في 24 فبراير 2024م، أكملت الحرب الروسية في أوكرانيا عامها الثاني دون توقف أو كلل، واستمرت العمليات العسكرية وخصوصًا على مُستوى الطائرات المُسيرة بشكل شبه يومي تقريبًا. عندما بدأ القتال باجتياز القوات الروسية الحدود بين البلدين في 24 فبراير 2022م، توقع كثير من المُحللين أنها سوف تكون حربًا قصيرة بسبب عدم التوازن في القُدرات القتالية بين البلدين، ولكن ذلك لم يتحقق نتيجة الدعم الهائل الذي قدمته الولايات المُتحدة وحلفاؤها لكييف عسكريًا وسياسيًا، وفرضها لسلسلة العقوبات الاقتصادية على موسكو لإضعاف قُدرتها على تمويل الحرب وتزويد الجيش بالسلاح.
وعلى مدى الشهور التالية لاندلاع العمليات العسكرية، استطاعت روسيا الحفاظ على قدراتها القتالية في الحرب، والدفاع عن مواقعها في مواجهة الهجوم المضاد الذي شنته القوات الأوكرانية في صيف 2023م. وأدى الدعم الأمريكي لأوكرانيا إلى استمرار التوتر في العلاقات بين موسكو وواشنطن، وإعلان روسيا في فبراير 2023 م، الانسحاب من معاهدة نيو ستارت التي تُنظم تخفيض الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة، وذلك بحجة عدم التزام الأخيرة بها. شهد عام 2023 م، أيضًا، تطوير موسكو علاقاتها مع حلفائها، فزار الرئيس الصيني شي جين بينج موسكو في مارس للتأكيد على عمق العلاقات بين البلدين، وتلاها زيارة كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية في سبتمبر، ثُم زيارة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في ديسمبر. ترافق ذلك مع سعي موسكو إلى تجاوز العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وذلك من خلال البحث عن أسواق جديدة للنفط والغاز في آسيا، وطورت علاقاتها التجارية مع الصين والهند. وكذلك، من خلال تطوير علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية.
في هذا السياق، يُحلل هذا المقال عوامل استمرار الحرب وتطور المواقف الأمريكية والأوروبية تجاهها، وفُرص التسوية وإنهاء الحرب.
أولًا: عوامل استمرار الحرب
يميز الباحثون في تاريخ الحروب بين الحروب قصيرة الأمد التي يُحسب عمرها بالأيام والأسابيع وتلك طويلة الأمد التي يحسب عمرها بالسنوات. يندرج ضمن الحروب القصيرة مثلا الحرب بين الهند والصين في أكتوبر 1962م، وحربي يونيو 1967م، وأكتوبر 1973م، في تاريخ الصراع العربي / الإسرائيلي، وفي الصراع بين أرمينيا وأذربيجان في سبتمبر 2023م. أما الحروب الطويلة، فمن أمثلتها الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، والحرب العالمية الثانية (1938-1945)، والحرب الكورية (1950-1953م).
في هذا الإطار، يُمكن تفسير إطالة أمد الحرب الروسية الأوكرانية بثلاثة أسباب:
السبب الأول هو: امتلاك أطرافها لموارد اقتصادية وعسكرية كبيرة تُمكنها من الاستمرار في القتال أو بالحصول على هذه القُدرات من الحلفاء. وينطبق هذا التفسير على الحروب الروسية في أوكرانيا، فروسيا تمتلك إمكانات اقتصادية كبيرة وقُدرات عسكرية هائلة تشمل أكبر ترسانة نووية في العالم. لا تمتلك أوكرانيا قُدرات مُماثلة ولكِنها استمرت في خوض الحرب بسبب تدفق الدعم العسكري والمالي لها من دول حِلف شمال الأطلنطي بقيادة الولايات المُتحدة، إضافة إلى كندا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاندا التي وفرت لكييف الأسلحة والمُعدات والذخائر والمعلومات الاستخباراتية والمُساعدات الاقتصادية والمالية.
