يتم تعريف "الناتو" على أنه منظمة حكومية دولية، تعمل كمنتدى يمكن للدول الأعضاء التشاور فيه حول أي قضية واتخاذ قرارات بشأنها، لكن نلاحظ أن علاقة الولايات المتحدة بباقي الأعضاء "علاقة فوقية"، خاصة عندما تتعلق القرارات بالمصالح الأمريكية، فقد تحول الحلف على مدى الأربع وثلاثين سنة الماضية تحولًا فاضحًا، وأقل ما يمكنني قوله -وبشكل جازم -إن الناتو أصبح أداة بيد الولايات المتحدة، ويخدم مصالحها على حساب الحلفاء والأعداء على حد سواء.
ففي 11 سبتمبر 2001م، استولت مجموعات على أربع طائرات ركاب أقلعت من نيويورك وبوسطن وواشنطن إلى سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، واستخدمت لضرب مبانٍ بارزة في نيويورك وواشنطن تم حينها تفعيل المادة الخامسة بشكل سريع وبالإجماع، والتي تنص على أن أي عدوان ضد عضو الناتو، يعتبر عدوانًا عليهم جميعًا، لكن -وعلى سبيل المثال لا الحصر -سأذكر حادثًا يتعلق بتركيا وهي احدى أعضاء الناتو منذ 1952م.عندما أسقطت تركيا قاذفة "سوخوي-24" روسية حلقت من قاعدة حميميم في سوريا، على مقربة من الحدود التركية في 24 نوفمبر 2015 م، بواسطة مقاتلة تركية من طراز "إف-16". قالت آنذاك تركيا إن الطائرة "انتهكت المجال الجوي للبلاد". نفت موسكو ذلك وقالت "إن المقاتلات التركية دخلت الأجواء السورية".
لتعلن روسيا بعدها حملة شعواء من عقوبات اقتصادية وتهديد عسكري، جعل تركيا تردد على لسان مسؤوليها أنها عضو في الناتو وأن أي اعتداء عليها سيكون اعتداء على الناتو. وما كان من الحلف إلا أن رد بأنه "ليس معنيًا بالصراع التركي / الروسي"، والمادة الخامسة لا تعمل في هذه الحالات (على تركيا تقليع شوكها بيديها). الأمر الذي أدى في 27 يونيو 2016م، لاعتذار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في رسالة موجهة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إسقاط "سوخوي-24". في رسالة تشير إلى أن روسيا صديق وشريك استراتيجي، وتظهر عدم رغبة أنقرة بإفساد العلاقات مع موسكو.
توسع حلف الناتو نحو الحدود الروسية
عند انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، كانت 16 دولة فقط قد انضمت لعضوية الناتو. في حين أن الدول الموقعة عند تأسيس الحلف عام 1949م، كانت 12 دولة.
مطلع التسعينيات، بدأ الحلف إنشاء آليات للتشاور مع دول حلف وارسو السابقة. وتم إنشاء مجلس التعاون لشمال الأطلسي. وفي عام 1994م، تم اعتماد برنامج "الشراكة من أجل السلام" الذي يهدف إلى التفاعل الشامل بين الحلف والدول غير الأعضاء فيه. وفي عام 1995م، نشر الحلف دراسة مفادها أن الظروف الجديدة "خلقت فرصة فريدة لتوسع جديد بهدف تعزيز الأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية".
خلال قمة مدريد في 1997م، تمت دعوة هنغاريا وبولندا والتشيك للحلف، ثم الدول الأخرى التي كانت أعضاء في وارسو، وفي عام 1999م، انضمت بالفعل هنغاريا وبولندا والتشيك للناتو وفي 2004م، انضمت كل من بلغاريا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وإستونيا. ثم في عام 2009م، انضمت ألبانيا وكرواتيا، ثم الجبل الأسود عام 2017م، لتصبح مقدونيا الشمالية العضو الثلاثين في الناتو عام 2020م.
لمحة تاريخية
روسيا تبدي رغبتها الانضمام للحلف
على مدى عقدين كانت روسيا تبدي اهتمامها بالانضمام إلى الحلف كبادرة حسن نية، وقد تجلى الأمر عندما بادر به بوريس يلتسن أول رئيس روسي، خلال اجتماع مع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1994م، حيث طلب يلتسن أن تكون روسيا أول دولة أوروبية تنضم للناتو، وحتى أن الرئيس الثاني لروسيا الاتحادية فلاديمير بوتين أعلن في أوقات متفرقة أنه طلب ذلك من بيل كلينتون عام 2000م، عندما كان الأخير في زيارة لموسكو، حيث قال الرئيس بوتين: "سألته عن شعور أمريكا حيال قبول روسيا في حلف شمال الأطلسي".
