array(1) { [0]=> object(stdClass)#13440 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 200

"الجنائية" مقصلة الأفارقة لافتقادها قوة تنفيذ قراراتها وعدم انضمام القوى الكبرى

الإثنين، 29 تموز/يوليو 2024

لا يزال مركز النقاشات الأكاديمية والسياسية والفلسفية حول طبيعة ومستقبل العلاقات الدولية يدور حول اتجاهين متناقضين، ومن أفضل من كتب في العقدين الماضيين عن هذين الاتجاهين هو روبرت كيكن، أحد أكبر المشاركين في مؤسسة كارنجي للسلام الدولي وعمل موظفًا في وزارة الخارجية الأمريكية، إلى جانب صديقه، وليم كريستول، أحد صقور المحافظين الجدد في مشروع القرن الأمريكي الجديد. وهذان الاتجاهان المتناقضان هما القوة الميكافيلية والهوبزية، من جهة، والقواعد الأخلاقية والقانونية، من جهة أخرى، وهو ما عبر عنه، روبرت كيكن، في كتابه" عن الفردوس والقوة: أمريكا وأوروبا في النظام العالمي الجديد"، بالصراع بين المنتسبين لكوكب مارس، رمز الحرب والعدوان، وكوكب فينوس، رمز الحب والجمال، وفق الأساطير الرومانية.

وضمن هذا النقاش الفلسفي والأكاديمي يمكن أن نعيد طرح مدى أهمية وجدوى محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية على ضوء العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من زاوية قدرة المؤسسات القانونية والأخلاقية الدولية على ردع الهمجية الصهيونية ومواجهة المتمسكين بعصر كوكب مارس، الذين يعتقدون أن البيئة الدولية تفرض استخدام القوة في عالم فوضوي لا مجال فيه للتعويل على القوانين والقواعد الدولية.

 

أولًا: محكمة العدل الدولية بين القوة والفردوس

 

حاولت القوى المنتصرة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أن تبني مقاربة السلام العالمي من خلال إنشاء منظمة الأمم المتحدة لإدارة النزاعات والحروب المستقبلية في الاتجاه الذي يضع حدًا لويلات الدمار والخراب الذي خلفته الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تعد الحرب العالمية الثانية، الحرب الأكثر تكلفة ماديًا وبشريًا عبر التاريخ، وصل عدد ضحاياها 60 مليون قتيل وخسائر مادية تقارب خمسة تريليونات دولار، بينما شارك في الحرب العالمية الأولى أكثر من 70 دولة بخسائر بشرية تجاوزت 16 مليون قتيل وخسائر مادية بحساب التضخم منذ سنة 1918م، تصل إلى 3.3 ترليون دولار.

من بين الآليات القانونية التي وضعها ميثاق الأمم المتحدة، إنشاء هيئة قضائية دولية، بموجب الفصل الرابع عشر، التي عرفتها المادة 92 بأنها هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتقوم بعملها وفق نظامها الأساسي، ويعتبر جميع أعضاء الأمم المتحدة بحكم عضويتهم أطرافًا في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. فالهدف الأساسي للمحكمة فض النزاعات الدولية وتسويتها طبقًا للقانون الدولي، بحيث تكون قراراتها ملزمة للدول الأعضاء التي يستوجب منها الامتثال الطوعي لها.

وعلى مدار ما يقارب ثمانية عقود (1945-2024م) عملت محكمة العدل الدولية على المساهمة في ترقية وتطوير القواعد القانونية الدولية، لا سيما في مجال حقوق الإنسان، من خلال مجموعة من الآليات التطبيقية، تمثلت في لجان التحقيق ومراقبة المحاكمات، بعثات تقصي الحقائق، الإدانات العامة والبعثات الدبلوماسية. وقامت بمهمتها الأولى الخاصة في البت في النزاعات القانونية، حيث شكلت إجراءات التقاضي حوالي 80 % من نشاط المحكمة، تمس الخلافات القانونية حول ترسيم الحدود البرية والبحرية، اختراق المعاهدات الدولية. إلى جانب مهمتها الأساسية، تقوم المحكمة بإصدار الفتاوى القانونية فيما يخص القضايا النزاعية بين الدول التي غالبًا ما يتم إخطارها من قبل الدول المتنازعة أو من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة.

