تناقش هذه المقالة، دور التعاون الاقتصادي بين الدول العربية في مجالات التجارة والاستثمار والمشروعات المشتركة وانتقال العمالة، التحديات الاقتصادية الداخلية والخارجية التي تواجه الدول العربية، ومستقبل التعاون في مجالي النفط والغاز، التقدم الاقتصادي الذي أحرزته الدول العربية في مجال تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، ودور هذه المتغيرات، في تعزيز قدرة الاقتصادات العربية على مواجهة الحرب التجارية الأمريكية الصينية.
ففي خضم التطورات العالمية الراهنة وفي إطار الثورة الصناعية الرابعة، تبدو الحاجة ملحة إلى تحول الاقتصادات العربية إلى اقتصاد المعرفة والتنوع الاقتصادي، حيث لا تزال مساهمة الدول العربية محدودة في هذا المجال إذ يوفر التحول نحو اقتصاد المعرفة فرصًا كبيرة لتعزيز النمو الاقتصادي وإيجاد المزيد من فرص العمل، سواءً تعلق الأمر بالقطاعات التقليدية مثل الزراعة والصناعة والخدمات التي يمكنها الاستفادة من التطور التقني المتسارع لدعم الإنتاجية والتنافسية.
ويهدف التكامل الاقتصادي العربي إلى جعل المنطقة العربية، "منطقة سلام واستقرار واكتفاء" من خلال دعم وتعزيز التعاون الاقتصادي وإطلاق الحوار السياسي والتعاون الاجتماعي والثقافي وغيرها، حيث يتحقق التكامل الاقتصادي من خلال حوار اقتصادي منتظم بين جميع الأطراف يغطي كافة مجالات سياسة الاقتصاد الكلي، التجارة، والصناعة، والاستثمار، والسياحة، والنقل، والبيئة والتنمية المستدامة، والزراعة والمياه والطاقة وغيرها، وكذلك يتم من خلال تبادل منتظم للمعلومات والأفكار في كل قطاع للتعاون.
وتتوافر في الوطن العربي جميع مقومات التكامل الاقتصادي، التي تمثل قدرات المنطقة العربية، مما يجعل قضية التكامل ليست فقط أمرًا ممكناً، بل متميزاً عن سواه من تجارب الدول الأخرى. إذ يعتبر الوطن العربي من أغنى مناطق العالم في احتياطي البترول الخام وتشكل حصة الدول العربية من إجمالي الاحتياطي المؤكد العالمي 55.7%، وتشكل 26.5% من إجمالي الاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي عام 2023م، كما بلغت مساحة الأراضي القابلة للزراعة في الدول العربية حوالي 197 مليون هكتار، ويشكل إجمالي مساحة المراعي الطبيعية حوالي 375.9 مليون هكتار، بينما قدرت مساحة الغابات بنحو37.4 مليون هكتار، ويعتبر الوطن العربي سوقًا واسعة قوامها 415 مليون نسمة، وهي سوق مؤهلة لتحقيق التكامل الاقتصادي، اذ بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية 3.68 تريليون دولار أمريكي عام 2022م، وفقاً للتقرير الاقتصادي العربي الموحد 2023م.
جدول (1) أداء التجارة العربية البينية (2018: 2022)
المصدر: التقرير الاقتصادي العربي الموحد، 2023.
وفيما يتعلق بالتجارة البينية السلعية العربية و كيف يمكن تعظيم دور التجارة العربية البينية، أو مع العالم لمواجهة صراع الكبار عبر الحرب التجارية، بين أمريكا والصين، اذ استمر أداء التجارة البینیة السلعیة العربیة في التحسن خلال عام 2022 م، وذلك للعام الثاني على التوالي، نتیجة لتخفیف القیود الصحیة المفروضة للسیطرة على انتشار فیروس كوفید 19، الأمر الذي ساھم في تسریع تعافي الأنشطة الاقتصادية، ومن ثم زيادة مستویات الإنتاج السلعي في الدول العربية، كذلك، ساهم استقرار الأسواق العالمية للطاقة والسلع الأساسية الأخرى في دعم معدلات التجارة، العربية البینیة خلال 2022م.
