array(1) { [0]=> object(stdClass)#13490 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 198

الهند تحمي مصالحها بالاستقلالية الاستراتيجية والتحالفات وترى نفسها طرفًا فاعلًا في النظام متعدد الأقطاب

الأربعاء، 29 أيار 2024

في خضم الحرب التجارية المشتعلة بين أمريكا والصين، سعى الرئيس الأمريكي السابق ترامب لاسترضاء نظيره الصيني تشي جين بينغ بإتاحة قدر أكبر من التيسيرات بشأن المسائل السياسية، متعهدًا بعدم انتقاد واشنطن للسياسات الصينية في هونج كونج مقابل مشاركتها في المفاوضات التجارية. وأثنى ترامب على الطريقة التي أدار بها نظيره الصيني المظاهرات في هونج كونج، عازفًا أيضًا عن توجيه انتقاداً للصين بشأن سجلها في مجال حقوق الإنسان.

ساهمت هذه المشاركات في تمهيد الطريق أمام "المرحلة الأولى " من اتفاق التجارة مع الصين في 15 يناير 2020م، حيث التزمت الصين بشراء سلع وخدمات أمريكية إضافية بقيمة 200 مليار دولار على مدار عامين، كما تعهدت الصين باحترام حقوق الملكية الفكرية الأمريكية، ووقف النقل القسري للتكنولوجيا، والامتناع عن استخدام سياسة خفض العملة باعتبارها أحد أسلحتها التجارية. من جانبه، وصف ترامب الاتفاق بأنه " اتفاق تجاري رائد… سوف يلحق الهزيمة بالكثير من خصومنا".

ولكن سرعان ما تبخرت هذه النشوة، وبحلول النصف الأول من عام 2020م، لم تكن الصين قد حققت سوى 23% فقط من إجمالي قيمة المشتريات المستهدفة لهذا العام. بالتالي، لم تفرض الحرب التجارية ضغوطًا تذكر على الصين، ولم تؤد إلى أي من التغييرات الهيكلية التي سعت إليها واشنطن بشدة، بما في ذلك تخفيف الدور الريادي للشركات الصينية المملوكة للدولة، والإعانات الحكومية، واستخدام الصين لسياستها الصناعية لصالح مؤسساتها الخاصة على حساب الشركات الأجنبية.

دور الجغرافيا السياسية في المواجهة

ارتقاء الصين إلى مكانة قوة عالمية عظمى أهم تطور سياسي واقتصادي في القرن الحالي، حاملاً في طياته تبعات على صعيد الأمن والحوكمة العالمية، بل إنه في الواقع يشكل تحديًا للنظام العالمي الذي تقوده أمريكا. وتتجلى العوامل التي تؤكد مكانة الصين المتصاعدة في الشؤون العالمية فيما يلي:

  • على صعيد حجم الاقتصاد، فقد بلغ إجمالي الناتج المحلي الصيني بقياس الأسعار الحالية للدولار، 16.4 تريليون في عام 2021م، في حين حقق نظيره الأمريكي 22 تريليون دولار. ومن المتوقع أن يتخطى الناتج المحلي الإجمالي للصين نظيره الأمريكي بحلول عام 2030م، بتحقيقه 33.7 تريليون دولار، مقابل 30.4 تريليون دولار للناتج المحلي الإجمالي لأمريكا.
  • وفي 2022م، بلغ عدد الشركات الصينية المدرجة على قائمة "فورتشن جلوبال" 500 شركة، مقابل 124 شركة أمريكية.
  • في عام 2021م، تصدرت أمريكا الإنفاق العالمي على البحث والتطوير بنحو 529 مليار دولار، يليها في المرتبة الثانية الصين بقيمة 295 مليار دولار.
  • أشار تقرير أسترالي في مارس 2023م، إلى أن الصين اكتسبت مكانة رائدة مذهلة في مجال الأبحاث عالية التأثير"، واحتلت المرتبة الأولى أو الثانية في معظم التقنيات التي تم تتبعها، والتي تشمل الدفاع، والفضاء، والروبوتات، والطاقة، والبيئة والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي، والمواد المتقدمة وتكنولوجيا الكم.

