إن التصحر هو عملية تدريجية ولكنها مستمرة لا يستهان بها وغالبًا ما تطغى عليها الضجة الإعلامية المحيطة بتغير المناخ والطقس المتطرف، ومع ذلك فإن تأثيره على أنظمتنا البيئية الخصبة التي تشكل أهمية بالغة لإنتاج الغذاء قد يكون مدمراً ودائماً. تهدف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (UNCCD) إلى زيادة الوعي بهذه القضية و ينعقد مؤتمر الأطراف السادس عشر التابع لهذه الاتفاقية في ديسمبر في المملكة العربية السعودية (COP16) ، والذي سيعقد لأول مرة في منطقة الخليج المعرضة للتغيرات المناخية. وسأتولى رئاسة وفد إيكاردا في هذا المؤتمر لعرض خبراتنا في مكافحة التصحر من خلال تقنياتنا واساليبنا المبتكرة في مجال التربة والمياه والمحاصيل والثروة الحيوانية.
التصحر ، الذي هو تدهور مستمر للنظم البيئية في المناطق الجافة بسبب التغيرات المناخية والأنشطة البشرية، ينتج عن ممارسات زراعية غير مستدامة مثل الرعي الجائر، والحراثة المفرطة، والري بالغمر، والحرائق، وإزالة الغابات. وتؤدي هذه الممارسات إلى إضعاف التربة، مما يجعلها عرضة للتعرية بالرياح والأمطار. تعد الأراضي الجافة موطنًا لحوالي 38% من سكان العالم وتدعم 44% من الزراعة العالمية. إن فقدان الأراضي الخصبة في هذه المناطق الحساسة المعرضة للخطر بسبب التصحر يساهم في انتشار الجوع وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والصراعات والهجرة القسرية. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن التصحر قد يؤدي إلى نزوح وهجرة 50 مليون شخص بحلول عام 2030.
اللبنات الأساسية للمرونة البيئية
تمتلك المناطق الجافة إمكانات فريدة لزراعة مستقبلية عالمية مستدامة وفعالة وقادرة على التكيف مع التغير المناخي، وذلك بفضل التنوع الحيوي القوي بطبيعته والنهج المرنة في استغلاله، والتي تطورت على مر آلاف السنين. تعمل المجموعة الاستشارية الدولية للبحوث الزراعية (CGIAR)، والتي يعتبر المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) أحد أركانها الرئيسية، على تطوير استراتيجية عالمية مرنة للأراضي الجافة، للحفاظ على التنوع الحيوي وتعزيز الإدارة الفعالة لموارد التربة والأراضي والمياه. كما تسعى إلى تعزيز مرونة المجتمعات والنظم البيئية، وعكس مسار التصحر، وتعزيز إنتاج غذائي مستدام يحافظ على موارد الأراضي الثمينة.
يجمع المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) بين أحدث المعارف العلمية وبين الخبرة العملية المستمدة من المزارعين الذين يعيشون على الخطوط الأمامية لمواجهة التغيرات المناخية، بالتعاون مع أنظمة البحوث الزراعية الوطنية ومؤسسات البحوث لتقديم حلول مبتكرة قائمة على الأدلة للمجتمعات في الأراضي الجافة ومن منتجاتها. ومن خلال مناهج شاملة مثل مبادرة المجموعة الاستشارية الدولية للبحوث الزراعية للتخضير المتكامل للأراضي الصحراوية، يمكن لإيكاردا وشركاؤه تحويل الأراضي الجافة وأطراف المناطق الصحراوية في شبه الجزيرة العربية وآسيا وإفريقيا إلى أنظمة بيئية مُنتجة. ويمكن أن يساهم هذا في دعم مبادرات عالمية مثل المبادرة الخضراء السعودية من خلال تقديم ممارسات زراعية مستدامة تعزز التنوع الحيوي وتحسن سبل عيش مستدامة للمجتمعات المحلية.
زراعة ذكية مناخيًا لمواجهة التصحر
إن تحويل أنظمة الأغذية الزراعية في المناطق التي تعاني من ندرة المياه ومحدودية الأراضي الصالحة للزراعة يتطلب الابتكار والمعرفة المحلية. وفي منطقة الخليج، يدعم المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) التنمية الزراعية من خلال بناء القدرات وتطوير تقنيات مبتكرة لزيادة إنتاجية المياه، وخلق أنظمة إنتاج زراعية مستدامة ومرنة تعمل على تعزيز الإنتاج الغذائي المحلي دون الإضرار بالموارد الطبيعية..
