عندما بلغ التطور الأوروبي مرحلته التاريخية الأكثر نضجا والمتمثلة بإيجاد نوع من التعاون بين شعوبه وأممه المتناحرة عبر التاريخ، جرى تحديد أسس التعاون بما يتوافق مع طريقة فهم تلك الشعوب لحتمية التطور الآني والمستقبلي الذي سيثبّت مصيرهم ضمن واقعهم الجغرافي - السياسي المستجد.
وبعد التوافق على المفاهيم العريضة التي تحكم أداء هذا الكيان في كافة القطاعات، تم التوافق أيضا على إيلاء أهمية استثنائية وقصوى للبحوث والعلوم المعرفية بشكل عام ، نظرا لأهميتها في رفد هذه المرحلة التاريخية الحساسة، وبالتالي تحصينها من مخاطر الانزلاق إلى غياهب التخلف والجهل. كان المطلوب تحقيق دفعة قوية إلى الأمام وليس إلى الخلف، ولذلك برزت أهمية وجود مراكز البحوث كأحد أهم دعائم التطور المطلوب تحقيقه في كافة المجالات.
ومما لا شك فيه أن هناك فارق جوهري بين طريقة التفكير السائدة في المجتمعات المتطورة، وتلك المتبعة في بعض دول العالم العربي في ما يخص إبراز أهمية مراكز البحوث والدراسات والسعي لوضعها في أماكن متقدمة جدا. وقد تتباين نسبة الوعي حيال هذا الأمر بين دولة عربية وأخرى، إلا أنها تبقى في الإطار العام متراجعة بشكل كبير عما هي عليه في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وغيرها.
تعد مراكز البحوث أحد أهم دعائم التطور المطلوب تحقيقه في كافة المجالات
بعض المراكز العربية تسعى لفرض واقع جديد يُثبت أهليتها على الخارطة العلمية
المقياس على ذلك لا يتمثل في أعداد مراكز البحوث الموجودة في العالم العربي والتي قد تكون كبيرة، بل في الميزانيات المخصصة لها، والأهم، في نوعية العمل الذي تنتجه. وحتى الآن لا توجد في الواقع سوى إحصائيات ضبابية أو مشوشة عن حجم الدعم المالي الحكومي المقدم لمراكز الأبحاث في معظم أقطار العالم العربي، في حين أن هذا الأمر بات من المسلّمات في بعض المجتمعات الأخرى التي تعتبره مقياسا لتطورها الذي تفتخر به، وبالتالي جزءا أساسيا من الميزانيات العامة للحكومات الوطنية. خذ على سبيل المثال الإحصائيات المختلفة حول هذا الأمر والتي تبيّن بأن الولايات المتحدة كانت في مرحلة من المراحل تقدم حوالي 2,6% من ناتجها الاجمالي المحلي إلى الأبحاث وعمليات التطوير، بينما بلغت هذه النسبة 2,9% في اليابان، و1,9% في دول الاتحاد الأوروبي ( تم تسجيل هذه النسب قبل تحقيق عملية توسيع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فأنها ارتفعت الآن بشكل ملحوظ). أما ضمن إطار الاتحاد الأوروبي نفسه فتوجد فوارق معينة بين الدول الأعضاء، حيث نرى بعضها قد اقترب من نسبة 3% والبعض الآخر تخطّاها (مثل فنلندا)، في حين لا زالت دول أخرى تجاهد من أجل رفع النسبة.
هذا الأمر يبيّن بوضوح أن الدول الغربية تضع العلوم والأبحاث في مواقع متقدمة جدا، لإدراكها العميق بقدرتها على تحقيق تقدمها وتطورها بما يتناسب مع التحديات التي تفرضها المرحلة. وما دفعها إلى تحقيق ذلك هو الإنسجام القائم بين مجتمعاتها حول طريقة استيعابها للتحديات المذكورة، المعتمدة بالطبع على التاريخ المشترك، الثقافة المشتركة، والقيم الثابتة المتعارف عليها أو المسلّم بها من قبل تلك المجتمعات.
وفي الوقت الذي يبدو فيه هذا الأمر واضحا في ذلك القسم من العالم، لا يبدو كذلك في دولنا العربية التي لم تتعامل في قسمها الكبير بشكل جدي مع مسألة تخصيص الميزانيات المطلوبة لمراكز البحوث والدراسات.ويبدو بأن سبب ذلك يعود بالدرجة الأساسية لوجود عجز خطير في إدراك أهمية البحث العلمي لتحديد المسار المستقبلي للدولة والمجتمع، وبالتالي لوجود حالة من التقوقع الفكري المتحكّمة في تفاصيل أي تطور في أكثر من قطاع. وإن دل ذلك على شيء فأنه يدل بالتأكيد على انسحاب الثقافة الاستهلاكية التي تتميز بها المجتمعات العربية بشكل عام حتى على القطاع العلمي، بحيث باتت هذه المجتمعات تستسهل مسألة تلقي النتائج العلمية المحققة في مكان آخر بدلا من أن تعمل على المشاركة في صياغتها وصناعتها، وبالتالي فرض وجودها على خارطة الإبداع العلمي.
