في العام 2016 م، أجازت الحكومة السودانية الخطة الوطنية للاستثمار الزراعي 2016 _2020م، والتي قررت تخصيص 10% من الميزانية العامة للدولة للنهوض بالقطاع الزراعي، وذلك بهدف تحقيق نسبة نمو سنوية تقدر بـ 6%، وفقًا لبرنامج الشراكة الجديدة للتنمية في إفريقيا (نيباد) والذي قررته قمة رؤساء الدول الإفريقية المنعقدة في مابوتو 2003 م. تلك الخطة الطموحة كانت إطارًا للإدارة المستدامة للأراضي والمياه لزيادة المساحة المزروعة ونظم الري المستدام، كما أنها تمثل دعامة للأمن الغذائي وتحسين الوصول للأسواق عبر الاستثمار في البنية التحتية، بجانب توطين التقانة وتقوية البحوث الزراعية . وبلغت الميزانية المقدرة للخطة حوالي 6 مليارات دولار.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقدر الجهات المعنية بأمر الزراعة في السودان حاجتها لمثل هذا المبلغ لإحداث نقلة نوعية كبيرة في هذا القطاع الحيوي المهم الذي يشكل مصدرًا لسبل كسب العيش لأكثر من 65% من سكان السودان البالغ عددهم 45 مليون نسمة. ففي منتصف السبعينيات من القرن الماضي حظي السودان بتعاطف كبير من الدول العربية التي كانت تنظر للسودان على أنه سلة الغذاء للعالم العربي بما يمتلكه من موارد زراعية ومائية هائلة، وهو الأمر الذي جعل القمة العربية المنعقدة في الأردن عام 1975 م، تتبنى إنشاء الهيئة العربية للاستثمار الزراعي، والمنظمة العربية للتنمية الزراعية ليكون مقرهما في الخرطوم، وفي تلك السنوات تم تأسيس شركة سكر كنانة كشراكة بين السودان، المملكة العربية السعودية والكويت، وتولى الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وضع البرنامج الأساسي لتطوير القطاع الزراعي في السودان في الفترة من 1976_2000م، وقدر حجم الاستثمارات الكلية للبرنامج بمبلغ 6 مليارات دولار .
نتناول في هذا المقال الدواعي التي أدت لإطلاق اسم سلة غذاء العالم على السودان، ونقف على الجهود التي بذلت لتحقيق ذلك الهدف الكبير، كما نناقش الأسباب التي حالت دون تحقيقه ثم نقف على الفرص المتاحة لاستدراك ما فات وكيفية تحويل الفشل إلى قصة للنجاح من أجل المستقبل المأمول.
من المؤمل أن يكتسب السودان أهمية استثنائية في ملف توفير الأمن الغذائي من واقع إمكاناته الزراعية والمائية، إذ تبلغ المساحة الصالحة للزراعة فيه حوالي183 مليون فدان ( حولي 80 مليون هكتار ) ، كما أنه يحظى بكميات كبيرة من التساقط السنوي من الأمطار تقدر بحوالي ألف مليار متر مكعب، أما موارد المياه السطحية التي تتمثل في نهر النيل وروافده وخزانات المياه الجوفية فإنها تغطي حوالي نصف مساحة البلاد البالغة ( 1 865 813 كيلومترًا مربعًا ) وبهذه الأرقام فإن السودان بإمكانه أن يساهم بشكل حاسم في الأمن الغذائي العالمي الذي يعرفه البنك الدولي بأنه ( حصول كل الناس في كل الأوقات على غذاء كاف لحياة نشطة وسليمة وعناصره الجوهرية هي وفرة الغذاء والقدرة على تحصيله) أو بمعنى آخر هو إنتاج غذاء أفضل وكاف للأجيال القادمة بغرض تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي حددتها الأمم المتحدة وخاصة الهدف رقم 2 والذي يسعى لخلق عالم خال من الجوع بحلول 2030 م، وتشير منظمة الزراعة والأغذية (الفاو ) إلى أن 713 إلى 757 مليون شخص قد عانى من الجوع في عام 2023م، ( وهوما يعادل واحد من بين كل11 شخص حول العالم )، وتأتي قارة إفريقيا على رأس أكبر المتضررين ، أما في العالم العربي فتشير الإحصاءات إلى أن ما يقدر بنحو 54 مليون شخص عانوا من انعدام الغذاء الشديد في عام 2021م، وأن ما يقدر بنصف سكان العالم العربي ( حوالي 163 مليون شخص ) لم يستطيعوا تحمل كلفة نمط غذائي صحي في العام نفسه .