هذه الرغبة والمبادرة الروسية قوبلت بفتور شديد، وأشار بوتين إلى أن المشكلة تكمن في المصالح الجيوسياسية، وموقف الغرب المتغطرس.
علاقات روسيا والناتو
مرت العلاقات بين روسيا وحلف الناتو بمراحل تراوحت بين التقارب إلى حد التعاون الاستراتيجي، والثنائي إلى حد الخصومة والتصعيد.
أعتقد أن بوتين لم يقرر مواجهة الناتو وتسمية الأمور بأسمائها إلا بعد قصف العراق في 2003م، وإعلان قبول فكرة انضمام جورجيا وأوكرانيا عام 2008م، وقصف ليبيا في 2011م. رغم جرح روسيا النازف بسبب قصف الناتو يوغوسلافيا عام 1999م، حيث كانت روسيا آنذاك أضعف ما تكون، وكانت تتلقى مساعدات من الغرب بعد الانهيار الاقتصادي وإعلانها دولة غير قادرة على أداء ديونها الخارجية في 1998م.
- توسع الناتو بعد بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا:
مع أواخر 2021م، طفح كيل روسيا وأعلنت موقفها بشأن أوكرانيا وتواجد الناتو على أراضيها، وبشأن توسع الحلف شرقاً وتهديده لأمنها القومي، مطالبة الغرب بالتراجع عن ضم أي من دول الاتحاد السوفيتي السابق وإعادة الأسلحة التي تم نشرها بعد عام 1997م، إلى قواعدها. وبدأت روسيا عملية عسكرية داخل أوكرانيا بعد الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين اللتين رفضتا سلطة الأمر الواقع بعد انقلاب عام 2014م. (تم بعدها ضم الجمهوريتين للاتحاد الروسي بالإضافة لمقاطعتي خيرسون وزباروجيا).
لكن الولايات المتحدة كان لديها مخطط آخر وهو التضحية بأوكرانيا، واليوم نلاحظ استعدادها لتقديم أوروبا بأكملها قربانًا لقاء هيمنتها على العالم.
في 29 يونيو 2022م، تمت دعوة فنلندا والسويد رسميًا للانضمام إلى الحلف، بعدما أبرمت تركيا اتفاقًا مع الدولتين لرفع اعتراضها على عضويتهما.
اليوم أصبح عدد الدول المنضوية تحت راية حلف شمال الأطلسي 32 دولة، ويكاد يكون الناتو محاصِرًا لروسيا، الأمر الذي لن تقبل به موسكو مهما كان الثمن.
حيث أن الناتو -كما أسلفت -تحول خلال مسيرته تحولًا فاضحًا بات بعده أداة بيد واشنطن لخدمة مصالحها دون مراعاة لحليف أو عدو.
في حين أن توسع الناتو شرقًا قصم ظهر العلاقات بين الجانبين، إذ تعتبر موسكو أن قبول أعضاء جدد في الحلف يستلزم تقليص فترة النشر الاستراتيجي لقواته، ما يبقي لروسيا وقتا أقل لرفع قواتها إلى الاستعداد القتالي.
وقد أعلن الرئيس الروسي رفض بلاده قطعيًا انضمام أي من دول الاتحاد السوفيتي السابق للناتو، أو أي اقتراب للحلف من الحدود الروسية بقوله "إن وصول الصاروخ من أراضي الناتو إلى موسكو لا يستغرق سوى دقائق معدودة"، ما يجعل الأمن القومي الروسي مهددًا بشكل خطير ولا يساهم بأمن أوروبا والعالم.
التحركات الروسية قبيل المواجهة العسكرية في أوكرانيا
أولًا:
البوصلة تتجه نحو العالمين العربي والإسلامي
منذ عام 2005 م، سعت روسيا للتوجه نحو الشرق بإقامة علاقات مع دول العالم العربي والإسلامي، في رد على تحركات الناتو نحو الشرق الأوسط ودول مجلس التعاون الخليجي، وتصادف في هذه الأيام الذكرى العشرون لإطلاق مبادرة إسطنبول للتعاون في 28 يونيو 2004م، خلال قمة الناتو في إسطنبول، تركيا.