وبالرغم من أن المجتمعات العربية تتشابه كثيرا في ما يخص التاريخ والثقافة والقيم المشتركة، إلا أنها لم تتمكن حتى الآن من إيجاد القواسم المشتركة في ما يخص عمليات البحث والتطوير في الجوانب العلمية المختلفة، بل تراها تركّز على الجهود الفردية الهادفة للعب وظيفة وطنية محدودة الأفق تصب في غالب الأحيان لمصلحة بعض أجهزة الدولة، أو تشكل محاولة فاشلة لخلق فرص عمل جديدة لجيل من الشباب العاطل عن العمل.
لم تتمكن الدول العربية حتى الآن من تحقيق توازن بنّاء وخلاّق بين أقسامها المليئة بالقدرات والكفاءات التي لا يمكن تجاهلها، وبين الأقسام الأخرى التي تنعم بالمال الوفير والقدرات الهائلة لإنجاح الجانب الإداري واللوجستي من عمل مراكز الأبحاث. هذا الأمر أدى لخلق حالة من الانفصام في الشخصية العلمية العربية إن صح التعبير: فمن جهة نرى كفاءات حقيقية مشتّتة لا تجد من يدعمها ولا تعرف كيف تترجم إبداعها فترى في الهجرة متنفسا طبيعيا ومنطقيا يضمن لها القدرات والإمكانيات المتوفرة في العالم الغربي، فيستفيد الغرب من إبداعها وتضيع هويتها العربية.ومن جهة أخرى نرى مراكز بحوث "علمية" عربية تقوم بأعمال روتينية لا ترتقي إلى ما هو مطلوب على صعيد البحث العلمي الحقيقي، بل تهدف، كما ذكر سابقا، لتحقيق رغبات ضيقة الأفق للنظام الحاكم.
بالطبع قد يكون هناك بعض المراكز التي تسعى لفرض واقع جديد يُثبت أهليتها على الخارطة العلمية، لكنها تبقى محدودة من حيث القدرات والتنوع البحثي، فتراها تحصر جهودها في مجالات معيّنة لا شك أنها ضرورية، في حين نرى المجالات الأخرى غائبة كليا. خذ على سبيل المثال لا الحصر الطبيعةالمتنوعةلمراكز الأبحاث الموجودة حتى في دول أوروبية صغيرة، والتي تتوزع بين تلك التي تهتم بدراسة نوعية الحياة، القدرة التنافسية للبضائع المنتجة محليا، الطاقة المخصصة للاقتصاد والمجتمع بشكل عام، المجتمع المعلوماتي، التحول الاجتماعي، البحوث التاريخية، السياسية، الإعلامية، الثقافية، التراثية، أضف إلى ذلك مجموعة التخصصات المختلفة التي يجب أن تكون جزءا من مراكز أبحاث قد تستفيد منها الدولة بشكل أو بآخر، مثل مراكز الأبحاث التي قد تكون رديفة لعمل وزارات التجارة والاقتصاد، التربية، الموارد المائية والكهربائية، الشئون الداخلية والخارجية، الصناعة، ألخ. ويضاف إلى كل ذلك بالطبع مراكز الأبحاث الأخرى ذات الطابع العلمي البحت، التي تتخصص في القطاعات الطبية والكيميائية والفيزيائية وعلم الفلك وما شابه.
إن النواقص التي يعاني منها العالم العربي في جميع تلك القطاعات واضحة بشكل خطير. ولا يرتبط الأمر حتما بالقطاعات العلمية لوحدها، بل بمراكز الأبحاث التي من المفترض أن تكون جزءا من بعض إدارات الدولة ووزاراتها. وإذا إضطررنا اليوم لمقارنة الواقع العلمي والبحثي في سياق التنافس الاستراتيجي القائم في المنطقة ضمن ما يعرف بالصراع العربي- الإسرائيلي، أو ذلك الماثل أمامنا بقوة الآن ضمن ما يعرف بالصراع العربي – الإيراني، فأننا لن نجد حرجا بدق ناقوس الخطر والدعوة لوقفة جدية لمعالجة الوضع الشاذ القائم في الدول العربية.