إزاء هذه الأرقام الدولية والعربية المخيفة حول مستقبل الأمن الغذائي تتجه الأنظار نحو الدول التي تمتلك الإمكانات التي تؤهلها لسد هذا النقص، ويأتي السودان ضمن قائمة الدول التي يمكنها معالجة ذلك الأمر إن توفرت الشروط اللازمة لذلك.
الموارد الزراعية:
يتمتع السودان بإمكانات زراعية ومائية كبيرة، حيث يمتلك حوالي 183 مليون فدان صالحة للزراعة تمثل حوالي 40 % من مساحة البلاد، ولكن في الغالب الأعم يتم استخدام حوالي 40 مليون فدان فقط، وتتنوع الزراعة في السودان إلى أنماط متعددة من حيث الري أو أسلوب الإنتاج، ويمكن تصنيفها إلي:
- الزراعة المطرية
وتشمل الزراعة المطرية الآلية والتقليدية حيث تبلغ حوالي 90 % من المساحة المزروعة، وتعتمد على الأمطار بشكل رئيسي، وتتركز في ولايات دارفور غربي السودان، وجنوب كردفان، جبال النوبة، القضارف، النيل الأزرق، سنار وكسلا شرقي السودان. وينتج هذا النوع من الزراعة الذرة الرفيعة التي تشكل الغذاء الرئيسي لأغلبية السكان بجانب السمسم والصمغ العربي والدخن وزهرة الشمس وغيرها من الموالح والخضروات.
_ الزراعة المروية:
تبلغ مساحتها الحالية أربعة ونصف مليون فدان وتتركز في مشروع الجزيرة وسط السودان بمساحة أكثر من 2 مليون فدان، ثم مشروع الرهد الزراعي (300 ألف) فدان، ومشاريع القاش ودلتا طوكر شرقي السودان بمساحة 750 ألف فدان، وتركز هذه المشاريع على إنتاج القمح والقطن والذرة والفول السوداني وقصب السكر.
الموارد المائية:
يمتلك السودان حوالي مليون هكتار من المياه السطحية ويشكل نهر النيل وروافده من النيل الأزرق الذي ينحدر من المرتفعات الأثيوبية، والنيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فكتوريا العماد الرئيسي لتلك الموارد المائية، ويعتمد السودان على نسبة 73 % من المياه العذبة عليه، وبموجب اتفاقية العام 1959م، تبلغ الحصة المقررة للسودان حوالي 19 مليار متر مكعب من العائد السنوي البالغ 80 مليار متر مكعب. كما يمتلك السودان مصادر للمياه السطحية الموسمية التي يبلغ إيرادها السنوي أكثر من 8 مليارات متر مكعب.
وفي موسم الخريف الذي يمتد من يوليو إلى أكتوبر تتساقط الأمطار على البلاد بمعدل يتراوح من صفر في أقصى شمال السودان على الحدود مع مصر حيث يسود المناخ الصحراوي إلى 800 ملم في أواسط وجنوب البلاد حيث يسود مناخ السافنا، ويشهد الجزء الشرقي من البلاد أمطارًا خلال فترة الشتاء حيث يسود مناخ البحر الأحمر (حار جاف صيفًا دافئ ممطر شتاءً).
وواحدة من المصادر المائية المهمة هي الخزانات الجوفية التي يمثل الحوض النوبي أهمها حيث يغطي أكثر من نصف البلاد، وتقدر مساحته الكلية بأكثر من 2 مليون كيلومتر مربع، ومياهه بنحو 373 ألف كيلو متر مكعب، هذا بجانب سلسلة منطقة أم روابة في غرب السودان والتي تقدر مياهها الجوفية بنحو 9 مليارات متر مكعب.
أما على صعيد السدود فهناك عدد من السدود التي تستخدم لحجز المياه لأغراض الزراعة والتوليد المائي للكهرباء، وأهم هذه السدود سد مروي وسد الروصيرص وخشم القربة وأعالي عطبرة وسيتيت.
الثروة الحيوانية والسمكية:
يتوافر لدى السودان ثروة حيوانية تقدر بحوالي 135 مليون رأسًا من الأنعام، ونحو 160 مليون طن من المخزون السمكي.
