array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

الأحزاب الإسلامية في العراق في مواجهة معضلات السلطة

الثلاثاء، 01 آذار/مارس 2011

شهد العراق خلال السنوات السابقة وما زال ظواهر عدة تستحق الدراسة لمعرفة مسبباتها ونتائجها، ومن بينها بروز الظاهرة الدينية، وكثرة الأحزاب التي تدعيها، حتى باتت تلك الأحزاب قادرة على قيادة الشارع، فكيف استطاعت أن تأسر الشارع العراقي؟ وكيف سيّرت العمل السياسي فيه؟

إن موضوع صعود الأحزاب الإسلامية يطرح تساؤلات عدة: هل يحتاج الفرد إلى مرشد لتنظيم حياته السياسية؟ وهل فكرة التحزب هي فكرة دينية أم فكرة تنظيمية تغلب عليها العلمانية في التنظيم والإجراءات؟ وهل الإسلام يؤثر في الحياة السياسية، أم أن اعتقادات الأفراد به وتفسيراتهم له هي التي تؤثر في الحياة السياسية؟ وبقصد الإجابة عن هذه الأسئلة علينا إدراك موقع الدين من السياسة، وأيضاً إدراك موضع الخلل في هذه العلاقة. وفي البدء، علينا أن نميز بين استخدام الدين في سياسة الحكومات وفي السياسة، فعلى صعيد السياسة، التي تعني طرق تصريف السلوك بشكل غائي لا يضع اعتباراً للمحرمات، وإنما يتوقف على أخلاقيات الشخص القائم بالسلوك ذاته، وعلى النظام العام وأخلاقياته، التي يدخل الدين فيها كواحد من المؤثرات، والدين على صعيدها قد يدخل عملياً بوصفه واحداً من الآتي: سلعة تجارية في لغة البعض؛ بمعنى استغلال الموجود للوصول إلى سلطة، أو قد يكون التمسك به عن قناعات عقائدية. وفي الحالتين يكون إما عاملاً قيمياً مؤثراً في مواقف الأفراد السياسية من الانتخاب والانتماء إلى جماعات وأحزاب سياسية، أو قد ينزعه الفرد من حياته. وفي العراق بدأ انتشار ظاهرة ومظاهر التدين لدى الأفراد في العقد الأخير من القرن الماضي، تحت مسببات الحرمان الاقتصادي بالإضافة إلى عامل جور السلطة، وشهد استخدامه سياسياً توسعاً ملحوظاً خلال العقد الماضي.

أما ما يتعلق بسياسة الحكومة بمعنى إدارة وتنظيم استغلال موارد الدولة للوصول إلى غاية البرنامج السياسي الذي تطرحه الحكومة، فيلحظ أن تقاطعها مع غيرها بشأن قضية سياسية ما، هو في الأصل تقاطع مصالح وأهداف، وهو الذي يصنع المواقف السياسية. وفي سياسات الحكومات لم نجد حتى في الدول، التي تحاول إيجاد رابطة بينها وبين الدين، ارتباطاً جاداً بين سلوكياتها وبين القضايا ذات التماس مع الدين، ومثال ذلك موقف جمهورية إيران الإسلامية من روسيا الاتحادية بفعل أحداث الشيشان (الجمهورية الإسلامية داخل روسيا والقريبة من حدود إيران)، فهي تعاملت مع الإسلاميين الشيشانيين بطريقة عدم المبالاة.

