بينما الدب الروسي كامنٌ في عرينه على امتداد سفوح جبال الأورال الشرقية، التي تمثل فاصلاً طبيعياً يصعب اختراقه من أعداء الروس الأوروبيون في الغرب. من هذه المنطقة دلف جيش الإسكندر الأكبر، ليزحف لمناطق آسيا الصغرى ومنها إلى الصين نزولاً إلى بلاد فارس ومن ثَمّ إلى شبه القارة الهندية، مهدداً التخوم الجنوبية لحدود روسيا مع الصين وبلدان آسيا الوسطى، حتى الشواطئ الشرقية للبحر الأسود.
نفس الطريق شقته الإمبراطورية الرومانية.. ودخلت منه الديانة المسيحية الأرثوذكسية، بعد أن سقطت روما. ونفس المسار الذي اتبعه التتار لتوسع مملكتهم شمالاً من أراضي آسيا الوسطى اجتياحاً لشبه جزيرة القرم، ثم احتلال الجنوب الشرقي لروسيا بما فيه أجزاء من أوكرانيا مع حرمان الروس من الإطلالة المباشرة على مياه البحر الأسود.
نابليون بحملته الوطنية الكبرى ضد أوروبا، بهدف إخضاعها، اخترق الحدود الروسية من الوسط وصولاً إلى موسكو، لكنه واجه ما واجهه بعده هتلر في حملة ( بر بروسا )، عندما حل الشتاء وانقطعت سبل الإمداد من باريس إلى وسط أوروبا وصولاً إلى الجبهة الشرقية في عمق وسط روسيا، الأمر الذي أجبر نابليون على الانسحاب من موسكو والأراضي الروسية بعد أكثر من شهر لاحتلاله موسكو. العثمانيون، أيضاً كان لهم حروب، كر وفر مع الروس، احتل خلالها العثمانيون جزيرة القرم وطول الساحل الجنوبي من أوكرانيا، على البحر الأسود، وأجزاء من الحدود بين أوكرانيا وروسيا في أقصى الجنوب الشرقي من روسيا.
باختصار، كان الغزاة، طوال خمسة وعشرون قرناً، يهددون أمن الروس من خاصرة حدود إمبراطوريتهم الرخوة الواقعة على تخوم حدودهم الجنوبية الغربية مع أوكرانيا. حتى أن الأمر وصل بحكام الكرملين في موسكو التمسك بهذه الخاصرة الرخوة التي طالما أغرت الغزاة تهديد أمنهم القومي، لتصبح أوكرانيا خط الدفاع الأول عن الإمبراطورية الروسية، في عهد القياصرة.. والنظام الشيوعي في عهد الاتحاد السوفيتي، وروسيا الاتحادية الجديدة في عهد بوتن.
حدود روسيا الصلبة
عكس جبهة روسيا الرخوة في أوكرانيا على ساحل البحر الأسود، روسيا كان عليها فعل القليل لحماية جبهتها الوسطى في مواجهة موسكو.. وجبهتها الشمالية الشرقية في مواجهة ستالين جراد. على طول هاتين الجبهتين (الوسطى والشمالية الغربية) كان الروس يتبعون خطة دفاعية، عمادها جر العدو للعمق الروسي الدافئ نسبياً في فصول الربيع والصيف، حتى لو اقتضى ذلك اختراق الجبهة الروسية على طول سفوح جبال الأورال الوكر الحصين للدب الروسي، حتى إذا توغل العدو في الداخل حيث العمق الاستراتيجي لعرين الدب الروسي، أنقض عليهم الجيش الروسي وأبادهم.
عند هذه النقطة من توغل العدو في عمق الأراضي الروسية عند العاصمة موسكو وحولها، تطول خطوط إمداد العدو الزاحف من الغرب، فيحدث نقص خطير في المعدات والذخيرة والمؤن المحروقات، فتضعف جيوش الأعداء، ثم تقوم الطبيعية بعملها الاستراتيجي في صعوبة سير قوافل الجنود، إما تتجمد في الصقيع القارس شتاءً، في الشمال والوسط.. أو تغوص في وحل الخريف والربيع الممطر بغزارة، في الجنوب الدافئ. ثم يأتي الجيش الروسي في هجوم مضاد إما أن يقنع العدو العودة من حيث أتى بعد يأسه من استحالة غزو روسيا، كما هو في حالة حملة نابليون (١٨١١، ١٨١٢ م).. أو ملاحقة العدو حتى عمقه الاستراتيجي بدخول عاصمته، كما حدث عند دخول الجيش الأحمر برلين وتدمير مقر البرلمان النازي (الريستاج) في قلب برلين، بل حتى الوصول إلى مخبأ هتلر في قلب العاصمة برلين.