وأطلقت المبادرة سلسلة مشاورات رفيعة المستوى أجراها نائب الأمين العام للناتو آنذاك، السفير مينوتو ريزو، في مايو وسبتمبر وديسمبر 2004م، شاركت فيها ست دول: البحرين، والكويت، وعُمان، وقطر. والسعودية والإمارات. وأبدت جميعها اهتمامًا بالمبادرة، وفي مطلع عام 2005م، انضمت ثلاث دول ـ البحرين والكويت وقطر ـ رسميا إلى المبادرة، ثم انضمت الإمارات. كما شاركت عُمان والسعودية في أنشطة مختارة ضمن إطار المبادرة.
ثانيًا:
العالم العربي والإسلامي بين المواقف والنتائج
قامت روسيا بتطوير علاقاتها مع السعودية وإيران والإمارات ومصر بشكل خاص، ودخلت إفريقيا بقوة، ولعل أهم خطوة استراتيجية لروسيا كانت التدخل العسكري في سوريا عام 2015 م، لحماية نظام الأسد، وأعتقد أن المهم لروسيا ليس حماية الأسد أو الدولة السورية من الانهيار، بقدر اهتمامها بالإعلان الصريح للعالم أن روسيا عائدة بقوة وتستطيع الوقوف ضد الولايات المتحدة.
بالإضافة لإيجاد موطئ قدم للقوات الروسية على البحر المتوسط، ما جعل روسيا دولة مؤثرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، قادرة على الدفاع عن مصالحها الجيوستراتيجية بقوة.
كان لروسيا ما أرادت، فنلاحظ اليوم الحياد الإيجابي الذي تلعبه العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ناهيك عن بعض الدول التي تقف إلى جانب روسيا في مواجهة الناتو.
آفاق المواجهة بين روسيا والناتو:
يتحدث الصقور في روسيا عن حتمية استخدام موسكو للأسلحة النووية التكتيكية إذا أرادت تبريد الرؤوس الحامية في الغرب، وإذا أردت الحديث عن الرغبة كبديل للواقع فأنا شخصيًا أشاركهم الرأي، لأن الغرب فقد الثقة بأن تستخدم روسيا النووي إذا تعرضت لهزيمة استراتيجية، ولإنقاذ العالم من الدمار الشامل لا بد لروسيا من ضرب مطارات في بولندا أو رومانيا أو هولندا يستخدمها الناتو لإرسال الأسلحة لأوكرانيا.
لكنني سأعود إلى اتزان الرؤية والابتعاد عن الرغبات، ولأكون واقعيًا أريد التذكير بالعقيدة النووية الروسية والسيناريوهات المحتملة لتفعيلها.
السيناريو الأول:
حصول روسيا على بيانات موثوقة تؤكد عزم جهة ما إطلاق صواريخ باليستية تجاه أراضيها أو أراضي حلفائها.
السيناريو الثاني:
تعرض روسيا أو أحد حلفائها لهجوم بأي نوع من أنواع أسلحة الدمار الشامل، والتي تشمل الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، بكلمات أخرى "الأسلحة غير التقليدية".
السيناريو الثالث:
يمكن لروسيا أن تستخدم ترسانتها النووية حتى لو تم استهدافها بأسلحة تقليدية، لكن في حال كان هذا الاستهداف يهدد وجود الدولة.
السيناريو الرابع:
في حال تعرض مواقع حكومية أو عسكرية حساسة لهجوم من قبل عدو ما، فإن العقيدة النووية الروسية تتيح لها استخدام السلاح النووي للرد.
وبالتالي حتى اللحظة لم يتوفر أي شرط من الشروط أعلاه، وأريد أن أذكر هنا أن بوتين رجل يلتزم بالقوانين والدستور الروسي، وبالتالي -وحتى كتابة هذه السطور -لا يوجد سبب مقنع لتفعيل العقيدة النووية الروسية.
كيف سترد روسيا على استفزازات الغرب
أولًا:
الرد على ضم فنلندا والسويد
بانضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، استشعرت روسيا أن الناتو يحاول تطويقها ليس فقط من الغرب، بل من الشمال الغربي أيضًا، حيث تضاعف طول الحدود البرية للحلف مع الاتحاد الروسي مرتين على الأقل.