نتيجة للتطورات سالفة الإشارة، ارتفع متوسط قیمة التجارة السلعیة البینیة خلال 2022 م، بنسبة 10.3 %، لتسجل نحو 125.8 ملیار دولار في عام 2022 م، مقارنة مع نحو 114.0 ملیار دولار في عام 2021 م، حیث سجلت كل من الصادرات البینیة والواردات البینیة للدول العربیة زیادة خلال 2022م، بنسب بلغت 11.4 % و 9.2 %، لیصل كل منھما إلى 130.2 ملیار دولار و 121.3 ملیار دولار، على التوالي ، مقارنة مع حجم التجارة العربية مع العالم الخارجي 2.3 تريليون دولار ، و هو حجم كبير من التبادل التجاري بين الدول العربية و العالم ، و يؤثر في مسار التطورات في العالم إذا ما استخدم بشكل صحيح يحقق مصالحنا السياسية و الاقتصادية (جدول 1 ) .
و يمكن زيادة الاستثمارات العربية البينية و الاستثمارات الأجنبية في الدول العربية من خلال تحسين مناخ الاستثمار في الدول العربية، و استنادًا إلى تقرير مناخ الاستثمار في الدول العربية للعام 2022م، الصادر عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، تمكنت الدول العربية من الاستحواذ على نحو 53 مليار دولار، بما يعادل نحو 3.3 % من إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي عالميًا، يأتي ذلك في الوقت الذي يشهد فيه العالم عديداً من الأزمات، سواء فيما يتعلق باستمرار تداعيات جائحة كورونا، أو الحرب الروسية في أوكرانيا، التي تسببت في زيادة حدة الأزمات التي تواجه الأنشطة الاقتصادية عالمياً، و ارتفعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة إلى الدول العربية بنسبة 42%، لتبلغ نحو 53 مليار دولار خلال عام 2021م، ولتمثل حصتها نحو 6.3% من إجمالي التدفقات الواردة إلى الدول النامية، ونحو 3.3 %من مجمل التدفقات العالمية، البالغة نحو 1.58 تريليون دولار.
وفيما يتعلق بأرصدة الاستثمار الأجنبي المباشر، أشارت البيانات إلى ارتفاع أرصدة الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة إلى الدول العربية بنهاية عام 2021م، بنحو 52 مليار دولار، وبمعدل بلغ نحو 5.4 %، حيث قفزت من 958 مليار دولار في 2020م، إلى أكثر من تريليون دولار عام 2021م، وذلك وفق بيانات أونكتاد، واستحوذت الدول الثلاث الأولى على نحو 56.5 % من مجمل الأرصدة التراكمية الواردة إلى المنطقة. وتصدرت السعودية الترتيب العربي بإجمالي استثمارات بلغت نحو 261 مليار دولار وبحصة بلغت 26 % من حصيلة الدول العربية، تلتها الإمارات بقيمة 171.6 مليار دولار وحصة بلغت نحو 17 %، ثم جاءت مصر في المركز الثالث بقيمة 137.5 مليار دولار وحصة تبلغ نحو 13.6% ، في المقابل ، ارتفعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الصادرة من الدول العربية نحو مختلف دول العالم بمعدل 46 % إلى 52 مليار دولار، وبلغت حصة السعودية والإمارات من إجمالي هذه الاستثمارات نحو 90 %، وبحصص بلغت 46.1 % للسعودية، و43.5 % للإمارات، ثم حلت الكويت في المرتبة الثالثة بنسبة 7 % من مجمل التدفقات الصادرة عن الدول العربية لعام 2021م.
كما ارتفعت أرصدة الاستثمار الأجنبي المباشر الصادرة من الدول العربية بمعدل 10.2 % إلى نحو 543.4 مليار دولار بنهاية عام 2021م، أسهمت فيها الإمارات والسعودية وقطر بنحو 76.5 % من مجمل الأرصدة الصادرة من المنطقة، وبلغت حصة الإمارات نحو 39.6 %، فيما بلغت حصة السعودية نحو 27.9 %، بينما بلغت حصة قطر نحو 8.8 %، وبلغت حصة الكويت التي حلت في المركز الرابع نحو 6.7 %، و واصلت الإمارات تصدرها ل 13 دولة عربية كأكبر مستثمر في مشاريع الاستثمار العربي البيني خلال عام 2021م، بعدد مشاريع بلغ 55 مشروعًا تمثل 41% من الإجمالي، و بقيمة بلغت 4.9 مليارات دولار تمثل 74.6% من إجمالي التكلفة الاستثمارية ووفرت ما يزيد عن 6 آلاف وظيفة. في حين جاءت الكويت في المرتبة الثانية من حيث التكلفة الاستثمارية التي تخطت نصف مليار دولار استثمرتها من خلال 15 مشروعًا.