لهذه الأسباب الاستراتيجية، ذات الخلفية التاريخية، لم تكن موسكو أن تسمح لكييف بأن تقترب كثيراً من الغرب، بما يهدد الأمن القومي لروسيا الاتحادية… دعك السماح لها من أن تنضم لعدوه اللدود حلف شمال الأطلسي، بقيادة الولايات المتحدة.. ولا حتى الانضمام، إلى صيغة للتعاون أكثر "براءة" مع الغرب، ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي.
المشكلة أن الغرب يعرف هذه الحساسية الاستراتيجية لدى الروس من الاقتراب تجاه حدودها، خاصة تلك الخاصرة الرخوة التي تقع في أوكرانيا… بل أن الغرب تعهد بعدم محاولة الاقتراب من حدود روسيا التاريخية، خاصةً عند حدود الجبهة الجنوبية الشرقية (أوكرانيا) بما قد يهدد أمنها القومي. لقد قدم الغرب هذا التعهد للاتحاد السوفيتي، عندما وافقت موسكو الانسحاب من دول حلف وراسو، في شرق أوروبا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (٢٦ ديسمبر ١٩٩١ م)، متوجاً تفكك حلف وارسو، والرجوع إلى حدود روسيا الاتحادية التاريخية، قبل قيام الثورة البلشفية (٢٥ أكتوبر - ٧ نوفمبر ١٩١٧م).
لكن الغرب، لم يف بذلك الوعد، فأخذ يتمدد شرقاً في بولندا ورومانيا والمجر، حتى شارف الاقتراب من أوكرانيا، عندها انتفض الدب الروسي دفاعاً عن حدود روسيا الاتحادية، حتى لو اقتضى الأمر احتلال أوكرانيا. وكان أن شنت روسيا الحرب على أوكرانيا، بأن استغلت الفصائل الداعية للانفصال من أوكرانيا، في منطقة الحدود الجنوبية الغربية مع روسيا، في مقاطعة (دو نباس) بدعوى طلب سكان جمهوريتي دونتسك ولوغانسك، ذوي الأصول الروسية، الانضمام لروسيا الاتحادية، بعد إعلان انفصالهما عن أوكرانيا، لتستجيب لهم موسكو بدعوى استعادة أجزاء من أراضيها ترى أن كييف تحتلها، فاندلعت الحرب في الرابع والعشرين من فبراير ٢٠٢٢م.
موسكو، من جانها، أطلقت على تدخلها العسكري ضد أوكرانيا، على مشارف حدودها الجنوبية الشرقية (حملة عسكرية خاصة ومحدودة)! لتتجنب الدخول في إشكالات مصطلح الحرب، التي قد تترتب عليه مسؤوليات قانونية وسياسية، يحكمها القانون الدولي، وتفادياً لحساسية العلاقات الاستراتيجية مع الغرب. بينما، في المقابل، اعتبر الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا حرباً على دولة مستقلة، ذات سيادة، امتداداً لمحاولة سابقة عام ٢٠١٤م، التي انتهت باحتلال الروس شبه جزيرة القرم، وإعلان ضمها لروسيا الاتحادية. تكريساً لمشروع ضم شبه جزيرة القرم عمدت موسكو، منذ احتلاها لشبه جزيرة القرم، إنشاء جسر بري مزدوج (للسيارات والقطارات) لربط البر الروسي بشبه جزيرة القرم. وفي فبراير 2022 م، قدّرت موسكو أن الوقت قد حان لإخضاع أوكرانيا، ولو تطلب الأمر احتلالها، لإجهاض محاولات كييف والغرب انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بما في ذلك انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي… وكانت الحرب، التي دخلت في فبراير الماضي عامها الثالث.
استراتيجية الخوف المضاد
ليست روسيا وحدها التي كانت تخشى غزوها من الغرب، الغرب نفسه، كان يخشى من غدر الدب الروسي، الذي يتخذ من الحدود الطبيعة مع أوروبا على امتداد جبال الأورال، الفاصلة بين آسيا في الشرق وأوروبا في الغرب، حدوداً طبيعية، مثل ما هي خطوط دفاعية لروسيا، يمكن من الناحية الاستراتيجية، تتحول إلى نقطة هجوم استراتيجية تهدد شرق ووسط أوروبا.