وبقدر تعلق الأمر بموقع الدين من السياسة، يلحظ وجود بعض القوى والأحزاب التي ربطت وجودها وسياساتها بالدين، والاعتقادات الدينية. وهنا ظهر نوع من الاختلاف بين تلك الأحزاب وفقاً لثلاثة متغيرات هي:

* الخصائص الاجتماعية: بمعنى حاصل تفاعل مكونات المحيط من جغرافيا، وقومية، وانتماء وعقائد دينية وعادات، وموارد اقتصادية، ومستوى تعليمي، وقوى سياسية واجتماعية واقتصادية مسيطرة، بشكل انعكست معه هذه الخصائص على ظهور أنماط من الاعتقادات المتباينة وهي التي سحبتها الأحزاب بشكل اتجاهات سياسية. ويمكن توسيع قاعدة التحليل لنقول إن هناك مسببات اجتماعية قادت إلى احتضان بعض الأطروحات الدينية لتيارات سياسية محددة، مثلاً جماهيرية بعض التيارات بين الفقراء مثل التيار الصدري، وظهور بعض الأفكار مثل جند السماء في بعض مدن جنوب العراق، فهي الرغبة في الخلاص من ظروف اجتماعية - اقتصادية محددة، وعدم وجود بدائل علمانية مقبولة أو مسموح لها بالعمل في تلك المناطق.

* التجارب التاريخية: أدت بعض الأحداث التاريخية إلى تأثيرات على بعض الطوائف والاعتقادات، مما دفعها إلى تبني واعتماد اتجاهات سياسية محددة، فردة الفعل على ممارسات التيارات الشيوعية وممارسات سلطات النظام العلماني أشرت إلى بداية ظهور الأحزاب ذات التوجهات والعقائد الدينية بين الفئات المثقفة، وقد جمد بعضها بفعل قسوة السلطة وما بقي يعمل منها واجه انقساماً مجتمعياً بعد التغير الذي حصل في إيران عام 1979، وبدلاً من نمو أفكار التيارات الدينية بدالة محددة من المثقفين إلى الشارع انقسم المثقفون فيما بينهم، واستغلت السلطة ذلك لوأد تلك الأفكار، وانفتح مؤشر الظهور بعد عام 2003، ليس من خلال المثقفين، إنما من قبل الشارع تحت طائل الحرمان الاقتصادي والرغبة في التحرر من جور السلطة والرغبة في إيجاد مظلة بديلة عن مظلة الدولة المفقودة بعد التغيير. وبقصد إدامة تعلق الشارع بتلك الأفكار تم إسقاط العنف السياسي الفوقي بين أحزاب شمولية على الشارع، وغذي العنف بألوان ومسببات طائفية حتى بات حجم الترابط بين كل حركة (دينية) واتجاهها السياسي واضحاً، ورغم وجود تعارضات فيما بينها في المصالح الفردية، إلا أنها مضبوطة بعقالها من قبل بعض القوى الإقليمية أكثر مما هي مضبوطة بفعل داخلي.

* القيم الدينية: إن التفسير للنصوص الدينية والاجتهادات التي ظهرت ولا تزال تظهر إلى اليوم، إزاء التعاملات المختلفة (وليس في مجال العبادات المحكومة بنصوص)، ولّد قيماً واعتقادات دينية متباينة بين الأفراد تذرعت بها القوى الدينية والأحزاب المتعلقة بتلك القيم، وتحديداً في مجال الحريات الفردية، ومنها النظرة إلى حرية المرأة، ومجال الحقوق، ومنها الولاءات والنظرة إلى الآخر. وهذه الاختلافات أشرت، كما بينا، إلى وجود أحزاب متباينة ومتناقضة في الأسس التي تقوم عليها.

