تحظى الجوانب السياسية والأمنية والقانونية للتحالفات الإقليمية العسكرية باهتمام واسع حتى ساد الاعتقاد بأن مثل هذه التحالفات ليس لها أبعاد اقتصادية، رغم أهمية الجانب المالي في فاعلية هذه المنظمات، إلا أن المطلع على الأدبيات الاقتصادية سيجد معالجات واسعة لنظرية المنظمات الدولية والإقليمية، وللأحلاف العسكرية من حيث دوافع إقامتها اقتصاديًا، وما تحققه من وفورات، بل وما تستند إليه من مبررات تفسر لماذا تعجز الدول منفردة عن مواجهة بعض الأخطار، وسبب وجود تحالف يوفر حماية جماعية ضد تهديدات الأمن الخارجية، فضلًا عن وضع أسس تقاسم النفقات التي تتطلبها الخدمات والمنافع التي توفرها تلك المنظمات.
إن توفير الأمن بشكل جماعي، Collective وأساليب توزيع أو اقتسام التكاليف، وتقليل تلك النفقات، من خلال وفورات الحجم الكبير، تمثل أبعادًا اقتصادية للموضوع، ويتم معالجتها تحت إطار نظريات المنظمات الدولية، التي تفسر حتمية قيام التحالفات بين مجموعة من الدول، توفر فيما بينها خدمات الأمن والحماية ودرء الأخطار المشتركة، من خلال سلطة تعلو فوق الدولة، ربما يمكن وصفها بسلطة إقليمية أو دولية كما في حال المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، ومنظمات إقليمية مثل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ونتناول فيما يلي إلقاء الضو ء على (الناتو) كنموذج للمنظمات الإقليمية التي توفر مصلحة عامة لمجموعة من الدول، ترتبط فيما بينها جغرافيًا وأمنيًا، وفكريًا، من خلال الغرض من قيام تلك التحالفات وعرض نفقات توفير الدفاع المشترك، وأنصبة الدول المشاركة، وأساس تقاسم التكاليف المالية، وتحقيق درجة عالية من الشفافية والحوكمة، كفل لها الاستمرارية والتوسع في تحقيق رسالتها.
لماذا تأسست منظمة حلف شمال الأطلسي
تأسست منظمة الناتو في أعقاب الحرب العالمية الثانية في عام 1949م، حين وقع 12 عضوًا مؤسسًا معاهدة شمال الأطلسي: آيسلندا، إيطاليا، البرتغال، بلجيكا، الدانمرك، فرنسا، كندا، لكسمبرغ، المملكة المتحدة، النرويج، هولندا، الولايات المتحدة؛ بغرض ضمان حرية وأمن جميع أعضائها بالوسائل العسكرية وغير العسكرية، وكان مبدأ الدفاع الجماعي أساسي في الوثيقة التأسيسية للحلف، (المادة 5 من المعاهدة) بمعنى أن الهجوم المسلح ضد أي عضو منهم يعد "هجومًا عليهم جميعًا"، و النص على أن الحلف يسعى إلى تأمين السلام الدائم في أوروبا، استنادًا إلى القيم المشتركة للديمقراطية، والحرية الفردية، وحقوق الإنسان، وحكم القانون.
ومنذ ذلك الحين، انضمت 20 دولة أخرى إلى الحلف تباعًا: اليونان وتركيا (1952م)، ألمانيا (1955م)، إسبانيا (1982م)، التشيك، المجر وبولندا (1999م)، بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا وسلوفينيا (2004م)، وألبانيا وكرواتيا (2009م)، والجبل الأسود (2017م)، ومقدونيا الشمالية (2020م)، وفنلندا (2023م) والسويد (2024م).
في عام 2022م، قدمت فنلندا والسويد طلبات رسمية لتصبحا حليفين في المنظمة، وفي شهر يوليو من نفس العام، وقع الحلف على بروتوكولات الانضمام بالنسبة للبلدين اللذين أصبحا بعد ذلك من المدعوين الذين لهم الحق في حضور اجتماعات حلف شمال الأطلنطي وأصبحت فنلندا الدولة العضو رقم 31 في أبريل 2023م، ليصل العدد إلى 32 بعد انضمام السويد.