الصين والعديد من الدول الأخرى المتشابهة في التفكير لا تريد استبدال قوة مهيمنة بأخرى أو إنشاء ثنائي عالمي جديد من الدول المتناحرة، ولكنها تود إقامة نظام جديد متعدد الأقطاب بحيث تتمكن الدول على اختلاف أنواعها من التأكيد على مصالحها وأن تسعى إلى التأثير على القضايا التي تتم مناقشتها في المنتديات العالمية، بجانب إقامة تحالفات جديدة فيما بينها من أجل تحقيق مصالحها. إلا أن هذا التعدي على "الركيزة " الغربية غير مقبول للتحالف الغربي؛ الذي بدأ ينظر بقلق بالغ إلى التحديات السياسية والاقتصادية الناشئة من دول اعتاد بسط هيمنته عليها واستغلالها دون هوادة طوال قرنين من الزمن. وبحسب المنظور الغربي، فإن التهديد الذي يمثله النظام العالمي الجديد هو تأثيره على السرد الرئيسي للسياسة الدولية المعاصرة. وبالتالي فإن الأشرار بحسب الرواية الغربية باتوا واضحين وهم يشكلون بقيادة الصين، "محورًا" يتألف من روسيا، وإيران، وكوريا الشمالية، وجميعهم خصوم للولايات المتحدة، والذين، من وجهة النظر الغربية، يجتمعون على هدف واحد وهو قلب النظام العالمي.

وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى تشكيل ائتلافها الخاص من أجل مواجهة التحدي النابع من الصين وحلفائها، فإنها تنظر إلى الهند باعتبارها شريكا قيمًا وتبذل قصارى جهدها في سبيل اجتذاب نيودلهي إلى هذا التحالف. وهذا بالتحديد ما سيتم طرحه خلال الفقرات التالية.

الهند على أعتاب الخلافات العالمية

على مدى العشرين عامًا الماضية، كانت الهند داعمًا راسخًا لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يتم من خلاله إعادة هيكلة تامة للمؤسسات الدولية التي شكلها الغرب في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويتم بموجبه منح دول الجنوب العالمي صوتًا مؤثرًا للتعبير عن مصالحها ومتابعتها. إن النهج الذي تبنته الهند بعد الحرب الباردة كان "الاستقلالية الاستراتيجية"، والسعي إلى مجموعة واسعة من الارتباطات الثنائية ومتعددة الأطراف التي من شأنها أن تخدم مصالحها وتمكنها من التعبير عن مظالم وهموم العالم النامي.

وتحقيقًا لهذه الغاية، إلى جانب كونها داعمًا نشطًا للأمم المتحدة ووكالاتها، حصلت الهند على عضوية داخل الكيانات الإقليمية والعابرة للحدود الوطنية مثل: رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي، وتكتل بريكس، مجموعة العشرين، ومنظمة شنغهاي للتعاون، بالإضافة إلى الحوار الأمني الرباعي "كواد"-وذلك من أجل متابعة مصالحها الاقتصادية والسياسية. ونظرًا إلى التزامها حيال الاستقلالية الاستراتيجية، حافظت الهند على علاقات وثيقة بأكبر قدر ممكن مع أمريكا، وروسيا، والصين، إلى جانب منح الأولوية لروابطها مع دول جنوب آسيا، والشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، وشمال شرق آسيا وجنوبها.

وعلى مدار العقد الماضي، تابعت الهند بقلق الحضور الصيني المتزايد ونفوذها في المناطق ذات الأهمية المحورية لاهتماماتها الاستراتيجية -جنوب آسيا والمحيط الهندي وأوراسيا. لكن مثار القلق المباشر بالنسبة للهند هو ما تعتبره تعديات صينية مستمرة على طول حدودها غير المرسمة التي يبلغ طولها 4000 كيلومتر.