وهنا نجد أنفسنا كمراقبين بحاجة إلى الإشارة إلى مسألة مهمة متعلقة بإدراك علاقة الدين بالسياسة وهي أن المشكلة تكمن في تفسيرات الخلق لدين الخالق، بمعنى إننا في محيط بات يعبد فيه ويقدس تفسيرات الخلق لما انتهى إليه الخالق. ولما كان الخلق كثر، وتفسيراتهم تخضع لتأثير الظروف، أصبحنا أمام قوى دينية مختلفة، وساء الأمر الاقتران بهوية سياسية، إذ أصبحت للطائفة الواحدة ألوان سياسية-دينية (حيث غسل الدين مرتين، الأولى كونه تفسيراً، والثانية كونه صبغ برداء السياسة الفضفاض الذي ليست له محرمات في الأصل) مختلفة، واستطاعت أن تحتكر أغلب مفردات القوة والعنف بعد الفراغ السياسي عام 2003. وأصبح تشخيص تلك الظاهرة من قبل الأكاديمي فيه نوع من (المجازفة) كونه بات يعطي ألواناً وتباينات، تنطلي في أحيان عدة على المواطن العادي أو المتعلم، لكنه لا يستطيع المبادرة إلى تحليلها، إذ وضع أمام أقوالها جداراً من العنف على عصمة آرائها، بل على عصمة رجالها، والعصمة والتحليل ضدان.

وفي العموم، إن اللعبة السياسية اليوم تحوي تنوعاً فسيفسائياً غريباً، ومن بين التنوع الذي تحويه اللعبة السياسية أنها باتت تحوي وجوداً فاعلاً لأحزاب وقوى سياسية تدعي الدين، وهي متباينة في العموم، بدليل عدم توحدها وتجمعها وإن كانت تحت عباءات وانتماءات مذهبية محددة. والمشكلة ليس في تباينها بل في تناقضها فيما بينها، كونها قائمة على رؤى شمولية للدولة والمجتمع والفرد وفي مجال الحقوق والواجبات، والأدهى أنها قبلت بالشرط الديمقراطي لتداول السلطة، فانتهى العراق إلى جمود سياسي غير قابل للحل خلال المستقبل القريب.

الأحزاب الإسلامية بين الرأي العام والسلطة

لقد أصبح التمسك بهذه الاختلافات مدعاة للاختلاف والتقاتل، ومدعاة أيضاً للبعض لطرح فكرة قدسية رأيه، بل انتهى البعض إلى ممارسة سياسة تحويل العراق إلى دولة دينية (وخشية الحرج من كونه مقلداً لدولة جارة حاول فرض أمر واقع في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وإعادة توزيع الثروة وتعزيز القدسية لرجالاته قبل إعلانها، لتبدو كنتيجة تطور طبيعي)، لبيان عصمة رأيه، وليس أي عصمة أخرى. وكلها حـُّملت على سلوك سياسي، فاسترخص الدين بالتفسيرات وأوامر ونواهي السياسة. وكانت مخرجات السياسة شوهت غاية الاختلاف في الرأي الديني. فالسياسة برنامج، وعندما حمل البرنامج برداء رجل دين أو مذهب أو اعتقاد ديني، فإن فشل الأولى (كونه ميدان تطبيق) يقود بالضرورة إلى فشل الثاني. لكن هل هذه المعادلة صائبة؟ إن الفشل ليس في الاعتقادات، إنما في إقحام الاعتقادات في السياسة، وقد كان أمام تلك الاعتقادات خيارات عدة: البعض لجأ إلى ربط نفسه بالسياسة، ولعبها من أجل ثروة وسلطة، وتحمل أوزار ملايين الفقراء الذين عانوا الافتقار إلى الخدمات المطلوب تجهيزها لهم بدواعي القدسية والعصمة، والبعض الآخر دعا إلى تحييد العمل السياسي، كون الخطأ فيه خطأ بشرياً، وليس خطأ لاعتقاد. وما ظهر إلى السطح خلال المدة السابقة هو مزيد من الربط غير المباشر بين الاعتقادات والسياسة، وإن كانت محاولات التجميل (بإضافة شخوص ضعفاء من مكونات متباينة إلى المكون السياسي القائم) أرادت إعطاء صورة عن وجود فصل بين الاعتقادات والسياسة إلا أنها كانت عمليات بائسة، سرعان ما ارتدت وارتد أطرافها إلى نقطة الصفر عند توزيع الكعكة العراقية.