وافق زعماء الناتو على المفهوم الاستراتيجي الحالي في قمة مدريد عام 2022م، الذي سوف يوجه الحلف على مدى العقد المقبل وما بعده، ويقرر أن المنطقة الأوروبية الأطلسية ليست في حالة سلام، وأن البيئة الأمنية للتحالف تتميز بالمنافسة الاستراتيجية وعدم الاستقرار والصدمات المتكررة، حيث تمثل روسيا والإرهاب تهديدين رئيسيين لأمن الحلفاء.
كما يقر المفهوم الاستراتيجي أيضًا بأن الطموحات المعلنة والسياسات القسرية للصين تتحدى مصالح الحلفاء وأمنهم وقيمهم، ويحدد أيضًا عددًا من التحديات الأمنية التي يحتاج التحالف إلى معالجتها، بما في ذلك الاستجابة لتغير المناخ باعتبارها تحديًا له آثار عميقة على أمن الحلفاء.
ويحدد المفهوم الاستراتيجي ثلاث مهام أساسية للمنظمة: الردع والدفاع؛ ومنع الأزمات وإدارتها؛ والأمن التعاوني. وأن هذه المهام ضرورية ومكملة لضمان قدرة الحلف على تحقيق هدفه الرئيسي: ضمان الدفاع الجماعي والأمن لجميع الحلفاء.
توزيع عبء تمويل الناتو
تشمل النفقات العسكرية لحلف الناتو، جميع النفقات المتعلقة بما يلي:(1) القوات المسلحة، بما فيها قوات حفظ السلام؛ (2) وزارات الدفاع والوكالات الحكومية الأخرى المشاركة في مشاريع الدفاع؛ (3) القوات شبه العسكرية، عندما ينظر إليها على أنها مدربة ومجهزة للعمليات العسكرية؛ (4) الأنشطة الفضائية العسكرية. وينبغي أن تشمل هذه البيانات النفقات المتعلقة بالموظفين - التي تشمل مرتبات الأفراد العسكريين والمدنيين والمعاشات التقاعدية والخدمات الاجتماعية للأفراد العسكريين - فضلًا عن النفقات المتعلقة بالعمليات والصيانة، والمشتريات، والبحوث والتطوير العسكريين، والمساعدات العسكرية (في النفقات العسكرية للبلد المانح).
ويطبق الحلف مبدأ التمويل المشترك وتقاسم الأعباء في العمل، من خلال المساهمات المباشرة وغير المباشرة من الحلفاء، وتعد المساهمات الوطنية (أو غير المباشرة) هي الأكبر، ويتحملها الحلفاء الفرديون، ومن بينها القوات والقدرات التي يحتفظ بها كل حليف، والتي يمكن توفيرها لحلف شمال الأطلسي لتنفيذ مهامه الأساسية الثلاث.
وتٌمَوِل المساهمات المباشرة ميزانيات الناتو وبرامجه وقدراته في دعم الأهداف والأولويات والأنشطة التي تخدم مصالح الحلف ككل، مثل عمليات الحلفاء أو أنظمة الدفاع الجوي على نطاق الحلف - ولا يمكن لأي حليف واحد أن يتحملها بشكل معقول، ويساهم جميع الحلفاء في التمويل استنادًا إلى مبدأ التمويل المشترك وصيغة تقاسم التكلفة المتفق عليها، المستمدة أساسًا من الناتج المحلي الإجمالي للدول الحليفة.
وتتوفر لمنظمة الحلف ثلاثة مصادر رئيسية مشتركة في عملية التمويل:
- الميزانية المدنية (تمويل مقر منظمة حلف شمال الأطلسي)
- الميزانية العسكرية (تمويل هيكل القيادة المتكامل)
- برنامج الاستثمار الأمني لمنظمة حلف شمال الأطلسي (تمويل القدرات العسكرية).