وعلى صعيد الدولة المستقبلة، واصل التوزيع الجغرافي لمشاريع الاستثمار العربي البيني، تركزه في السعودية من حيث عدد المشاريع مستحوذة على 38 مشروعًا تمثل 28% من الإجمالي، وعدد الوظائف الجديدة والتي بلغت 3.9 آلاف وظيفة تمثل 35% من الإجمالي، في حين تصدرت مصر المقدمة من حيث التكلفة الاستثمارية والتي تخطت 2.5 مليار دولار خلال عام 2021م.
شكل رقم (1) تدفقات التحويلات المالية إلى المنطقة العربية 2011 -2020 (مليار دولار)
ويظهر الشكل رقم (1) التحويلات المالية إلى المنطقة العربية في الفترة من عام 2011 إلى 2020م، إذ أن تحويلات العاملين في الخارج تمثل احدى أهم التدفقات المالية الخارجية إلى الدول العربية، حيث تفوق قيمتها كثيرًا كلاً من تدفقات المساعدات الإنمائية الرسمية وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الدول العربية، اذ تتميز تحويلات العاملين بعدد من الخصائص من أبرزها أن المنطقة العربية تشمل دولاً مستقبلة لتحويلات العاملين ودولاً مرسلة للتحويلات، وتؤدي تحويلات العاملين في الخارج دورًا مهمًا في التنمية الاقتصادية في الدول العربية، مما تعزز من قدرات المنطقة العربية في مواجهة الحرب التجارية الأمريكية الصينية.
ويلعب النفط والغاز دوراً رئيسيًا في تعزيز التشابكات الاقتصادية التي تعزز التنمية الإقليمية في المنطقة العربية، إذ تُعدّ الموارد الطّبيعيّة المصدر الثّاني من مصادر قوّة النّظام العربيّ والشرق الأوسط بعد الموقع الجغرافيّ، حيث تملك المنطقة العربيّة إمكانيات هائلة من هذه الموارد، من حيث الإنتاج أو الاحتياط ، فهي تحتلّ مواقع متقدمةً من إنتاج النفط والغاز والحديد والفوسفات وغيرها من المعادن التّي تقوم عليها الصناعات الحديثة، وإن كان المورد الأهمّ بينها هو النّفط ، إذ أن نسبة احتياط النفط المؤكد إلى الاحتياط العالمي للدول العربية يبلغ 55.7 % من الاحتياط العالمي البالغ 1284 مليار برميل عام 2021م، و26.5 % من احتياطي الغاز، إذ تشكل نسبة كبيرة عند إضافة احتياطيات إيران من النفط والغاز لتشكل قوة كبيرة في منطقة الشرق الأوسط من حيث الإمكانيات من النفط والغاز، إذ تمثل هذه الثّروة النّفطيّة والغاز الموضوع الرئيسي لعلاقات الدول العربية والشرق الأوسط بغيرهم، وهي تعتبر سبباً رئيسياً لتدخّل الدّول الخارجيّة، لتُمارس سلطتها في توجيه العلاقات داخل الشرق الأوسط والتأثير في مساراتها، كما أنّه يُعتبر عامل قوةٍ تُمكّن من الضغط على قمّة النّظام الدّوليّ من خلال وقف أو تقليل إنتاج البترول أو تصديره، وهذا ما أعطى أهميةً ومكانةً للمنطقة العربيّة والشرق الأوسط في الاقتصاد العالميّ ، إذ أن تفعيل نتائج التعاون بين الدول العربية مع التكتلات الاقتصادية الكبرى في العالم ، سوف تجذب المزيد من الاستثمارات و توطين الصناعات في دول مجلس التعاون الخليجي و المنطقة العربية ، وتساعد في تجنبها تأثير الحرب التجارية بين أمريكا و الصين .