إن فكرة شرعية السياسة والسلطة تقوم على قبول أغلبية المجتمع لهما، ومن رحم أفكار المجتمع تولد الأفكار السياسية التي يمكن أن تكون مشروعة للتداول. وهنا يلحظ أن الفرد ضعيف، لكنه لا يحاسب ما لم يكن حراً، ولديه موارد وسلطة التصرف بها. ومن ثم إذا ظهرت أفكار شمولية في مجتمع فإن الخلل ليس في السياسة بقدر ما هو في المجتمع الذي سمح بظهور تلك الأفكار وأعطاها مشروعية ما.

إن أشكال التنظيم، الذي يأخذ شرعية ما، قد تكون ظاهرة في شكل تيارات غير منتظمة أو في شكل حزب أو قوة سياسية، سواء كانت على شكل علماني أو حاولت الربط مع الملتزمين باعتقادات دينية، وسواء عملت في إطار الشارع أو إطار الحكومة، فهي متقاربة بالفكرة العامة رغم اختلافها بعدد ونوع المكونات الداخلة في التنظيم. ونطرح هنا ما نستطيع تسميته المسؤولية المشتركة على أعضاء الحزب أو القوة السياسية، أو الملتزمين باعتقاد أو المنضوين تحت لواء حكومة ما، في قبول إدارة المصالح بسبب ما حملوه من شرعية، لكن هل أعطينا أولوية للمسؤولية الفردية في إعطاء شرعية لفكرة أو أفكار غير قادرة على تحمل مسؤولية السلطة؟ هل ظهرت فكرة المحاسبة، الذاتية أو العامة؟ وهل فعلت فكرة الرقابة لبيان مدى كفاية أفكار وسلوكيات تلك التنظيمات مع مصالح المجتمع وبشكل يوازي ما منح لها من شرعية؟

وقبل ذلك لنسأل على عجالة هل يهتم الرأي العام والشارع العراقي بالسلطة؟ إن الفرد العراقي لم يصبح بعد قائد أو محور التطور الاجتماعي، فهو لا يزال مغلوباً على أمره، يكبحه رجل الدين والسيد ورئيس القبيلة والشيخ والأب. وتستخدم البنى التنظيمية الحديثة من أحزاب ونقابات تلك الهرميات التقليدية التي تسحق الفرد لمصلحة الزعيم أكثر مما تساعد الفرد على تطوير شخصيته وصوته الخاص المميز. ودليلنا هو أن الرأي العام متحرك، فهو يوالي الحزب (أ) اليوم ليتحول عنه غداً نحو الحزب (ب)، أما الولاءات في العراق فشأن مختلف تحرف معه اتجاهات الرأي العام، إذ يغلب عليها، في العموم، الثبات والجمود، ذلك أن الغالبية تغلب عليها الآراء الطائفية أو القومية، وكلاهما بات عاملاً شبه ثابت. وإذا كان الحدث هو ما يغير الرأي العام في البلدان المتحضرة، فالمطلوب لتغيير الرأي العام في العراق حصول ملحمة أو معجزة. وقد يؤيد المواطن في البلدان المتحضرة الحزب (أ)، في موقفه من الموضوع (س)، فيما يكون أقرب إلى الحزب (ب) في موقفه من موضوع (ص)، لكن ذلك بدوره مستبعد في الرأي العام العراقي الذي يوالي تبعاً لمقدمات أيديولوجية كاملة. كما أنه من النادر أن يغير رأيه تبعاً لاعتبارات تبقى في آخر المطاف، عادية وعابرة، إن لم تعتبر تافهة وسطحية في نظره من قبيل البرامج السياسية، ولهذا نرى المجتمع يعيد إنتاج الوجوه نفسها رغم أنه جربها مرتين في عام 2005، ومرة أخرى في عام 2009 ومرة رابعة عام 2010.