تدعم الميزانية العسكرية أداء الناتو لمهامه الأساسية الثلاث، وتعزز قابلية التشغيل المشترك في جميع أنحاء الحلف، ويمول هذا البرنامج تشغيل مجموعة مختارة من القدرات تمويلًا مشتركًا، ويغطي مصاريف هيكل القيادة المتكامل، وعمليات التحالف وبعثاته، والتدريب والتمارين الجماعية. وتتكون من 38 ميزانية منفصلة، يتم تمويلها بمساهمات من ميزانيات الدفاع الوطنية للحلفاء (في معظم البلدان)، وفقًا لحصص التكلفة المتفق عليها، وبلغ الحد الأقصى للميزانية العسكرية 1.84 مليار يورو لعام 2023م.
ويعتمد صنع القرار على توافق الآراء ووضع أطر حوكمة راسخة كأمر أساسي في الطريقة التي تدار بها عملية التمويل المشترك في الحلف، وتحقيقًا لهذه الغاية، توجد لوائح مالية وإطار محاسبي. وكقاعدة عامة، يتم إتاحة البيانات المالية للجمهور بشكل دوري، من خلال نظام مالي وإطار محاسبي محكمين، ويوافق مجلس الحلف على ميزانيات الناتو واستثماراته ويمارس الرقابة على الإدارة المالية.
وقد تعهد أعضاء الحلف عام 2014م، بإنفاق 2 % من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2024م، وفي عام 2023م، نقحوا صيغة الهدف إلى 2 % على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي. وقد حقق أحد عشر عضوًا من أصل 31 عضوًا في منظمة حلف شمال الأطلسي الهدف المحدد عام 2023م، وهو أعلى رقم منذ بدء الالتزام بالاتفاق، ويبلغ متوسط العبء العسكري على أعضاء حلف شمال الأطلسي 1.9 % من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023، وتوجد 3 دول فقط من أصل 31 عضوًا في الناتو لم يزيدوا من أعبائهم العسكرية بين عامي 2014 و2023: تركيا (-0.4 نقطة مئوية)، الولايات المتحدة (-0.3) وكرواتيا (-0.04).
بلغ مجموع الإنفاق العسكري لأعضاء الناتو البالغ عددهم 31 بلدًا نحو 1341 بليون دولار عام 2023م، بزيادة قدرها 5.2 % عن عام 2022 م، وبنسبة 19 % عن عام 2014م، وشكل مجموع الإنفاق العسكري لمنظمة حلف شمال الأطلسي 55 % من الإنفاق العسكري العالمي خلال الفترة 2014 – 2023م، وترجع الزيادة على مدى هذا العقد جزئيًا إلى انضمام أعضاء جدد إلى الحل (الجبل الأسود عام 2017م، ومقدونيا الشمالية عام 2020م، وفنلندا في عام 2023م) وجزئيًا إلى اتجاه تصاعدي عام في الإنفاق العسكري، وزادت جميع الدول الأعضاء في الناتو من نفقاتها العسكرية في عام 2023 م، باستثناء اليونان وإيطاليا ورومانيا ( sipri fact sheet )
بلغ متوسط العبء العسكري على أعضاء حلف شمال الأطلسي 1.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023. 3 فقط من أصل 31 عضوًا في الناتو لم يزيدوا من أعبائهم العسكرية بين عامي 2014 و2023م: تركيا (-0.4 نقطة مئوية)، الولايات المتحدة (-0.3) وكرواتيا (-0.04).