هذا ما حدث، بنهاية الحرب العالمية الثانية، عندما اندفع الجيش الأحمر، بعد انهيار جيوش هتلر على الجبهة الشرقية عبر سهول أوروبا الشرقية المفتوحة، حتى وصل الجيش الأحمر إلى قلب عاصمة الرايخ الثالث (برلين). كان الغرب، في تلك الحرب يخشى، أن يستمر زحف الجيش الأحمر حتى يستولي على كامل أوروبا، حتى المحيط الأطلسي.. وتدين لموسكو (الشيوعية) كل أوروبا، مما يشكل تهديداً فورياً وناجزاً على مجتمعات دول غرب أوروبا الديمقراطية، وربما يمتد خطر الزحف الروسي المحتمل، ليعبر المحيط الأطلسي، حتى السواحل الشرقية للولايات المتحدة وكندا.. ويمكن أن يتواكب مع هذا الزحف الروسي المحتمل غرباً، مع زحف آخر من الشمال الشرقي لأمريكا الشمالية من خلال مضيق بيرنج، ليستعيد الروس ألاسكا، نزولاً إلى مقاطعة كولومبيا البريطانية، ومنها إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة على طول سواحل ولايات، واشنطن، وأوريغون، وكاليفورنيا.
'سيناريو" مقلق سيطر على دول الحلفاء الغربيين، لو فكر الروس، أن لا يقفوا عند حدود أوروبا الشرقية ويواصلوا زحفهم غرباً، لاحتلال كامل أوروبا. كابوس استراتيجي كان يقض مضاجع دول الحلفاء الغربيين، ناتج عن قناعتهم الاستراتيجية بعدم تمكنهم من صد أي هجوم بالأسلحة التقليدية يقدم عليه الجيش الأحمر، ولا يقف عند النقطة التي انتهى إليها، في منتصف ألمانيا واقتسام العاصمة الألمانية برلين مع حلفائه الغربيين (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، عند الإعلان عن نهاية الحرب الكونية الثانية، في أوروبا مايو ١٩٤٥م.
خارج وجود قوة ردع تقليدية لمنع مواصلة الجيش الأحمر تقدمه على جبهة أوروبا الغربية، الذي من المحتمل أن ينتهي بإعلان الاتحاد السوفيتي المنتصر الوحيد في الحرب العالمية الثانية، ومن ثَمّ إعلانه زعامة عالم ما بعد الحرب، بدايةً للهيمنة الكونية، مما يشكل نكسة استراتيجية لمجتمعات الديمقراطيات الليبرالية في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، وبالتبعية: مشروع الولايات المتحدة الأممي لزعامة النظام الدولي الجديد (نظام الأمم المتحدة)، بعد الحرب. هذا الخوف الاستراتيجي، الذي انتاب الغرب، من احتمال زحف الجيش الأحمر من وسط إلى غرب أوروبا.. وفي غياب قوة ردع تقليدية رادعة، بل وحتى إرادة حقيقية لمواصلة الحرب عند الحلفاء الغربيين، بزعامة الولايات المتحدة، فقد أعيت الحرب الجميع، خاصةً الولايات المتحدة، التي تجددت لديها بعد الحرب نزعتها الانعزالية، ورغبة جيشها ترك المسرح الأوروبي.
كذلك بعد اتضاح نوايا ستالين في اقتسام غنائم الحرب الاستراتيجية، وليس الإبقاء على الشراكة التي تطورت أثناء الحرب لهزيمة هتلر.. وبعد أن رفض ستالين أن تشمل الاتحاد السوفيتي خطط إعادة إعمار مسرح الحرب في أوروبا والاتحاد السوفيتي، عن طريق مشروع مارشال الاقتصادي لإعادة إعمار مسرح عمليات الحرب العالمية الثانية، بما فيها الجانب السوفيتي. لقد وعى السوفييت مبكراً، أن فخ مشروع مارشال المسيل للعاب، سيكلف الاتحاد السوفيتي تخليه عن أيدولوجيته الشيوعية، بالذوبان في منظومة الدول الديمقراطية في الغرب، وبالتبعية التخلي عن كل مكاسبه الاستراتيجية من هزيمة ألمانيا النازية ودول المحور.