وتمارس وسائل التنشئة اليوم تأثيراً على الرأي العام العراقي إلا أن هذا لا يندرج إلا في إعادة إنتاج القناعات العريضة القائمة أساساً وفي تعزيزها، أما الطعن بها و الخروج عليها، فلا يجلبان على صاحبهما غير تهمة التخوين، وأحياناً وصمة التكفير. والقناعات الجاهزة والصلبة هذه أمتن من أن يطمح التغيير إلى تحديها والمساس بها. فالحزب، مثلاً، لا يكفي أن يعيد النظر ببعض طرحه أو سلوكه لكي يرتفع قبوله لدى الرأي العام خارج دائرة قاعدته الفئوية مذهبياً أو قومياً، لأن المطلوب منه، من أجل أن يكتسب درجة أعلى من التأثير، أن يتغير كلياً أو جذرياً، وعندها ينفي نفسه بنفسه فيستحيل أن يكون بعد ذلك، مؤثراً لأنه يكون قد خسر قاعدته. وهنا تكمن الإشارة إلى عنصر ربما جاز وصفه بالثقافي بالمعنى العريض للكلمة، فمفهوم الرأي العام ينطوي ضمناً على مقايضة بين الفكرة والقبول العام، بما يحدث بعض التكيف في تقديم الفكرة وتغليفها أملاً برفع درجة مقبوليتها. ومن هذا الباب دخل الإعلان والتسويق حلبة العمل الحزبي، وبيع البرامج والسياسات للجمهور في إطار ما يرغبونه، إلا أن مقايضة كهذه تبقى شديدة الاستبعاد في ظل ثقافة تقرب الأفكار من المقدس.

وما تقدم ولّد مسألة من المهم دراستها في العراق، مفادها أنه نادراً ما يكون الرأي العام فاعلاً في القرار السياسي وصناعته بسبب الطابع المغلق والاستبدادي للسلطة، أي سلطة وبضمنها سلطة الأحزاب، وأغلبها شمولي كما ذكرنا. فالسلطة السياسية، في الغالب، لا تعبر عن إرادات المواطنين، كما أن الحيز السياسي الذي تتربع في قمته مفصول عن الجوانب الاقتصادية والتعليمية، بحيث إن ما يحصل في الحيز الاجتماعي لا ينعكس بالضرورة على الجهة السياسية ومجرياتها؛ ويظهر ذلك في سلسلة من التوترات التي لا تزال منخفضة الأثر. وإذا ما تذكرنا سطحية عدد كبير من السياسيين العراقيين في تعاملهم مع الشأن السياسي الوطني، فهمنا كيف أن التشهير الشخصي هو وحده ما قد يمكن أن يترك عليهم تأثيراً، في حين أن البعض الآخر لا يفهم غير لغة القوة.

ومما تقدم نقول إنه لا ريب في كون أوضح شكل لمساهمة الاعتقادات الدينية في السياسة هو الأحزاب التي تؤطر اسمها باسم الدين. والملاحظة العامة أنه يصعب القول بوجود تلك المساهمة في جانب واحد من المجتمع، ومع ذلك يلاحظ بصورة عامة أنه عندما يرى تيار أو اعتقاد ديني أن على عاتقه نشر أو حفظ تعاليم أو طقوس محددة، فإذا ما كان مرتبطاً بالسلطة، فإنه يأخذ اهتماماً واضحاً بالسياسة، أما إذا لم يكن الحزب ذو الاعتقادات الدينية مرتبطاً بالسلطة أو لا يريد هو ذلك، كما في أغلب التنظيمات الجهادية، فهو مشروع مقاومة تهتم بالأفراد أكثر من اهتمامها بالسياسة. إلا أن ما ميز الحالة العراقية هو أن البعض أوصل الاعتقاد إلى مرتبة الشخصية القومية المغلقة، والبعض الآخر بات يتحدث عن خطر يهدد اعتقاد ما بغية المزايدة على الدين لأغراض التجارة السياسية. وقد بدأ ذلك بالظهور منذ بداية تسعينات القرن الماضي، وأظهر في العراق شكلاً صارخاً بعد عام 2003، حيث أصبح الاعتقاد الديني هو الأساس في تشكيل أغلب الأحزاب السياسية التي يريد أصحابها الديمومة في العمل السياسي، وأعطيت هوية لقيم وأفكار سياسية محددة، وتقلص الشعور الوطني، كرهاً، طالما أنه بات غير مجد الدفاع عنه لدى شرائح واسعة من المواطنين. وظل الهدف المرسوم للنشاط السياسي هو نيل سلطة، كمرحلة أولى نحو تكوين نظام سياسي-اقتصادي-اجتماعي يدين بولاء لمن يحمل ذلك الاعتقاد سواء على مستوى العراق ككل أو على مستوى أقاليم ومدن محددة، ثم بدأت حمامات الدم عام 2005 عندما أريد تحريك اللعبة إلى مستوى إعادة رسم خرائط مذهبية وقومية وولاءات لاعتقادات دينية، اختلف في تقديراتها، ناجمة عن تقديرات وحسابات قوى وأحزاب تطرح شعارات إسلامية لما يمكن أن يكون عليه العراق.