مساهمات بعض دول الحلف في نفقات الدفاع عام 2023
دول الحلف |
حصة التحالف % الناتج المحلي الإجمالي لدول الحلف |
نسب % مشاركة الحلفاء في مصروفات الدفاع |
نسبة % مصروفات الدفاع في الناتج المحلي |
الولايات المتحدة |
53 |
67 |
3.24 |
ناتو أوروبا وكندا |
47 |
33 |
|
إيطاليا |
4 |
3 |
1.47 |
المملكة المتحدة |
7 |
6 |
2.28 |
فرنسا |
6 |
4 |
1.9 |
كندا |
4 |
2 |
1.33 |
إسبانيا |
3 |
2 |
2.89 |
تركيا |
2 |
1 |
1.58 |
هولندا |
2 |
1 |
1.63 |
بولندا |
2 |
1 |
3.92 |
ألمانيا |
9 |
6 |
1.66 |
أخرى |
8 |
6 |
|
المصدر: Nato.The Secretary General’s Annual Report 2023
الأساس الاقتصادي لتقاسم عبء الدفاع بين الحلفاء
توفر كل أنواع المنظمات الإقليمية والدولية منفعة أو مصلحة عامة لجميع الدول الأعضاء، وينطبق على خدمات الدفاع المشترك في الناتو ما يعرف بالمنافع العامة أو الجماعية، وعلى الرغم من أنه يمكن في بعض الأحيان خدمة المصالح الفردية بشكل أفضل من خلال العمل الفردي، لكن تبقى هناك استثناءات، عندما تتمتع بعض المصالح بسمات ما يطلق عليها في علم المالية العامة بالمنافع أو الخدمات العامة Public goods، والتي من أمثلتها على المستوى الدولي أو الإقليمي مواجهة الأخطار الخارجية، والتغيرات المناخية، ومكافحة انتشار الأوبئة، والدفاع المشترك، حيث يستفيد منها الجميع بمجرد تحققها، بل في كثير من الأحيان يصعب استبعاد من لا يساهم في النفقات.
ففي مثل هذه الحالات يتولد هدف مشترك أو هدف جماعي، عندئذ يمكن أن تكون المنظمة مفيدة، أي يكون من مصلحة مجموعة الدول تنظيم عملية توفير هذه المصلحة بشكل جماعي، حيث أن تحققها مرة أو على مستوى الدولة الواحدة، يخدم مصالح المجموع، فالقضاء على الفيروس يخدم المجموع، وتوفير الأمن لدولة في محيط إقليم يواجه خطرًا واحدًا يحقق أمن الدول الأخرى الداخلة في التحالف في مواجهة الخطر المشترك.
وقد تأسست منظمة حلف شمال الأطلسي في عام 1949م، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بغرض حماية حرية وأمن جميع أعضائه وفق مبدأ الدفاع الجماعي في الوثيقة التأسيسية والمنصوص عليه في المادة 5 من المعاهدة، يربط حلفاء الناتو معًا، معلنًا أن الهجوم المسلح ضد أي منهم "هجوم ضدهم جميعا"، وأن الحلف يسعى جاهدًا لضمان سلام دائم في أوروبا، على أساس القيم المشتركة للديمقراطية والحرية الفردية وحقوق الإنسان وسيادة القانون.
بعد انتهاء الحرب الباردة، تراجع الإنفاق الدفاعي لمعظم الدول الأعضاء في الحلف، فبعد أن وصل 4.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام 1990م، انخفض الإنفاق إلى 2.6٪ بعد عشر سنوات. وشكل إنفاق أعضاء الناتو في حقبة الحرب الباردة (باستثناء الولايات المتحدة) 39٪ من إجمالي الإنفاق الدفاعي عام 1990م، ثم انخفضت حصتهم إلى 27٪ بحلول عام 2020م، في وقت زاد فيه أعضاء الناتو من 15 إلى 29 عضوًا، و تم تعويض هذا الانخفاض في الإنفاق الدفاعي في المقام الأول من قبل الولايات المتحدة؛ نتيجة ما يعرف بمشكلة الراكب المجاني Free rider حيث تعمد بعض الدول للتهرب من دفع التزاماتها طالما أن هناك من يدفع؛ وطالما تحقق الأمن!