استمرت الحرب بسبب قُدرة الطرفين المُتحاربين -موسكو وكييف-على مواصلة القتال. فالاقتصاد الروسي نجح في تحمل تكلفة الحرب، ولم تكسره حِزم العقوبات الاقتصادية الغربية. واستطاعت روسيا، ذات ال 144 مليون نسمة، أن تُوفِر الموارد البشرية لمواصلة القِتال بفتح أبواب التطوع للجيش الروسي من أبناء جنسيات أُخرى، وواصلت أوكرانيا، صاحبة ال 44 مليون نسمة، القِتال بفتح أبوابها أيضًا للمُتطوعين في جيشها، وبإصدار قانون بتخفيض سن التجنيد في الجيش في أبريل 2024م، وباستمرار الدعم الاقتصادي والعسكري الغربي لها.
والسبب الثاني هو طبيعة الصراع الذي أدى إلى نشوب الحرب. فمن الناحية النظرية، فكُلما كان الصراع له طبيعة اجتماعية وثقافية أو إذ تعلق بشعور أحد أطراف الصراع بتهديد جسيم على بقائه وكيانه، زادت احتمالات إطالة أمد الحرب. فمن وجهة النظر الروسية، شعرت موسكو بتهديدات مُتزايدة على أمنها نتيجة سياسة حلف الأطلنطي في التوسع شرقًا وأبلغت مخاوفها إلى الدول الغربية. زاد من هذه المخاوف ما تردد من تصريحات غربية حول دعوة أوكرانيا لعضوية حلف الأطلنطي، وذلك بسبب المكانة الخاصة التي تشغلها كييف في التاريخ الروسي.
أما وجهة النظر الأوكرانية، فترى أن الحرب هي دفاع عن حدودها الدولية وقوميتها الخاصة بها، وتأكيد لحق الأوكرانيين في حُكم أنفسهم بأنفسهم واختيار المسارات السياسية والاقتصادية التي يرتضونها دون الحصول على موافقة "الأخ الأكبر"، وتبني المواقف والسياسات التي تخدم مصالحهم دون الحصول على موافقة روسيا.
والحقيقة أن تاريخ العلاقات الروسية / الأوكرانية هو تاريخ مُعقد وتختلف بشأنه وجهات النظر. فالنخبة الروسية ترى أن جذور القومية الروسية ارتبطت بكييف بل أن أوكرانيا أُسميت بروسيا الصغرى، أما النخبة الأوكرانية الحاكمة، فترى أن هذه العلاقة التاريخية كانت علاقة سيطرة وإخضاع، وأن للأوكرانيين لغتهم الخاصة وثقافتهم المُتميزة وقومتيهم التي تكفل لهم حق تقرير المصير. ويتكرر نفس الجدل بالنسبة لشبه جزيرة القُرم. فبينما تدفع روسيا بأنها على مدى قرون كانت جزءا من روسيا، وأن الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف وهو أوكراني تنازل عن هذه المنطقة لأوكرانيا في خمسينيات القرن العشرين، وذلك في الوقت الذي كانت فيه جُزءا من الاتحاد السوفيتي، وأن هذا يُبرر لموسكو استعادتها في عام 2014 م، لتعود إلى أحضان الوطن الأُم. وفي المُقابل، ترى أوكرانيا أن شبه جزيرة القرم ظلت جُزءا منها قرابة أربعة عقود، وأنها كانت ضمن حدودها الدولية عندما حصلت على استقلالها 1991م، وأنها انضمت إلى الأمم المُتحدة واعترفت بها روسيا ضمن هذه الحدود. ومن ثَم، فإن ما قامت به روسيا في عام 2014م، هو إجراء غير قانوني. وهكذا، فإن الطرفين ينظران إلى القضايا محل الصراع على أنها ترتبط بحقوق تاريخية وقضايا ثقافية وانتماءات قومية.