إذا كان هذا الشطر الأول من فردوس المحكمة التي من المفترض أن تساهم في بناء العدالة الدولية ووضع حد لمختلف القضايا النزاعية والوقاية منها، إلا أن عالم القوة الهوبزية لا يزال متحكمًا في قدرة المحكمة على إرساء قواعد القانون الدولي، بسبب غياب آليات تنفيذ والأنانيات الضيقة لأصحاب المصلحة في انتهاج سياسة ازدواجية المعايير. بحيث تعكس القواعد القانونية ميزان القوة، وتصاغ بما يخدم الحفاظ على مصالح القوى المنتصرة والمهيمنة للحفاظ على استمرارية تفوقها وسيادتها على العالم. وهنا، يبدو واضحًا أن صياغة آليات تنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية تم حصرها بيد أصحاب الفيتو، وهو ما كرسته الفقرة الثانية من المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص صراحة:" إذا امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، ولهذا المجلس، إذا رأى ضرورة لذلك أن يقدم توصياته أو يصدر قرارًا بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم". وللتذكير، فإن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت 45 مرة حق الفيتو منذ السبعينات من القرن العشرين إلى غاية فبراير 2024م، لدعم إسرائيل ضد كل مشاريع القرارات التي تدين الممارسات العدوانية ضد الشعب الفلسطيني واحتلال أراضيه.

أعاد العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني ما بعد طوفان الأقصى، اختبار قوة المؤسسات القانونية في مواجهة القوة الهوبزية، وتفاؤل المجتمع الدولي بتحريك محكمة العدل الدولية وتفعيل دورها، عندما رفعت دولة جنوب إفريقيا قضية انتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بتاريخ 29 ديسمبر 2023م، وطالبت من المحكمة إصدار تدابير مؤقتة ومستعجلة لمنع وقوع مزيد من الضرر للشعب الفلسطيني، لخصتها في تسعة تدابير مستعجلة، منها، التعليق الفوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وأن تكف عن ارتكاب أي من الأفعال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من الاتفاقية المتعلقة بقتل أعضاء الجماعة، وإلحاق الأذى الجسدي والروحي الخطير بأعضاء الجماعة، وإخضاع الشعب الفلسطيني عمدًا لظروف معيشية الهدف منها التدمير المادي الكلي، والحرمان من الحصول على الغذاء والماء الكافيين، والوصول إلى المساعدات الإنسانية بما في ذلك الوقود والمأوى والملابس والنظافة والصرف الصحي. وقدمت جنوب إفريقيا الأدلة المادية التي تم الحصول عليها خلال الأسابيع الثلاثة عشر الأولى من العدوان منها، إسقاط 6 آلاف قنبلة على غزة في الأسبوع الأول من الرد الإسرائيلي على طوفان الأقصى، شملت استخدام قنابل وزن 2000 رطل، أكثر من 200 مرة منها ما أسقطته في المناطق الجنوبية من القطاع التي صنفتها إسرائيل كمناطق آمنة.

بمجرد ما صدر حكم محكمة العدل الدولية الأول، أعلن مجموعة خبراء من الأمم المتحدة من بينهم، فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967م، أن الحكم يعد تاريخي ويبعث لأول مرة الأمل في حماية مدنيي غزة من الدمار الشامل والقتل الجماعي، كما اعتبر بمثابة إنجاز بارز لنضال الشعب الفلسطيني المستمر منذ عقود من أجل تحقيق العدالة، وأكد الخبراء أن القرار يرفض تبرير إسرائيل لأفعالها على أنها دفاع عن النفس، وزاد التفاؤل المفرط في اتجاه تغليب منطق كوكب فينوس، بإعلان الخبراء بأن أمر المحكمة يميل الكفة نحو نظام عالمي قائم على العدالة والقانون الدولي، الذي يعد الأساس الوحيد للسلام الدائم بين الفلسطينيين وإسرائيل.