ومن هنا يشعر العديد من المراقبين في الولايات المتحدة وفي بعض البلدان الأخرى بخيبة أمل في حلف شمال الأطلسي وغيره من مؤسسات التعاون الدولي بسبب تحمل الولايات المتحدة وبعض الأعضاء الأكبر الآخرين حصة كبيرة من عبء الدفاع المشترك لدول الناتو، وأن الأعضاء الأصغر في الناتو يخصصون نسبًا مئوية أصغر من دخلهم للدفاع مقارنة بالأعضاء الأكبر حجمًا، وهو ما يخلق بعض القلق حول استمرار نجاح تجربة الناتو وتكرارها بالمقارنة مع تجارب تمويل منظمات أخرى مثل الأمم المتحدة، حيث يمثل تقاسم الأعباء المالية عنصرًا هامًا في نجاح المنظمات الدولية والإقليمية ويشكل مكونًا هامًا في تحقيق الاستقرار ويطرح في نفس الوقت تساؤلًا حول كيفية تقسيم حصص التكلفة فيما بين الحلفاء.
فرغم أن الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلنطي أقرب كثيرًا إلى خط المواجهة من الولايات المتحدة، فضلًا عن أنها أقل قدرة على الدفاع عن نفسها بمفردها، وعلى هذا فقد يكون من المفترض أن يكون من مصلحتها أن تكرس للحلف قدرًا من مواردها أكبر من ذلك الذي تخصصه الولايات المتحدة، وتفسير ذلك يكمن في الأهداف التي يتعين على حلف شمال الأطلسي تحقيقها، والتي تتمثل في حماية الدول الأعضاء من العدو المشترك، وبالتالي فإن ردع العدوان على أي عضو من الأعضاء هو في مصلحة الجميع، دون استثناء، والأكثر من ذلك أن توفرها لأي عضو يحقق مصلحة الآخرين بصرف النظر عن موقعهم، فالمصلحة هنا لا تتجزأ، وتحققها لدولة يعني تحققها لكل الأعضاء دون تكلفة إضافية، بل إن هزيمة عضو تنتقص من أمان المجموع، وتعرض الجميع لمزيد من الأخطار.
ويمكن أن يفسر ذلك اهتمام الناتو بدعم أمن أوكرانيا في مواجهة روسيا الاتحادية، حيث أن أمن الولايات المتحدة، يبدأ من أمن الدول المتاخمة لروسيا حتى لو لم تكن منضمة للناتو، وعدم انتصار الروس، يضمن أمن الحلف ككل، ويحقق مكاسب للولايات المتحدة دون مواجهة مباشرة.
ويؤكد ذلك صعوبة استبعاد دولة من الاستمتاع بتوفر الردع والأمان متى تحقق ذلك لدولة واحدة، وهذه في الحقيقة سمة من سمات السلع والخدمات التي يطلق عليها "منافع عامة" أو سلع عامة، حيث إنه متى تحقق الردع والدفاع عن التخوم، يستفيد منها الجميع، بل ولا يمكن استبعاد أحد أو مطالبة أحد بمقابل مباشر ثمنًا للنفع العام.
ويتضح هذا الموقف أكثر إذا كان هناك عددًا كبيرًا من الدول التي يمكن أن تستفيد من قيام دولة واحدة بتوفير متطلبات الحماية، حيث لا يتوفر أي حافز لأي منهم لبذل الجهد اللازم لتحقيق الحماية ليس فقط بسبب فكرة الراكب المجاني بل نظرًا لتضاؤل نصيب كل دولة من منافع تحقيق الحماية والردع في حال وجود عدد كبير من الدول المستفيدة، حيث لا يكون لدى أي دولة فرد عادة حافزًا طوعيًا لتحمل تكلفة توفير هذه المصلحة، وهذا هو السبب في ضرورة وجود صيغة تلزم الدول منفردة، على تحمل نصيب عادل.
ففي قمة ويلز في عام 2014 م، وافق رؤساء دول وحكومات الحلفاء على تعهد الاستثمار الدفاعي، داعين جميع الحلفاء إلى تلبية المبادئ التوجيهية المتفق عليها من قبل الناتو لإنفاق 2٪ من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2024م، من هنا أكد رؤساء الدول والحكومات التزامهم في قمة فيلنيوس 2023م، باستثمار ما لا يقل عن 2٪ من ناتجهم المحلي الإجمالي سنويًا في الدفاع. كما أكدوا أنه في كثير من الحالات، سيحتاج الحلفاء إلى إنفاق أكثر من 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع إذا أرادوا معالجة النقص الحالي وتلبية متطلبات نظام أمني أكثر إثارة للجدل.