والسبب الثالث يتعلق بالسياق الدولي للحرب. فقد نشبت الحرب في لحظة يتسم فيها النظام الدولي بحالة من التغير في توزيع مصادر القوة بين أعضائه وتزايد الحديث عن نظام دولي جديد. من أهم هذه التطورات، الصعود التاريخي للصين والنمو المُتزايد لاقتصادها، وتبلور نفوذها السياسي في أرجاء العالم، وتوطيد علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، ونجاح تجارُب التنمية في عديد من الدول الآسيوية وبعض دول الجنوب، وكذلك نجاح عدد من الدول التي تحدت النفوذ الأمريكي في البقاء رغم الضغوط الكبيرة عليها ككوريا الشمالية، وإيران، وفنزويلا، وتصاعُد الدعوات لتطوير الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية الراهنة لتُصبح أكثر ديمُقراطية وعدالة.
ارتبط ذلك بازدياد عدد الدول المُتقدمة لعُضوية مجموعة دول البريكس التي قرر قادتها في اجتماعهم بجنوب إفريقيا في أغسطس 2023 م، الموافقة على انضمام ست دول جديدة وهي الأرجنتين، وإيران، ومصر، والسعودية، والإمارات، وإثيوبيا، وهو عدد يفوق الدول الخمس المؤسسة للبريكس نفسه وهي الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. ومن مظاهر حالة التغيُر أيضًا، الدعوة إلى التخلي عن استخدام الدولار الأمريكي في التعاملات التُجارية والمالية بين الدول واستعواضه بالعُملات الوطنية. مثلت هذه التطورات تحديًا لموقع الغرب المُهيمن وتحديدًا الولايات المُتحدة في النظام الدولي. وفي المقابل، تحرص واشنطن على إطالة أمد الحرب وذلك بهدف إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وزيادة ضغوطها على الصين لإضعاف تعاونها مع روسيا والحيلولة دون قيامها بدور أكبر في دعم موسكو.
في ضوء ذلك، يُمكن النظر إلى الحرب الروسية / الأوكرانية وكأنها مواجهة بين قوى التغيير في النظام الدولي وتلك المُحافظة عليه. ويؤكد ذلك التأييد الذي تتمتع به روسيا من الصين وبيلاروسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا، ومن كثير من دول الجنوب والتي ظهر تعاطُفها في نمط تصويتها في الأمم المُتحدة. ويؤكده، في المُقابل، الدعم الواسع الذي تتلقاه أوكرانيا من الدول الغربية وحُلفائها.
ثانيَا: تطور المواقف الأمريكية والأوروبية تجاه الحرب
تبنت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المُتحدة موقفًا مُناهضًا ومُنددًا بدخول القوات الروسية الأراضي الأوكرانية في 2022م. فكان من مظاهر هذا الدعم في المجال السياسي الزيارات التي قام بها قادة هذه الدول ووزراء الخارجية والدفاع فيها إلى كييف، وإصدار قرارات من الجمعية العامة للأمم المُتحدة تُدين الموقف الروسي. وفي المجال الاقتصادي، توفير الدعم المالي والذي بلغ حتى يناير 2024 م، مبلغ 92 مليار دولار من دول ومؤسسات تابعة للاتحاد الأوربي، و73 مليار دولار من الولايات المتحدة، وإنهاء الشركات الغربية أنشطتها وأعمالها في داخل روسيا، وفرض عقوبات مالية وتُجارية عليها. وفي المجال العسكري، تزويد الجيش الأوكراني بسيل من الأسلحة والذخائر وأنظمة التدريب والمعلومات الاستخباراتية التي مكنته من مواجهة القوات الروسية.