وقبل تحليل دور النفط والغاز في رسم العلاقات الدولية ومستقبل المنطقة، لا بد أن نحدد العوامل أو المتغيرات التي تحدد أسعار النفط عالمياً وهي، الإنتاج (العرض )، الطلب العالمي ،الاحتياطي من النفط ، الجغرافيا السياسية Geopolitics ومعدل النمو العالمي، من ناحية أخرى يجب أن نشخص أكبر 10 دول تنتج النفط عالمياً، لأنها تلعب دوراً رئيسياً في رسم مستقبل العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية ، وهي أمريكا حيث تنتج تقريباً 11.73 مليون برميل، روسيا 10.95 مليون برميل ، السعودية 10.67 برميل، كندا 5.6 مليون برميل، الصين 4.15 مليون برميل، ثم يليها كل من العراق، الإمارات ، البرازيل، إيران والكويت ، و من ناحية أخرى تمثل دول الخليج العربي السعودية، الإمارات والكويت بجانب العراق، اللاعب الأساسي في المنطقة العربية والشرق الأوسط في تحديد حجم ومستويات الإنتاج في العالم وتمثل مركز الثقل الاستراتيجي، من خلال دورها الفاعل في الأوبك +، من خلال تحديد إنتاج وتصدير وأسعار النفط في العالم، (جدول رقم 1 ورقم 2).
جدول رقم (1) إنتاج النفط الخام عربيًا وعالميًا، 2018-2022 (الف برميل/ يوم)
جدول رقم (2) احتياطي الغاز الطبيعي عربيًا وعالميًا 2018 – 2022 (مليار متر مكعب عند نهاية السنة)
وتمتاز الدول العربية وإيران بأنها تتمتع باحتياطات كبيرة من الغاز الطبيعي في العالم، بجانب روسيا التي تصدرت احتياطي الغاز بمقدار 47,805 مليار متر مكعب، تليها إيران بمقدار 33,98 مليار متر مكعب، ثم قطر 23,831 مليار متر مكعب، أمريكا 16,39 مليار متر مكعب، ثم السعودية 8,507 مليار متر مكعب ويليها الجزائر 4,505 مليار متر مكعب وهكذا تأتي بعدها بقية دول العالم من حيث الاحتياطيات من الغاز.
ومن ناحية أخرى لا بد هنا من توضيح أن التكامل الاقتصادي العربي يعتبر المرحلة الأخيرة، بعد إنجاز السوق العربية المشتركة والاتحاد الجمركي بعد الانتهاء من مستلزمات منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، إذ أن قضية التكامل الاقتصادي والسوق العربية المشتركة تعتبر من أهم القضايا التي تواجه العمل العربي المشترك، وأهميتها في تعزيز قدرة الاقتصادات العربية، والتي يجب أن ينتبه العالم العربي لها في ظل التطورات الاقتصادية الدولية، والتكتلات الاقتصادية الدولية
و في ضوء مقومات المنطقة و إمكانياتها، يهدف التكامل الاقتصادي العربي إلى جعل المنطقة العربية، "منطقة سلام واستقرار واكتفاء" من خلال دعم وتعزيز التعاون الاقتصادي وإطلاق الحوار السياسي والتعاون الاجتماعي والثقافي وغيرها، حيث يتحقق التكامل الاقتصادي من خلال حوار اقتصادي منتظم بين جميع الأطراف يغطي كافة مجالات سياسة الاقتصاد الكلي، التجارة، والصناعة، والاستثمار، والسياحة، والنقل، والبيئة والتنمية المستدامة، والزراعة والمياه والطاقة وغيرها، وكذلك يتم من خلال تبادل منتظم للمعلومات والأفكار في كل قطاع للتعاون.
إن التكامل الاقتصادي العربي يتحقق من خلال مجموعة متكاملة من المداخل، أولها المدخل التبادلي، منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، الاتحاد الجمركي العربي والسوق العربية المشتركة، وثانيها المدخل الإنتاجي أي الاستثمارات العربية المشتركة من خلال تفعيل الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية المعدلة (2013م) واتفاقية الاستثمار الجديدة التي من المأمول الانتهاء منها هذا العام . وثالثها مدخل البنية الأساسية، الربط الكهربائي العربي، والربط البري العربي بالسكك الحديدية، الربط البري للطرق، الربط البحري بين الموانئ العربية وربط شبكات الانترنت العربية، مع ضمان حرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال بين الدول العربية. ويتعزز التكامل ويدعم بالأمن المائي العربي والأمن الغذائي العربي والأمن الإنساني العربي، وإن عدم تحقيق هذه الحزمة من العوامل، أو تحقيق جزءًا بسيطًا منها، يؤدى إلى حدوث خلل في مسيرة السوق العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي العربي، والتي يمكن أن تكون تكتل اقتصادي إقليمي، يحقق مستقبلاً كبيرًا في قضية التعاون الاقتصادي داخل الإقليم، ولا ننسى دور القطاع الخاص في هذا الإقليم، لأننا العرب وتركيا وإيران وإسرائيل نعيش في منطقة واحدة هي الشرق الأوسط.