ويتضاءل أثر الراكب المجاني عندما تكون المنظمة صغيرة نسبيًا، كما هو الحال مثلًا في اتفاقية الدفاع المشترك بين دول مجلس التعاون، والتي تضم عددًا محدودًا من الدول الوطنية، قد يكون لدى الدول الأعضاء حافزًا لتقديم تضحيات كبيرة للحصول على الصالح العام، حيث العدد محدود ونصيب كل منها كبير في النفع العام ودرء الخطر.
من ناحية أخرى، يلاحظ في حالات الدفاع عن الأمن المشترك، أن التعاون يحقق فائدة صافية أكبر للشركاء الأصغر بسبب أن التعزيز الطفيف في الموقف الدفاعي لحليف كبير يوفر زيادة كبيرة في درجة الحماية التي يحصل عليها الشريك الصغير، وعندما تكون أعداد الدول كبيرة، تكون المشكلة مماثلة لمشكلة تحديد موارد للموازنة العامة للدولة الواحدة فيما بين أفراد المجتمع المختلفون في مستوى الدخل والثروة، ويجب استخدام بعض المبادئ مثل اعتبارات القدرة على الدفع المماثلة لتلك المطبقة في السياق المحلي عند فرض ضريبة على الدخول وفقًا للقدرة على الدفع مقاسة بالدخل أو الثروة أو الإنفاق.
وفي حال الدفاع المشترك عن مجموعة من الدول يمكن أن يزداد عدد الدول الذين تدافع عنهم قوة عسكرية معينة دون تقليل الأمن لكل دولة على حده، نظرًا لما تتمتع به تلك الخدمة من سمات تدخلها في عداد الخدمات الجماعية التي إذا تم توفيرها لدولة يمكن أن تستفيد دول أخرى دون أن تقل منافع الدولة الأصلية. ومع ذلك، فإن مساحة الأرض الإضافية تتطلب عادة بعض القوات العسكرية الإضافية، وعندما لا يكون لمنطقة الأرض الإضافية حدودًا مشتركة مع العدو، يمكن عادة الدفاع عنها دون أي تكلفة إضافية كبيرة.
يشير هذا إلى تفضيل زيادة عدد الدول المنضوية تحت المنظمة، حيث إن خدمة الدفاع المشترك هي خدمة إقليمية عامة خالصة إذا كان من الممكن تقديمها لدول إضافية دون تكلفة تذكر بل ودون أن تؤثر سلبًا على أولئك الذين يستفيدون منها بالفعل، ومع ذلك، قد يكون من المفيد السماح للدول الجدد بالاستمتاع بما هو متاح من خدمات الدفاع الحالية بتكلفة إضافية صفر، إذا وافقوا على تقاسم التكاليف الأساسية.
مجمل القول، إذا كان من السهل قبول فكرة التحالف من الناحية الاقتصادية وفقًا لنظرية الخدمات والمصالح الجماعية أو المصلحة العامة Collective benefit، التي يمكن توفيرها من خلال سلطة أو تنظيم يوفر مصلحة جماعية، يتمتع بسلطة تعلو فوق السلطة الوطنية، ومع ذلك فقد ظلت طرق تدبير الموارد المالية اللامركزية وتقاسمها بين الحلفاء مسألة معيارية، أكثر منها موضوعية، خاصة فيما يتعلق بالبحث عن أساس يمكن الارتكاز عليه كمبدأ لتقاسم التكاليف. خاصة في وجود المادة رقم (5) من معاهدة شمال الأطلسي حيث يمكن للأعضاء أن يتراخوا عن الالتزام بسداد أنصبتهم من نفقات الدفاع اعتمادًا على الحماية من الولايات المتحدة، رغم أن الناتو يتبنى فكرة أنه يتعين على كافة الدول الأعضاء تقديم إسهامات عادلة وفقًا لقوتها الاقتصادية، وأن قوة الردع التي يتمتع بها حلف شمال الأطلنطي تشكل جهدًا جماعيًا من جانب كافة الدول الأعضاء.