بالإضافة إلى إضعاف روسيا في بحر البلطيق، ولا ننسى مقاطعة كالينينغراد الروسية التي أصبحت خاصرة روسيا الرخوة، رغم اعتبارها قاعدة روسية عسكرية متقدمة وسط أوروبا، ولكن في حال صدام محتمل مع الناتو ستكون محاصرة. وبطبيعة الحال، فُرض على الجيش الروسي المنشغل بالحرب في أوكرانيا تعزيز هذه الحدود على نحو سريع ومكثف، وتم تزويد مقاطعة كالينينغراد بأسلحة إضافية نوعية، وقد جدد الرئيس بوتين التأكيد مؤخرًا على ضرورة تعزيز القوات الروسية على المحور الغربي على خلفية انضمام السويد وفنلندا للناتو، ما أدى لاستحداث دائرتي موسكو ولينينغراد العسكريتين وستنشر فيهما روسيا أسلحة إضافية، في خطوة تعد ردًا مناسبًا على التحديات التي قد تنشأ على أراضي فنلندا والسويد.
ثانيًا:
الرد على دول الناتو المتورطة في الصراع على أراضي أوكرانيا
أعتقد أن روسيا سترد بالمثل عن طريق تغذية النقاط الساخنة التي تمتلك روسيا علاقات طيبة معها، وأقصد هنا أي طرف باغض للولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو أي دولة تنضوي تحت لواء المعسكر المعادي لروسيا. دخول روسيا إلى إفريقيا يضرب المصالح الفرنسية في مقتل، ويمكن لروسيا تزويد الدول التي طردت الفرنسيين بالأسلحة، أو تزويد سوريا والعراق مثلا بأسلحة نوعية ما قد يؤلم القواعد الأمريكية، كما يمكنها تزويد الحوثيين في اليمن بمنظومة سلاح ساحلي كصواريخ "بال" أو "باسيتون" المضادة للسفن ويمكنها استهداف البوارج الأمريكية والبريطانية، ناهيك عن نشاط روسيا في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية، فربما يتفاجأ العالم بإعلان وصول أسلحة لإحدى الدول اللاتينية على غرار ما حدث في "أزمة الكاريبي" بعهد نيكيتا خروتشوف وجون كندي عام 1962م، وأنا أميل إلى هذا السيناريو بشكل كبير، خاصة بعد التصريح الأخير للرئيس بوتين في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي مؤكدا أن روسيا (تحتفظ بحق تصدير الأسلحة إلى الدول التي تتعرض للضغوطات من قبل الدول التي تورد الأسلحة إلى أوكرانيا)
كما أنني أستبعد سيناريو تزويد جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) لسببين:
الأول:
لأن روسيا لا تريد تعكير صفو العلاقات مع السعودية أو الإمارات
الثاني:
لأن روسيا لا تتعامل مع مليشيات بل مع دول، وروسيا تعترف بالحكومة الشرعية رغم اعتبارها قصف السفن التجارية غير مبرر، وفقًا لتصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الحكومة اليمنية ووزير الخارجية فيها أحمد عوض بن مبارك، عقب لقاء جمعهما منذ أشهر، حيث قال:
“نحن لا نبرر قصف السفن التجارية، لكن لا يمكننا أيضًا تبرير الإجراءات العدوانية التي تقوم بها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد أراضي الجمهورية اليمنية تحت هذه الذريعة، بدون أي تفويض دولي”.
وأكدت روسيا في مجلس الأمن عدة مرات رفضها "العدوان" الأمريكي البريطاني على اليمن، وشددت على أن مجلس الأمن لم يمنح تفويضًا باستخدام القوة ضد اليمن، وأن عنوان "الدفاع عن النفس" لا ينطبق على ما تقوم به الولايات المتحدة وبريطانيا.
أضف إلى ذلك كله فك حصار العقوبات عن كوريا الشمالية وفتح مجال التعاون العسكري التقني معها.
كما أعتقد أنه وقبل أي تفعيل للأسلحة النووية هناك خيارات عديدة أمام روسيا، ومنها أيضًا، إسقاط طائرات التجسس المسيرة الأمريكية التي تجوب سماء البحر الأسود، واستهداف البواخر التي تستخدم بنقل الأسلحة لأوكرانيا في المياه الإقليمية لدول الناتو في البحر الأسود.