هناك نهجان لتحقيق هذا الهدف: التوسع الأفقي والتوسع الرأسي. يتضمن التوسع الأفقي تحويل الأراضي البور إلى أراضٍ زراعية أو رعوية مستدامة. أما التوسع الرأسي فيعني زيادة إنتاجية الأراضي الزراعية والصوبات الزراعية الحالية. وفي ظل تغير المناخ، يجب أن يركز كلا النهجان على حماية التربة وإعادة تأهيل الأراضي المتدهورة باستخدام تقنيات زراعية ذكية مناخيًا مثل المحاصيل المحسنة والإدارة الرشيدة الرعي والزراعة الدقيقة.
على الرغم من أن التوسع الرأسي في الصوبات الزراعية قد كان النهج الرئيسي في منطقة الخليج، إلا أن التطورات الحديثة في مجالات الطاقة المتجددة ومعالجة المياه وخصوبة التربة، إلى جانب الابتكارات الزراعية التي تقدمها إيكاردا، تفتح آفاقًا جديدة لتحويل الأراضي الصحراوية القاحلة إلى أراضٍ زراعية خصبة ومُنتجة.
لكل قطرة مياه قيمتها الكبيرة
تُحدث ابتكارات إيكاردا في إدارة المياه فرقًا حقيقيًا. ففي الأردن، تعمل الأحواض الصغيرة والسدود الترابية التقليدية (المرابص) على حصاد مياه الأمطار وحماية البذور والتربة السطحية والمواد العضوية اثناء هطول الأمطار الغزيرة النادرة. وفي المغرب، ادت تقنيات الزراعة الحافظة الى زيادة إنتاج القمح بنسبة تصل إلى 19%وعززت حماية التربة الزراعية ضد التآكل.
كما ساهمت ابتكاراتنا في مجال الري التكميلي ، المصممة لتوفير كميات دقيقة من المياه للمحاصيل عندما تكون كمية الأمطار غير كافية ، إلى زيادة إنتاج القمح بشكل ملحوظ في سوريا والمغرب وإيران. بالإضافة إلى ذلك، ساعدت أول شبكة إقليمية لقياس التبخر والنتح في مصر والأردن ولبنان والمغرب وفلسطين وتونس، والتي أنشأتها إيكاردا بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، في تحديد الاحتياجات المائية الدقيقة للمحاصيل المختلفة في بيئات وفصول مختلفة، مما يوفر للمزارعين والحكومات أدوات مهمة لمواجهة المعركة المستمرة ضد التغيرات المناخية.
تحويل الصحاري إلى مراكز إنتاج غذائي
لتحقيق أنظمة غذائية متجددة في المنطقة العربية والعالم، يتطلب الأمر استثمارات جريئة في العلوم الزراعية لبناء القدرة على الصمود والمرونة أمام التحديات. تتطلب زراعة المحاصيل الذكية مناخياً تطوير تقنيات حديثة لإدارة التربة والري، في حين يجب إدارة أساليب الرعي بعناية لإعادة تأهيل النظم البيئية. ويمكن أن يكمل الاستخدام الإبداعي لمخلفات المَزارع والنفايات دورة الزراعة الدائرية او التدويرية.