هذه المواجهة عبر الحدود، إلى جانب النشاط الصيني المتزايد في منطقة المحيط الهندي، كانت سببًا في تشجيع المزيد من التعاون الاستراتيجي بين الهند وأمريكا. وقد وقع البلدان على أربع اتفاقيات تنص على قابلية التشغيل المتبادل لقواتهما المسلحة؛ وتغطي هذه مجالات الأمن، والخدمات اللوجستية، والاتصالات، والتوافق. كما زادت الهند من مشترياتها من المعدات الدفاعية الأمريكية، وعززت التعاون الاستخباراتي، وأضفت الطابع المؤسسي على هذه العلاقات من خلال منصة الحوار السنوية 2 + 2 التي تجمع وزيري الخارجية والدفاع في البلدين، وكذلك التفاعلات المنتظمة على مستوى القمة.

على الرغم من هذا التقدم الجذري في شكل العلاقات الثنائية، دأبت الهند على الحفاظ على استقلاليتها الاستراتيجية ورفضت الانضمام إلى الدول الغربية في فرض عقوبات على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا. كما حافظت على مستوى عال من التعاون الثنائي مع روسيا في مجالات الدفاع والاقتصاد. وفي أعقاب الحظر الغربي المفروض على صادرات الطاقة الروسية، أضحت الهند أحد أكبر المشترين للنفط الروسي. ولا يبدو أن ذلك شكل عائقًا أمام مساعي أمريكا، التي ترى أن تنمية العلاقات مع الهند عملية مطولة ويتمثل أحد أجزائها، في جذب الهند إلى المنظمات الإقليمية التي تقودها واشنطن، بما يساهم في تعميق الانخراط الهندي مع أمريكا وحلفائها ويشجع على إعادة تعاونهم سويا.

في مقدمة هذه المنظمات الإقليمية، الحوار الأمني الرباعي فيما يعرف اختصارًا بـ “كواد" والذي يجمع أمريكا، واليابان، وأستراليا، والهند في ائتلاف بحري داخل منطقة المحيط الهادي. عُقدت أولى اجتماعات الحوار الرباعي على مستوى مسؤولي الدول الأربعة عام 2007م، لكن لم يتم انعقاده منذ حينها وعلى مدى عقد كامل نتيجة اعتراض بكين بأن هذا التكتل الأمني موجه ضدها. وبحلول عام 2017م، كانت حالة التردد لدى الأعضاء الأربعة قد تلاشت في مواجهة ما يعتبرونه عدوانية صينية متزايدة في تأكيد مطالباتها البحرية في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي وضد اليابان، بالإضافة إلى الوجود الصيني المتزايد داخل منطقة المحيط الهندي، بما في ذلك البدء في بناء قاعدة بحرية في دولة جيبوتي اعتبارًا من مارس 2016م، إلى جانب تزايد التوتر على الحدود الصينية الهندية.

منذ أوائل عام 2021، وفي خضم المواجهة الصينية-الهندية المستمرة، بدأ المعلقون الهنود والأمريكيون في تسليط الضوء على الأجندة الأمنية التي يتبناها التكتل الرباعي في مواجهة الصين. ولكن لم يدم هذا الحماس طويلاً. حيث تم تفعيل التصحيح الواعي لمسار التكتل الرباعي خلال انعقاد القمة على مستوى رؤساء الدول الأربعة في واشنطن في سبتمبر 2021م، وبناء عليه، تم التخفيف من الطابع الأمني للتكتل الرباعي والاستعاضة عنه بالتركيز على التعاون في المجالات ذات الاهتمام بعيد المدى مثل: مبادرة لقاح كوفيد-19، الزمالة الرباعية الجذعية، مبادرة الأمن السيبراني، الشحن الأخضر، شراكة الهيدروجين النظيف، ومبادرة نشر شبكات الجيل الخامس وسلسلة توريد أشباه الموصلات.