كل تلك اعتبارات وتقديرات جالت في عقول ساسة الغرب الديمقراطي، في حالة ما قرر الاتحاد السوفيتي، استغلال زخم زحفه غرباً بهدف هزيمة هتلر، لينتهي بحرب جديدة يفرضها على حلفائه في الغرب، يقضي بها على وجود الديمقراطيات الغربية، في أوروبا، وربما يهدد مباشرةً أمن الولايات المتحدة القومي، بصورة مباشرة، ربما بصورة أقوى من تهديد ألمانيا النازية، وتقترب من ما مثلته العسكرية اليابانية، من تهديد مباشر لأمن الولايات المتحدة، بالوصول لسواحل الولايات المتحدة الغربية على الباسفيك، لو قُيض لليابانيين النصر في الحرب.
لكن امتلاك الولايات المتحدة، واحتكارها للرادع النووي في ذلك الوقت، التي أفصحت عن امتلاكها له بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هوريشيما ونجزاكي ( ٩،٦ أغسطس ١٩٤٥م)، التين أسفرتا عن إعلان استسلام اليابان ( ١٥ أغسطس ١٩٤٥ م).. وانتهاء الحرب العالمية الثانية رسمياً على جبهة الباسفيك، بتوقيع وثيقة استسلام اليابان (٢ سبتمبر ١٩٤٥م). كان امتلاك الولايات المتحدة للسلاح النووي بمثابة الرادع الحقيقي، الذي أقنع السوفييت، الوقوف حيث هم في مناطق شرق أوروبا، واقتسام حصيلة غنائم الحرب الإقليمية مع الغرب.. والقبول بالشراكة في زعامة عالم ما بعد الحرب، بدلاً من التهور في مواصلة الحرب ضد حلفائهم الغربيين.
لكن، لم يتخلص الغرب من هاجس الاجتياح السوفييتي لغرب أوروبا، بل زاد بامتلاك السوفييت للرادع النووي… وظل الخوف المتولد من تفوق السوفييت في السلاح التقليدي، هاجساً يقض مضاجع حكومات الديمقراطيات الغربية في الغرب، حتى نشوب الحرب الأوكرانية، التي أظهرت كم كان الغرب تحت تأثير هاجس الخوف من التفوق التقليدي للاتحاد السوفييتي، وكان ذلك وراء محاولات الغرب المستمرة، للزحف شرقاً، اقتراباً من الحدود الدولية لروسيا الاتحادية… وايضاً وراء اتساع الدول المشاركة للحدود مع روسيا، مثل فلندا، وحتى الدول التي تخلت عن حيادها التاريخي، مثل السويد، بالانضمام إلى حلف الناتو.
من توازن القوى لتوازن الرعب
عاش العالم، بعد الحرب الكونية الثانية، عهد القطبية الثنائية، حيث انقسم العالم إلى قطبين رئيسيين، تقاسما الهيمنة على العالم، استراتيجياً وأيدلوجياً، منهياً نظام توازن القوى التقليدي، بزعامته الأوربية الاستعمارية التقليدية بقيادة بريطانيا العظمى، الذي انتهى بهزيمة ألمانيا النازية، التي انتفضت على ميزان القوى التقليدي، لإنهاء دور القوى الاستعمارية الكبرى المهيمن (بريطانيا وفرنسا)، على نظام عصبة الأمم، الذي انبثق عن هزيمة دول المحور، بقيادة ألمانيا، في الحرب العالمية الأولى.