الغابات:
تغطي الغابات حوالي 120 مليون فدان، بينما تبلغ المراعي الطبيعية 170 مليون.
والسؤال هنا وبعد كل هذه الأرقام لماذا لم يتم استثمار هذه الموارد بالشكل الذي يجعل السودان دولة منتجة للغذاء ومساهمة في حل مشكلة الأمن الغذائي، بل لماذا يعاني السودان اليوم من الجوع؟
تتداخل أسباب عامة تتعلق بالسياق السياسي في البلاد وأخرى خاصة بالقطاع الزراعي تلخص تراجع مساهمة البلاد في الإنتاج الزراعي، وفيما يتعلق بالأسباب العامة نجد أن تذبذب السياسات الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي له بالغ الأثر في عدم تطوير هذا القطاع، هذا بجانب الحروب المستمرة في أجزاء واسعة من البلاد سابقًا، قبل أن تأتي الحرب الحالية التي شملت غالب الولايات المنتجة وأدت إلى تعطيل الزراعة فيها منذ الموسم الماضي 2023م، ولم يسلم السودان من الظروف المناخية التي ضربت المنطقة كلها خلال السنوات الماضية حيث تعرض لأكثر من موجة جفاف ومجاعة، أو سيول وفيضانات ،وعلى الرغم من أن السودان عضو في منطقة الكوميسا ( السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا ) والتي يبلغ عدد سكانها 350 مليون نسمة، وعضو كذلك في منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى والتي يبلغ سكانها حوالي 300 مليون نسمة ، إلا أن الواقع يقول أن مشكلة الوصول للأسواق وضمان سياسات تسويقية مستقرة ساهم في تراجع الإنتاج الزراعي في البلاد .
وبالعودة لعدم ثبات واستقرار السياسات العامة تجاه القطاع الزراعي نجد أن نمو توزيع إجمالي الناتج الإجمالي فيما يتعلق بالزراعة آخذ في التراجع، فبينما كانت الحصة في عام 1956 م، وهو تاريخ استقلال السودان في حدود 62% تدحرجت إلى 46 % خلال الستينيات والسبعينيات، أما في الثمانينيات والتسعينيات فقد نزلت إلى 37% فقط، ومما زاد الطين بلة أن هذا التراجع في مساهمة القطاع الزراعي في نمو الناتج المحلي لم يشهد تطورًا في القطاع الصناعي ليسد تلك الثغرة، إذ لم يتجاوز أداء القطاعين معًا 55 % في أحسن الأحوال.
ولا شك أن التأثر السلبي الواضح للقطاع الزراعي بدأ بعد منتصف السبعينيات وتحديدًا العام 1978م، وهو العام الذي بدأ فيه السودان مشواره الطويل مع المؤسسات الاقتصادية الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين)، وبالنسبة للدكتور عبد الوهاب عثمان وزير المالية الأسبق فإن (هذه الفترة من أحرج الفترات في تاريخ الاقتصاد الوطني. فقد بدأت الفترة وقد سرى اختلال التوازن في كل مفاصل الاقتصاد الكلي، ووصل العجز في الحساب الخارجي لأعلى مستوى حتى ذلك التاريخ). وهي الفترة التي بدأت فيها الدولة في اتباع سياسات إنتاجية خاطئة بناء على نصيحة صندوق النقد الدولي، وذلك بالتركيز على القطاع المروي الذي لا يتجاوز 9% من المساحة المزروعة، والتركيز كذلك على محاصيل الصادر التي تهتم بالمصلحة الخاصة وتحقيق الأرباح العاجلة على حساب الأمن الغذائي للسكان الذين يعتمدون على الزراعة التقليدية التي تنتج المحاصيل الغذائية كالذرة الرفيعة والدخن.