إلى جانب "كواد"، أطلقت أمريكا منظمتين إقليميتين أخريين تستهدفان التأكيد على الاهتمام الأمريكي بشؤون الشرق الأوسط، ودمج إسرائيل تدريجيًا داخل المنظومة الديناميكية الاقتصادية والسياسية للمنطقة، مع جذب الهند بشكل أعمق إلى التحالف الغربي. المنظمة الأولى هي التي تُعرف ب “أي تو يو تو I2U2" والتي تضم أمريكا، وإسرائيل، والإمارات، والهند. حيث ساهم "تطبيع " العلاقات بين الإمارات وإسرائيل في أغسطس 2020م، في تشجيع البلدين إلى جانب الهند على الدخول في شراكة ثلاثية في مايو 2021م، والتي تحولت فيما بعد إلى "كواد 2" في أكتوبر من 2021م، مع انضمام أمريكا إلى التكتل الثلاثي، أعيد تسميته ب “أي تو يو تو" في يوليو من عام 2022م، هذه الشراكة الحديثة وُصفت بأنها:" مبادرة غير رسمية ذات طابع جغرافي -اقتصادي وتُعنى بقضايا محددة"، مع التركيز على أن الشراكة ليس لديها رؤية استراتيجية مشتركة، وبالتالي، ليس لديها أجندة في مجال الأمن الإقليمي. واجتمعت المجموعة على مستوى القمة في يوليو 2022م، وعلى الرغم من الاستفادة من العلاقات السياسية والاقتصادية الوثيقة بين الشركاء، إلا أن التكتل ركز على المجالات غير الأمنية مثل: الطاقة، والأمن الغذائي، والصحة، والفضاء، والنقل، والمياه. وقد انعكس التركيز على تدعيم الروابط الاقتصادية من خلال البيان المشترك عقب انعقاد القمة، والذي تحدث عن حشد رأس المال الخاص والخبرات من أجل “تحديث البنية التحتية، وتعزيز مسارات التنمية منخفضة الكربون للصناعات، وتحسين الصحة العامة، والحصول على اللقاحات، وتعزيز الاتصال المادي ... وأخيرًا، تعزيز تطوير التقنيات الناشئة والخضراء المهمة، مع التركيز على الأمن الغذائي والطاقة. وبالتالي، فإن" أي تو يو تو "كمنظمة هي منصة لتشجيع التعاون الاقتصادي ولا تحمل دلالة استراتيجية.

الكيان الثاني الذي ترعاه أمريكا هو مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. حيث يهدف مشروع الربط اللوجيستي هذا إلى ربط الهند بشبه الجزيرة العربية، وعلاوة على ذلك، فإنه يربط المنطقة العربية وأوروبا من خلال شبكة سكك حديدية تصل الموانئ الإماراتية والسعودية بميناء حيفا. وقد تم الموافقة على هذا المقترح على هامش انعقاد قمة العشرين في نيودلهي سبتمبر 2023م، ولكن مع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد بضعة أسابيع قليلة من الإعلان، وضع المشروع على رف الانتظار.

 تم الدفع بالمشروع من قبل أمريكا باعتباره منافسًا لمبادرة الحزام والطريق الصيني، وأنه يخدم مصالح واشنطن في تعزيز العلاقات بين الرياض وتل أبيب على الرغم من عدم تطبيع العلاقات بين البلدين. مع ذلك، فإن المشروع يحمل مواطن ضعف خطيرة.  حيث أن الهند بالفعل على اتصال جيد بشبه الجزيرة العربية. في الواقع، تعود هذه العلاقات إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام. مرة أخرى، ترتبط الهند وجميع الدول الآسيوية ارتباطًا وثيقًا بأوروبا عبر البحر الأحمر، حيث توفر قناة السويس ممرًا للشحن العالمي بين الشرق والغرب. وسعيًا لتحقيق هدف دمج إسرائيل في الشرق الأوسط، فإن ما تقترحه أمريكا الآن هو جلب البضائع من الدول الآسيوية إلى الموانئ الإماراتية والسعودية، وتحميلها على عربات السكك الحديدية، ثم نقلها إلى حيفا حيث يتم تحميلها على متن سفن متجهة إلى الأسواق الأوروبية. ويعد هذا المقترح غريبًا بالنظر إلى أن لدينا الآن روابط شحن مباشرة من الأسواق الآسيوية إلى أوروبا والعكس صحيح.  بالتالي، فإن السبيل الأفضل من أجل دمج إسرائيل مع جيرانها في المنطقة سيكون من خلال قبول إسرائيل بخطة السلام العربية وتنفيذها وتسهيل إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة. وبرغم من هذه المبادرات الأمريكية المتنوعة، تظل الهند متشبثة باستقلاليتها الاستراتيجية. وأحدث الأدلة على ذلك هو توقيع الهند وإيران عقد مدته عشر سنوات لتوفير تمويل بقيمة 120 مليون دولار وخط ائتماني إضافي بقيمة 250 مليون دولار لتطوير مشروع ميناء تشابهار. ويستهدف المشروع تشييد 32 رصيفًا مُجهزًا بمرافق مناولة بضائع تصل طاقتها الاستيعابية عند اكتمالها إلى 82 مليون طن سنويًا.