فإسرائيل وإيران تعتبران الآن من الدول العظمى في المنطقة في ما يخص الأبحاث العلمية على اختلاف أنواعها. وكلتاهما توليان أهمية استثنائية لمسألة فهم وإدراك طبيعة التطور على اختلافه في الدول المجاورة والعالم عموما، ولذلك تعتمدان بشكل رئيسي على مراكز الأبحاث والدراسات التي تساعدهما على تحقيق ذلك الفهم. لا يتعلق الأمر بأعداد كبيرة لا معنى لها، بل بنتائج محققة على أكثر من صعيد. وإذا أُنشئت الإدارات ومراكز الأبحاث في الوزارات المختلفة فلتحقيق هدف عملي وعلمي ملموس يفترض به أن يرفد سياسة الدولة بشكل أو بآخر.
هذا الأمر مطلوب بقوة في العالم العربي حاليا، حيث باتت الحكومات أمام خيار استراتيجي يجب عليها أن تؤكد من خلاله رغبتها بتحقيق النقلة النوعية المطلوبة، أو على العكس، تكريس فشلها من خلال الإمعان بسياسة المراوحة في المكان. وقد يكون من المفيد أن تتوصل هذه الحكومات إلى حقيقة مفادها أن مراكز الأبحاث التي ستحظى برعايتها الموضوعية ستكون رديفة لتقدمها وتطور المجتمع بشكل عام، وستضعها في مصاف الدول التي يفتخر مواطنوها بها.
قد يكون من المفيد التذكير في هذا السياق بضرورة اعتماد الكفاءة في ما يخص القطاعات التي قد تكون رديفة لعمل مراكز الأبحاث ضمن مؤسسات الدولة. خذ على سبيل المثال الإدارات المختلفة الموجودة في وزارات الخارجية أو التجارة والصناعة الأوروبية (أو الإسرائيلية أوالإيرانية) وقارنها بتلك الموجودة في العالم العربي. قليل من المؤسسات الرسمية في الدول العربية تعتمد مبدأ الكفاءة أو التخصص كمعيار في التوظيف، في حين نرى الغالبية العظمى منها تركز على مبدأ ملء الشواغر الوظيفية بشكل كمّي وليس نوعي، بما يخلق بطالة مقنّعة كتلك التي كانت سائدة أبان العهد الشيوعي في أوروبا: جماهير من الموظفين غير المنتجين تسيطر على تلك المؤسسات وتجعلها غير قادرة على التقدم إلى الأمام.
لقد أثبتت التجارب في أكثر من مكان فشل تلك السياسة التوظيفية لأنها تنقل إلى موقع المسئولية أشخاصا لا علاقة لهم بالحقل الذي أنتُدبوا للعمل فيه. وهذا أمر يجب أخذه بعين الاعتبار إذا قررت أية دولة عربية تحمل مسئولياتها في ما يخص إنشاء مراكز أبحاث ودراسات تعمل من أجل تحقيق المنفعة والمصلحة العامة ويراد منها تحقيق نتائج مشرّفة وحقيقية. لا مكان هنا للواسطة أو التنفيعات. ولا حاجة لحلول الوسط التي قد تكون مضرة في بعض الحالات، لا سيما العلمية منها. وبجميع الأحوال، فأن مراكز الأبحاث المنشودة ستكون قادرة على فرض نفسها من خلال نتائجها المحققة على المستوى الوطني وتاليا على المستويين الإقليمي والعالمي، ولن تتمكن من التقوقع خلف سياسة المصالح الضيقة أو الرغبات السيئة. الأمر بسيط جدا، فإما تكون أو لا تكون. وهذا واقع يجب أخذه على محمل الجد بالنظر إلى مجموعة التجارب التي مرت بها مراكز أبحاث كثيرة في العالم، وهي تجارب تستدعي التعامل معها بشكل موضوعي للاستفادة منها قدر الإمكان.
يبقى أن نأمل بأن يصل واقع مراكز الأبحاث والدراسات في العالم العربي إلى الوضع الذي "تعاني" منه مثيلتها في العالم الغربي حاليا، حيث تتنافس في ما بينهما في كل عام لتحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال المفروزة لها من ميزانية الدولة. كل منها يقدم مشاريعه وخططه للمستقبل القريب والبعيد، وأجهزة الدولة تقرر من منها سيحصل على المبالغ المقترحة وبأي حجم، بما يتوافق بالطبع مع سياسة دعم العلوم والأبحاث التي تفخر بتبنّيها كل دولة.
فهل ستصل دولنا العربية، أو بعضا منها على الأقل، إلى هذا المستوى المتقدم من التفكير،والذي يضع مراكز الأبحاث والدراسات ضمن أهم الأسس التي تقوم عليها الدولة وتجعلها فخورة بإنجازاتها؟