بدأت منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى تخطو خطوات جيدة باتجاه الانتقال إلى الاتحاد الجمركي، ولغرض الانتهاء من متطلبات منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، لا بد من بحث كيفية تطوير وتحديث منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى وفقاً لأفضل الممارسات الدولية والإقليمية، بحيث يتم إدماج الموضوعات الأخرى ذات الصلة بالتجارة للمنطقة، والتي أوضح التطبيق أنها تعد ضرورية ولازمة لتعزيز التجارة البينية العربية، ولعل أهم سبل تعزيز قدرة الاقتصادات العربية هو أنه لابد من تطوير العمل الاقتصادي والاجتماعي العربي المشترك من خلال تطوير الجامعة العربية وإدخال تعديلات على ميثاقها وتوفير آليات لمواجهة المسؤوليات التي تكلف بالاضطلاع بها وهوما أكدت عليه القمة العربية في الدوحة (2013م) بضرورة تطوير العمل العربي المشترك والذي عرض في القمة في الكويت (2014م)، والقمم اللاحقة التي نظرت في الموضوع.
إن القطاع الخاص ركيزة للعمل الاقتصادي والتنموي المشترك، وتشجيعه يتطلب قيام القطاع الخاص بمسؤوليات متزايدة في النشاط الاقتصادي بالدول العربية، وتعزيز المسؤولية الاجتماعية لدى القطاع الخاص، تسهيل إجراءات انتقال رجال الأعمال والمستثمرين العرب، وتشجيع وتسهيل الاستثمار العربي الخاص في الدول العربية. لقد ساهمت مبادرة دولة الكويت، في القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية (2009م)، بشأن توفير الموارد المالية (ملياري دولار) لدعم وتمويل مشاريع القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة في الوطن العربي، في توفير قروض صغيرة ومهمة لصغار المستثمرين، وتؤدي دورًا مهمًا في تمويل هذه المشاريع. ولعل هذه المبادرة تصب في اتجاه تحسين التمويل ولكنها لأغراض خاصة بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة حصراً.
ويمثل الولوج إلى اقتصاد المعرفة والتنوع الاقتصادي والبحث العلمي، السبيل نحو تعزيز قدرة الاقتصادات في منطقة الشرق الأوسط والعالم، إذ يساهم اقتصاد المعرفة والتنوع الاقتصادي والبحث العلمي بشكل جوهري في تعزيز قدرة الاقتصادات العربية، إذ تمارس التكنولوجيا والابتكار دورًا هامًا في تحقيق التنمية المستدامة الشاملة، وقد أظهرت الدراسات مدى مساهمة العلوم والتكنولوجيا والابتكار في التنمية، كأداة حاسمة لتحقيق الأهداف في إطار الثورة المعرفية، وتسارع التقدم التكنولوجي، ويركز الهدف التاسع من أهداف التنمية المستدامة على إقامة هياكل أساسية قادرة على الصمود، وتحفيز التصنيع الشامل للجميع والمستدام، وتشجيع الابتكار ، إذ أنه عنصر أساسي في معظم الأهداف المعنية بالصحة والرفاه، والتعليم، والمساواة بين الجنسين، والعمل اللائق ونمو الاقتصاد، والمجتمعات المحلية المستدامة، والمناخ، والسلام والعدل والمؤسسات القوية، وعقد الشراكات، إذ تعتبر التكنولوجيا والابتكار محورين مركزيين ترتبط وتعتمد عليهما كل أهداف التنمية المستدامة 2030 في عالمنا العربي.
ويشكل اقتصاد المعرفة والبحث العلمي جوهر الثورة الصناعية الرابعة 4G في الشرق الأوسط والتي تعتبر تحد كبير وحافز مهم للتقدم وخدمة التنمية الاقتصادية، من خلال إتاحة المعارف ذات الصلة، إذ شهد العالم تطورات تكنولوجية سريعة، بفعل الاتصالات الفائقة السرعة والميسورة الكلفة، والحوسبة القوية، والخدمات السحابية والتخزين السحابي الهائل من البيانات. وقد أدت هذه التطورات إلى اعتماد منظومة الأمم المتحدة عددًا من التكنولوجيات الرائدة والرقمية، لما لها من دور أساسي في تسريع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، على غرار البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيات أخرى من الثورة الصناعية الرابعة، بما لها من قدرة على دعم التنفيذ الفعال لخطة التنمية المستدامة لعام 2030 في الدول العربية، فرصًا استثمارية مربحة في مجالات عدة.