التعاون التقني بين الولايات المتحدة والهند

لقد وجدت كل من الهند وأمريكا في التكنولوجيا مجالاً كبيرًا ومتبادل المنفعة للتعاون الثنائي، وكتب المعلقان هيمانت تانيجا وفريد زكريا في أبريل من العام الماضي، أنه مع تزايد المخاوف الأمريكية حيال الصين، "تتألق الهند كبديل واعد في سلاسل التوريد، ومراكز الابتكار، والمشروعات المشتركة". وأشار الكاتبان في الوقت ذاته إلى أن الهند أيضًا "تريد الإفلات من الهيمنة التكنولوجية للصين كوسيلة لتعزيز أمنها القومي". وقد دفعت هذه التصورات المشتركة البلدين إلى مواصلة التعاون الإيجابي بينهما.

وكان تقرير أسترالي في مارس 2023م، قدم وصفًا تفصيليًا للمجالات التكنولوجية التي تفوقت فيها الصين والولايات المتحدة والهند. وقال التقرير إن الصين تهيمن على قطاعات مثل: المواد النانوية والتصنيع؛ الطلاءات؛ مواد ذكية؛ عمليات تصنيع عالية المواصفات؛ المتفجرات المتقدمة؛ واستخراج المعادن الهامة ومعالجتها؛ محركات الطائرات المتقدمة والطائرات بدون طيار والروبوتات. وأشار التقرير إلى أن أمريكا والهند لديهما أيضًا اهتمام عميق بهذه المجالات؛ وبالتالي فإن التعاون بينهما من شأنه أن يقلل من مخاطر الاحتكار الصيني لها.

ومن أجل تعزيز العلاقات مع الهند في المجال التكنولوجي، قام العديد من كبار المسؤولين الأمريكيين بزيارة للهند كجزء مما يدعوه الأمريكيون " دعم الأصدقاء"، في محاولة لاجتذاب الهند إلى فلك الحلفاء الاقتصاديين. وفي نوفمبر 2022م، أكدت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين أن واشنطن تضع الهند في قلب جهودها الرامية إلى فصل سلاسل التوريد العالمية عن خصومها وتوطيد العلاقات مع واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم وأحد أبرز الشركاء التجاريين الموثوقين – أي الهند. ومن بين مجالات التعاون التي تم تحديدها في ذلك الوقت أشباه الموصلات، والمركبات الكهربائية، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والطائرات بدون طيار.

وبعد وقت وجيز، قامت وزيرة التجارة الأمريكية جينا ريموندو بزيارة إلى الهند في مارس 2023م، لإجراء "حوار تجاري استراتيجي" حول مسألة ذات أهمية استراتيجية حيوية للبلدين في منافستهما مع الصين – ألا وهي أشباه الموصلات. ويتمثل التحدي الماثل أمام البلدين في التوفيق بين نيتهما الحالية في تصنيع الرقائق داخل بلديهما وخطة إقامة سلسلة توريد مترابطة بينهما من خلال جعل صناعة أشباه الموصلات في أمريكا والهند مكملة لبعضها البعض وليست تنافسية. ويبحث البلدان أيضًا في تطوير تقنيات دفاعية مشتركة، بما في ذلك المحركات النفاثة وأنظمة المدفعية ومركبات المشاة المدرعة.