لم يدم هذا التفاؤل المفرط طويلا، لتعود جنوب إفريقيا مرتين لمحكمة العدل الدولية بعد القرار الذي أصدرته في 26 يناير 2024م، لتطالب في شهري مارس ومايو من جديد بتعديل أمر المحكمة الأول، بإضافة المزيد من التدابير المؤقتة المستعجلة، وكان رد المحكمة في كل مرة مطالبة إسرائيل بتنفيذ القرار على الفور وبشكل فعال. وفي المرة الأخيرة، خاطب سفير جنوب إفريقيا لدى هولندا، فوسي مادونسيلا، محكمة العدل الدولية بكل تشاؤم رغم صدور أوامر المحكمة بتنفيذ القرارات بصفة استعجالية، قائلا:" إن إسرائيل لديها اعتقاد خاطئ بأنها معفاة من احترام القانون الدولي بسبب غياب الإجراءات التي تتصدى لأعمالها في غزة من قبل المجتمع الدولي، وهذا الإفلات المؤسسي من العقاب دفع إسرائيل إلى الانخراط في هذه الإبادة الجماعية التي صدمت ضمير الإنسانية". وتزامن خطاب سفير جنوب إفريقيا، مع الذكرى 76 للنكبة الفلسطينية و56 سنة من الاحتلال العسكري غير القانوني، لأنه وبكل بساطة تصر إسرائيل أنها تنتمي إلى كوكب مارس، لا مجال للاعتراف بالقواعد القانونية أو الأخلاقية، وقالها الآباء المؤسسون لإسرائيل منذ 1948م، كما عبر عنه، ديفيد بن غوريون، بأن القانون الدولي عبارة عن قصاصات من ورق، ولولا المجازر التي ارتكبت في دير ياسين، وكفر قاسم، وصبرا وشتيلا، وفي غزة لما كان هناك هذا الوجود الصهيوني الذي يستمد شرعيته من امتصاص دماء الفلسطينيين ونهب أراضيهم ومواردهم. فالواقع، بعد عشرة أشهر من العدوان والجرائم الإسرائيلية تشير إلى استمرار كل الانتهاكات والجرائم بكل أنواعها وأركانها، جرائم الإبادة الجماعية، جرائم ضد الإنسانية، جرائم العدوان، فلم تستجب إسرائيل لطلب إبقاء معبر رفح مفتوحًا لتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، كما أنها لم تتخذ أي تدبير فعال لضمان وصول أي لجنة تحقيق أو بعثة لتقصي الحقائق وأكثر من ذلك تعمل على طمس كل الأدلة المادية الجنائية، ولم تلتزم بتقديم إلى المحكمة تقريرًا بشأن كل التدابير لتنفيذ قرارات المحكمة.

بالرغم من هذا التعنت الإسرائيلي، تضاعف التفاؤل مرة أخرى بأهمية ودور محكمة العدل الدولية بانخراط مجموعة من الدول من أمريكا اللاتينية، أوروبا وإفريقيا بتقديم طلبات رسمية للمحكمة دعمًا لجنوب إفريقيا، مستندة على المادة 63 من النظام الأساسي للمحكمة، التي تمنح الدول غير المهتمة بالقضية الحق في التدخل. وهو ما شكل دعمًا معنويًا وماديًا لمحكمة العدل الدولية وتغليب منطق قوة القانون على همجية العدوان، وتشكلت هذه الدول من نيكارغوا، كولومبيا، المكسيك، جزر المالديف، الشيلي، وليبيا. أما الدول التي أبدت نيتها في الالتحاق بجنوب إفريقيا فتضم كل من مصر، تركيا، إيرلندا، بلجيكا وإسبانيا. منح هذا الانضمام الدولي تأييدًا قانونيًا ودبلوماسيًا للقضية الفلسطينية بالإصرار على إيجاد دولة فلسطينية كاملة العضوية ينسجم مع القرار الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 مايو 2024م، الذي ينص على وجوب انضمام فلسطين إلى المنظمة مع منحهم حقوقًا إضافية كدولة مراقب، مع دعوة مجلس الأمن الدولي إلى النظر بشكل إيجابي في العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة.

من المهام التي تضطلع بها محكمة العدل الدولية إصدار الفتاوي القانونية فيما يخص النزاعات الحدودية، حيث سبق وأن أصدرت بتاريخ التاسع من يوليو 2004م، بأغلبية 14 صوتًا مقابل صوت معارض وحيد للقاضي الأمريكي، توماس بورغتال، رأياً استشاريًا يتعلق بقضية قانونية الجدار، تقدمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة، اعتبرته بأنه مخالف للقانون الدولي وطالبت من إسرائيل إزالته من كل الأراضي الفلسطينية بما في ذلك القدس الشرقية وضواحيها مع تعويض المتضررين من بناء الجدار، كما طالبت من الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي في النظر إلى أية إجراءات أخرى لإنهاء الوضع غير القانوني للجدار. وبكل بساطة رفضت إسرائيل التعامل مع هذا الرأي بحجة عدم صلاحية المحكمة في البحث حول القضية وتمسكت بادعاءاتها الأمنية أن الغرض منه وقف العمليات الإرهابية. وفي ديسمبر 2022م، تقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب لمحكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري في قضية الآثار القانونية الناتجة عن سياسات إسرائيل وممارستها في الأراضي المحتلة من بينها جريمتي التمييز العنصري والاضطهاد.

