بمناسبة مرور 20عامًا على صدور مبادرة إسطنبول للتعاون (يونيو 2004م) والتي جاءت لتحقيق تعاون حلف شمال الأطلسي مع الدول العربية بصفة عامة ودول مجلس التعاون الخليجي بصفة خاصة، والتي انضم إليها 4 دول من دول مجلس التعاون هي: الإمارات، والبحرين، وقطر والكويت، ولم تنضم إليها حتى الآن المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان، وفي الذكرى العشرين لإعلان المبادرة تجري النخب الخليجية تقييمًا لنتائج هذه المبادرة للوقوف على ما حققته من أهدافها الخمس التي تم الإعلان عنها وقتئذ، ويستطلعون ماذا يمكن أن يقدم "الناتو" لدول مجلس التعاون الخليجي في إطار هذه المبادرة للمساعدة على دعم استقرار المنطقة.
المتفائلون يعتقدون أنه بمقدور "الناتو" أن يقدم الكثير لدول مجلس التعاون الخليجي في نطاق الأهداف الخمس للمبادرة والتي تشمل رفع مستوى الاستقرار الأمني في المنطقة وتدريب القوات الخليجية، واستفادة دول الخليج من خبرات الناتو باعتباره أقدم منظومة دفاعية في العالم بدأت منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا ولديه خبرات متراكمة خاصة في مجالات التدريب والتأهيل العسكري ومواجهة الإرهاب، وحماية الممرات البحرية وكذلك الاستفادة من تعهد دوله بإيجاد الحل المناسب للقضية الفلسطينية وفق المبادرات الدولية وإقامة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، وأنه تم بالفعل تنفيذ فعاليات مع دول مجلس التعاون تؤكد على التعاون المفيد بين الجانبين.
والواقعيون يرون أن حلف "الناتو" لا يستطيع أن يقدم كثيرًا لدول المنطقة على أرض الواقع لأسباب كثيرة من أهمها: العقيدة الدفاعية للحلف التي تقر أن "الناتو" يدافع عن الدول الأعضاء فقط ولا يخرج عن هذه الدائرة، كما أن الناتو يواجه تداعيات الحرب الروسية / الأوكرانية ومساندة الحلف لأوكرانيا، وهذه الحرب تمثل استنزافًا مستمرًا لدول الحلف، كما أن الحلف يواجه معضلة تكلفة توسعه وانتشاره في الدول المنضمة حديثًا في شرق أوروبا والتي كانت من قبل أعضاء في حلف وارسو التابع للكتلة الشرقية، وإضافة إلى ما سبق يواجه الناتو خلافات داخلية سبق أن ظهرت إلى العلن بين الولايات المتحدة -الممول الأكبر للحلف - والدول الأوروبية الأعضاء بسبب تكلفة تجهيزات قوات الحلف، حيث ترى الولايات المتحدة أنها تتحمل العبء المالي الأكبر للدفاع عن أوروبا، إضافة إلى موقف الدول الأوروبية من الصراع التجاري الأمريكي ـ الصيني والتنافس الحاصل على النظام الدولي الجديد حيث يزداد التبادل التجاري بين أوروبا والصين رغم المواقف والسياسات الأمريكية تجاه بكين، وقد أدى ذلك إلى فتور الاهتمام الأمريكي بالحلف خاصة بعد زوال خطر الاتحاد السوفييتي، ولكن عندما بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا عادت الولايات المتحدة للاهتمام بالناتو باعتباره الذراع العسكري الأقوى الذي يواجه هذه الأزمة المسلحة غير المسبوقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو الذي يستطيع الدفاع عن أوروبا أمام صحوة روسيا الساعية لاستعادة إرث الاتحاد السوفييتي.
كما أن دول منطقة الخليج تنظر بعدم ارتياح لموقف دول "الناتو" من الحرب الإسرائيلية على غزة و تقديمها الدعم العلني لإسرائيل التي تنفذ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني. وأيضًا توجد نظرة سلبية تجاه الحلف لعدم اتخاذه موقفًا جادًا حيال البرنامج النووي الإيراني الذي يثير قلق دول مجلس التعاون، وكذلك تجاه الميليشيات المسلحة التي تمولها إيران في المنطقة وتعيث فسادًا في الكثير من الدول العربية، إضافة إلى عدم تدخله لتثبيت أركان الدولة في السودان وسوريا واليمن، والمساهمة في إعادة تأهيل الدول الفاشلة أو الرخوة في المنطقة على غرار مشروع مارشال الذي أعاد إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يتدخل الحلف أيضًا بفاعلية للحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية والتهريب التي تنعكس سلبًا على الدول العربية خاصة الدول العربية المتوسطية التي يطالبها الحلف بالتصدي لهذه الظاهرة.
وبسبب هذه الصورة الذهنية غير الجيدة عن "الناتو" في المنطقة، على الحلف أن يعيد تحسينها لدى صانع القرار والرأي العام في المنطقة بطرح سياسات ومواقف جديدة أكثر إيجابية تجاه منطقة الخليج، وعليه أن يتفاعل أكثر مع القضايا والتحديات العربية، وأن يولي أهمية أكبر للأمن البحري، وحماية الممرات الملاحية التجارية الدولية، واستقرار المنطقة بصفة عامة وأن يتبنى سياسة أكثر اعتدالًا وحيادية تجاه القضية الفلسطينية، وأن يكون أكثر اهتمامًا بالملف النووي الإيراني وتقليم أظافر الميليشيات المسلحة الممولة من خارج المنطقة، خاصة أن دول حلف "الناتو" بحاجة إلى دول المنطقة أكثر من حاجة هذه الدول للحلف ،على ضوء الأزمات التي خلفتها الحرب الروسية / الأوكرانية، وتحديات الحلف الأخرى الداخلية والخارجية.