وجدير بالذكر أن مصالح الدول المُدعمة لأوكرانيا قد تباينت حول المدى الذي يُمكن أن تصل إليه في دعم أوكرانيا ولكنها اتفقت جميعًا على أن روسيا تُمثل تهديدًا للأمن الأوروبي بشكل لا مثيل له مُنذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولذلك، فإنه ينبغي هزيمتها أو على الأقل منعها من تحقيق الانتصار على أوكرانيا. أدت الحرب إلى عدد من التطورات الجيو-استراتيجية في أوروبا من أهمها: بعث الحيوية في حلف الأطلنطي، وتوسعه ليضُم فنلندا والسويد كعضوين جديدين فيه، وازدياد السيطرة الأمريكية على قضايا الأمن الأوروبي، وازدياد الإنفاق العسكري في ألمانيا بمبلغ 100 مليار يورو واليابان بمبلغ 74 مليار دولار في عام 2023م. في المُقابل، زادت الصادرات الروسية من النفط إلى الصين بشكل مضطرد، وشغلت موسكو بذلك المرتبة الثانية بين الدول المصدرة للنفط إلى الصين بعد السعودية، وكذلك الهند التي تعد موسكو أكبر مُصدِر للنفط إليها.
في عام 2023م، بدأت مظاهر للتململ الشعبي في بعض الدول الأوروبية بسبب التداعيات الاقتصادية السلبية لاستمرار الحرب على مُعدلات التضخم وارتفاع الأسعار فيها خاصة بعد توقف إمدادات النفط والغاز الروسي إليها. ومع النصف الثاني من العام، والشهور الأولى من عام 2024م، تبلورت عدة تطورات:
- ازدياد انتقادات أعضاء الكونجرس من الحزب الجمهوري لاستمرار دعم أوكرانيا، كان من شأنها عدم إقرار طلب إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تقديم حزمة مساعدات بقيمة 60 مليار دولار. مما دفع الرئيس الأوكراني زيلنسكي في ديسمبر 2023م، إلى اللقاء بعدد من هؤلاء النواب لإقناعهم بالآثار الوخيمة التي تترتب على تأخير الموافقة على الدعم المُقترح، وإلى وصف الرئيس بايددن في 19 فبراير 2024 م، لسلوك هؤلاء النواب بأنهم "يرتكبون خطأ كبيرًا". وتزداد المخاوف في هذا الشأن مع احتمال نجاح ترامب في انتخابات الرئاسة المزمع إقامتها في نوفمبر 2024.
- الاختلاف في مواقف الدول الأوروبية. وعلى سبيل المثال، اعترض المزارعون في بولندا على الإعفاءات الجمركية الممنوحة لصادرات القمح الأوكراني إلى الاتحاد الأوروبي باعتبار أنها تضر بمصالحهم وتكرر نفس الاعتراض في سلوفاكيا ورومانيا، واعترض رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان على الدعم الأوروبي المقدم لأوكرانيا. من مظاهر هذا الانقسام أيضًا طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فكرة مشاركة قوات من حلف الأطلنطي لدعم أوكرانيا، وهو ما أدانه الرئيس بوتين في 17 مارس في أعقاب الانتخابات الرئاسية والتي أكد فيه أن نشر قوات غربية في أوكرانيا قد يقود العالم إلى شفا حرب عالمية ثالثة. وعلى أية حال، فإن الاقتراح الفرنسي لم يلق تجاوبا من دول حلف الأطلنطي، واستمرت بعض الدول في التعبير عن عدم استعدادها للموافقة عليه.
- التذمر الأوكراني من انخفاض الدعم المالي والتأخر في وصول إمدادات الأسلحة والذخائر الغربية ويدل على ذلك انخفاض الدعم المالي خلال الفترة أغسطس-أكتوبر 2023 بنسبة 87% مُقارنة بما تسلمته خلال نفس الفترة في عام 2022م، وأن الكونجرس أقر ميزانية الدفاع الأمريكية لعام 2024 م، وأتاح 300 مليون دولار فقط دعمًا لأوكرانيا وهو ما يمثل 0.5% من إجمالي مقترح الدعم الذي قدمه الرئيس بايدن. مما دفع بالرئيس الأوكراني زيلينسكي إلى الإفصاح عن مخاوفه بشكل علني أمام مؤتمر الأمن بميونخ في فبراير 2024 م، قائلا مالم يتصدى العالم لبوتين، فانه سوف يجعل السنوات القادمة "كارثية" على دول أخرى عديدة. وأعقب ذلك في 29مارس بتصريح فاجأ فيه حلفائه من الدول الغربية عندما أبدى استعداده لأول مرة للمفاوضات مع روسيا فورا حتى" دون عودة أوكرانيا إلى حدود 1991م"، ويبدو أن هذا التصريح صدر لتحذير الدول الغربية من مغبة تأخير إمداد كييف بالسلاح، مما قد يجبرها على اتخاذ مثل هذه الخطوة. وفي 11 أبريل حذر الرئيس الأوكراني حلفائه من أن روسيا تقوم بضرب البنية التحتية الحيوية في بعض المناطق الأوكرانية، وطالب الغرب بسرعة توريد نظم التسلح اللازمة لمواجهة ذلك.