وللدلالة على أن نصائح الصندوق الدولي قد ساهمت في تدني الإنتاج الزراعي وتراجع مؤشرات الاقتصاد الكلي يرى أستاذ الاقتصاد بالجامعات السودانية دكتور علي عبد القادر علي في كتابه (من التبعية إلى التبعية) أن المشاكل الحقيقة للاقتصاد زادت بمتوالية كبيرة منذ بداية التعاون مع الصندوق في العام 1978م، حيث كان الناتج المحلي الإجمالي في الفترة من 1970 _1978 حقق نموًا بمتوسط 6،6 بينما انخفض معدل النمو سالبًا للفترة 1978-1983__م. وارتفع حجم الديون الخارجية من حوالي 396 مليون دولار عام 1973 إلى 9 مليارات دولار عام 1985 بخلاف أعباء خدمات الديون كنسبة من الصادرات والتي ارتفعت من حوالي %14عام 1972 إلى 102%عام 1985م .وفي الفترة التي طبق فيها هذا البرنامج انخفضت كميات الصادرات من القطن طويل التيلة من متوسط سنوي يبلغ 649 ألف بالة إلى متوسط سنوي يبلغ 395 ألف بالة فقط في العام 1982 .
خلال عقد التسعينيات حقق السودان معجزة اقتصادية بكل المقاييس، إذ بدأ ذلك العقد باتخاذ إجراءات تحرير الاقتصاد بهدف تحريك الجمود وإزالة التشوهات الهيكلية التي استمرت منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، وخفض معدل التضخم لرقم واحد بعد أن بلغ 121% في العام 1991م، وشملت تلك الإجراءات إصلاح السياسة المالية بتوحيد سعر صرف العملة وفرض رسوم مؤقتة على القطن والسمسم واللحوم الحية بهدف امتصاص الأرباح غير المتوقعة للمصدرين نتيجة لتعديل سعر الصرف. وكان من آثار هذه السياسات الجديدة أن ارتفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في العام 1992م، إلى 7% كما ارتفع نمو الإنتاج الزراعي إلى حوالي25 % ، ولا شك أن هناك عوامل أخرى ساهمت في هذه التطورات الإيجابية ومن أهمها توفر المدخلات الزراعية وقطع الغيار بجانب توفير التمويل اللازم للزراعة ، فقد تم رفع حصة التمويل من 2% إلى 50 % من التمويل المتاح للمصارف، وفي هذه الفترة أعادت الدولة اهتمامها بالمحاصيل الغذائية لتحقيق الأمن الغذائي، وهوما يؤكده وزير المالية الأسبق دكتور عبدالوهاب عثمان ( وبينما تمت زيادة المساحة المخصصة للمحاصيل الغذائية في المشاريع المروية على حساب القطن فقد حدث التوسع الكبير في الزراعة المطرية أفقيًا بإدخال مساحات جديدة في الزراعة الآلية والتقليدية المطرية ) . هذه المعجزة في الأداء الاقتصادي لم تدم طويلًا ( والسبب في ذلك يعزى إلى قصور البرنامج عن وضع معالجة شاملة ومتكاملة لكل أسباب التدهور الاقتصادي والخلل في التوازن بين العرض والطلب ) هذا التراجع الذي يعترف به الدكتور عبدالوهاب عثمان كانت له آثار سلبية على أداء القطاع الزراعي على المستوى البعيد ، والمفارقة العجيبة في ذلك هي أن السودان بدأ في تصدير النفط نهاية التسعينيات بكميات تجارية معقولة، وكان من المتوقع أن ينهض القطاع الزراعي بتوظيف عائدات النفط، ولكن وبالنظر إلى حقائق الأرقام نجد أن أداء القطاع الزراعي تراجع تراجعًا مخيفًا عما كان عليه قبل تصدير النفط حيث نجد أن حصة القطاع من القيمة المضافة في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة التسعينيات بلغ متوسطها 43% بينما تراجعت في عشرية تصدير النفط (من 2000 إلى 2010 م) إلى 32%، ونزلت إلى 28% في العقد الذي تلا ذلك التاريخ. على أن المفارقة الأكبر تتجلى في مساهمة القطاع الزراعي في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، فقد ساهم القطاع بنسبة 80% في العشر سنوات التي سبقت تصدير النفط، بينما كانت مساهمة القطاع خلال عشرية النفط 7% !!!!
وفيما يتعلق بالمساهمة في الصادرات نجد أن الزراعة وعلى الرغم مما شهدته من مشاكل متنوعة إلا أنها ظلت المصدر الرئيس للصادرات السودانية وبالتالي في توفير العملة الصعبة، فخلال الثلاثين سنة الماضية كانت حصتها من الصادرات بمتوسط 78% باستثناء سنوات النفط التي انخفضت إلى 11% فقط.