رؤى مستقبلية لمكانة الأحزاب الإسلامية في العراق

الملاحظ أن الأحزاب الإسلامية الموجودة اليوم على ساحة العمل السياسي العراقي مختلفة في العناصر الآتية: فاعليتها، وانتشارها باختلاف المدن والمناطق، وباختلاف الأفراد الذين يدينون لها بولاء، وببرامج عملها ومواقفها إزاء المعضلات والقضايا العراقية، ومختلفة بدرجة براغماتيتها ودرجة المحافظية وولائها إلى دول الجوار منه إلى وطنيتها، وإلى القول بعروبة أرض العراق.

وإذا ما ابتعدنا عن وصف أخلاقية تلك الاعتقادات، فهي محترمة من قبلنا بوصفها أفكاراً إنسانية لفكرة جدوى الخلق في الأرض، نابعة من تجربة تاريخية واجتماعية، ولها مصالحها، فـنحن نتحدث عن أحزاب لها قاعدة تمثيل كلية تقدر بنحو ثلثي الشعب العراقي، ويشير إلى ذلك نسب تمثيلها في مجلس النواب. ورصد كافة تلك القوى والأحزاب يبين وجود تباين شاسع بينها في العناصر أعلاه، رغم وجود اتجاه نحو تبني الفكر المحافظ بغية تثبيت مكتسبات المرحلة، ووضع صفة التقديس على تلك المكتسبات ليشعر المواطن إزاءها برهبة، وسيكون المحك بينها الآتي: الابتعاد عن تصريف السياسة بشكل مباشر، والتوجه إلى الأفراد الفقراء مادياً، وأخيراً، ضمان قدسية المكتسبات وحرمة التعرض لها. وهذه المقتربات هي ذاتها التي ستشوه مزيداً من سمعة الأحزاب التي تدين باعتقادات دينية، أو ربما تشوه العقائد ذاتها كنتيجة فرعية.

واليوم العراق على مفترق طرق، فالأسباب الموجبة لتكوين أحزاب تدين باعتقادات دينية تؤثر في إمكانات انتصار الفكرة الوطنية، أو حتى الفكرة الإسلامية، فإذا ما استمر انتشار تلك الأحزاب، وبذات القوة الحالية، فإنها ظاهرة تعكس وجود تكريس بانقسام المجتمع والشعب العراقيين مذهبياً، في حين أن الفكرة الوطنية تجمع الأفراد حولها بغض النظر عن اللون المذهبي للفرد.