في ضوء الإمكانيات التي تتمتع بها المنطقة العربية و دول الخليج العربي، و مع تدهور العلاقات الصينية / الأمريكية على مدار السنوات الأخيرة، مثّلت الزيارات المتكررة بين المسؤولين الأمريكان و الصينيين، خطوات مهمة تكشف عن رغبة الطرفين في وقف تدهور علاقاتهما الاستراتيجية، السياسية والاقتصادية والمالية، شديدة التعقيد، وحددت أمريكا، الصين بوضوح باعتبارها منافسها الاستراتيجي الرئيسي ومنافسها الأول، في حين تنظر الصين إلى أمريكا باعتبارها تهديدًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا خارجيًا رئيسيًا، و مع ذلك لا يرغب الاقتصادان الأكبر في عالم اليوم (يمثلان معًا 40% من الناتج العالمي) في قطع أو تحجيم علاقاتهما الاقتصادية، ولا يريدان الانزلاق نحو انفصال كامل بينهما، لأن العواقب ستكون كارثية على العالم، و بشكل خاص المنطقة العربية و دول مجلس التعاون الخليجي.
واعتبرت زيارتهما المتبادلة قد نجحت في وضع أساس عملي لتناول القضايا الخلافية بين الدولتين، إلا أن طبيعة هذه الخلافات تجعل من الصعب التغلب عليها خلال زيارة واحدة، ولم تجد الخلافات الاقتصادية بينهما طريقها للحل، على الرغم من الحديث الشفاف عن قلق ومخاوف كل طرف من سياسات ومواقف الطرف الآخر، وإن فصل أكبر اقتصادين في العالم، من شأنه أن يزعزع استقرار الاقتصاد العالمي، وسيكون من المستحيل عمليًا القيام به.
و يكثف الطرفان جهودهما لإعادة تشكيل العلاقة التجارية بين أمريكا و الصين، لتناسب ظروف ما بعد أزمة كوفيد-19، إذ كلاهما يريد الحفاظ على علاقة تجارية واستثمارية صحية وسط تنافسهم الاستراتيجي المتزايد، حيث أن أكبر اقتصادين في العالم، يكافحان للتوفيق بين الشكوك المتبادلة والرغبة في الحفاظ على أكبر قدر ممكن من علاقاتهما التجارية المربحة للطرفين، و قد انزعجت أمريكا، من الإغلاق الصيني الصارم بسبب أزمة كوفيد-19، وما تبع ذلك من ارتباك كبير لسلاسل التوريد التي تعتمد عليها أمريكا، حيث في إطار تضييقها على الشركات الأجنبية، تبنت الحكومة الصينية مؤخرًا قانونًا جديدًا لمكافحة التجسس يعامل أبحاث السوق الروتينية على أنها تجسس، كما وضعت الصين قيودًا جديدة على صادرات الغاليوم و الجرمانيوم، وهما معدنان لازمان لإنتاج أشباه الموصلات .
ويشتكي المسؤولون الصينيون من اقتراب الإدارة الأمريكية، من وضع اللمسات الأخيرة على اللوائح التي من شأنها حظر الاستثمار الأمريكي في قطاعات التكنولوجيا الصينية ذات التطبيقات العسكرية. وسبق أن حظرت أمريكا، تصدير رقائق الحاسوب الأكثر تقدمًا إلى الصين، كما تشكو الصين من استمرار أمريكا في تبني المنهج، فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية على الصادرات الصينية، ولم تتراجع أمريكا عن فرض قيود لاستبعاد عملاق التكنولوجيا الصينية شركة هواوي، من السوق الأميركية واستخدام دبلوماسية خشنة للي ذراع حلفاء واشنطن للقيام بفعل الشيء نفسه.
و من الجدير بالإشارة، أن أمريكا لا تسعى إلى فصل شامل لاقتصادها عن الصين، و إنما تسعى إلى التنويع وليس الانفصال، إذ أن فصل أكبر اقتصادين في العالم من شأنه أن يزعزع استقرار الاقتصاد العالمي، وسيكون من المستحيل عمليًا القيام به ، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما العام 2022 م، ما يقرب من 690 مليار دولار منها 536 مليار دولار صادرات صينية مقابل 153 مليارًا صادرات أميركية، وحققت الصين فائضًا تجاريًا (عجزًا على الجانب الأمريكي) بلغ 283 مليارًا مقارنة مع الدول العربية، إذ بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية 3.68 تريليون دولار أمريكي عام 2022م، وفقاً للتقرير الاقتصادي العربي الموحد 2023م، و هو يمثل اقتصاد كبير يؤثر و يتأثر في مجريات المنافسة بين أمريكا و الصين و انعكاساتها .