- اندلاع الحرب في غزة: زاد من حدة المخاوف الأوكرانية تصاعُد القتال بين الجيش الإسرائيلي وفصائل المُقاومة الفلسطينية في قطاع غزة مُنذ 7 أكتوبر 2023م، فاحتلت قمة أولويات الولايات المُتحدة والدول الغربية. وصرفت أنظارهم عن الوضع في أوكرانيا. وهو ما عبر عنه الرئيس الأوكراني نفسه في 4 نوفمبر 2023م، بأن "الاهتمام العالمي بالحرب في غزة يصب في مصلحة الآمال الروسية التي تتطلع إلى صرف الاهتمام عن الحرب المُستمرة في أوكرانيا".
ثالثًا: المُستقبل وفُرص التسوية
بدأت هذه الحرب من مقولتين ثبت عدم صحتيهما. تصرفت روسيا كما وكأنها تملك قُدرات أكبر من إمكاناتها الحقيقية، وتصرفت الولايات المتحدة ودول التحالف على أن قُدرات روسيا أقل مما تمتلكه فعلًا. فانتهى الأمر بحالة من الجمود، والاستنزاف المنتظم لقدرات الطرفين المتحاربين. فلا الحرب الدائرة يمكن الاستمرار فيها إلى ما لانهاية، ولا يستطيع أحد الطرفين المُتحاربين وضع نهاية عسكرية حاسمة لها. كما أن الوصول إلى حل تفاوضي لا يبدو أمراً ممكنا في ضوء المُعطيات الراهنة.
ويتضح ذلك من تحليل الخطاب السياسي للطرفين الأوكراني والروسي وتصور كُل منهما لمفهوم النصر، أي اللحظة التي تتحقق فيها أهداف الحرب ويُمكن الجلوس بعدها على مائدة المفاوضات. يُركز الخطِاب الأوكراني، كما تبلور في المُبادرة الأوكرانية لإنهاء الحرب في نوفمبر 2022م، على تحرير جميع الأراضي الأوكرانية التي احتلتها روسيا بما في ذلك شبة جزيرة القُرم التي تم السيطرة عليها عام 2014م، وهي الأراضي التي كانت ضمن الحدود الأوكرانية عند استقلالها والمعترف بها دوليا. يظهر هذا التصميم في قيام الرئيس الأوكراني في 8 فبراير 2024 م، بإحداث عدد من التغييرات في قيادة الجيش شملت القائد العام للقوات المسلحة، ورئيس هيئة الأركان، وقائد قوات الدفاع الإقليمي. كما ظهر في الخطاب الذي ألقاه في 24 فبراير بمُناسبة مرور عامين على الحرب والذي تعهد فيه باستمرار القتال حتى تحقيق النصر.
وفي المُقابل، يبدو الموقف الروسي صامدًا، فالاقتصاد لم يتعرض للانهيار خلافًا لتوقعات بعض الدوائر الغربية، ونجح النظام السياسي في الحِفاظ على تماسُكه ووحدته واستطاع استيعاب تمرُد مجموعة فاجنر في يونيو 2023م، وتأسيسًا على ذلك، يُركز الخِطاب الروسي على أن موسكو حققت أهدف حماية الروس الذين يعيشون في أوكرانيا وذلك بعد انضمام المُقاطعات الأربعة التي تسكُنها أغلبية من أصل روسي وأصبحت جُزءًا من الاتحاد الروسي. وفي خطاب لبوتين في 14 ديسمبر 2023م، أشار إلى أن الحرب سوف تستمر حتى يتم "اقتلاع النازية"، ونزع سلاح أوكرانيا، وحيادها.