تجسد الزراعة الصحراوية المتكاملة IDFIP مبادرتنا الرائدة للابتكار في استغلال النظم البيئية الصحراوية في الزراعة. هذا النظام الدائري، مستفيدةً من المعرفة والخبرة والشراكة الإقليمية، بما في ذلك من المزارعين أنفسهم. ويعمل برنامجنا IDFIP على تحسين تقنيات إيكاردا، والتي تشمل إدارة المياه ، والمحاصيل الذكية مناخيًا، والأنظمة المتكاملة للمحاصيل والماشية، لتحويل الصحاري إلى مراكز إنتاج مستدام للغذاء والعلف. ويهدف هذا النظام الطموح، بالشراكة مع مراكز البحوث التابعة للمجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية، إلى الاستفادة من قدرات 30.000 رائد أعمال وخلق 100.000 فرصة عمل على طول سلاسل القيمة في دول مجلس التعاون الخليجي بحلول عام 2035. يمكن أن يؤدي تحويل الصوبات الزراعية إلى أنظمة الطاقة الشمسية وأنظمة تبريد للمجموع الجذري للنباتات بدلا من الحيز الكامل للدفيئة إلى خفض استهلاك الطاقة والمياه العذبة بنسبة تصل إلى 80٪، كما أن ابتكاراتنا الأخرى، مثل تقنيات التلقيح السائل لأشجار النخيل، يمكن أن تزيد إنتاج التمور بنسبة 20٪ وتخفض تكاليف التلقيح بنسبة 80٪، مما يمثل وفراً كبيراً للمملكة العربية السعودية، كأحد أكبر الدول المُنتجة للتمور على مستوى العالم.
تنوع حيوي فريد للمنطقة يوفر الحلول والإجابات
بالإضافة إلى التقدم الذي تم تحقيقه في تطوير المحاصيل الأساسية الجديدة الذكية مناخياً، تدعم إيكاردا المحاصيل التقليدية غير المستغلة بشكل كاف مثل البقوليات والشعير. هذه المحاصيل الغنية بالعناصر الغذائية والمتأقلمة بشكل طبيعي مع الظروف المناخية القاسية تساهم في تعزيز التنوع الحيوي من خلال إعادة العناصر المغذية إلى التربة وتثبيتها بجذورها القوية. ويمكن أن يؤدي استخدامها على نطاق أوسع إلى تقليل الاعتماد على استيراد المحاصيل الأساسية من الأسواق العالمية التي تتأثر بالتغيرات المناخية والمحتمل أن تنقطع إمداداتها.
وللاستفادة القصوى من التنوع الحيوي الفريد للمنطقة، قمنا أيضًا بدمج تقنيات حديثة في البنوك الوراثية لدينا، مثل التنبؤ الجينومي الشامل والنمذجة السريعة، حتى يتمكن العلماء والمربون المشاركون في تطوير المحاصيل الذكية مناخياً من اختيار الموارد الوراثية بسرعة لتطوير محاصيل مُحسنة مصممة لبيئات محددة.
تبدأ وتنتهي مع المزارعين
تقدم الممارسات والتقانات الزراعية الحديثة حلولاً، وتعتبر مشاركة المزارعين الفاعلة منذ المراحل الأولى أمراً بالغ الأهمية. أظهرت دراساتنا الحديثة حول معدلات تبني تقنيات مكافحة الآفات المتكاملة الجديدة المصممة للحد من آثار سوسة النخيل الحمراء وهي آفة غازية تدمر أشجار النخيل، أن المزارعين في الشرق الأوسط مترددون في اعتماد تقنيات فعالة غير مألوفة. وتؤكد الدراسة على أهمية التوعية المجتمعية وبناء شراكات استراتيجية مع الهيئات الحكومية والمؤسسات البحثية والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام لنشر الوعي بفوائد التقنيات الجديدة.
يجب علينا أيضًا معالجة الرعي الجائر لمكافحة التصحر في منطقة الخليج وغيرها من المناطق. وبالتعاون مع الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة. طورت إيكاردا مجموعة أدوات متكاملة للإدارة المستدامة للمراعي بهدف تمكين المجتمعات الريفية من إدارة مراعيها ومواردها الطبيعية بشكل أفضل. أستعادت إدارة الرعي التجديدي ومجموعة أدوات إدارة المراعي المستدامة 5000 هكتار من الأراضي في وسط تونس، وخفضت تكاليف العلف بنسبة 65٪، وضاعفت الغطاء النباتي ثلاث مرات.