في عصر الأمم المتحدة الجديد، جرى اقتسام العالم بين قوتين عظميين جديدتين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) هيمنتا على مسرح السياسة الدولية. من أهم ميزات نظام الأمم المتحدة، أنه أممي، غطى تقريبا الكرة الأرضية، ولم يعد الصراع الدولي تُحسم معاركه على المسرح الأوربي، كما كان الأمر في مراحل تطور ميزان القوى التقليدي، الذي كان يسيطر عليه ما أطلق عليه السلام البريطاني ( Pax Brittanica )، الذي استمر لمائة عام، منذ هزيمة نابليون في معركة واترلو ( ١٨١٥ م) وحتى نشوب الحرب الكونية الأولى ( ١٩١٤-١٩١٩ م)، ومر بفترة احتضار لربع قرن، حتى أجهز عليه تماماً، بالحرب العالمية الثانية، القوتيين العظميين، اقتسما العالم استراتيجياً وأيدلوجياً. معسكر الديمقراطيات الليبرالية (الرأسمالي)، بقيادة الولايات المتحدة.. والمعسكر الاشتراكي (الشيوعي)، بقيادة الاتحاد السوفيتي. كان الاقتسام حاداً، بحدود نفوذ دولية دقيقة، معترف بها ضمنياً من قبل الطرفين. عملية الانتقال من معسكر إلى معسكر آخر تكاد مستحيلة، ضمن الحدود الإقليمية الفاصلة بين القوتين العظميين، خاصةً على المسرح الأوروبي، حيث التقسيم الحاسم بين حمى ومناطق نفوذ كلٍ من القوتين العظمين، كان حاداً وحاسماً. ما وراء هذا الحد الفاصل الحاد بين نفوذ القوتين العظميين، خارج نطاق منطقة نفوذهما الحصرية لكلٍ منهما، كان مجال لتحرك الدول الهامشية، ضمن لعبة الأمم بين القوتين العظميين. هذا ما قاد أواسط خمسينيات القرن الماضي، إلى قيام مجموعة عدم الانحياز، التي أعطت لأعضائها مساحة مرنة للتحرك من معسكر للآخر، رغم أن الهدف من قيامها، عندما تطور فيما بعد تعريفاً للحياد، بإضافة مصطلح الإيجابي في العنوان الرئيسي للمجموعة. مساحة لم تكن متاحة فقط لأعضاء المجموعة التنقل من معسكر إلى آخر، بقدر ما كانت ساحة للصراع بين المعسكرين، في سعيهما التوسع في مجال نفوذ كلٍ منهما.
عكس نظام توازن القوى، غير المستقر، نظراً لتفاوت القدرات الاستراتيجية للقوى العظمى الرئيسية، نظام الأمم المتحدة كان يعتمد على آلية للتوازن من الصعب معها اتخاذ قرار مواجهة أي خلل في توازن القوى، عن طريق اللجوء للحرب. في نظام الأمم المتحدة، عكس نظام عصبة الأمم، كان قرار اللجوء للحرب لحسم حركة الصراع بين القوى، ليس فقط من الصعب اللجوء إليه، بل مستحيل أيضاً، التفكير بدايةً في اللجوء إليه لحسم الصراع من أجل مكانة الهيمنة الكونية.
كانت آلية توازن الرعب النووي أكثر جدارة في حفظ ميزان القوى، ومن ثَمّ الحفاظ على استقرار النظام الدولي السائد، بعيداً عن شبح الاقتراب من خيار الحرب. هذا لا يعني أن حركة الصراع بين القوتين العظميين في نظام الأمم الجديد، لم تكن تعتمل على مسرح السياسة الدولية، بل كانت نيران الصراع تعتمل تحت رمادٍ على سطح بارد (منخفض الحرارة)!
هذا هو عهد الحرب الباردة. هناك صراع على النفوذ الدولي، إلا أن طاقته المحركة باردة، ولا يسمح لها أن تزداد سخونة، خوفاً من تحولها إلى مواجهة نووية، لا تبقي ولا تذر. من أهم عوامل الاستقرار في آلية توازن الرعب النووي، عدم السماح لحركة الصراع أن ترتفع درجة حرارتها، إلى مستويات يصعب إن لم يستحيل الحؤول دون وصولها إلى درجة الاشتعال، لتولد مواجهة نووية، لا يمكن إطلاقاً ضمان النصر في حربها، لأيٍ من الطرفين.