وعلى الرغم من إحراز تقدم كبير في استكشاف مجالات التعاون الثنائي في قطاع التكنولوجيا، فإن كلاً من أمريكا والهند أمامهما شوط طويل في بناء الثقة الاستراتيجية، إذ تشكو الهند من حرمانها حتى الآن من الوصول إلى بعض التقنيات الأمريكية المتقدمة المتعلقة بالدفاع. وقد أوصى تانيجا وزكريا، بأن واشنطن يجب أن تنظر إلى الهند كمركز حقيقي للابتكار وأن تعمل على إصلاح السياسات التجارية وإنشاء نظام شفاف لنقل التكنولوجيا والابتكار.  وتحتاج الهند من جانبها إلى أن تصبح أكثر ملاءمة للأعمال التجارية من خلال إصلاح قوانينها وتخفيف الحواجز أمام الاستثمار الأجنبي.

الختام

تعود جذور الحرب التجارية بين أمريكا والصين، التي تحولت إلى منافسات ذات محصلة صفرية بين الجانبين على صعيد التكنولوجيا والجغرافيا السياسية، إلى الصعود المدوي للصين واحتلالها المرتبة الثانية بعد أمريكا مباشرة في النظام العالمي السياسي، والاقتصادي، والعسكري الراهن، فضلاً عن روابطها بروسيا (وكذلك إيران وكوريا الشمالية) التي تمكنها من تحدي النظام العالمي الذي تهيمن عليه أمريكا. فإن فكرة "الغرب" كتكتل سياسي موحد اكتسبت صدى جديدا بسبب تداعيات هذا التحدي، وتحديدًا من القوى الغربية التي اجتمعت معًا لمواجهة روسيا بعد غزوها لأوكرانيا.

تنظر الدول الغربية الآن إلى هيمنتها على الشؤون العالمية باعتبارها أمرًا بديهيًا وربما يكون أبديًا ومن ثم، فإنها تؤمن بضرورة تبني موقف موحد وقوي لمواجهة التحديات والاستعانة بمختلف أنواع الأدوات المتاحة في جعبتها: الحرب التجارية، والعقوبات الاقتصادية، والجهود التخريبية، والتدخلات العسكرية المباشرة، حيثما لزم الأمر. ويعتبر العمل على تقويض قدرة خصومه من خلال سياسات فرق تسد المدروسة والمنفذة بعناية جزءًا مهمًا من هذه المواجهة. لقد حرص الغرب على أن يضع نفسه وخصومه في إطار ثنائيات جماعية متناحرة، حيث تأسس فهمه لـ "نحن" و"هم" على وجهة نظر بسيطة ــ إذا لم تكن معنا، فأنت ضدنا. ولكنه فهم مغلوط حيث أن أولئك الذين يتحدون الهيمنة الغربية ليسوا، ولا يعتبرون أنفسهم، مجموعة متجانسة؛ إنهم دول عديدة ومتنوعة تسعى اليوم إلى الاضطلاع بدور مستقل لنفسها في الشؤون العالمية حتى تتمكن، إما بمفردها أو بالاشتراك مع حلفائها ذوي التفكير المماثل، من تأكيد مصالحها في مناطق جغرافية محددة أو في قضايا محددة تهمها. وبالتالي فإن ما يسعون إليه هو نظام متعدد الأقطاب، وليس قطبية ثنائية عالمية أخرى.

في المقابل، تسعى الهند إلى حماية مصالحها وتعزيز قدراتها والتعبير عن مخاوف الجنوب العالمي من خلال ممارسة الاستقلالية الاستراتيجية والانضمام إلى تحالفات متنوعة، ثنائية ومتعددة الأطراف، والتأكد دائمًا من أنها لا تعمل بناء على طلب سلطة أخرى أو تُخضع مصالحها لخدمة قوة أخرى. وترى الهند نفسها طرفًا فاعلاً، بل لاعبًا مؤثرًا، في النظام الناشئ متعدد الأقطاب.


 

مقالات لنفس الكاتب