وواحدة من المشاكل الرئيسة التي عانى منها القطاع الزراعي هي ضعف الإنتاجية نتيجة لعدم المقدرة على الحصول على مدخلات الإنتاج وضعف استخدام التكنولوجيا بجانب تخلف البنية التحتية من طرق ووسائل ري حديثة، وعلى سبيل المقارنة نجد أن إنتاجية الفدان من المحاصيل المختلفة زادت في مصر خلال الفترة (من 2000 إلى 2019 م) بنسبة 80%، وفي جنوب إفريقيا بنسبة % 190 مقارنة بزيادة قدرها 19% فقط في السودان. فمثلا السمسم كواحدة من سلع الصادر كانت إنتاجيته للفدان الواحد خلال العشرية التي سبقت النفط في حدود 148 كيلوجرام /فدان بينما تدحرجت إلى 61 كيلوجرام/فدان خلال سنوات النفط. وعلى الرغم من أن السودان عضو فاعل في مبادرة الشراكة الشاملة للتنمية في إفريقيا (والتي قررت تخصيص نسبة 10% من الميزانية لدعم الزراعة) وتم وضع الخطط اللازمة لتحويلها لبرنامج عمل إلا أن وثائق وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي تؤكد أن جملة الإنفاق على القطاع الزراعي خلال الفترة من 1991 إلى2021 م، لم يتجاوز3 %.
تظهر الأرقام التي استعرضناها أن الرؤية الكلية تجاه القطاع الزراعي على أهميته الفائقة فيها كثير من التذبذب وغياب الإرادة الفاعلة لتحويل إمكانات السودان إلى عامل قوة ينقل البلد من العوز إلى الكفاية ومن الضعف إلى القوة ، ولا يبدو أن البلاد تنقصها الخطط الطموحة لإنجاز تلك الأهداف ، فقد تم وضع البرنامج الخماسي للإصلاح الاقتصادي 2015_2019م ( بعد انفصال جنوب السودان وفقدان 75% من موارد النقد الأجنبي) واستهدف ذلك البرنامج معالجة المشاكل الجوهرية التي أدت لتراجع الزراعة وذلك بتطوير البنية التحتية وإدخال نظم حديثة للري بجانب تطوير النظام التقليدي وتوسيع مناطق القطن مع توسيع الائتمان وميكنة الزراعة واستخدام البذور المحسنة وتعهد الحكومة بتوفير أسعار عادلة للمزارعين . وبعد عام واحد عززت الحكومة ذلك البرنامج بوضع الخطة الوطنية للاستثمار الزراعي في السودان 2016_2020م، والتي جاءت لتؤكد التزام الحكومة بتخصيص نسبة الـ 10% من الميزانية العامة التي قررها الرؤساء الأفارقة، وذلك لتحقيق نمو سنوي يستهدف 6% في القيمة المضافة للزراعة. وأكدت هذه الخطة على أهداف الخطط السابقة ولكنها أضافت إنشاء جامعات متخصصة وتقوية البحث العلمي مع توسيع الشراكات مع الدول الصديقة والتوسع في مجال التصنيع الزراعي.
لقد اضافت الحرب الحالية التي تجري في البلاد (قبل أكثر من عام ) تحديات جديدة لخطط التنمية الزراعية لأنها عطلت الإنتاج في أكثر ولايات البلاد مساحة للزراعة ( دارفور ، الجزيرة، كردفان وسنار ) كما أدى نزوح الملايين من الشباب ولجوئهم إلى دول أخرى إلى فقدان القاعدة الاجتماعية التي من المفترض أن تتولى عملية الإنتاج ؛ ولذلك فإن استعادة السودان لريادته على المستوى الزراعي تتطلب أولًا تحقيق السلام الشامل في البلاد بأسرع وقت ممكن حتي يتمكن المزارعون من العودة إلى مشاريعهم الزراعية وينتشر الأمن والسلام في ربوع الحقول والمزارع، كما أن الحكومة محتاجة لإعادة التزامها بدعم القطاع الزراعي وفقًا للخطط المجازة من ذي قبل وإعطاء الأولوية القصوى لهذا القطاع الذي يشكل بقطاعيه النباتي والحيواني مصدرًا لسبل كسب العيش لأكثر من 70% من المواطنين، وإذا توفرت الإرادة السياسية للاستفادة من الموارد الهائلة التي استعرضناها في هذا المقال فإن استعادة الزراعة لدورها الريادي لن يطول كثيرًا، وأن شبح المجاعة لن يكون له مكان في سماء السودان وأرضه الواعدة .