حتى لو نشب صراع على النفوذ في منطقة قريبة أو بعيدة عن تخوم الحدود الفاصلة لنفوذهما، سرعان ما يتم احتواء تلك البقعة الذي حدث فيها تصعيد مفاجئ، حتى ولو كان محسوب حسابه، إلا أنه يجب أن تُسوى الأمور بأسرع وقت ممكن، تفادياً لحدوث مواجهة غير تقليدية (نووية) محتملة بين الطرفين. أهم الحوادث، في مثل هذه الحالات أزمة حصار برلين (٢٤ يونيه ١٩٤٨ – ١٢ مايو ١٩٤٩م) وأزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا (١٤ – ٢٨ أكتوبر ١٩٦٢م ) وأزمة قمع الجيش الأحمر لثورتي تشيكوسلوفاكيا ( ٢٠ -٢١ أغسطس ١٩٦٨م ) وقبلها قمع انتفاضة المجر ( ٢٣ أكتوبر – ٤ نوفمبر ١٩٥٦ م)… وحروب الشرق الأوسط ( ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧ و ١٩٧٣م ) والحرب الكورية ( ٢٥ يونيو ١٩٥٠ – ٢٧ يوليو ١٩٥٣م) والحرب الفيتنامية ( ١ نوفمبر ١٩٥٥ – ٣٠ أبريل ١٩٧٥م)، وغيرها من الحروب الصغيرة المتفرقة.
حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وفقدان نظام توازن الرعب النووي، لأحد جناحي توازنه، ظلت آلية توازن الرعب النووي تعمل، بالرغم من الخلل في ميزان القوى الذي حدث، نتيجة لسقوط حلف وارسو وسقوط الاتحاد السوفيتي. حتى بعد أن برزت الولايات المتحدة، كقوة عظمى رئيسية بعد خروج المعسكر الاشتراكي، بزعامة الاتحاد السوفيتي، من حلبة الصراع الدولي، بالنقاط وليس بالضربة القاضية، بقي توازن الرعب النووي يعمل، مع زيادة أعضاء المنتمين إلى النادي النووي الدولي. بالإضافة إلى روسيا وأعضاء مجلس الأمن الآخرين بريطانيا وفرنسا والصين، طورت دول من خارج النادي النووي الدولي قدرات نووية ضاربة، مثل: الهند وباكستان وكوريا الشمالية.. ودو أخرى يُشك بأنها تمتلك الرادع النووي، لكنها لم تعلن عن ذلك مثل إسرائيل.
إلا أنه في النهاية: صمد نظام توازن الرعب من الحفاظ على استقرار النظام الدولي، خوفاً من إخراج عفريت السلاح النووي من "قمقم" الترسانة النووية للدول التي تمتلك الرادع النووي… إلى أن حدث ما يمكن أن يضر باستقرار العالم، مع توفر واتساع نطاق انتشار السلاح النووي.. والعودة من جديد لآلية توازن القوى التقليدي، في ظل منظومة توازن الرعب النووي!؟ ولكن كيف حدث ذلك!؟
عودة الاستقطاب للنظام الدولي
الحرب في أوكرانيا (٢٤ فبراير ٢٠٢٢ – اليوم) أخطر تطور استراتيجي بين الشرق والغرب، من نهاية الحرب العالمية الثانية، مما قد يؤذن بنشوب حرب كونية ثالثة، خارج منظومة الردع الاستراتيجي لنظام توازن الرعب النووي. لأول مرة، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تنشب حرب على المسرح الأوروبي، حيث كان ميدان الحروب الكونية السابقة (الحرب العظمى (١٩١٤ – ١٩١٩م) والحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥م). ولأول مرة في تاريخ نظام الأمم المتحدة تنشب حرب تقليدية يكون أحد أطرافها قوة عظمى مالكة للسلاح النووي، خارج نطاق تجربة الحرب الكورية، (١٩٥٠ – ١٩٥٣م)، التي لم تكن الولايات المتحدة طرفاً فيها، بوصفها قوة نووية، لكنها حرب خُوضَت تحت علم الأمم المتحدة.
ثم أن الحرب في أوكرانيا، تشترك فيها، ولو بطريقة غير مباشرة، دول معاهدة حلف شمال الأطلسي. (الناتو)، بما فيها دول نووية (الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا)، مقابل دولة نووية كبرى (روسيا الاتحادية). كما أن الحرب في أوكرانيا، غير تلك الحروب الهامشية التي كانت تدور رحاها خارج تخوم مناطق النفوذ الإقليمية، لكلٍ من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. ثم أخيراً: الحرب في أوكرانيا، لم تكن تعكس صراعاً أيدلوجياً، في ظل آلية توازن الرعب النووي، بل هي تعكس صراعاً تقليدياً ضمن نطاق سيادي ضيق يعكس قضايا ذات أهمية استراتيجية قصوى بالنسبة للأمن القومي لدولة عظمى، في مواجهة ما يمكن وصفه بمحاولة استفزازية، من قبل جيران إقليمين، تدفعهم تجاه روسيا مخاوف استراتيجية تاريخية، يشترك الروس في نظرتهم المليئة بالشك تجاه جيران تاريخين، لطالما هددوا الأمن القومي الروسي، في عصور ممتدة، لأكثر من خمس وعشرون قرناً من الزمان.