الملاحظة العامة في هذا الإطار، أنه بالرغم من المجهودات التي يقوم بها المجتمع الدولي من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة لفرض سيادة القواعد القانونية وسمو العدالة، إلا أن القيود القانونية ذاتها لا تفرض على إسرائيل أي التزامات ما دام أنها تصر بأنها تنتمي لكوكب مارس، خصوصًا أن الآراء القانونية والاستشارية الصادرة عن مجلس الأمن هي قرارات غير ملزمة، طبقًا للمادة 65 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، التي تمنح الجمعية العامة للأمم المتحدة حق المطالبة برأي قانوني استشاري غير ملزم. لكن بمفهوم كوكب فينوس، فإن الرأي الاستشاري يمتلك قوة الحجية القانونية والمعيار الأخلاقي من حيث تصنيف التزام الدول بمدى تمسكها بالمبادئ والقيم والمعايير القانونية، خصوصًا إذا علمنا أن 52 دولة قدمت إفادتها المكتوبة والشفهية لمحكمة العدل الدولية في فبراير 2024م، فيما يخص هذه القضية الأخيرة، مع ثلاث منظمات إقليمية تمثلت في الجامعة العربية ( 22 دولة)، منظمة التعاون الإسلامي (57 دولة) الاتحاد الإفريقي (55 دولة)، إلا أن الموقف الأمريكي ككل مرة كان داعما لإسرائيل في هذه الجلسات حيث شككت في اختصاص محكمة العدل الدولية في قضية الاحتلال الإسرائيلي وآثاره القانونية، وقال، ريتشارد فيسك، القائم بأعمال المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأمريكية، في مداخلة شفوية أمام المحكمة :" إن المحكمة لا يمكن أن تأمر بانسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة في المرحلة الراهنة، ويجب مراعاة الاحتياجات الأمنية لإسرائيل".

 

ثانيًا: المحكمة الجنائية الدولية: مقصلة الأفارقة هل تفعل ضد نتانياهو؟

الاختبار العملي فيما يخص فاعلية المحكمة الجنائية الدولية تفرضه علينا الأحداث الدولية المتسارعة في الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بحيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بدعوى مسؤوليته عن جرائم حرب تخص ترحيل غير قانوني لأطفال أوكرانيا إلى روسيا منذ اجتياح روسيا لشمال أوكرانيا بتاريخ 24 فبراير 2022م. وبموجب الادعاءات ذاتها، أصدرت الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق، ماريا لفوفا بيلوفا، مفوضة روسيا الاتحادية لحقوق الأطفال. وكان تحدي المحكمة الجنائية أنها تعاملت مع قوى نووية وصاحبة حق الفيتو، وبالفعل تعاملت روسيا مع المحكمة من موقع قوتها وردت بطريقة قانونية وسياسية، أن روسيا لا تعترف بسلطة الجنائية الدولية وقراراتها تعد باطلة ولاغية، باعتبارها دولة غير طرف في معاهدة روما، وسياسيًا وإعلاميًا، كان تصريح ديمتري ميدفيديف، أكثر تعبيرًا عن الاستعلاء الروسي على قرارات المحكمة عندما وضع تغريدة في حسابه على التويتر يقول:" لا حاجة لتوضيح المكان الذي ينبغي أن تستخدم هذه الورقة فيه" واستخدم رمزًا تعبيريًا "إيموجي" دالا على ورق المرحاض.