في أعقاب الإخفاقات السياسية والعسكرية التي مُنيت بها أوكرانيا ازدادت نبرة الثقة في خطابات بوتين في عام 2024م، ففي خطابه بمُناسبة العام الجديد، أكد أن روسيا "لن تتراجع أبدا"، وأننا "أثبتنا مرارا أنه بإمكاننا الاضطلاع بأصعب المهمات...لأنه لا يمكن لأي قوة أن تُقسِمنا". وفي خطابه السنوي إلى الأمة في 29 فبراير 2024م، أشار إلى ازدياد القدرات القتالية الروسية بشكل كبير، وانها تتقدم بشكل منتظم في عدد من الجبهات، وتجبر الجيش الأوكراني علي الانسحاب، وحذر من أن سياسات الدول الغربية تجاه الحرب يمكن ان تؤدي إلى "حرب نووية". وكرر ذلك في تصريحاته في المؤتمر الصحفي في مارس 2024م، والذي ورد فيه أن روسيا ستحتاج إلى التفكير في الطرف الذي يمكنها إجراء محادثات معه بشأن إحلال السلام في أوكرانيا، مشيرًا إلى أن الرئيس الأوكراني زيلينسكي ليس خيارًا واردًا.
واتصالًا بذلك، رفعت موسكو ميزانية الدفاع ثلاث مرات من عام 2021م، حتى بلغت 30% من الموازنة العامة للدولة، مما أدى إلى تطوير الصناعات العسكرية الروسية وزيادة إنتاجها. وارتبط بذلك إعادة النظر في الخطط العملياتية للجيش وتكتيكاته.
تبدو الهُوة الكبيرة بين الموقفين، فأوكرانيا تعتبر أن استعادة أراضيها شرط لبدء المُفاوضات، بينما ترغب روسيا في بدء المُفاوضات على أساس الاعتراف بالأمر الواقع وهو سيطرتها على أجزاء من الأراضي الأوكرانية.
فماذا عن الرؤى المطروحة لحل الصراع؟ تتجه الدول الغربية المؤيدة لوجهة النظر الأوكرانية لعقد مؤتمر دولي للسلام في أوكرانيا في يونيو 2024م، ويظهر التوجه السياسي في هذا المؤتمر في عدم توجيه الدعوة لروسيا لحضور المؤتمر. وفي المُقابل، هُناك مُبادرة الصين للوصول إلى حل سياسي للأزمة الأوكرانية الذي اقترحته بكين في فبراير 2023م، وبينما رأت موسكو أن المُبادرة تُمثل أساسًا يُمكِن البناء عليه، رفضتها الدول الغربية لأنها لم تُشر صراحة إلى انسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، ووصفها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بـ "الخُدعة". وهُناك أيضًا جهود الوساطة التُركية في 2022م، ومُباحثات كوبنهاجن-جدة في نفس العام بمشاركة 15 دولة، وفي عام 2023 م، بمُشاركة 40 دولة ضمت الولايات المُتحدة والصين والهند وعددًا من الدول الأوروبية.
تنتهي الحروب عندما تشعُر الأطراف المُتحاربة بأن استمرار القتال يفرض عليها تكلفة تفوق النصر فيها من مكاسب وعندما تشعُر بأن الحرب أصبحت مصدرًا لاستنزاف قُدراتها ومواردها دون أمل في القُدرة على حسمها لصالحها. ولا ينطبق أي من هذين الافتراضين على حالة الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن. ومازال الطرفان المُتحاربان يُفكران بطريقة "صفرية" وليس لدى أي منها استعداد للتنازل أو المُساومة. لذلك، فمن الأرجح ألا يتم التوصُل إلى نهاية وتسوية سياسية للمُشكلات التي أوجدتها في القريب المنظور.