حربٌ لم يكن لمتغير الإيدلوجية والتوسع الإقليمي، على الأقل من جانب الروس، دورٌ في اتخاذ قرار الحرب. هَمُ روسيا الاستراتيجي من قرار غزو أوكرانيا، هو إلى حدٍ كبير يشبه خشية الغرب من تقدم الروس غرباً ليهددوا أوروبا، من جديد. حربُ اختير المسرح الأوكراني لخوضها، دون أن يكون لأوكرانيا نفسها، حيلة في تفاديها، غير ما تهتم به أي دولة في العالم الدفاع عن نفسها، في مواجهة غزو خارجي.
الحربُ الروسية على أوكرانيا، تعيد حدة الاستقطاب الدولي، إلى ما كان عليه الحال، في فترة سيادة توازن القوى التقليدي، في فترة ما بين الحربين، وهذا ما يشكل خطر استراتيجي فوري وناجز على سلام العالم وأمنه. روسيا وإن هددت بصورة مبطنة اللجوء للرادع النووي لحسم الحرب في أوكرانيا، إلا أنها من الناحية الفعلية لا تقوى ولا تجرء على تنفيذ تهديدها هذا. والغرب من ناحيته، لا يريد أن يبدو متهوراً المشاركة في الحرب، بصورة مباشرة، خوفاً من احتمالات التصعيد، التي تكون من بين احتمالات تطورها اللجوء للسلاح النووي.
ثم في غياب البعد الاستراتيجي للتوسع على المستوى العالمي، لنشر الإيدلوجية الشيوعية، كما كان الأمر بالنسبة للاتحاد السوفيتي في عهد الحرب الباردة، فإن المجال يكون أكبر لا تساع نطاق الاستقطاب الدولي، الذي يمكن أن ينتقل إلى مناطق أكثر سخونة، مثل الشرق الأوسط وشرق المتوسط، وصولاً إلى نقطة الصدام الأممي المحتمل والأكثر خطورة في منطقة غرب الباسفيك، بالذات بين الولايات المتحدة والصين.
منطقة الخليج العربي، بؤرة الاستقطاب القريبة
تختلف أوضاع منطقة الخليج، فيما يخص طبيعة الصراع بين القوى العظمى، في فترة الحرب الباردة، منها في فترة الاستقطاب الدولي الحاد، هذه الأيام. في عصر الحرب الباردة، كانت منطقة الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط، ضمن نفوذ المعسكر الغربي، حيث يشكل منطقة حيوية لأمن الولايات المتحدة، بصورة خاصة. وإن كان الاتحاد السوفيتي، نجح في إيجاد مواطئ قدم في المنطقة، بالذات في سوريا ومصر واليمن الجنوبي، إلا أن المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية الخاصة للأمن القومي الأمريكي، كانت متمركزة في منطقة الخليج، حيث احتياطات النفط الضخمة، وأقرب من تخوم مناطق، بل حدود الاتحاد السوفيتي المباشرة، مثل ما هو الحال في إيران وتركيا.
كذلك فإن للبعد الأيدولوجي موقع مهم، بالنسبة للمنطقة، في عهد الحرب الباردة، وقد لا يكون متوفراً هذه الأيام. دول الخليج العربية بعضها كانت لديه حساسية شديدة تجاه المد الشيوعي، للاتحاد السوفيتي، أكثر منه الشعور بالتهديد الأمني المباشر، ولا الحاجة المباشرة للمظلة الأمريكية المباشرة. حتى أن بعض الدول العربية بمنطقة الخليج العربي، لأسباب أيدولوجية في المقام الأول، لم تكن لها علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، حتى قرب انهيار الاتحاد السوفيتي. المملكة العربية السعودية على سبيل المثال: استأنفت العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي في ديسمبر ١٩٩٠م، قبل سنة من انهيار الاتحاد السوفيتي، بعد قطيعة بين الدولتين استمرت لستين سنة.