ولا تزال الصين تشعر بالقلق من الإدارة الأمريكية، بوضع قيود كبيرة على أنواع أشباه الموصلات المتقدمة وآلات صنع الرقائق التي يمكن إرسالها إلى الصين، إذ أعاقت هذه القيود جهود الصين لتطوير الذكاء الاصطناعي وأنواع أخرى من الحوسبة المتقدمة التي من المتوقع أن تساعد في تعزيز اقتصاد الدولتين، إذ أن أمريكا تدرس فرض المزيد من الضوابط على الرقائق المتقدمة وعلى الاستثمار الأميركي في التكنولوجيا الصينية المتطورة، و لطالما كانت أشباه الموصلات، واحدة من كبرى فئات الصادرات الأمريكية إلى الصين وأكثرها قيمة، وبينما تستثمر الحكومة الصينية بكثافة في قدرتها المحلية، فإنها لا تزال متأخرة عن أمريكا، كما أثار برنامج دعم إدارة بايدن لتعزيز صناعة أشباه الموصلات الأميركية غضب المسؤولين الصينيين، خاصة أنه يتضمن قيودًا على الاستثمار في الصين.
تشعر الشركات بالقلق من قوانين الأمن القومي المشددة في الصين، والتي تشمل قانونًا صارمًا لمكافحة التجسس، وتعيد الشركات الأجنبية في الصين تقييم أنشطتها ومعلومات السوق التي تجمعها لأن القانون غامض بشأن ما هو محظور، وفي أمريكا، تواجه الشركات التي لها علاقات مع الصين، مثل تطبيق التواصل الاجتماعي "تيك توك" وتطبيق التسوق "تيمو" (Temu) ومتاجر الملابس بالتجزئة "شين" (Shein)، تدقيقًا متزايدًا بشأن ممارساتها العمالية، واستخدامها لبيانات العملاء الأميركيين والطرق التي تستورد بها المنتجات إلى أمريكا.
كثيرًا ما كانت العملة الصينية، الرنمينبي، مصدر قلق للمسؤولين الأمريكيين، الذين اتهموا بكين في بعض الأحيان بإضعاف عملتها بشكل مصطنع لجعل منتجاتها أرخص للبيع في الخارج، وانخفضت العملة بأكثر من 7% مقابل الدولار في الأشهر الـ 12 الماضية وانخفضت بنسبة 13% تقريبًا مقابل اليورو، وهذا الانخفاض يجعل صادرات الصين أكثر قدرة على المنافسة في أمريكا وأوروبا، ويرجع محللون صينيون انخفاض الرنمينبي لأسباب مختلفة، بما في ذلك ارتفاع أسعار الفائدة في أمريكا حيث يحاول الاحتياطي الفدرالي خفض التضخم.
وقد قدمت الصين أكثر من 500 مليار دولار للدول النامية من خلال برنامج الإقراض، مما يجعلها واحدة من أكبر الدائنين في العالم، وتعاني العديد من هذه الدول، بما في ذلك العديد من الدول الإفريقية، أزمة اقتصادية منذ جائحة كوفيد، وتواجه احتمال التخلف عن سداد الديون، وتضغط أمريكا، على الصين للسماح لبعض تلك الدول بإعادة هيكلة ديونها وخفض المبلغ المستحق عليها، لكن الصين تصر على أن يتحمل الدائنون الآخرون والمقرضون متعددو الأطراف الخسائر المالية كجزء من أي إعادة هيكلة.
و من الجدير بالإشارة، تطورت سياسة أمريكا تجاه الصين من حرب تجارية على وقع رسوم جمركية مشددة، إلى إجراءات هادفة تفرض على قطاع التكنولوجيا أو على الاستثمارات، إذ تم الإبقاء على الرسوم الجمركية المشددة، وأضيف إليها سلسلة من التدابير المحددة الأهداف، قلصت من إمكانية حصول بكين على التكنولوجيا المتطورة ولا سيما في مجال بعض الرقائق الإلكترونية وحدّت من الاستثمارات الأمريكية في الصين، و بموازاة ذلك، شجعت الإدارة الأمريكية نقل أنشطة الشركات إلى أمريكا، كما يسعى المسؤولون لتعزيز الاكتفاء الذاتي في مجالات أساسية بما فيها إمدادات الطاقة النظيفة.
