إن مسرح العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تشهد متغيرات مثيرة للجدل ما يدعو للتعمق في تبيان الجوانب القانونية والسياق التاريخي لتلك التجارة، فضلًا عما لها من آثار عالمية في كافة تدفقات التجارة الدولية، واتجاهاتها وحجمها وتأثيرها على المنطقة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي، والتي استمرت لعقود من الزمن منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949م، وفي البداية لم تكن هناك أي تجارة تقريبًا بين الولايات المتحدة والصين بسبب قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين الناجم عن التضاد بين شيوعية الصين ورأسمالية الولايات المتحدة. ولكن في عام 1979م، بدأت مرحلة جديدة بين البلدين ما أدى إلى تطبيع العلاقات بين البلدين وحدوث زيادة كبيرة في التجارة بينهما. وعلى مدى العقود الأربعة التالية لهذا التحول نمت التجارة بين البلدين من بضعة مليارات من الدولارات إلى مئات المليارات سنويًا. وقد كان المحفز الأساسي الذي وقف وراء هذا التطور وهذا النمو هو نهج الإصلاحات الاقتصادية التي انتهجتها الصين والتي بدأها دنغ شياو بينغ في أواخر السبعينيات، ومن ثم توجه بكين نحو اقتصادات السوق، ما أذن بنمو قطاعات الصناعات الخاصة المملوكة للقطاع الخاص، وأدى ذلك إلى مزيد من التوسع التجاري الصيني نظرًا لتضخم الإنتاج والحاجة الملحة لتصريف البضائع المنتجة، ومن ثم البحث عن أسواق خارجية جديدة. كما كان انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001م، سبباً في تغذية النمو الهائل للتجارة بين الولايات المتحدة والصين.
وقد أسفر التوسع في قطاع التجارة عن فوائد جمة لعل أهمها كان تمتع المستهلكون الأمريكيون بسلع ذات أسعار أقل لتدفق السلع الرخيصة القادمة من الصين. كما حققت الشركات الأمريكية أرباحًا كبيرة بسبب زيادة تشغيل العمالة الرخيصة في الصين. ومع ذلك، ظهرت المخاوف عندما تبنت بكين سياسات التنمية التي تقودها الدولة، حيث قدمت الدعم للصناعات المستهدفة وتبنت الدولة الصينية توجهات حكومية رسمية لدعم التوسع العالمي لصناعاتها ولو على حساب شركاء التجارة الدوليين – وأهمهم الولايات المتحدة الأمريكية ـ كما أثارت استثمارات الشركات الصينية في الأراضي الأمريكية نفسها مخاوف تتعلق بالأمن القومي الأمريكي حيث أدت منافسة الاستيراد من الصين إلى فقدان ملايين الأمريكيين وظائفهم وواجهت الصين اتهامات بالضغط على الشركات الأمريكية لتبادل التكنولوجيا أو سرقتها بشكل مباشر، وهو ما قاد إلى تضاؤل التفاؤل بشأن نمو تلك العلاقة التجارية مع تبني الصين للتنمية التي تقودها الدولة، وتفضيل صناعات معينة على حساب الشركات الأجنبية بما أضرّ بمبدأ التجارة العادلة.
وشهدت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين بعض النزاعات التجارية التي أسهمت في تشكيل ملامح تدفقات التجارة الدولية. فمنذ عام 2018م، انخرطت الولايات المتحدة والصين في حرب تجارية، حيث فرضت كل منهما تعريفات جمركية على صادرات الأخرى. ورفعت الولايات المتحدة التعريفات الجمركية على الواردات الصينية، وردت الصين بفرض تعريفات جمركية على البضائع الأمريكية. وقد أثرت هذه الرسوم الجمركية على مجموعة واسعة من المنتجات، من الإلكترونيات إلى السلع الزراعية، مما أدى إلى تعطيل سلاسل التوريد والتأثير على الشركات على كلا الجانبين. ولطالما اتهمت الولايات المتحدة الصين بسرقة الملكية الفكرية، وشمل ذلك اتهامات بالنقل القسري للتكنولوجيا، والتزوير، والتعدي على براءات الاختراع وحقوق النشر. وأدت الخلافات حول حقوق الملكية الفكرية إلى توتر العلاقات الثنائية وأدت إلى معارك وتحقيقات قانونية. كما حدّت الولايات المتحدة من الاستثمارات الصينية في القطاعات التقنية الحساسة، مستشهدة بمخاوف تتعلق بالأمن القومي، لعل أشهرها حظر التعامل مع شركة هواوي الصينية. باختصار، تنطوي العلاقة التجارية بين الولايات المتحدة والصين على نزاعات متعددة الأوجه، تتراوح من التعريفات الجمركية والملكية الفكرية إلى الوصول إلى الأسواق والمخاوف التكنولوجية. وتستمر هذه القضايا في تشكيل العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
ولكون حماية التجارة الدولية مقصد لتدعيم الأمن والسلام العالمي فإنه يبرز دور القانون الدولي في مجابهة النزاعات التجارية بين عملاقيّ التجارة الدولية: الولايات المتحدة والصين، من خلال عدة أطر منها:
- إطار منظمة التجارة العالمية:
توفر منظمة التجارة العالمية (WTO) إطارًا قانونيًا لحل النزاعات التجارية بين الدول الأعضاء وتحدد اتفاقيات منظمة التجارة العالمية قواعد التجارة، بما في ذلك مستويات التعريفات الجمركية، وعدم التمييز، وإجراءات تسوية المنازعات. وعندما تنشأ نزاعات، تستطيع البلدان تقديم شكاوى إلى منظمة التجارة العالمية، التي تفصل بعد ذلك على أساس القواعد والمبادئ الراسخة في العلاقات التجارية الدولية.
- آلية تسوية المنازعات:
تلعب هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية (DSB) دورًا حاسمًا في حل النزاعات التجارية، وهو يتضمن مشاورات وجلسات استماع ومراجعات الاستئناف لمعالجة الانتهاكات المزعومة لقواعد منظمة التجارة العالمية. إن قرارات جهاز تسوية المنازعات ملزمة، وعدم الامتثال يمكن أن يؤدي إلى تطبيق نظام عقوبات تجارية على الطرف الممتنع.
- التقاضي الدولي:
تستطيع البلدان أن تقاضي بعضها البعض بسبب الممارسات التجارية غير القانونية من خلال الآليات القانونية لمنظمة التجارة العالمية. تضمن إجراءات الشفافية والمساءلة والالتزام بمعايير التجارة الدولية. يعد الامتثال لأحكام منظمة التجارة العالمية أمرًا ضروريًا للحفاظ على نظام تجاري عالمي قائم على احترام القواعد.
- الاتفاقيات والالتزامات الثنائية:
تلعب المفاوضات والاتفاقيات الثنائية – مثل اتفاقية المرحلة الأولى الموقعة بين الولايات المتحدة والصين في عام 2020م، -دورًا في حل قضايا مثارة بشأن العلاقات التجارية، وهي تهدف إلى معالجة بعض المخاوف التجارية ودعم استقرار التجارة بين الدول الأطراف في الاتفاقية. إن الالتزامات القانونية الواردة في مثل هذه الاتفاقيات توجه العلاقات التجارية وتوفر الأساس للتنفيذ.
في المجمل، يلعب القانون الدولي، كما تجسده منظمة التجارة العالمية والاتفاقيات الثنائية، دورًا حاسمًا في إدارة وحل النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة، وتستمر الآليات القانونية في التطور استجابة للديناميكيات التجارية المتغيرة.