اليوم، ليس مثل الأمس. لم تعد للأيدولوجية دورٌ في تحديد مسار السياسة الخارجية للدول، كما هو الحال في عهد الحرب الباردة. هناك اعتبار أكثر للمصالح والهواجس الأمنية المتبادلة، لتحديد العلاقة بين الدول، بعيداً عن مثاليات القضايا المشتركة، ذات الاهتمامات القيمية والأيدولوجية المشتركة أو المتنافرة.
هناك مصالح اقتصادية مباشرة ووثيقة، بين دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا الاتحادية، تتقدمها مصالح صناعة النفط، إنتاجاً وتوزيعاً. روسيا ليست عضواً في أوبك، إلا أنها تنسق من خلال مشاركتها، غير الرسمية في اجتماعات أوبك، في اتخاذ قرارات استراتيجية في صناعة النفط مع دول أوبك، كدولة منتجة ومصدرة للنفط، كالتزامها بالتخفيض المتدرج الطوعي لإنتاج، حفاظاً على أسعار مستقرة للنفط، تخضع لقوى السوق أكثر منها للاعتبارات السياسية، اتساقاً مع قرارات الأوبك.
كما أن روسيا أضحت عاملاً مهماً في معادلة استقرار المنطقة من عدمه، بوجودها في سوريا وعلاقتها المتينة مع إيران وتركيا، وقد لا يكون من الحكمة النظر للدور الروسي المتنامي في السياسة الدولية، من منظور الغرب والولايات المتحدة، على وجه الخصوص، بل من منظور المصالح المشتركة وضرورات أمن منطقة الخليج العربي، امتداداً لمتطلبات الأمن القومي العربي.
لكن، في المقابل، الحفاظ على الموقف المبدئي من حرب روسيا على أوكرانيا، بوصفه شكل من أشكال العدوان على دولة عضو في الأمم المتحدة، يعتبر موقف مبدأي تشارك فيه معظم دول العالم دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. كما أن احترام هواجس الأمن الروسية من اقتراب حلف شمال الأطلسي من حدود روسيا الاتحادية، خاصةً من ناحية خاصرتها الرخوة في مناطق حدودها الجنوبية الغربية، ناحية أوكرانيا، تُعد إلى حدٍ كبير هواجس أمن روسية مشروعة، على ألا يتطور التعامل معها بمنطق القوة والغزو، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
كما أن اتخاذ موقف متوازن بين طرفي الحرب في أوكرانيا، يصب في تشجيع الجهود بإنهاء الحرب والمساهمة الإنسانية في مساعدة المتضررين المدنيين من الحرب، وفي عمليات تبادل الأسرى.. والمساهمة في جهود إعادة الإعمار بعد أن تضع الحرب أوزارها، في أوكرانيا وروسيا، من شأنه أن يمهد الطريق لإنهاء الحرب والحؤول دون إعادة كرتها مرةً ثانية، عن طريق المساهمة في جهود حل الخلافات الحدودية بين الطرفين المتحاربين.. والاستجابة الإيجابية لاحترام هواجس الطرفين الأمنية، والعمل على تسويتها، بما يحقق استقرار الأمور في منطقة الحرب، والحؤول دون انتشار الحرب لمناطق أخرى مع كل ما يمثله ذلك من احتمالات اللجوء للأسلحة غير التقليدية، بالذات النووية.
من مصلحة دول مجلس التعاون، أن تنظر لتطور الأوضاع والظروف الحالية، من منظور المصلحة والذود عن الأمن القومي العربي، انطلاقاً من الاهتمام الاستراتيجي بأمن منطقة الخليج العربي، حيث تتلاقى قوى الاستقطاب العالمية، في المنطقة، بحثاً عن مصادر الطاقة والأسواق الواعدة لمنطقة الخليج العربي.. وجذب الاستثمارات الأجنبية، للمساهمة في تنمية مجتمعات مجلس التعاون العربي. على دول الخليج أن تخلع نظارتها التقليدية، التي كانت ترى تاريخياً من خلالها بعين واحدة، تجاه الغرب وتنظر بالعينين لمصالحها مع الشرق والغرب، بعينين مبصرتين، من خلال عدسات ثاقبة ومتفحصة للتغيرات التي تحدث على مستوى مسرح السياستين الإقليمية والدولية، للاستفادة من حركة الاستقطاب الدولي النشط هذه الأيام، للنظام الدولي الجديد، حتى لا تكون موضوعاً لهذا الاستقطاب الدولي، كما كان الأمر في عهد الحرب الباردة.