وإذا ما نظرنا إلى خريطة الأحزاب العاملة سنجدها تتوزع إلى أحزاب قائمة على فكرة الطائفية، وأحزاب علمانية، وأحزاب قومية. وعلى خلاف أغلب الدول، فإن الأحزاب التي تدين باعتقادات دينية لعبت أدواراً حاسمة في الإخلال بالتوازن بين القوى السياسية المختلفة، فهي قامت على أساس التفريق بين الأسس الاجتماعية للأفراد، مما جعلها غير صالحة لاستيعاب جميع الأفراد، والأكثر خطورة هو أن ميزان العدالة لديها مختل، فهي لا تدعي تمثيل جميع الأفراد، ولا تعتبر من الناحية العملية أن كافة الأفراد هم مواطنون، وهذا ما لاحظناه خلال المدة (2005-2010) حيث أسيء توجيه الخدمات وتوزيع الموارد، وإتاحة الفرص؛ رغم أنها تحملت مسؤولية إدارة دولة، بل إنه جرى نوع من التمييز حتى داخل أتباع المذهب الواحد، ولأسباب جلها تتعلق بالرغبة في الاستفراد بسلطة. وهذا الأمر خلاف التيارات العلمانية التي تتقبل الأفراد على أساس الإيمان بأفكار سياسية، مهما كان لون انتمائهم المذهبي أو القومي، ومن ثم فإن التيار العلماني قابل لأن يستوعب، بينما التيارات والاعتقادات أو الأحزاب التي تدين باعتقادات دينية ولدت مزيداً من التخندق، وأيضاً مزيداً من الشرخ في البناء الاجتماعي للمجتمع العراقي.

ولا ريب في أنه من الأمور المهمة التعرف إلى مدى تأثير المعتقدات الدينية في الحياة السياسية، وأيضاً التعرف إلى الروابط بين الأحزاب التي تدين باعتقادات دينية والسياسة من جهة أخرى، غير أن ذلك بحاجة إلى تمحيص، فتصويت الأفراد قد تأثر بالمعتقدات الدينية، ونجحت الأحزاب في طرح الاعتقادات كبرامج خلال الدورات الانتخابية السابقة (رغم أنه ليس صائباً من الناحية السياسية). بمعنى آخر إن جموع الأفراد مهيأة نفسياً واجتماعياً لتقبل فكرة ما يحكمها، والأخطر أنها تنشأ، عموماً، على ثقافة الاستبداد، مما جعلها تتقبل الحكم الأبوي-الأوتوقراطي، وسيادة نزعة الاستبداد. لكننا كأكاديميين ينبغي علينا ألا نطلق تعاميم عن العلاقة القائمة بين أحزاب تدين باعتقادات دينية والسياسة، فالمسألة نسبية، وما قد يبدو طبيعياً منها في حالة حزب ما قد لا ينطبق على حزب آخر مغاير له. كما أن ما يحكم الدور السياسي للأحزاب التي تدين باعتقادات دينية معتمد على الظروف التاريخية، وإذا صح التحدث عن حزب ذي اعتقاد ديني، أي اعتقاد، باعتبار أن له حزمة متكاملة من السياسات، إلا أن الأفراد والقيم التي يتمسكون بها قد تختلف، وربما تختلف معها أخلاقيات السياسة ذاتها. والأمر لا يتوقف على تلك العلاقة أو حجم ما يحمله الحزب الديني من أجندات وتقاطعات مع غيره، إنما هناك جملة عوامل تجعل الأحزاب التي تدين باعتقادات دينية مؤثرة بشكل متباين فيما بينها في الحياة السياسية، منها: عدد الاعتقادات الدينية الموجودة في المجتمع، طريقة التكيف الاجتماعي بين الفئويات الموجودة، العلاقات بين تلك الأحزاب، مركز الحزب في المجتمع السياسي مقارنة بنظرائه (الأقلية والأكثرية)، وإلى أي مدى سيستمر النظام الانتخابي والحزبي يسمح للأحزاب التي تدين باعتقادات دينية بالعمل في الساحة السياسية؟ وكل من هذه المتغيرات تشكل مجتمعة منظوراً لما يمكن أن يستقر عليه المشهد السياسي العراقي خلال السنوات المقبلة.

مجلة آراء حول الخليج