العالمية يجب أن تتولى المسؤولية
يمكن أن يوفر العلم تقنيات ومنهجية جديدة، لكن الابتكارات لا يمكن أن تصل إلى كامل إمكاناتها دون مساهمة الاختبارات والتقنيات والخبرات العالمية القائمة على الأدلة و أعتقد أن وجود إرادة سياسية قوية لتبادل المعرفة أمر ضروري لأن أي دولة لا تستطيع أن تخوض بمفردها التحدي الهائل المتمثل في التغيرات المناخية.. وبالمثل، فإن القطاع الخاص، المدفوع بالفرص التجارية والأرباح، هو شريك رئيسي في عملية التنمية لأنه يمكنه، من خلال قوى السوق والمنافسة، تقديم تقنيات بأسعار معقولة، مثل تطبيقاتنا وأدواتنا الدقيقة التي تستفيد من بيانات الأقمار الصناعية التي كانت بعيدة عن متناول المزارعين الريفيين. وعلى غرار أهمية إشراك المزارعين، فإن مشاركة القطاع الخاص
في البحث إلى جانب دعم السياسات التي تتيح لهم الوصول إلى التقنيات والأسواق العالمية أمر بالغ الأهمية لتحقيق التقدم.
ولضمان الأمن الغذائي ، يجب إنشاء مخزونات غذائية استراتيجية واتباع سياسات تجارية عادلة تضمن وصول الغذاء إلى جميع المحتاجين. إن تنويع مصادر الغذاء سيساعد في تخفيف المخاطر الناجمة عن تعطل سلسلة التوريد العالمية لضمان توافر الغذاء أثناء الأزمات. كما أن تحديث مرافق تخزين الغذاء ونقله سيقلل من الهدر ويقلل من الطاقة والمياه والأراضي المستخدمة لإنتاج المنتجات غير المستهلكة. ومن المشجع أن نرى اتجاهاً عالمياً نحو معالجة مشكلة هدر الغذاء وتبني ممارسات مستدامة. إن زراعة ما نحتاجه فقط واستهلاك ما ننتجه يمثل استراتيجية بالغة الأهمية.
نهج موحد
خلال خمسة عقود من الخبرة في العلوم الزراعية القائمة على الأدلة والتشبيك في المنطقة، تتفوق المجموعة الاستشارية الدولية للبحوث الزراعية الدولية ومراكزها البحثية، بما في ذلك إيكاردا، ببناء القدرات وتوحيد الشركاء وكسر الحواجز. ومع ذلك، لا يزال تأمين التمويل للبحث والتطوير في مجال التنمية الزراعية يشكل تحديًا كبيرًا.
تشير أبحاثنا بشكل متكرر إلى أن الاستثمار في البحوث الزراعية يعزز زيادة الإنتاجية ويحقق عوائد اقتصادية كبيرة. ومع ذلك، تشير الاتجاهات إلى انخفاض التمويل العالمي للبحث والتطوير. والخبر السار هو أن دولاً مثل الإمارات العربية المتحدة والجهات المانحة مثل مؤسسة بيل ومليندا جيتس تقود الطريق من خلال التعاون لدعم تطوير التقنيات المتكاملة والشاملة مثل مبادرتنا لأنظمة الزراعة الصحراوية المتكاملة ومبادرة إعادة التشجير السعودية، فضلًا عن زيادة الوعي بالتحديات وتوفير تمويل للبحوث وتعهدات على المنصات الدولية.
مواجهة تحديات التغيرات المناخية
لقد تجاوز تسارع تغير المناخ حتى أكثر التنبؤات تشاؤما، ويجب أن يتسارع العلم أيضًا لمواكبة هذه التغييرات، وهذا هو الهدف الرئيسي لاستراتيجية إيكاردا المحدثة للبحوث والابتكار لعام 2030م، والتي تدمج الآن تغير المناخ كقاعدة لجميع علومنا المستقبلية، بما في ذلك التخفيف من انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري من الزراعة نفسها..
ان استراتيجيتنا، المتوافقة مع الاستراتيجية العالمية للمجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية للأراضي الجافة المرنة، لا تدعي أنها الحل الأمثل لجميع مشاكل الأراضي الجافة بمفردها. إذ تستمد قوتها من المشاورات المكثفة مع أصحاب المصلحة الرئيسيين أي قادة مناطق الأراضي الجافة ووزارات الزراعة والمؤسسات البحثية الإقليمية والوطنية، والجهات الفاعلة في القطاع الخاص، والخبراء الزراعيون العالميون، وقبل كل شيء، المزارعون والجمعيات الذين يقفون على خط المواجهة في مواجهة التغيرات المناخية. واعتقد أن هذا النهج الموحد ضروري لتحقيق مرونة زراعية دائمة في منطقة الخليج وغيرها من المناطق الأخرى.