الكارثة النووية
بعد كل ما تقدم لا بد من الإشارة إلى أن كل الاحتمالات متاحة، يمكن إعادة سيناريو الحرب الكورية أو الحرب في فيتنام حيث تم إسقاط مئات الطائرات وقتل آلاف الجنود الأمريكيين بسلاح سوفيتي، ولم ينزلق الصراع إلى مواجهة مباشرة بين الناتو والاتحاد السوفيتي بسبب وجود أسلحة الردع النووية. وكذلك الأمر في أفغانستان عندما قامت أمريكا بتزويد المجاهدين الأفغان بصواريخ "ستينغر"، ودعمهم بالمال والسلاح، وكذلك لم ينزلق الصراع نحو المواجهة المباشرة للسبب ذاته. لكن الخطر اليوم هو الحديث عن الأسلحة النووية التكتيكية من قبل الغرب وكأنها أسلحة بسيطة، ما يؤدي لخفض مستوى الحذر من استخدام هذه الأسلحة مع العلم أن الأسلحة النووية التكتيكية اليوم تفوق قدرتها التدميرية القنابل التي ألقتها أمريكا على هيروشيما وناجازاكي بثلاث مرات ونصف.
أعتقد هذه المرة أيضًا أن العقلاء من كافة الأطراف سيجدون حلًا وسطًا يرضي الجميع، ويتم تجنيب البشرية أهوال حرب نووية قد تأتي على الأخضر واليابس، وإلى أن يتم التوصل لهذه الحلول ستكتفي روسيا والناتو بالمناكفات على الطريقة الأفغانية أو الفيتنامية وإلا سيكون الجنون سيد الموقف.
تغير الخريطة السياسية في العالم خلال السنوات الخمس الأخيرة
أعتقد أنه ليست هناك حاجة لإقناع أي شخص بأن العلاقات الدولية اليوم تشهد تحولات تاريخية وتكتونية حقيقية. وأمام أعيننا حرفيًا، ينشأ نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وأنا متأكد من أنه أكثر إنصافًا.
ومن الملاحظ رغبة عدد متزايد من الدول في جنوب وشرق الكرة الأرضية بتعزيز سيادتها في جميع المجالات وانتهاج مسار عملي ومستقل ذي توجه وطني في الشؤون العالمية. ويستمر ميزان القوى الجيوسياسي بالتغير لكن ليس لصالح الغرب "التاريخي"، أو كما نسميه "الغرب الجماعي".
تؤثر هذه الاتجاهات الرئيسية أيضًا على العمليات التي تتكشف في قارتنا المشتركة مع الصين (أوراسيا). وهنا تواصل المراكز العالمية الجديدة تعزيز مواقعها، ما يدل على السعي للبحث عن حلول في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد على أساس توازن مؤكد لمصالح جميع اللاعبين.
ومع ذلك، فالجهود التي تبذلها بلدان الأغلبية العالمية، بما في ذلك روسيا، لتعزيز أجندة خلاقة وموجهة نحو المستقبل، في أوراسيا ومناطق أخرى من الكوكب، تواجه مقاومة شرسة من الأقلية الغربية.
الذي يجري في أوكرانيا، ما هو إلا جزء من "الحملة الصليبية" التي تشنها الولايات المتحدة وأتباعها ضد أي عضو في المجتمع الدولي يبدي استقلاله ويضع مصالحه الوطنية في المقدمة. وبعبارة أخرى، فإنهم يريدون معاقبة روسيا حتى تثبط عزيمة الآخرين إذا قرروا رفع أصواتهم.
وفي الوقت نفسه، تبوح واشنطن وحلفاؤها بالرغبة في خلق مصدر توتر طويل الأمد بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتي تم إعلانها صراحة على أنها "منطقة مسؤولية الناتو". ويجري تصعيد حول تايوان وفي بحر الصين الجنوبي بشكل متعمد. ويمكن استخدامه في أي لحظة لاستفزاز الصين وفقًا للسيناريو الأوكراني.
وهذا ما يدفع الصين وروسيا ودول الجنوب العالمي وكل دولة تبحث عن استقلالية قراراتها السيادية للنفور من الغرب والتوجه نحو المعسكر الآخر، الأمر الذي قد يخلق توترات في المدى المنظور ولكنه وبكل تأكيد سيحقق الاستقرار والأمن على وجه الكرة الأرضية على المدى البعيد.