من جهة أخرى، تحركت المحكمة الجنائية الدولية إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة، بحيث قدم المدعي العام للمحكمة، كريم خان، طلبات للدائرة التمهيدية الأولى بالمحكمة لإصدار أوامر قبض بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بن يامين نتانياهو، ووزير الدفاع، يوآف غالانت، وثلاث عناصر من حركة حماس، رئيس المكتب السياسي، إسماعيل هنية، ورئيس الحركة في غزة، يحي السنوار، وقائد كتائب القسام، محمد الضيف. ويعتقد المدعي العام للمحكمة بأن نتانياهو وغالانت يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في غزة ابتداء من الثامن من أكتوبر 2023م. بغض النظر عن الرد الإسرائيلي عن المدعي العام الذي تتهمه بمعاداة السامية وعدم اختصاصها القضائي لأن إسرائيل ليست طرفًا في معاهدة روما، فإن الموقف الأمريكي المدافع دبلوماسيًا وعسكريًا وأمنيًا على إسرائيل، اتخذت مسارات تبقى بارزة في الحصائل التقييمية لفاعلية المؤسسات القضائية الدولية، بحيث أقر الجمهوريون بدعم بعض النواب الديمقراطيين في مجلس النواب بتاريخ 5 يونيو 2024م، مشروع قانون باسم" قانون العمل المضاد للمحكمة غير الشرعية" يفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية ردًا على طلبات المدعي العام ضد نتانياهو وغالانت. من بين تلك العقوبات منع المسؤولين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، وإلغاء تأشيرتهم وتقييد معاملاتهم العقارية والتجارية. وليست هذه المرة الأولى التي تفرض فيها واشنطن العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بحيث سبق وأن فرضت إدارة دونالد ترومب في سنة 2020م، عقوبات على كبار موظفي المحكمة بعد دفع التحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان، وللتذكير، فإن الكونغرس الأمريكي أصدر قانونًا قبل دخول المحكمة الجنائية حيز التنفيذ في سنة 2002م، يسمى بقانون حماية الخدمة الأمريكية، يهدف إلى حماية العسكريين الأمريكيين في تدخلاتهم الخارجية، وكانت البيئة الجيوسياسية مواتية لما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق فيما بعد، وأكبر تحدي لهذا القانون المعروف بقانون غزو لاهاي، فيما يخص فاعلية المحكمة الجنائية الدولية وكل دولة تريد تنفيذ إجراءاتها، يتمثل في البند القانوني الذي يسمح للرئيس باستخدام كل الوسائل الضرورية بما فيها العسكرية من أجل إطلاق أعضاء الخدمة الأمريكية سواء كانوا محتجزين أو معتقلين من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

بالرغم من المجهودات التي تبذلها المحكمة الجنائية الدولية لمحاولة فرض قيم العدالة والإنصاف والمساهمة في الوقاية من جرائم الحروب ضد الإنسانية، إلا أنها ستبقى تسمى بمقصلة الأفارقة، لافتقادها لعناصر قوة التنفيذ لقراراتها، وعدم انضمام القوى الكبرى لها مثل الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا والصين التي تعد صمام الأمان لمستقبل السلام العالمي لما تملكه من قوة الفيتو داخل مجلس الأمن الدولي. أما لماذا تعد المحكمة الجنائية الدولية بأنها مقصلة الأفارقة؟ فإن الشواهد العملية تشير إلى أنه خلال خمسة عشر سنة الأولى من إنشاء الجنائية الدولية (2002-2017م) من بين عشرة قضايا تم تحريك الدعاوى القضائية فيها تسع حالات كلها في إفريقيا، كما أن الإدانات الأربعة الأولى المطالبة بأمر الاعتقال خصت رؤساء أفارقة، رئيسين كانا في حالة الوظيفة كل من معمر القذافي في ليبيا وعمر حسن البشير في السودان، ورئيس سابق، لوران غباغبو، رئيس كوت ديفوار ورئيس لاحق، أوهورو كنياتا، رئيس كينيا الذي صدر في حقه الأمر بالاعتقال قبل توليه السلطة. تميز رد فعل الأفارقة بالانتفاضة الرسمية على المحكمة الجنائية الدولية من خلال رفضها تطبيق القرار المتعلق بأمر القبض على الرئيس السوداني، متمسكة بالمادة 98 من نظام روما التي تنص على أنه يمكن لكل دولة طرف في المعاهدة ألا تتعاون مع المحكمة في حالة تعارض ذلك مع التزاماتها الدولية المتعلقة بالحصانة، وهذه المادة بالذات كانت من صياغة فريق واشنطن المشارك في مفاوضات مشروع نظام روما من أجل إبقاء الحصانة الأمريكية لجنودها في الخارج. ومن بين الخيارات التي لجأت إليها الدول الإفريقية في إطار الاتحاد الإفريقي تبني استراتيجية الانسحاب الجماعي من المحكمة الجنائية الدولية في قمة أديس بابا في يناير 2016م، وقبلها عكفت في قمة مالابو في سنة 2014م،على مشروع المحكمة الإفريقية كخيار بديل للجنائية الدولية، وكذلك من بين الخيارات التي تم وضعها إنشاء الغرف الاستثنائية الخاصة التي وضعتها السنغال بالاتفاق مع الاتحاد الإفريقي لمحاكمة الرئيس التشادي الأسبق، حسن هبري، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

ختامًا وحتمًا، ستبقى النقاشات السياسية والأكاديمية مستقبلًا كما يقول، روبرت كيكن، تدور بين الحالمين بولوج فردوس ما بعد التاريخ لتحقيق السلام الأبدي كما بشر به إيمانويل كانط، وبين الغائصين في وحل التاريخ والمتمسكين بممارسة القوة في عالم هوبز.

مقالات لنفس الكاتب