و تسعى أمريكا للحفاظ على التفوق التكنولوجي الأمريكي، إن الحكومة الأمريكية ستبقي على القيود في مجال التكنولوجيا وستضيف إليها قيودًا في مجالات أخرى مثل التكنولوجيا الحيوية والسيارات الكهربائية والسيارات الذكية، و تبذل أمريكا جهودًا أقل من أجل إعادة توطين مراكز إنتاج أشباه الموصلات في أمريكا، كذلك من أجل رصد استثمارات كبرى في الإنتاج المحلي للسيارات الكهربائية وفي سلاسل إمداد حساسة، وتشمل أيضًا نقل البيانات إلى شركات أو منظمات تتخذ مقرًا في الصين، إذ أن السيارات الكهربائية الصينية تطرح خطرًا أمنيًا نظرًا إلى كمية البيانات التي تجمعها.
و من التداعيات المباشرة والأساسية للحرب بين روسيا و أوكرانيا، عودة أجواء الحرب الباردة التي تسود حالياً العلاقة بين أمريكا و الصين، ومع كل ما يجري في العالم، نلمح الكثير من الشرارات المحتملة التي قد تؤدي إلى صدام بين القوتين الكبريين اللتين تتسابقان على احتلال المركز الأول وقيادة العالم في العقود المقبلة، كان لافتاً جداً ما قالته قبل أيام وزيرة الخزانة الأميركية، وشكّل انعطافة كبيرة في مقاربة علاقات واشنطن مع بكين، من حيّز المصالح الاقتصادية الأمريكية إلى حيّز الأمن القومي، و خاضت الدولتان، سنوات من الحرب التجارية المريرة لكن المضبوطة، لأن كلاً من الطرفين يحتاج إلى الآخر ، ففي عالم معولَم، لا يمكن صاحبَي الاقتصادين الأول والثاني إلا أن يتعاونا ضمن قنوات معينة، ويدوّرا في النهاية أي زوايا حادة في مسارات التبادل التجاري.
إن السياسة الأمريكية التي ركّزت طويلاً على العلاقات التجارية المتوازنة مع الصين، بهدف تحقيق مصالح الشركات الكبرى، أتاحت لبكين تحقيق الاستفادة القصوى اقتصادياً وسياسياً، و يعتبر أن محطة أساسية في هذا المسار كانت انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001م، فحينذاك فتحت أمريكا أسواقها أمام السلع الصينية، بينما لم تفِ الصين بتعهداتها وأبقت أبواب أسواقها مغلقة جزئياً في وجه السلع المستوردة، و تبع ذلك تقدّم صيني سريع في الميدان الاقتصادي، يحقق سنوياً معدّلات نمو كبيرة، ورفع الاقتصاد الصيني إلى المرتبة الثانية عالمياً.
وفي هذا السياق حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، التي أبدت تخوفها من أن يؤدي انقسام العالم إلى كتلتين كبيرتين، إلى اضطراب سلاسل الإمداد وتعثّر الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وخلصت دراسة للبنك المركزي الأوروبي في هذا الشأن، إلى أن الصراع الجيوستراتيجي يمكن أن يرفع التضخم على المستوى العالمي إلى 5٪ على المدى القصير ونحو 1٪ على المدى الطويل، وستتبع ذلك آثار جانبية على السياسة النقدية والاستقرار المالي، كما أن صندوق النقد الدولي، فيرى أن تراجع العولمة الاقتصادية سيُبطئ التبادل التجاري والتدفّقات الاستثمارية، ويقدّر أن الناتج العالمي سيتراجع بنتيجة ذلك 2%، وهذه نسبة كبيرة ومؤثرة جداً على مستوى الكرة الأرضية.
وفي الختام، تمارس قدرات المنطقة العربية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، دوراً مهماً في مواجهة الحرب التجارية الأمريكية / الصينية، والذي سينعكس إيجابياً أو سلبياً، على منطقتنا العربية ودول مجلس التعاون الخليجي، لذا يتوجب تعبئة قدرات المنطقة العربية في مواجهة الحرب التجارية الأمريكية الصينية، وتعبئة القدرات الجماعية العربية في مواجهة هذا التنافس بين أمريكا والصين.