أولت دول مجلس التعاون الخليجي ومنذ فترة سابقة على صدور مبادرة إسطنبول للتعاون وما بعدها، اهتمامًا كبيرًا للتعاون مع حلف شمال الأطلسي "الناتو" لأسباب كثيرة منها العلاقات التاريخية التي تربط دول المجلس مع الدول أعضاء الحلف، وللقرب الجغرافي وتشابك التحديات والتهديدات الإقليمية والدولية، إضافة إلى طبيعة التسليح الغربي السائد في دول مجلس التعاون، لذلك لم يكن مستغربًا أن يطرح "الناتو " مبادرة إسطنبول للتعاون عام 2004م، مع دول الشرق الأوسط بصفة عامة ودول مجلس التعاون الخليجي بصفة خاصة، وفي هذا السياق قام مركز الخليج للأبحاث بمجهود كبير للمساهمة في زيادة أواصر التنسيق والتعاون بين دول المجلس و"الناتو" ونظم وما زال ينظم فعاليات وبرامج كثيرة وزيارات ولقاءات للدفع بهذه العلاقة إلى الأمام لقناعته بأهمية التعاون بين الجانبين.
ثم جاءت مبادرة إسطنبول للتعاون عام 2004م، وانضمت إليها أربع دول خليجية هي :"الكويت، البحرين، قطر، والإمارات"، ولم تنضم حتى الآن المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان، وتضمنت المبادرة خمسة أهداف هي: رفع مستوى الاستقرار الأمني القائم على الحوار، ومواجهة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والتدريب في المجال الأمني والعسكري، والعمل على إيجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية بناءً على خارطة الطريق التي أعدتها اللجنة الرباعية الدولية في ذلك الوقت، إضافة إلى التنسيق والتشاور السياسي بين دول مجلس التعاون و"الناتو". وبالفعل تمخض عن المبادرة عدة خطوات مهمة ومنها "لجنة الشراكات والأمن التعاوني" و "المركز الإقليمي لحلف الناتو" بالكويت الذي تم افتتاحه في يناير 2017م، إضافة إلى العديد من الاجتماعات وزيارات قادة الناتو إلى دول مجلس التعاون الخليجي.
وبعد مرور 20 عامًا على إعلان هذه المبادرة (2004ـ 2024م) نعتقد أنها تحتاج إلى تقييم شامل لما حققته من الأهداف المدرجة والمأمولة، ومعرفة هل ما تحقق يرضي الأطراف المعنية بالمبادرة، أم ما زالت دون الطموحات، وكذلك هل المبادرة قادرة على تحقيق التعاون بين الجانبين على ضوء المتغيرات الدولية والإقليمية وانشغالات " الناتو" والتحديات التي يواجهها، وكذلك التحديات التي تواجه دول مجلس التعاون ومنطقة الشرق الأوسط. وبنظرة موضوعية نجد أن كثيرًا من المتغيرات طرأت على المنطقة والعالم وحركت كثيرًا من المياه الراكدة منذ الإعلان عن المبادرة وحتى الآن، ونجد أن المبادرة على أهميتها لم تقدم المأمول لدول مجلس التعاون وقد يكون ذلك لأسباب متعددة ، منها ما يمر به "الناتو" من توسع في ضم دول شرق أوروبا، والحرب الروسية / الأوكرانية، والعقيدة الدفاعية للناتو التي تنص على أن الحلف يدافع عن أعضائه فقط وعدم خروجه من منطقته، وكذلك غير خفي الخلافات بين الدول أعضاء الحلف وتباين الرؤى تجاه نفقات التسليح وما تبع ذلك من تباينات أوروبية / أمريكية خاصة في ظل ما أثاره الرئيس الأمريكي السابق ترامب وهو ما يمكن أن يتجدد في حال عودته المحتملة للبيت الأبيض في الانتخابات المقبلة.
وفي غضون ذلك لم تجد دول مجلس التعاون دورًا فاعلًا للناتو في منطقة الخليج والشرق الأوسط سواء على مستوى حل القضية الفلسطينية وإقامة الدولتين، بل أن دول الناتو تؤيد إسرائيل في حربها على قطاع غزة، وكذلك لا يوجد دور أمني جماعي فاعل للحلف في تأمين الملاحة الدولية في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن باستثناء جهود فردية من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وكذلك لا يوجد للناتو دور يذكر تجاه البرنامج النووي الإيراني، أو تجاه ما يحدث في اليمن، أو سوريا، أو العراق، ولم نجد له دورًا فاعلاً في محاربة الإرهاب والقرصنة والهجرة غير الشرعية، باستثناء تدخله في ليبيا وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بأمن دول "الناتو" لقرب ليبيا من أوروبا .
ولذلك نعتقد أن المبادرة تتطلب إعادة تقييم شامل وصياغة جديدة لتحقيق شراكة فاعلة في صالح جميع الأطراف، وقائمة على المصالح المشتركة للجانبين، خصوصًا مع توجه دول مجلس التعاون إلى بناء وتطوير القوة الذاتية وإعادة بناء جيوشها المجهزة بأحدث الأسلحة، كما أنها اتجهت إلى الشراكات مع العديد من دول العالم المتقدمة دون حساسية، أو تبعية وقطعت شوطًا كبيرًا في توطين التكنولوجيا المتقدمة ونهضت بقطاع الصناعات العسكرية الوطنية، بل في طريقها للاكتفاء الذاتي بتوفير الكثير من المعدات والذخائر. كما أن دول الخليج تعلم أن المبادرة لم ولن تكن بوابة للانضمام لعضوية "الناتو"، أو عضوية برنامج الشراكة الأوروبية ولن تكون بديلًا للترتيبات الأمنية القائمة في المنطقة، إضافة إلى أن المبادرة لا تتعامل مع دول مجلس التعاون الخليجي ككتلة واحدة، بل تقوم على التعاون الفردي مع كل دولة خليجية على حدة ، مما لا يشجع مجلس التعاون الخليجي كوحدة واحدة في التعامل مع حلف شمال الأطلسي، وعلى ضوء ذلك فإن تحفظات المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان التي منعت الدولتين من التوقيع على المبادرة مازالت قائمة، والمطلوب بعد 20 عامًا من صدور هذه المبادرة إعادة تقييمها وأن يتم وضع نصوصها بالشراكة بين الجانبين وليس من طرف واحد كما فعل "الناتو" عندما أعلن عن تلك المبادرة، أي يجب أن تكون الشراكة متكافئة وقائمة على الحوار السياسي في الاتجاهين وليس في اتجاه واحد حتى يتفهم "الناتو" مطالب دول مجلس التعاون والتحديات التي تواجه المنطقة، خاصة فيما يتعلق بأمن الممرات البحرية وحماية خطوط الملاحة العالمية في البحر الأحمر بصفة خاصة، وإنهاء مأساة حرب غزة ،وإقامة السلام العادل الذي يضمن حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية جنبًا إلى جنب، ومعالجة معضلة الملف النووي الإيراني، ومواجهة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، والصراعات في القرن الإفريقي وغير ذلك من التحديات التي يجب أن تكون ضمن أهداف مبادرة الناتو تجاه الشرق الأوسط ومنطقة الخليج.
وبدون هذه الخطوات العملية ستظل المبادرة تراوح مكانها وتظل قاصرة على التدريب واللقاءات والزيارات في حين التكتلات العالمية تتحرك لملء الفراغ في شتى بقاع العالم، والمنافسة محتدمة على تشكيل النظام العالمي الجديد وتبعاته على الأرض.